رد على المقال الثالث عشر
المسألة الجوهرية في الرؤيا هي مسألة التصديق والإيمان بالغيب (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فمعنى أن تصدق بالرؤيا هو أن تصدق بالغيب . فالرؤيا إذن امتحان لإيماننا بالغيب ، وفي الإمتحان يكرم المرء أو يهان . وأود الآن أن أشير الى حقيقة تتعلق بدعوة السيد أحمد الحسن (ع) ، هي أن عشرات ، بل مئات الأشخاص شاهدوا رؤى بأهل البيت خصوصاً، كلها تخبرهم بأن السيد أحمد الحسن صادق في ما يدعيه ، علماً إن بعض هؤلاء الأشخاص ممن لم يدخلوا في الدعوة المباركة أصلاً ، أي إنهم فشلوا في الاختبار ، على الرغم من أن الدليل قد أخذ بأعناقهم ؟! ولكن لا غرابة فقد ورد إن هذا الأمر لا يثبت عليه إلا من أخذ الله ميثاقه في الذر الأول .
علماً إن الأشخاص المشار إليهم من مناطق مختلفة، ومدن متعددة، فلم يسبق أن التقوا أو تعارفوا بأية صورة من الصور. بل إن الكثير منهم كانت الرؤيا سبباً في دخوله الى الدعوة المباركة ، ومعرفته بالآخرين. وبشأن الأدلة على حجية الرؤيا، أقول قد وردت بهذا الخصوص الكثير من الآيات القرآنية الكريمة، والكثير من الأحاديث عن أهل البيت (ع).
فمن الآيات رؤيا إبراهيم (ع) بشأن ذبح ولده إسماعيل(ع) (( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ))، هذه الرؤيا لم يتردد إبراهيم (ع) قيد أنملة في النظر إليها على أنها حجة ملزمة له، بل بادر الى شحذ سكينه وعزم على مباشرة الفعل ((فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ))، فإبراهيم (ع) نظر الى الرؤيا على أنها أمر إلهي واجب التنفيذ، ومن هنا استحق ثناء الله عز وجل (( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ )). بل إن إسماعيل (ع) وهو يواجه مصير الذبح ، ويرى سكين أبيه تقترب من رقبته لم يصدر منه سوى قوله : ((قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) فالرؤيا أمر إلهي واجب التنفيذ، وحجة على رائيها (إبراهيم) و غيره (إسماعيل).
وعلى الرغم من وضوح الدلالة في هذه الآيات على حجية الرؤيا، إلا إننا لا نعدم من المعاندين من يعترض على هذه الدلالة الواضحة، ويحاول الإلتفاف عليها زاعماً إن الرؤيا حجة على الأنبياء دون سواهم! وليت أنه يبرز دليلاً على مدعاه ولكنه يتبجح بما يزعمه تبجح المستكبرين!
ولمناقشة هذا الإعتراض ، أقول: لو إن الرؤيا بحد ذاتها، أي بصرف النظر عن رائيها؛ نبياً كان أو غير نبي، كانت فاقدة الحجية، هل كان يمكن لإبراهيم (ع) أن يجد فيها حجة؟ الجواب طبعاً لا يمكنه ذلك، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، إذن طالما وجد فيها إبراهيم حجة، فلابد أن تكون هي بحد ذاتها حجة. وعلى سبيل المثال لو أن حجراً لا ماء فيه فهل يمكن لأحد أن يعثر فيه على ماء؟
طبعاً لا يمكنه، لأن الحجر بحد ذاته لا ماء فيه، ولو افترضنا أن شخصاً سلط قوة ضغط كبيرة على هذا الحجر، وأخرج منه ماء، ألا نفهم من ذلك أن الحجر هو بحد ذاته فيه ماء؟
أما الأحاديث فقد ورد منها الكثير، وحسبك أن تراجع كتاب (دار السلام) للميرزا النوري، لتجد الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع). ويمكن للقارئ أيضاً مراجعة كتاب الأخ أحمد حطاب (فصل الخطاب في حجية رؤيا أولي الألباب)، وهو من إصدارات أنصار الإمام المهدي (ع). ولا يسعني في هذه العُجالة سوى الاكتفاء بإيراد جملة من الأحاديث كما يأتي:
عن الرضا (ع) قال: (( حدثني أبي عن جدي عن أبيه، إن رسول الله (ص) قال: من رآني في منامه فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ولا صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم. وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوة)) (دار السلام / ج4: 272 ) .
