الفارقليط هو أحمد - صلى الله عليه وسلم -
إن ظاهرة عامة، وحدثاً خطيراً كنبوة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبعثته إلى الناس كافة، يترتب عليها آثار عظيمة، لما تضمنته من دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وفقاً لما يوحيه في رسالته الخاتمة إلى عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمِن ثَمَّ سبقها مقدمات ومبشرات تهيئ الناس لاستقبالها، وتوجِد في قلوبهم استعداداً كاملاً لتقبلها.
وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة، في أكثر من سورة، فقال - عز وجل -:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ … (الصف: 6).
وقال - سبحانه -: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ 156 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ … (الأعراف: 156-157).
وهناك ظاهرة هامة جديرة بالتسجيل، يدركها الدارسون للنصوص التاريخية التي تتحدث عن " الفترة " فترة ما قبل البعثة المحمدية الشريفة، وأثناءها، وهي أن الناس الذين كان لهم صلة بكتاب سماوي كانوا يرتقبون ظهور نبي على وشك أن يُبْعَث، بل إن بعض علمائهم قد بادر إلى إعلان إسلامه بمجرد اجتماعه برسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهاك أمثلة على ذلك:
فمن ذلك: خبر هرقل لما استدعى أبا سفيان، وسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبره عن صفاته ودعوته، قال هرقل: (إن كان ما تقول حقاً؛ فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) … [الحديث: رواه البخاري].
ومن ذلك: ما ثبت بإسناد حسن أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - تنقل من عالم نصراني إلى آخر، حتى دلَّه آخرهم على قرب مبعث نبي في بلاد العرب، فكان ذلك سبب مجيئه إلى المدينة وسكناه فيها.
ومن ذلك قول المقوقس ملك القبط في جوابه لما كتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داعياً إياه إلى الإسلام: " أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك ". وجاء الجارود بن العلاء وكان من علماء النصارى في قومه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان مما قال: (والله لقد جئتَ بالحق، ونطقتَ بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل، وبشَّر بك ابنُ البتول) يعني عيسى - عليه السلام -، وقد أسلم الجارود، وكذا قومه.
ومن ذلك: ما ذكرته أم المؤمنين صفية بنت حيي - رضي الله عنها - عن أبيها وعمها اليهوديين، قالت: (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزل قباء، غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر مُـغَلِّسَيْن، فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما، فما التفت إليَّ أحد منهما مع ما بهما من الهم، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: " أهو هو؟ " أي المبشر به في التوراة، قال: " نعم والله "، قال: " أتثبته، وتعرفه؟ " قال: " نعم "، قال: " فما في نفسك منه " قال: " عداوته والله ما بقيت أبداً ") … [البداية والنهاية (3 / 212)].
ومن ذلك قصة إسلام عبد الله بن سلام وكان من علماء اليهود وأحبارهم، قال: (لما سمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له أي ننتظره فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة، فلما سَمِعْتُ الخبر بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: " خيبك الله! والله لو كنتَ سمعتَ بموسى ابن عمران قادماً ما زدتَ "قال: فقلت لها: " أي عمة! هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعث بما بُعث به "، قال: فقالت: " فذاك إذن "، قال: " ثم خرجتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا) … [البداية والنهاية "(3 / 211)].
ومن ذلك ما وقع من النجاشي ملك الحبشة حين هاجر إليه بعض الصحابة، وأوفدت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد لحَثِّ النجاشي على طردهم، فلما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم، قال النجاشي: ".. فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بَشَّرَ به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحملَ نعليه ".
وقد اشتهر حديث اليهود للأوس والخزرج عن خروج نبي، وكان ذلك من جملة العوامل التي هيأتهم للإيمان:
فعن سلمة بن سلامة - رضي الله عنه - قال: (كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، عَلَىَّ بُرْدّ، على برد مضطجعاً فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: " ويحك يا فلان! ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ " قال: " نعم والذي يُحْلَفُ به، لَوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظمَ تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً "، قالوا له: " ويحك! وما آية ذلك؟! "، قال: " نبي يبعث من هذه البلاد " وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا "ومتى تراه؟ " قال: " فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً، فقال: " إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه ".
قال سلمة: " فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: " ويلك يا فلان؟ ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ "، قال: " بلى، وليس به ")… [رواه الإمام أحمد (3/467)، حديث حسن].
