إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

رسالة في العقل

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • منتظر
    عضو نشيط
    • 15-10-2008
    • 150

    رسالة في العقل

    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صلي على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما

    رسالة في العقل
    الغاية المتوخاة من هذه الكلمة تتمثل بالتعرف على الحد الذي يمكن لمعرفتنا العقلية أن تبلغه ، والتحقق من قدرة العقل البشري على معرفة الحقيقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء ، فلعله من المعروف بديهة أن حجية العقل المزعومة لابد أن تنبع من قدرته على بلوغ الحقيقة ، أو الكشف عنها ، فإذا ثبت بالبرهان عدم قدرة العقل على الوصول الى الحقيقة يثبت حتماً عدم حجيته ، إذ ما معنى أن تكون للعقل حجية إذا كان عاجزاً عن التعرف على الحقيقة ؟
    ولتحقيق هذا الأمر كان لابد من المرور عبر الإشكالية التي شغلت الفكر الفلسفي طويلاً ، وهي الإشكالية المتعلقة بتحديد الكيفية الصحيحة التي ينبغي أن نعي الواقع طبقاً لها 0
    فلقد إنقسم الفكر الفلسفي بإزاء هذه المسألة الى تيارين كبيرين يقابل أحدهما الآخر ، وكالآتي :-
    1– التيار العقلي : الذي يؤمن بوجود معارف مسبقة يستبطنها الوعي أو العقل البشري تمثل الأساس والقاعدة التي ترتكز عليها كل معرفة يمكن أن نتحصل عليها ، وعليه تكون الحقيقة – بحسب العقليين – كامنة في وعينا لا تزيدها لحظة الوعي الفعلية ، أو الإدراك الحاضر سوى حضور عرضي 0 أي إن الإدراك الحاضر لا يزيد في معرفتنا للحقيقة شيئاً ، وإنما هو يُعيد إنتاج المعرفة المتحصلة بصورة مسبقة في وعينا ، وعليه يؤمن هؤلاء بإمكانية تحقيق معرفة كلية تستوعب الحاضر اللاحق أو الممكن 0 بمعنى إنهم يرون المعرفة المسبقة المستبطنة في وعينا على أنها معرفة مطلقة ، أو كلية .
    2- التيار الحسي : الذي يرفض رفضاً مطلقاً وجود أية معرفة مسبقة يستبطنها وعينا ، وبرأيه أن السبيل الوحيد للمعرفة هو ما توفره لحظة الوعي الفعلية ، أي إن المعرفة بحسب ما يراها الحسيون وليدة الإتصال المباشر بيننا وبين الأشياء الخارجية ، أو قل استقبالنا لصورها المحسوسة ، وبهذا ينفون إمكانية تحقيق معرفة كلية ، أو معرفة بالحاضر اللاحق ، فالمعرفة برأيهم جزئية ، محصورة في نطاق الحاضر الذي نعي فيه الأشياء .
    والواقع إن المعرفة المسبقة المختزنة في وعينا لا تمثل معرفة كلية أو مطلقة ، فليست هذه المعرفة سوى انتزاع لمفاهيم كلية من مصاديق جزئية متعددة ، وحيث إننا لا يسعنا القطع بحضور كافة المصاديق الجزئية ، فإننا لا نملك بالنتيجة أن نجزم بأن المفهوم الكلي الذي ننتزعه يمثل الكلي نفسه ، إذ من الممكن أن يكون في بعض المصاديق غير الحاضرة لنا ما ليس في الكلي الحاضر . ولكن عدم كون المعارف المسبقة معارف كلية ، لا يعني أن المعرفة الكلية أمر لا وجود له ، أو إنها وهم كما يدعي أصحاب التيار الحسي .
    فالحق أن نزوعنا لتشكيل مفاهيم كلية تستوعب المصاديق المتعددة يدل حتماً على أننا نشعر بوجود المعرفة الكلية ، أو نشعر بإمكانها ، وبتعبير آخر يدل دأبنا على تشكيل مفاهيم كلية على أننا نتصور وجود المعرفة الكلية ، وإن كنا على المستوى الفعلي لا نملك قطعاً بأن ما نتحصله معرفة كلية .