ينص هذا الحديث على أن الشيطان لا يتمثل بصورة أحد من أهل البيت (ع)، الأمر الذي يُسقط اعتراض المعاندين ، إذ إن القول بعدم حجية الرؤيا يقتضي بالضرورة القول بقدرة الشيطان على التمثل بصورهم. ومع عدم قدرته على التمثل بصورهم، يتضح إن الرؤيا من الله تعالى، وهذا ما دلت عليه كثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع). فعن رسول الله (ص ): (( لا نبوة بعدي إلا المبشرات، قيل يارسول الله، وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة)) (بحار الأنوار / ج58: 193) .
فالرؤيا بحسب هذه الرواية نبوة، والنبوة لا أظن أحداً لا يقول بحجيتها .
وعن الصادق (ع) (رأي ورؤيا المؤمن في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوة)) (دار السلام ج 1 ص 18 ) .
ومعنى هذا أن الرؤيا وحي من الله (عز وجل). وفي كتاب الغايات لجعفر بن أحمد القمي، قال رسول الله (ص ) : (( خياركم أولوا النهى. قيل: يارسول الله، ومن هم أولوا النهى؟ فقال (ص): أولوا النهى أولوا الأحلام الصادقة)) (انظر: فصل الخطاب في حجية رؤيا أولي الألباب: 15).
سبحان الله، أصحاب الرؤى هم خيار المسلمين، ومع ذلك يسخر المنكوسون منا قائلين: بسبب رؤيا تؤمنون بأحمد الحسن؟ نقول: نعم ونحمد الله على نعمة الإيمان. وما قولكم بالأخبار الواردة عن أهل البيت، التي يعلّمون بها شيعتهم أعمالاً معينة ليُرزقوا برؤيا، هل هذه التعاليم لغو وعبث لا سمح الله؟ نعم هي تكون عبثاً لو أن الرؤيا لا حجية لها، كما تزعمون. وأسألكم بالله إذا لم تكن الرؤيا حجة، فبأي شئ تبشر المؤمن؟ إن عدم كونها حجة يعني إنها لا تكشف عن واقع خارجي، أو حقيقة خارجية، وإذا لم يكن ثمة واقع خارجي تكشف عنه الرؤيا، أو تبشر به، فهي وهم لا طائل وراءه.
وعن عبدالله بن عجلان ، قال: (( ذكرنا خروج القائم (ع) عند أبي عبدالله (ع)، فقلت: كيف لنا نعلم ذلك ؟ فقال (ع): يصبح أحدكم وتحت رأسه صحيفة عليها مكتوب: طاعة معروفة، اسمعوا وأطيعوا)) (كمال الدين: 654).
من هذه الرواية يتضح أن من أهم الطرق للعلم بخروج القائم هو الرؤيا، وهذا معنى الصحيفة التي يجدها الإنسان تحت رأسه.
وعن البيزنطي ، قال : (( سألت الرضا (ع) عن مسألة الرؤيا، فأمسك ، ثم قال: إنا لو أعطيناكم ما تريدون لكان شراً لكم، وأُخذ برقبة صاحب هذا الأمر)) (بحار الأنوار / ج25: 110).
في هذا الحديث يربط الإمام الرضا (ع) بين الرؤيا وصاحب الأمر، و ينص صراحة على أن معرفة كل أسرار الرؤيا ينتج عنها الأخذ برقبة صاحب الأمر. فكيف لا تكون حجة؟
وأود تذكير القارئ بأن السيدة نرجس (ع) أم الإمام المهدي (ع) قد جاءت الى العراق، بعد أن عرضت نفسها للأسر، بسبب رؤى، فما لكم أنى تؤفكون؟ وكلكم تعلمون بأن وهب النصراني قد نصر الإمام الحسين (ع) بسبب رؤيا رأى فيها عيسى (ع) يأمره فيها بنصرة الحسين (ع)، وكانت سبباً في نيله أرفع الدرجات، فيا لبؤس منكوسي هذا الزمان.