وجاء في إنجيل يوحنا أن اليهود من أورشليم أرسلوا كهنة ولاويين ليسألوا المعمدان حين ذاع خبر نبوته: [المسيح أنت؟ " فقال: " لست أنا المسيح "، فسألوه: " إذاً ماذا؟ إيلياء أنت؟ " فقال: " لست أنا "، فقالوا: " النبي أنت؟ " فأجاب: " لا "]، والمقصود أنهم سألوه أأنت النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم من ذلك أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء، وكان مشهوراً بحيث لا يُحتاج إلى ذكر اسمه، بل كانت الإشارة إليه بمجردها كافية.
ومع وقوع التحريف في كتب القوم إلا أنها بقيت تحوي كثيراً من البشارات ببعثة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت كتبهم فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم "محمد" أو "أحمد" أو ما يقاربهما، كما يعلم بالتأمل في النقول التي نقلها بعض علماء المسلمين من الأناجيل في عصرهم، أي كما نطقها المسيح ابن مريم - عليه السلام - تماماً: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ … (الصف: 6) فما كان من القوم إلا أنهم ترجموا الاسم العَلَم "محمد" أو "أحمد"، وحولوه إلى صفة، فصار البديل كلمة تدل على معنى الاسم (الفيريقليطس) ثم ترقوا إلى أبعد من ذلك، فمارسوا هوايتهم القديمة في التحريف اللفظي، وبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فحولوا كلمة " فريقليطس " PERIQLYTOS أو PARACLYTOS التي تعني من الناحية اللغوية البحتة: " الأمجد، والأشهر، والمستحق للمديح " وهو يوافق تماماً معنى اسم "أحمد" في اللغة العربية إلى " المعزَّي " أو " المحامي " أو " الوسيط " أو " الشفيع " [والجهل يؤدي إلى ارتكاب أخطاء عديدة، ولقرون متطاولة كان الأوربيون واللاتينيون الجهلة يكتبون اسم MUHAMMAD على أنه MAHOMET واسم MUSHI على أنه MOSES لذلك هل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى والنساخين قد كتب الاسم الصحيح في صيغة خاطئة، وهي (باراكليتوس) وتعني [الأشهر أو الجدير بالحمد]؟ ولكن الصيغة المحرفة لا تعني شيئاً إلا العار لأولئك الذين جعلوها تحمل معنى [المعزي] أو [المحامي] منذ مدة ثمانية عشر قرناً!!. أهـ من (محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس، لعبد الأحد داود - رحمه الله - ص 218)].
مع أن الكلمة اليونانية التي ترادف المعزي ليست " فاراقليطس " PARACLYTOS وإنما هي باراكالون (PARACALON) واللفظة اليونانية المرادفة لكلمة محامي هي (SANEGORUS)، وأما مرادف كلمة وسيط أو شفيع فهي: (MEDITEA). وهذا ما قرره البروفيسور " عبد الأحد داود الأشوري " وكان من كبار علماء اللاهوت الكاثوليك المتبحرين، وكان أيضاً على دراية وافرة باللغات القديمة التي حررت بها الكتب والأناجيل المقدسة عند النصارى، إضافة إلى إلمامه بالعلوم الإسلامية، الأمر الذي أداه في النهاية إلى أن أسلم وصنَّفَ كتباً في دحض عقائد النصارى. [إن التنزيل القرآني القائل بأن عيسى ابن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ … (الصف: 6) واحد من أقوى البراهين على أن محمداً كان حقيقة نبياً، وان القرآن تنزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة البرقليط كانت تعني أحمد إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن قاطعة ونهائية؛ لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي (أحمد ومحمد) … والمدهش أن هذا الاسم الفريد، الذي لم يُعط لأحد من قبل، كان محجوزاً بصورة معجزة لأشهر رسل الله وأجدرهم بالثناء، ونحن لا نجد أبداً، أي يوناني كان يحمل اسم برقليطس ولا أي عربي كان يحمل أسم (أحمد) أ هـ. من المصدر السابق].
لقد بلغ من وضوح الإشارة إلى بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في إنجيل يوحنا حداً دفع أحد علماء الإنكليز هو: "أدون جونس" إلى أن يؤلف كتاباً سماه: "نشأة الديانة المسيحية"، زعم فيه أن شيئاً مما في الأناجيل مأخوذ من الديانة الإسلامية، وأن الأناجيل مملوءة بالأفكار الإسلامية، وذكر من أمثلة ذلك لفظة "فاراقليطوس"، فقد طوعت لهذا "العالم" الإنكليزي نفسه أن يقول (إن هذه الكلمة دخلت في الإنجيل بعد القرآن، والمسلمون يقولون أنها كانت في الإنجيل الأصلي طبقاً للآية الكريمة الواردة في القرآن) يشير إلى قول الله - عز وجل -: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ … (الصف: 6).