    وهكذا فإن التيارين كليهما يفشلان في منحنا وعياً حقيقياً لمعنى الأشياء أو حقيقتها ؛ فالمنهج العقلي الذي يبدو في الظاهر وكأنه يمنحنا معرفة كلية بحقيقة الأشياء ، لا يمنحنا في الواقع سوى وهم بحقيقة الأشياء ، أي إنه بكلمة أخرى يصادر وعينا ، أو يغيبه ويقف به عند حد معرفة لا نملك جزماً بحقيقيتها . أما المنهج الحسي فإنه بادعائه انعدام المعرفة الكلية ، إنما يقمع شعورنا بوجود مثل هذه المعرفة ليحددنا بالنتيجة بمعرفة جزئية ، أو عرضية .
    إن منشأ الإشكالية في الحقيقة هو إننا نتطلع لتجاوز لحظة الوعي الفعلية لمعرفة ما يمكن أن يؤول إليه وعينا في اللحظة اللاحقة ، أو الممكنة 0 أي إننا بكلمة أخرى نرغب بالوصول الى معرفة لا تقف عند حدود الحاضر الفعلي ، وإنما تتجاوزه الى ما هو آت أو مغيب ، وهذا هو معنى المعرفة الكلية0 ولتحقيق هذه المعرفة لجأ العقليون الى التمسك بالمعارف المسبقة المختزنة في وعينا وحاولوا بناء الصرح المعرفي على أساس منها زاعمين أن هذه المعارف معارف حقيقية ، فأوقعوا أنفسهم في الوهم بإفراطهم هذا0
    وإذا كان العقليون قد أفرطوا ، فإن الحسيين من جهتهم قد أوقعوا أنفسهم في حد التفريط حين زعموا أن المعرفة الكلية خرافة لا وجود لها ، وعدوا كل محاولة للوصول الى المعرفة الكلية وهماً مينافيزيقياً بالمعنى المُزدرى للكلمة 0
    إن المخرج الوحيد من هذه الإشكالية لابد أن يمر عبر الإعتراف بأنها – أي الإشكالية نفسها – تمثل حقيقة وعينا 0 أي أن نعترف بأن وعينا هو وعي إشكالي ، بمعنى إنه في الوقت الذي تتحدد فيه صورته الفعلية بلحظة الوعي الفعلية فإنه لا يكف عن التطلع لمعرفة الممكن واللاحق لتحقيق معرفة كلية0
    علينا الإعتراف إذن بأن هذا التطلع في الوقت الذي يناقض فيه منهج الحسيين ، لا يسوغ أيضاً المقاربة التي يتبناها العقليون .
    فالحق إن تطلعنا لمعرفة الممكن أو المغيب – أي المعرفة الكلية – لا يعني إن هذه المعرفة متحققة لنا كما يتصور العقليون ، وإنما يعني إننا نشعر أن المعرفة الحسية ليست هي نهاية المطاف ، وليست هي كل ما يمكننا الحصول عليه من معرفة ، وبكلمة أخرى لا يمثل التطلع ، أو الشعور بوجود المعرفة الكلية ، معرفة إيجابية ، وإنما هو معرفة سلبية لا أكثر ، فوجود هذا التطلع لا يحمل من الدلالة أكثر من إننا نشعر بنقص المعرفة الفعلية التي تمنحنا إياها الحواس .
    فالموقف الصحيح إذن يستدعي النظر الى المعارف المسبقة المختزنة في وعينا لا على أنها تمثل معرفة حقيقية ، وإنما بوصفها تعبيراً عن شعورنا بنقص المعرفة الحسية ، أو المعرفة الفعلية المستندة الى الحواس . الأمر الذي يعني أن ننظر الى المعارف المستبطنة في وعينا على أنها تدل على شعورنا بضرورة استكمال نقص المعرفة الفعلية ، باعتبار أن الشعور بنقص المعرفة ليس شيئاً آخر سوى الشعور بضرورة استكمالها0
    إن استكمال نقص المعرفة الفعلية يتم عبر إضافة ما يختزنه وعينا من معارف مسبقة لصورة الواقع الفعلية ، أو المعينة ، على أن لا تُستحضر المعارفُ المسبقة إلا إذا استدعتها الصورة المعينة الحاضرة لحواسنا .