وهل أشهر من الرؤيا التي رآها أبو عبدالله الحسين (ع) وحاجج بها ابن عباس، حين أراد أن يُثنيه عن الذهاب الى الكوفة بحجة أن أهلها قد خذلوا أباه علياً (ع)، وأخاه الحسن (ع)، فأجابه من بين ما أجابه به، إنه رأى رسول الله (ص) في المنام، وقد أمره بالمسير الى العراق، وإنه سيقتل. أليست هذه الرؤى قد كشفت للمؤمنين الحقيقة والواقع الخارجي ، فماذا تريدون أكثر من هذا دليلاً على حجيتها ؟
وسأُجيب فيما يلي من سطور عن الإشكالات، والإعتراضات التي أثارها المعاندون على دليل الرؤيا، وكما يأتي : -
1- نسمع بعض الأشخاص يقولون إننا طلبنا رؤيا من الله، ولكننا لم نرزق بها، ويستشف من كلامهم إنهم يرمون الى القول: أنتم تقولون إن الرؤيا دليل على الدعوة، ولكننا لم نر رؤيا فأي شئ يبقى من دليلكم؟!
وعلى الرغم من سذاجة هذا الإعتراض، إلا أننا نجيب عنه قائلين: إن الرؤيا دليل و حجة بكل تأكيد، والدليل مرتكز هنا على الرؤى الحاصلة فعلاً، ونحن لا نقول إن كل من يطلب رؤيا فنحن نضمن له الحصول عليها، هذا أولاً، أما ثانياً فقد ورد عن أهل البيت (ع): (الرؤيا بمنزلة كلام يكلم به الرب عبده) وعلى هذا إذا لم تروا رؤيا، أو لم يكلمكم الرب فعليكم أن تسألوا أنفسكم عن السبب.
2- يقول البعض إن الرؤيا حجة على صاحبها فقط.
أقول: وهذا القول مغالطة واضحة، فالرؤيا - بحسب الواقع الذي تخبر عنه - قسمان؛ فإذا كان واقعها ذاتيا أي متعلقاً بالشخص الرائي فقط ، مثل أن يرى شخص رؤيا تحذره من السفر بسيارته لأن سيارته ستحترق ، فالرؤيا في هذه الحالة لا تخص أحداً غيره، وهي حجة عليه دون سواه. أما إن كان واقعها موضوعياً، أي غير محدد بشخص الرائي فإنها حجة على الجميع. فعلى سبيل المثال لو رأى شخص رؤيا تُنبأه بوقوع حريق في سوق المدينة، فلاشك أنه هو و أي شخص آخر غيره مشمول بهذه الرؤيا. وبخصوص دعوة السيد أحمد الحسن (ع)، فمن الواضح إنها دعوة تشمل الجميع، والرؤيا المتعلقة بها إذن رسالة تخص الجميع، وإن كان رائيها شخص واحد، أو عدة أشخاص.
3- قال بعضهم: إن إدامة التفكير في أهل البيت (ع) ينتج عنه أن يرى الإنسان رؤى بهم (ع)، فالقضية إذن قضية نفسية، ولا علاقة لها بعالم الغيب!
سبحان الله أعدوا لكل حق باطلا ً، ولكل عدل مائلاً، لقد كان على المستشكل أن يسأل نفسه؛ هل إن صورة المعصوم الذي نراه (النبي أو الإمام) هي نفس صورته أم إن شيطاناً قد تمثل بصورته؟ فإن قال إن الشيطان تمثل بصورة المعصوم، نقول له: إن رسول الله (ص) يقول: إن الشيطان لا يتمثل بصورتي، ولا بصورة أحد من أوصيائي، ولا بصورة أحد من شيعتنا. وإن قال: هي نفس صورة المعصوم، نقول له : إذن إدامة التفكير في المعصوم لا تقدح في الرؤيا ، ولا في حجيتها، بل يحسُن بكم أن تديموا التفكير بهم عسى الله أن يرحمكم .