وكانت حجة "العالم" الإنكليزي الناصعة هي قوله: ".. فإن المسيحيين لا يمكنهم أن ينكروا أن لفظة "فيراقليطوس" أو "فارقليط" معناها: "محمد" صراحة " ا هـ.
وكان الأولى به أن يقول: " إن هذا وما جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة "، بدلاً من ذلك الافتراض الوهمي الذي لا يقبله عقل، بل هو محض خرص وتخمين.
نقل علامة الشام القاسمي في تفسيره المسمى " محاسن التأويل " (16/5788-5789) عن جريدة (المؤيد) عدد (3284) صفحة (2) تحت عنوان: " لا يعدم الإسلام منصفاً "
"وقال مسيو مارسيه من " مدرسة اللغات الشرقية " ما يأتي: إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي واسم "محمد" جاء من مادة "حمد" ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد، وهو "أحمد": صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا أن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي "محمد" وقد أشار القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.
وقد قال اسبرانجيه: " إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة (إنجيل يوحنا) حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم " انتهى بالحرف
وأما "إنجيل برنابا" ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الضافية الذيول التي يُذْكَر فيها اسم "محمد" في عرضها ذكراً صريحاً ويقول أنه رسول الله.
وقد نقل الشيخ "محمد بيرم" عن رحالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيَّ قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها يقول المسيح: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " وذلك موافق لنص القرآن الكريم بالحرف، وقد بدل الرهبان لفظ "الفارقليط" في المطبوعات الأخيرة بـ "المعزي".
قال بعضهم: ولا عجب من هذه التحريفات المتجددة بتجدد الطبعات فإنها سجية القوم في كتبهم المقدسة: (سجية تلك فيهم غير محدثة) اهـ
نص بشارة المسيح - عليه السلام - ببعثة أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم -
وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، ونصها: [إن كنت تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب [وصفت الأناجيل الله - عز وجل - بأنه أب للمؤمنين، مثل ما جاء عن المسيح - عليه السلام - أنه قال: " إني أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم " (يو 20: 17)] فيعطيكم فارقليط آخر [رجح البروفيسور عبد الأحد داود أن كلمة "آخر" تتبع اسماً أجنبياً يُعَلَنْ لأول مرة، تبدو في غاية الغرابة، ولا داعي لها البتة، قال: " ولا ريب في أن النص كان عرضة للتلاعب والتشويه "وإذا أردنا أن نجد المعنى الحقيقي لهذه الكلمات، فعلينا تصحيح النص، ووضع الكلمات المسروقة أو المحرفة على الصورة التالية: (وسوف أذهب إلى الآب، وسيرسل لكم رسولاً سيكون اسمه البرقليطوس، ولكن يبقى معكم إلى الأبد) أ هـ من (محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس) ص 219].
ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله، لأنه ليس يراه، ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم] (يو 14: 15-17)
[والفارقليط روح القدس [وقد رجح (موريس بوكاي) أن تكون كلمة (روح القدس) هنا ملحقة عمداً لإبطال دلالة الفارقليط على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال البرفيسور عبد الأحد داود: " أما بالنسبة لروح القدس في المعادلة فهو ليس شخصاً أو روح فرد، بل وسيلة أو قوة، أو قدرة الله التي يولد بها الإنسان، أو يهدي إلى الدين، وإلى معرفة إله واحد " أهـ] الذي يرسله الآب باسمي، وهو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم]
[والآن قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنون] (يو 14: 26).
وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا:
7 ـ [لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم].
8 ـ [فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم]
9 ـ [أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي]
10 ـ [وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد]
11 ـ [وأما على الحكم فإن أركون هذه قد دين]
12 ـ [وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن]
13 ـ [وإذا جاء روح الحق ذلك فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي]
14 ـ [وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم].
شرح هذه الوصية
عندما كان يُظهر التلاميذ محبتهم لعيسى - عليه السلام - بحزنهم على تفكيره في ارتحاله عنهم، أمرهم بأن يظهروا محبتهم لا بالبكاء والحزن، بل بالحرص على اهتمامهم بتأدية واجباتهم وبطاعة عامة لكل وصاياه.