    وفي هذه الحالة ستتعين الصورة المعينة على أنها المرشد ، أو الموجه لحركة الوعي ، أو لعملية استحضار المعارف المسبقة . فالصورة التي تنقلها حواسنا ستحرك وعينا باتجاه استعادة معارفه المسبقة التي يمكن من خلالها استكمال نقصها – أي نقص الصورة الحسية – ، أو عدم وضوحها .
    هذه العملية تختلف عن المنحى الفكري الذي يتبعه العقليون ، فالعقليون يُطلقون العنان لحركة الوعي دون استرشاد بصورة الواقع المعينة ، الأمر الذي يترتب عليه انزلاقهم بعيداً عنها ، ووقوعهم في دائرة الوهم . كما إنها تختلف أيضاً عن صورة الوعي التي ينتهج سبيلها الحسيون ، فهؤلاء يقفون عند حد الصورة المعينة التي تستحضرها الحواس ، دون محاولة استكمال نقصها باستحضار المعارف المختزنة في الوعي .
    وهكذا إذا كان كل من العقليين والحسيين على السواء ينطلقون من تصور مسبق لعملية الوعي ؛ تصور يحدد سلفاً طبيعة المعرفة التي ستؤول إليها هذه العملية ، فإن الوعي الصحيح يستوجب التخلي عن مثل هذا التصور المسبق .
    فالواقع إن افتراض وجود معارف مسبقة تمثل الأساس لكل معرفة لاحقة – وهو التصور المسبق الذي ينطلق منه العقليون – يعني بالضرورة أن المعرفة اللاحقة ستكون صورة طبق الأصل من المعرفة المسبقة ، وستتعين عملية الوعي في هذه الحالة بوصفها عملية اجترار ، أو تكرار لنفس المعرفة . وكذلك فإن تخلي الحسيين – ظاهرياً – عن افتراض تصور مسبق لعملية الوعي يترتب عليه إضفاء طابع الفوضى واللاتنظيم على عملية الوعي ، أي إن عملية الوعي ستتخذ في هذه الحالة صورة العملية التي تتم من خلالها مراكمة المعارف دون أن يكون ثمة خيط رابط يجمع بينها. والحق إن عدم افتراض تصور مسبق من طرف الحسيين يُراد منه إنهم لا يفترضون تصوراً مسبقاً إيجابياً ، أي تصوراً محدداً أو معيناً ، كما هو شأن العقليين ، وإلا فإن الحسيين – التفتوا الى ذلك أم لم يلتفتوا – يفترضون بدورهم تصوراً مسبقاً ، غاية ما الأمر أن التصور الذي يفترضونه سلبي ، أو غير محدد ، أو قل إنه مضمر.
    ذلك أن الإنطلاق من فكرة أن وعينا لا يستبطن معارف مسبقة ، وإن كان يبدو في ظاهره نفياً لفكرة افتراض تصور مسبق ، إلا أنه في جوهره موقف من المعرفة ، وهو إذن افتراض لتصور معرفي مسبق ، وإن كان على حد السلب ، كما أسلفت .
    إن عملية الوعي الصحيحة التي وصفناها فيما تقدم تقتضي إذن عدم افتراض تصور مسبق يسيّر عملية الوعي ، أو قل يصادرها حتى قبل أن تنطلق ، وبالإمكان القول إنها تفترض تصوراً مسبقاً ، ولكنه تصور سلبي من حيث الجوهر ، أو قل إنه لا وجود له من حيث الجوهر وإن كان يملك وجوداً ظاهرياً . فالعملية التي وصفناها تقتضي الإنطلاق من لحظة الوعي الحاضرة ، أو الفعلية ، ولكنها تجرد هذه اللحظة من حضورها كتصور مسبق ، أو كموقف معرفي معين ، عبر السماح بحضور المعارف المسبقة المختزنة في الوعي ، و هذه الحالة تختلف مع التوجه الذي يتبعه الحسيون . وهي أيضاً لا تستحضر المعارف المسبقة على أنها حقائق ينبغي صياغة الصورة المعينة الحاضرة لحواسنا طبقاً لها ، بل إن ما يجري يختلف عن المنهجية التي يتبعها العقليون ، حيث تتم إعادة صياغة المعارف المسبقة على وفق ما تقتضيه الصورة المعينة الحاضرة لحواسنا ، وهذا هو معنى أن الصورة الحسية توجه ، أو ترشد حركة وعينا .