هذا وقد روي عن الإمام الكاظم (ع)، قوله: (( من كانت له الى الله حاجة، وأراد أن يرانا، وأن يعرف موضعه من الله، فليغتسل ثلاث ليال يناجي بنا، فإنه يرانا، ويُغفر له بنا، ولا يخفى عليه موضعه...)) (الإختصاص : 90 / الشيخ المفيد) .
وقد علق المجلسي على هذا الحديث، قائلاً : (( قوله (ع): يناجي بنا، أي يناجي الله تعالى بنا ، ويعزم عليه، ويتوسل إليه بنا أن يرينا إياه، ويعرف موضعه عندنا.
وقيل: أي يهتم برؤيتنا، ويُحدث نفسه بنا ورؤيتنا ومحبتنا، فإنه يراهم )) (بحار الأنوار / ج 53: 328) .
4- ورد في بعض الروايات ، عن حماد بن عثمان بن زرارة قال : قال أبو عبدالله (ع) : (( أخبرني عن حمزة أ يزعم أن أبي آتيه ؟ قلت : نعم . قال : كذب والله ما يأتيه إلا المتكون ، إن إبليس سلط شيطاناً يقال له المتكون يأتي الناس في أي صورة شاء ، إن شاء في صورة صغيرة وإن شاء في صورة كبيرة ولا والله ما يستطيع أن يجئ في صورة أبي (ع) )) (رجال الكشي) .
هذه الرواية استدل بها البعض على أن الرؤى التي يراها الأنصار يمكن أن تكون من الشيطان ، ويرد عليه أن الأنصار يستدلون بالرؤى التي يشاهدون فيها المعصومين (ع) حصراً ، والرواية واضحة في أن الشيطان ( المتكون أو غيره ) لا يستطيع التمثل بصورهم (ع) ، والإمام الصادق (ع) يُقسم على هذا . أما بأي صورة كان الشيطان المتكون يأتي حمزة المشار إليه في الرواية فهذا ما لا تنص عليه الرواية ، وهو على أي حال لا أهمية له بعد أن علمنا أنه لا يتمثل بصور المعصومين . وعن بريد بن معاوية العجلي ، قال : (( كان حمزة بن عمارة الزبيدي (البربري) لعنه الله يقول لأصحابه أن أبا جعفر (ع) يأتيني في كل ليلة ولا يزال إنسان يزعم أنه قد رآه فقدر لي أني لقيت أبا جعفر (ع) فحدثته بما يقول حمزة فقال : كذب عليه لعنة الله ما يقدر الشيطان أن يتمثل في صورة نبي ولا وصي نبي )) (نفسه) .
5- يعترض البعض – ومنهم الشيخ بشير النجفي – قائلاً : من منكم رأى النبي أو الإمام حتى يتأكد أن من يراه هو المعصوم نفسه ! أقول هذا الكلام غريب ومنكر ، فمن من أصحاب الإمام الصادق (ع) قد رأى النبي (ص) حتى يقول لهم افعلوا كذا وكذا من أعمال عبادية وسترون النبي في منامكم ؟ ثم هل يعتقد المعترض إننا إذا لم نكن قد رأينا المعصوم فإن الشيطان سيتمكن من التمثل بصورته ! ؟ وهل برأيه إن السبب في عدم تمثل الشيطان بصورهم هو معرفتنا أو مشاهدتنا لصورهم ، أم إنه نفس صورهم المقدسة )) ما قدروا الله حق قدره )) .
وسأختم برواية تنص على حجية الرؤيا ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، والرواية واردة عن الإمام الرضا (ع) وهي طويلة سأختصرها ، عن أبي الحسن (ع) قال : (( إن الأحلام لم تكن فيما مضى في أول الخلق ... فأحدث الله بينهم الأحلام فأتوه فأخبروه بما رأوا أو ما أنكروا من ذلك فقال : إن الله أراد أن يحتج عليكم بهذا ...))(بحار الأنوار/ج6ص243) .
فالرؤى إنما أحدثها الله لتكون حجة على الخلق ، والحمد لله وحده .