فهذا هو ما يسره ويرضيه، وحينما يهتمون بالواجب، وتنفيذ الوصايا، سوف يطلب لهم من الله - عز وجل - أن يرسل لهم نبياً من بعده، هذا النبي اسمه أحمد "بيراكليت"، وهذا النبي ستظل شريعته إلى يوم القيامة، وعبر عن دوامها بقوله: سيمكث معكم إلى الأبد، أي تظل شريعته معكم إلى يوم القيامة، وهذا الوصف متحقق في نبي الإسلام لأنه " خاتم النبيين " كما وصفه الله - عز وجل - في القرآن المجيد.
[روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه، ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه] هذا النبي الآتي سيكون آتياً برسالة حقيقية من الحق جل جلاله سوف ينير أذهانكم بمعرفة الحق، ويثبت إيمانكم بالحق، لقد انحرف اليهود، وانحرف العالم، ولجأوا إلى معتقدات بشرية، وكل يدعي أنه على حق، لكن الحق الحقيقي مع هذا النبي، والعالم لن يقبله، لأن العالم يموج في الشر والفساد، والناس يسعون إلى الدنيا وشهواتها غير مبالين برسالات السماء، لكنكم أيها التلاميذ تعرفونه بكلامي هذا، وبما قلت لكم عنه سابقاً، وتؤمنون بالله مدبر أمر العالم.
إن هذا النبي يستمد قوته من الله الحق، والتلاميذ سيعرفونه متى جاء، لأن عندهم خبراً عنه، وخبراً عن الأديان من قِبَلِ السماء، أما العالم الذي لا يعترف بديانات السماء، وينكر وجود الله فلا يستطيع أن يقبل هذا النبي بسهولة لأنه ينكر ما وراء المادة، وهذا النبي متى جاء سوف يُعَلِّم أتباع عيسى كل شيء يحتاجون إليه في شأن الدين والدنيا، وسوف يذكركم بكل التعاليم التي قالها لهم عيسى وهو بينهم.
ثم يقول عيسى - عليه السلام -: من الآن قلت لكم أيها التلاميذ لتؤمنوا به إذا جاء ولتنصرنه، ولتتركوا كل شيء من أجله، لا أتكلم كثيراً عما سيقوله لكم، لكن ينبغي أن تعرفوا أني نبهت عليه، ودعوت إلى اتباعه، حتى إذا جاء الشيطان ليُضلَّ العالم لا يكن عَلَىَّ لوم في عدم التنبيه، سوف يأتي الشيطان ليصد الناس عن اتباع هذا النبي، لكن الشيطان لن يستند في إضلاله على كلام صدر مني، أو عن سكوت مني على الحق، لن يكون للشيطان فِيَّ شيء يستند عليه، إذا ما حوسب عن إضلال الناس، لأني بلَّغْتُ.
[بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما الفارقليط الروح المقدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم]
هنا نجد أن رسالة عيسى تنتهي عند مجيء الفارقليط، وهنا يشجعهم عيسى بأن ينتظروا معلماً آخر، وأخبرهم أن هذا النبي سيرسل من قِبَلِ الله بناءً على طلب من عيسى نفسه، وذلك أدعى لاحترامه متى جاء، لأنه دعوة سيدهم، وأعلمهم أن هذا النبي سيعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله عيسى.
ومجيء نبي الإسلام من الله باسم عيسى، يلزم أتباع عيسى بشريعة هذا النبي، والدخول معه في دينه، لأنه لم يأت من تلقاء نفسه، ولأنه عظَّم عيسى ودعوته الحقيقية، وأشار إلى نزاهته وبراءته هو وأمه من العيوب، التي اختلقها اليهود زوراً وإثماً.
وأما عن الأمر الأول، وهو: (يعلمهم كل شيء) فمعناه: أنه يلزمهم بترك القديم الذي يعلمونه، ويكتفون بكل شيء جاء به هذا النبي، أي يتركون الشريعة القديمة ويتمسكون بالشريعة الجديدة.. وأما عن الأمر الثاني، وهو: (يذكرهم بكل ما قاله لهم) فمعناه: أنهم سينسون شيئاً مما قاله عيسى، وقد نسوا أشياء كثيرة، كما أشار القرآن الكريم بقوله - تعالى -:
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ (المائدة: 14) ولما جاء نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - كان مُعَلِّماً ومُذَكِّراً..