    وبوصف آخر لعملية الوعي يمكننا أن نقول أن المعارف المسبقة تحضر على أنها المضمون الممكن للصورة المعينة التي تنقلها الحواس ، ومن خلال التفاعل بين المعارف المسبقة والصورة الحسية تترشح صورة الوعي الجديد ، الذي قد يُبقي صورة الوعي السابقة كما هي ، وقد يُغير منها لتتفق مع ما تستحضره الصورة الحسية من تفاصيل ، أو علامات جديدة .
    بقي أن أشير الى أن صورة الوعي الجديدة لا تمثل معرفة كلية ، أو حقيقية ، لأننا ببساطة لا نملك القطع بعدم إمكانية حضور تفاصيل ، أو علامات جديدة ، في الحاضر اللاحق ، أو الممكن تغير من صورة هذا الوعي الجديد . ولكن هذه الحقيقة لا تعني – في الوقت نفسه – أن هذه الصورة الجديدة التي تم تشكيلها لا معنى لها ، أو إن تشكيلنا لها لغو لا طائل منه ، طالما لم تعبر عن معرفة حقيقية . فالحقيقة إن افتراض تفاصيل أو صور جزئية جديدة تغير صورة الوعي الحاضرة لا يعدو عن كونه افتراضاً تمليه علينا حقيقة وعينا غير المحيط بكل ما يمكن أن يكون موجوداً في الواقع من صور جزئية ، أو تفاصيل ، وغير القادر من ثمّ على القطع بأن ما هو حاضر هو كل ما هو موجود ، وهكذا طالما كان افتراض وجود تفاصيل جديدة أو مغايرة ، لا يعبر عن وعي حقيقي أو ايجابي ، أي لا يمثل وعياً مبنياً على معطيات حاضرة أو موجودة ، وإنما هو وعي سلبي منشؤه عدم قدرتنا على الجزم بعدم وجود مثل هذه المعطيات ، أقول من هنا يمكننا النظر الى صورة الوعي التي نشكلها على أنها تمثل وعياً حقيقياً ، أو وعياً كلياً بالنسبة لحاضرنا المعين ، أي الحاضر الذي نشكل فيه صورة وعينا ، أما بالنسبة للحاضر الممكن ، أو المفترض فإن صورة وعينا تبقى وعيا حقيقياً بالإمكان فقط ، أي إنها يمكن أن تكون وعياً حقيقياً ، ويمكن كذلك أن تكون باطل الأباطيل على حد سواء .
    مما تقدم يتضح أن العقل البشري لا يسعه القطع بتحصيل معرفة حقيقية ، أو كلية ، الأمر الذي يعني إننا لا نستطيع الوثوق بما يُنتجه من معرفة ، وبالتالي لا يمكننا القول بأن هذا العقل حجة .
    نعم قلنا فيما تقدم إن بالإمكان النظر الى صورة الوعي التي ينتجها عقلنا على أنها تمثل معرفة حقيقية بقدر تعلق الأمر بالحاضر الذي ننتج فيه تلك المعرفة ، ولكنّ ما تجب ملاحظته هو أن الدافع لهذا القول هو إننا أردنا تحصيل حد مقبول من الحجية لعقولنا يمكننا العمل بمقتضاه في شأن تصريف مصالحنا ، وأعمالنا الدنيوية ، وتحديد مواقفنا من مجرياتها المحيطة بنا .
    ولابد من الإلتفات الى أن تحصيل هذا الحد المشار إليه نحن مضطرون إليه بحكم الضرورة ، أي ضرورة أننا لا نملك وسيلة معرفية أخرى يمكن الإستعاضة بها عن العقل ، ومتى ما وجدت مثل هذه الوسيلة يسقط حتى هذا الحد ، فالحجية المقصودة هنا ليست شيئاً آخر غير المقبولية التي يتوخاها المضطر لا أكثر . وإذن فإن العقل بقدر تعلق الأمر بمعرفة الشرع والدين لا حجية له ، ولا وجه أبداً لقبول القول بحجيتة .
    والحمد لله رب العالمين
Working...
X
😀
🥰
🤢
😎
😡
👍
👎