الدكتور ابو محمد الانصاري
المسألة الجوهرية في الرؤيا هي مسألة التصديق والإيمان بالغيب (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فمعنى أن تصدق بالرؤيا هو أن تصدق بالغيب . فالرؤيا إذن امتحان لإيماننا بالغيب ، وفي الإمتحان يكرم المرء أو يهان . وأود الآن أن أشير الى حقيقة تتعلق بدعوة السيد أحمد الحسن (ع) ، هي أن عشرات ، بل مئات الأشخاص شاهدوا رؤى بأهل البيت خصوصاً، كلها تخبرهم بأن السيد أحمد الحسن صادق في ما يدعيه ، علماً إن بعض هؤلاء الأشخاص ممن لم يدخلوا في الدعوة المباركة أصلاً ، أي إنهم فشلوا في الاختبار ، على الرغم من أن الدليل قد أخذ بأعناقهم ؟! ولكن لا غرابة فقد ورد إن هذا الأمر لا يثبت عليه إلا من أخذ الله ميثاقه في الذر الأول .
علماً إن الأشخاص المشار إليهم من مناطق مختلفة، ومدن متعددة، فلم يسبق أن التقوا أو تعارفوا بأية صورة من الصور. بل إن الكثير منهم كانت الرؤيا سبباً في دخوله الى الدعوة المباركة ، ومعرفته بالآخرين. وبشأن الأدلة على حجية الرؤيا، أقول قد وردت بهذا الخصوص الكثير من الآيات القرآنية الكريمة، والكثير من الأحاديث عن أهل البيت (ع).
فمن الآيات رؤيا إبراهيم (ع) بشأن ذبح ولده إسماعيل(ع) (( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ))، هذه الرؤيا لم يتردد إبراهيم (ع) قيد أنملة في النظر إليها على أنها حجة ملزمة له، بل بادر الى شحذ سكينه وعزم على مباشرة الفعل ((فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ))، فإبراهيم (ع) نظر الى الرؤيا على أنها أمر إلهي واجب التنفيذ، ومن هنا استحق ثناء الله عز وجل (( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ )). بل إن إسماعيل (ع) وهو يواجه مصير الذبح ، ويرى سكين أبيه تقترب من رقبته لم يصدر منه سوى قوله : ((قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) فالرؤيا أمر إلهي واجب التنفيذ، وحجة على رائيها (إبراهيم) و غيره (إسماعيل).
وعلى الرغم من وضوح الدلالة في هذه الآيات على حجية الرؤيا، إلا إننا لا نعدم من المعاندين من يعترض على هذه الدلالة الواضحة، ويحاول الإلتفاف عليها زاعماً إن الرؤيا حجة على الأنبياء دون سواهم! وليت أنه يبرز دليلاً على مدعاه ولكنه يتبجح بما يزعمه تبجح المستكبرين!
ولمناقشة هذا الإعتراض ، أقول: لو إن الرؤيا بحد ذاتها، أي بصرف النظر عن رائيها؛ نبياً كان أو غير نبي، كانت فاقدة الحجية، هل كان يمكن لإبراهيم (ع) أن يجد فيها حجة؟ الجواب طبعاً لا يمكنه ذلك، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، إذن طالما وجد فيها إبراهيم حجة، فلابد أن تكون هي بحد ذاتها حجة. وعلى سبيل المثال لو أن حجراً لا ماء فيه فهل يمكن لأحد أن يعثر فيه على ماء؟
طبعاً لا يمكنه، لأن الحجر بحد ذاته لا ماء فيه، ولو افترضنا أن شخصاً سلط قوة ضغط كبيرة على هذا الحجر، وأخرج منه ماء، ألا نفهم من ذلك أن الحجر هو بحد ذاته فيه ماء؟
أما الأحاديث فقد ورد منها الكثير، وحسبك أن تراجع كتاب (دار السلام) للميرزا النوري، لتجد الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع). ويمكن للقارئ أيضاً مراجعة كتاب الأخ أحمد حطاب (فصل الخطاب في حجية رؤيا أولي الألباب)، وهو من إصدارات أنصار الإمام المهدي (ع). ولا يسعني في هذه العُجالة سوى الاكتفاء بإيراد جملة من الأحاديث كما يأتي:
عن الرضا (ع) قال: (( حدثني أبي عن جدي عن أبيه، إن رسول الله (ص) قال: من رآني في منامه فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ولا صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم. وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوة)) (دار السلام / ج4: 272 ) .