8 " وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون " هذه العبارة تفيد التعظيم للنبي الآتي، لأنهم لو عرفوا لماذا يأتي وما في دعوته من اليسر؟ لفرحوا بقدومه فرحاً عظيماً، وهذه العبارة تمهيد لما سيقوله بعد من وجوب إيمان التلاميذ به، واعتناق مبادئه، " وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ".
[ومتى جاء الفارقليط الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء]
وهذا النبي إذا جاء، سوف يشهد أني عبد الله ورسوله، وأني بلغت رسالة الله كاملة غير منقوصة، وتشهدون أيها التلاميذ مع هذا النبي بذلك، بناء على ما عندكم من العلم المدون في التوراة وفي الإنجيل.
وهذا الفارقليط عبَّر عنه عيسى - عليه السلام - بأنه [روح الحق] وأنه [يظهر من قِبَل الله وحده، ويستمد شريعته ودعوته من الله وحده]، وهذا الفارقليط سوف يشهد لعيسى بالنبوة، وأنه عبد الله ورسوله، وهذه علامة نطق بها عيسى، ليُعْرَفَ بها صدق نبي الإسلام، أي إن شهد بفضل عيسى ونبوته كان صادقاً، لأني أخبرتكم بهذا حين كنتم معي أول الأمر قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً 29 قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً الآيات … (مريم: 29، 30)
لقد أخبرتكم الآن بأن اسمه المبارك: أحمد، ولم أسمه لكم في بدأ نبوتي، بل ذكرت أوصافه، لأني كنت معكم، أما الآن وأنا مغادر هذه الحياة فأنا أخبركم، حتى إذا جاء تذكرون أني قلت لكم، إني منطلق إلى رحمة الله الذي أرسلني، ولا تحزنوا، لأنه إن لم أغادر هذه الدنيا، لا يأتيكم هذا النبي العظيم.
[ومتى جاء ذا يُبَكِّتُ العالَمَ على خَطِيَّةٍ وعلى بِرٍّ وعلى دينونة].
والمعنى: أن النبي الآتي سيكون من شانه توبيخ العالم بحيثُ يُفحمهم عن الرد عليه، ولا يستطيعون مع هذا التوبيخ مناقضة كلامه، لكن من المقصود بالعالَم؟
يقول النصارى: " العالم: اليهود والأمم ".
ونقول معهم: نعم يوبخ اليهود والأمم، فإنه لما جاء نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وبخ العلم أجمع، وبخ اليهود على تحريفهم كتاب الله، ونبذه وراءهم ظهريا، ووَبَّخَ النصارى كذلك على تحريفهم لتعاليم عيسى - عليه السلام -، ووبخ الكفار لعبادتهم الأصنام من دون الله، وسوف يكون توبيخه على جهة الخصوص في مسائل ثلاثة، وضحها عيسى - عليه السلام - [على خَطِيَّةٍ] [وعلى بِرٍّ] [وعلى دينونة].
[أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي] وهذا الوصف ينطبق على نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - أنه وبخ اليهود على عدم إيمانهم برسالة عيسى - عليه السلام -، ووبخ غير اليهود الذين ألصقوا بعيسى صفة الربوبية، والذين أنكروه أصلاً، وأنكروا رسالات السماء.
[وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً] يقول عيسى - عليه السلام - : إن هذا النبي متى جاء سيوبخ العالم على رفضهم إياه، لأنه هو البر الأبدي الذي كانوا ينتظرونه، وأشارت إليه الكتب. هذا البر الذي أشار إليه دانيال عن نبي الإسلام، بقوله [وليؤتي بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القديسين] [دا 9: 24] سيوبخهم لماذا يرفضون تبرير أنفسهم بالإيمان مع هذا النبي الذي أشارت إليه التوراة (بالبر الأبدي)؟
[وأما على دينونه، فلأن رئيس هذا العالم قد دين] رئيس هذا العالم فسره النصارى بالشيطان الرجيم، يقول متى هنري: " إن إبليس رئيس هذا العالم قد دين، قد تبين بأنه مضلل عظيم ومدمر عظيم ولذلك دِينَ، وبدأ تنفيذ الدينونة جزئياً، لقد طُرد من العالم الوثني، عندما أسكتت تعاليمه، وهُجِرتْ مذابحه ".
والمعنى: أن نبي الإسلام سيوبخ العالم على عدم إيمانهم به في الوقت الذي فضحت دعوته أساليب الوثنية وأوامر الشيطان، إذا كان هو قد أدان الشيطان وأخزاه، فهو بالحري يدين الناس ويخزيهم.
يقول عيسى - عليه السلام -: [إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن] هذا عطف منه كبير على تلاميذه، وسبب عطفه: ضعفهم، لأن اليهود سيؤذونهم، والعالم سيبغضهم، وهذه الأمور الكثيرة ربما توضيحات أكثر عن [ملكوت السماوات] أو أوصاف أخرى عن هذا النبي.
[وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية] أي إذا جاء نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - فإنه سيرشدكم إلى جميع الحق، والحق الذي عَرَّفتكم به وأنا معكم، والحق الذي ستنسونه سيذكركم به، وحق سيأتي به من عند الله، يخبر فيه بأشياء كثيرة قبل أن تقع لا يتخلف منها شيء، هذا كله سيخبركم به، لأن الله هو الذي سيوحي إليه، ولن يتكلم بشيء من تلقاء نفسه، قال تعال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى … (النجم: 3، 4).
وفي النهاية يشهد عيسى - عليه السلام - شهادة قيمة لنبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بقوله: [ذاك يمجدني] إنه يعظم رسالتي، ويعترف بفضلي، وعلى ذلك فلا تحتقروا رسالته، ولا تنكروا فضله، بل اتبعوه وعظموه ومجدوه، كما يمجدني، وفي هذا يقول - تعالى -: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ … [المائدة: 75].
9 وهذا التمجيد منه لي [لأنه يأخذ مما لي ويخبركم] إنه يأخذ من الله مما هو مُعَدٌّ لي في علم الله، أي من نفس العلم الذي أخذت منه، ونُسِبَ إليَّ لأني أنا الذي أتكلم معكم، كلانا في الهدف سواء، ومن مصدر واحد، استقينا معلوماتنا، ومن هذا المصدر الذي أخذت منه، سوف يأخذ ويخبركم.
وفي هذا قال - عز وجل -: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ … [الشورى: 13].
أهم مصادر جمع هذه المقالة:
1 ـ [بيركليت] اسم نبي الإسلام في إنجيل عيسى - عليه السلام - حسب شهادة يوحنا ـ د. أحمد حجازي السقا.
2 ـ إظهار الحق ـ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي.
3 ـ البرهان بورود اسم محمد وأحمد في الأسفار ـ محمد عزت الطهطاوي.
4 ـ محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس ـ البروفيسور عبد الأحد داود.
5 ـ الصحيح المسند من دلائل النبوة ـ مقبل بن هادي الوادعي.
6 ـ الرسول - صلى الله عليه وسلم - سعيد حوى.
7 ـ محاسن التأويل ـ محمد جمال الدين القاسمي.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) … [رواه مسلم].
إن ظاهرة عامة، وحدثاً خطيراً كنبوة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبعثته إلى الناس كافة، يترتب عليها آثار عظيمة، لما تضمنته من دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وفقاً لما يوحيه في رسالته الخاتمة إلى عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمِن ثَمَّ سبقها مقدمات ومبشرات تهيئ الناس لاستقبالها، وتوجِد في قلوبهم استعداداً كاملاً لتقبلها.
وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة، في أكثر من سورة، فقال - عز وجل -:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ … (الصف: 6).
وقال - سبحانه -: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ 156 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ … (الأعراف: 156-157).
وهناك ظاهرة هامة جديرة بالتسجيل، يدركها الدارسون للنصوص التاريخية التي تتحدث عن " الفترة " فترة ما قبل البعثة المحمدية الشريفة، وأثناءها، وهي أن الناس الذين كان لهم صلة بكتاب سماوي كانوا يرتقبون ظهور نبي على وشك أن يُبْعَث، بل إن بعض علمائهم قد بادر إلى إعلان إسلامه بمجرد اجتماعه برسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهاك أمثلة على ذلك:
فمن ذلك: خبر هرقل لما استدعى أبا سفيان، وسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبره عن صفاته ودعوته، قال هرقل: (إن كان ما تقول حقاً؛ فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) … [الحديث: رواه البخاري].
ومن ذلك: ما ثبت بإسناد حسن أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - تنقل من عالم نصراني إلى آخر، حتى دلَّه آخرهم على قرب مبعث نبي في بلاد العرب، فكان ذلك سبب مجيئه إلى المدينة وسكناه فيها.