ينص هذا الحديث على أن الشيطان لا يتمثل بصورة أحد من أهل البيت (ع)، الأمر الذي يُسقط اعتراض المعاندين ، إذ إن القول بعدم حجية الرؤيا يقتضي بالضرورة القول بقدرة الشيطان على التمثل بصورهم. ومع عدم قدرته على التمثل بصورهم، يتضح إن الرؤيا من الله تعالى، وهذا ما دلت عليه كثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع). فعن رسول الله (ص ): (( لا نبوة بعدي إلا المبشرات، قيل يارسول الله، وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة)) (بحار الأنوار / ج58: 193) .
فالرؤيا بحسب هذه الرواية نبوة، والنبوة لا أظن أحداً لا يقول بحجيتها .
وعن الصادق (ع) (رأي ورؤيا المؤمن في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوة)) (دار السلام ج 1 ص 18 ) .
ومعنى هذا أن الرؤيا وحي من الله (عز وجل). وفي كتاب الغايات لجعفر بن أحمد القمي، قال رسول الله (ص ) : (( خياركم أولوا النهى. قيل: يارسول الله، ومن هم أولوا النهى؟ فقال (ص): أولوا النهى أولوا الأحلام الصادقة)) (انظر: فصل الخطاب في حجية رؤيا أولي الألباب: 15).
سبحان الله، أصحاب الرؤى هم خيار المسلمين، ومع ذلك يسخر المنكوسون منا قائلين: بسبب رؤيا تؤمنون بأحمد الحسن؟ نقول: نعم ونحمد الله على نعمة الإيمان. وما قولكم بالأخبار الواردة عن أهل البيت، التي يعلّمون بها شيعتهم أعمالاً معينة ليُرزقوا برؤيا، هل هذه التعاليم لغو وعبث لا سمح الله؟ نعم هي تكون عبثاً لو أن الرؤيا لا حجية لها، كما تزعمون. وأسألكم بالله إذا لم تكن الرؤيا حجة، فبأي شئ تبشر المؤمن؟ إن عدم كونها حجة يعني إنها لا تكشف عن واقع خارجي، أو حقيقة خارجية، وإذا لم يكن ثمة واقع خارجي تكشف عنه الرؤيا، أو تبشر به، فهي وهم لا طائل وراءه.
وعن عبدالله بن عجلان ، قال: (( ذكرنا خروج القائم (ع) عند أبي عبدالله (ع)، فقلت: كيف لنا نعلم ذلك ؟ فقال (ع): يصبح أحدكم وتحت رأسه صحيفة عليها مكتوب: طاعة معروفة، اسمعوا وأطيعوا)) (كمال الدين: 654).
من هذه الرواية يتضح أن من أهم الطرق للعلم بخروج القائم هو الرؤيا، وهذا معنى الصحيفة التي يجدها الإنسان تحت رأسه.
وعن البيزنطي ، قال : (( سألت الرضا (ع) عن مسألة الرؤيا، فأمسك ، ثم قال: إنا لو أعطيناكم ما تريدون لكان شراً لكم، وأُخذ برقبة صاحب هذا الأمر)) (بحار الأنوار / ج25: 110).
في هذا الحديث يربط الإمام الرضا (ع) بين الرؤيا وصاحب الأمر، و ينص صراحة على أن معرفة كل أسرار الرؤيا ينتج عنها الأخذ برقبة صاحب الأمر. فكيف لا تكون حجة؟
وأود تذكير القارئ بأن السيدة نرجس (ع) أم الإمام المهدي (ع) قد جاءت الى العراق، بعد أن عرضت نفسها للأسر، بسبب رؤى، فما لكم أنى تؤفكون؟ وكلكم تعلمون بأن وهب النصراني قد نصر الإمام الحسين (ع) بسبب رؤيا رأى فيها عيسى (ع) يأمره فيها بنصرة الحسين (ع)، وكانت سبباً في نيله أرفع الدرجات، فيا لبؤس منكوسي هذا الزمان.