ومن ذلك قول المقوقس ملك القبط في جوابه لما كتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داعياً إياه إلى الإسلام: " أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك ". وجاء الجارود بن العلاء وكان من علماء النصارى في قومه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان مما قال: (والله لقد جئتَ بالحق، ونطقتَ بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل، وبشَّر بك ابنُ البتول) يعني عيسى - عليه السلام -، وقد أسلم الجارود، وكذا قومه.
ومن ذلك: ما ذكرته أم المؤمنين صفية بنت حيي - رضي الله عنها - عن أبيها وعمها اليهوديين، قالت: (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزل قباء، غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر مُـغَلِّسَيْن، فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما، فما التفت إليَّ أحد منهما مع ما بهما من الهم، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: " أهو هو؟ " أي المبشر به في التوراة، قال: " نعم والله "، قال: " أتثبته، وتعرفه؟ " قال: " نعم "، قال: " فما في نفسك منه " قال: " عداوته والله ما بقيت أبداً ") … [البداية والنهاية (3 / 212)].
ومن ذلك قصة إسلام عبد الله بن سلام وكان من علماء اليهود وأحبارهم، قال: (لما سمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له أي ننتظره فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة، فلما سَمِعْتُ الخبر بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: " خيبك الله! والله لو كنتَ سمعتَ بموسى ابن عمران قادماً ما زدتَ "قال: فقلت لها: " أي عمة! هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعث بما بُعث به "، قال: فقالت: " فذاك إذن "، قال: " ثم خرجتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا) … [البداية والنهاية "(3 / 211)].
ومن ذلك ما وقع من النجاشي ملك الحبشة حين هاجر إليه بعض الصحابة، وأوفدت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد لحَثِّ النجاشي على طردهم، فلما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم، قال النجاشي: ".. فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بَشَّرَ به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحملَ نعليه ".
وقد اشتهر حديث اليهود للأوس والخزرج عن خروج نبي، وكان ذلك من جملة العوامل التي هيأتهم للإيمان:
فعن سلمة بن سلامة - رضي الله عنه - قال: (كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، عَلَىَّ بُرْدّ، على برد مضطجعاً فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: " ويحك يا فلان! ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ " قال: " نعم والذي يُحْلَفُ به، لَوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظمَ تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً "، قالوا له: " ويحك! وما آية ذلك؟! "، قال: " نبي يبعث من هذه البلاد " وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا "ومتى تراه؟ " قال: " فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً، فقال: " إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه ".
قال سلمة: " فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: " ويلك يا فلان؟ ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ "، قال: " بلى، وليس به ")… [رواه الإمام أحمد (3/467)، حديث حسن].
وجاء في إنجيل يوحنا أن اليهود من أورشليم أرسلوا كهنة ولاويين ليسألوا المعمدان حين ذاع خبر نبوته: [المسيح أنت؟ " فقال: " لست أنا المسيح "، فسألوه: " إذاً ماذا؟ إيلياء أنت؟ " فقال: " لست أنا "، فقالوا: " النبي أنت؟ " فأجاب: " لا "]، والمقصود أنهم سألوه أأنت النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم من ذلك أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء، وكان مشهوراً بحيث لا يُحتاج إلى ذكر اسمه، بل كانت الإشارة إليه بمجردها كافية.
ومع وقوع التحريف في كتب القوم إلا أنها بقيت تحوي كثيراً من البشارات ببعثة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت كتبهم فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم "محمد" أو "أحمد" أو ما يقاربهما، كما يعلم بالتأمل في النقول التي نقلها بعض علماء المسلمين من الأناجيل في عصرهم، أي كما نطقها المسيح ابن مريم - عليه السلام - تماماً: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ … (الصف: 6) فما كان من القوم إلا أنهم ترجموا الاسم العَلَم "محمد" أو "أحمد"، وحولوه إلى صفة، فصار البديل كلمة تدل على معنى الاسم (الفيريقليطس) ثم ترقوا إلى أبعد من ذلك، فمارسوا هوايتهم القديمة في التحريف اللفظي، وبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فحولوا كلمة " فريقليطس " PERIQLYTOS أو PARACLYTOS التي تعني من الناحية اللغوية البحتة: " الأمجد، والأشهر، والمستحق للمديح " وهو يوافق تماماً معنى اسم "أحمد" في اللغة العربية إلى " المعزَّي " أو " المحامي " أو " الوسيط " أو " الشفيع " [والجهل يؤدي إلى ارتكاب أخطاء عديدة، ولقرون متطاولة كان الأوربيون واللاتينيون الجهلة يكتبون اسم MUHAMMAD على أنه MAHOMET واسم MUSHI على أنه MOSES لذلك هل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى والنساخين قد كتب الاسم الصحيح في صيغة خاطئة، وهي (باراكليتوس) وتعني [الأشهر أو الجدير بالحمد]؟ ولكن الصيغة المحرفة لا تعني شيئاً إلا العار لأولئك الذين جعلوها تحمل معنى [المعزي] أو [المحامي] منذ مدة ثمانية عشر قرناً!!. أهـ من (محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس، لعبد الأحد داود - رحمه الله - ص 218)].