وهل أشهر من الرؤيا التي رآها أبو عبدالله الحسين (ع) وحاجج بها ابن عباس، حين أراد أن يُثنيه عن الذهاب الى الكوفة بحجة أن أهلها قد خذلوا أباه علياً (ع)، وأخاه الحسن (ع)، فأجابه من بين ما أجابه به، إنه رأى رسول الله (ص) في المنام، وقد أمره بالمسير الى العراق، وإنه سيقتل. أليست هذه الرؤى قد كشفت للمؤمنين الحقيقة والواقع الخارجي ، فماذا تريدون أكثر من هذا دليلاً على حجيتها ؟
وسأُجيب فيما يلي من سطور عن الإشكالات، والإعتراضات التي أثارها المعاندون على دليل الرؤيا، وكما يأتي : -
1- نسمع بعض الأشخاص يقولون إننا طلبنا رؤيا من الله، ولكننا لم نرزق بها، ويستشف من كلامهم إنهم يرمون الى القول: أنتم تقولون إن الرؤيا دليل على الدعوة، ولكننا لم نر رؤيا فأي شئ يبقى من دليلكم؟!
وعلى الرغم من سذاجة هذا الإعتراض، إلا أننا نجيب عنه قائلين: إن الرؤيا دليل و حجة بكل تأكيد، والدليل مرتكز هنا على الرؤى الحاصلة فعلاً، ونحن لا نقول إن كل من يطلب رؤيا فنحن نضمن له الحصول عليها، هذا أولاً، أما ثانياً فقد ورد عن أهل البيت (ع): (الرؤيا بمنزلة كلام يكلم به الرب عبده) وعلى هذا إذا لم تروا رؤيا، أو لم يكلمكم الرب فعليكم أن تسألوا أنفسكم عن السبب.
2- يقول البعض إن الرؤيا حجة على صاحبها فقط.
أقول: وهذا القول مغالطة واضحة، فالرؤيا - بحسب الواقع الذي تخبر عنه - قسمان؛ فإذا كان واقعها ذاتيا أي متعلقاً بالشخص الرائي فقط ، مثل أن يرى شخص رؤيا تحذره من السفر بسيارته لأن سيارته ستحترق ، فالرؤيا في هذه الحالة لا تخص أحداً غيره، وهي حجة عليه دون سواه. أما إن كان واقعها موضوعياً، أي غير محدد بشخص الرائي فإنها حجة على الجميع. فعلى سبيل المثال لو رأى شخص رؤيا تُنبأه بوقوع حريق في سوق المدينة، فلاشك أنه هو و أي شخص آخر غيره مشمول بهذه الرؤيا. وبخصوص دعوة السيد أحمد الحسن (ع)، فمن الواضح إنها دعوة تشمل الجميع، والرؤيا المتعلقة بها إذن رسالة تخص الجميع، وإن كان رائيها شخص واحد، أو عدة أشخاص.
3- قال بعضهم: إن إدامة التفكير في أهل البيت (ع) ينتج عنه أن يرى الإنسان رؤى بهم (ع)، فالقضية إذن قضية نفسية، ولا علاقة لها بعالم الغيب!
سبحان الله أعدوا لكل حق باطلا ً، ولكل عدل مائلاً، لقد كان على المستشكل أن يسأل نفسه؛ هل إن صورة المعصوم الذي نراه (النبي أو الإمام) هي نفس صورته أم إن شيطاناً قد تمثل بصورته؟ فإن قال إن الشيطان تمثل بصورة المعصوم، نقول له: إن رسول الله (ص) يقول: إن الشيطان لا يتمثل بصورتي، ولا بصورة أحد من أوصيائي، ولا بصورة أحد من شيعتنا. وإن قال: هي نفس صورة المعصوم، نقول له : إذن إدامة التفكير في المعصوم لا تقدح في الرؤيا ، ولا في حجيتها، بل يحسُن بكم أن تديموا التفكير بهم عسى الله أن يرحمكم .
هذا وقد روي عن الإمام الكاظم (ع)، قوله: (( من كانت له الى الله حاجة، وأراد أن يرانا، وأن يعرف موضعه من الله، فليغتسل ثلاث ليال يناجي بنا، فإنه يرانا، ويُغفر له بنا، ولا يخفى عليه موضعه...)) (الإختصاص : 90 / الشيخ المفيد) .
وقد علق المجلسي على هذا الحديث، قائلاً : (( قوله (ع): يناجي بنا، أي يناجي الله تعالى بنا ، ويعزم عليه، ويتوسل إليه بنا أن يرينا إياه، ويعرف موضعه عندنا.
وقيل: أي يهتم برؤيتنا، ويُحدث نفسه بنا ورؤيتنا ومحبتنا، فإنه يراهم )) (بحار الأنوار / ج 53: 328) .
4- ورد في بعض الروايات ، عن حماد بن عثمان بن زرارة قال : قال أبو عبدالله (ع) : (( أخبرني عن حمزة أ يزعم أن أبي آتيه ؟ قلت : نعم . قال : كذب والله ما يأتيه إلا المتكون ، إن إبليس سلط شيطاناً يقال له المتكون يأتي الناس في أي صورة شاء ، إن شاء في صورة صغيرة وإن شاء في صورة كبيرة ولا والله ما يستطيع أن يجئ في صورة أبي (ع) )) (رجال الكشي) .
هذه الرواية استدل بها البعض على أن الرؤى التي يراها الأنصار يمكن أن تكون من الشيطان ، ويرد عليه أن الأنصار يستدلون بالرؤى التي يشاهدون فيها المعصومين (ع) حصراً ، والرواية واضحة في أن الشيطان ( المتكون أو غيره ) لا يستطيع التمثل بصورهم (ع) ، والإمام الصادق (ع) يُقسم على هذا . أما بأي صورة كان الشيطان المتكون يأتي حمزة المشار إليه في الرواية فهذا ما لا تنص عليه الرواية ، وهو على أي حال لا أهمية له بعد أن علمنا أنه لا يتمثل بصور المعصومين . وعن بريد بن معاوية العجلي ، قال : (( كان حمزة بن عمارة الزبيدي (البربري) لعنه الله يقول لأصحابه أن أبا جعفر (ع) يأتيني في كل ليلة ولا يزال إنسان يزعم أنه قد رآه فقدر لي أني لقيت أبا جعفر (ع) فحدثته بما يقول حمزة فقال : كذب عليه لعنة الله ما يقدر الشيطان أن يتمثل في صورة نبي ولا وصي نبي )) (نفسه) .
5- يعترض البعض – ومنهم الشيخ بشير النجفي – قائلاً : من منكم رأى النبي أو الإمام حتى يتأكد أن من يراه هو المعصوم نفسه ! أقول هذا الكلام غريب ومنكر ، فمن من أصحاب الإمام الصادق (ع) قد رأى النبي (ص) حتى يقول لهم افعلوا كذا وكذا من أعمال عبادية وسترون النبي في منامكم ؟ ثم هل يعتقد المعترض إننا إذا لم نكن قد رأينا المعصوم فإن الشيطان سيتمكن من التمثل بصورته ! ؟ وهل برأيه إن السبب في عدم تمثل الشيطان بصورهم هو معرفتنا أو مشاهدتنا لصورهم ، أم إنه نفس صورهم المقدسة )) ما قدروا الله حق قدره )) .
وسأختم برواية تنص على حجية الرؤيا ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، والرواية واردة عن الإمام الرضا (ع) وهي طويلة سأختصرها ، عن أبي الحسن (ع) قال : (( إن الأحلام لم تكن فيما مضى في أول الخلق ... فأحدث الله بينهم الأحلام فأتوه فأخبروه بما رأوا أو ما أنكروا من ذلك فقال : إن الله أراد أن يحتج عليكم بهذا ...))(بحار الأنوار/ج6ص243) .
فالرؤى إنما أحدثها الله لتكون حجة على الخلق ، والحمد لله وحده .
الدكتور ابو محمد الانصاري