مع أن الكلمة اليونانية التي ترادف المعزي ليست " فاراقليطس " PARACLYTOS وإنما هي باراكالون (PARACALON) واللفظة اليونانية المرادفة لكلمة محامي هي (SANEGORUS)، وأما مرادف كلمة وسيط أو شفيع فهي: (MEDITEA). وهذا ما قرره البروفيسور " عبد الأحد داود الأشوري " وكان من كبار علماء اللاهوت الكاثوليك المتبحرين، وكان أيضاً على دراية وافرة باللغات القديمة التي حررت بها الكتب والأناجيل المقدسة عند النصارى، إضافة إلى إلمامه بالعلوم الإسلامية، الأمر الذي أداه في النهاية إلى أن أسلم وصنَّفَ كتباً في دحض عقائد النصارى. [إن التنزيل القرآني القائل بأن عيسى ابن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ … (الصف: 6) واحد من أقوى البراهين على أن محمداً كان حقيقة نبياً، وان القرآن تنزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة البرقليط كانت تعني أحمد إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن قاطعة ونهائية؛ لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي (أحمد ومحمد) … والمدهش أن هذا الاسم الفريد، الذي لم يُعط لأحد من قبل، كان محجوزاً بصورة معجزة لأشهر رسل الله وأجدرهم بالثناء، ونحن لا نجد أبداً، أي يوناني كان يحمل اسم برقليطس ولا أي عربي كان يحمل أسم (أحمد) أ هـ. من المصدر السابق].
لقد بلغ من وضوح الإشارة إلى بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في إنجيل يوحنا حداً دفع أحد علماء الإنكليز هو: "أدون جونس" إلى أن يؤلف كتاباً سماه: "نشأة الديانة المسيحية"، زعم فيه أن شيئاً مما في الأناجيل مأخوذ من الديانة الإسلامية، وأن الأناجيل مملوءة بالأفكار الإسلامية، وذكر من أمثلة ذلك لفظة "فاراقليطوس"، فقد طوعت لهذا "العالم" الإنكليزي نفسه أن يقول (إن هذه الكلمة دخلت في الإنجيل بعد القرآن، والمسلمون يقولون أنها كانت في الإنجيل الأصلي طبقاً للآية الكريمة الواردة في القرآن) يشير إلى قول الله - عز وجل -: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ … (الصف: 6).
وكانت حجة "العالم" الإنكليزي الناصعة هي قوله: ".. فإن المسيحيين لا يمكنهم أن ينكروا أن لفظة "فيراقليطوس" أو "فارقليط" معناها: "محمد" صراحة " ا هـ.
وكان الأولى به أن يقول: " إن هذا وما جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة "، بدلاً من ذلك الافتراض الوهمي الذي لا يقبله عقل، بل هو محض خرص وتخمين.
نقل علامة الشام القاسمي في تفسيره المسمى " محاسن التأويل " (16/5788-5789) عن جريدة (المؤيد) عدد (3284) صفحة (2) تحت عنوان: " لا يعدم الإسلام منصفاً "
"وقال مسيو مارسيه من " مدرسة اللغات الشرقية " ما يأتي: إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي واسم "محمد" جاء من مادة "حمد" ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد، وهو "أحمد": صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا أن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي "محمد" وقد أشار القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.
وقد قال اسبرانجيه: " إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة (إنجيل يوحنا) حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم " انتهى بالحرف
وأما "إنجيل برنابا" ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الضافية الذيول التي يُذْكَر فيها اسم "محمد" في عرضها ذكراً صريحاً ويقول أنه رسول الله.
وقد نقل الشيخ "محمد بيرم" عن رحالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيَّ قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها يقول المسيح: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " وذلك موافق لنص القرآن الكريم بالحرف، وقد بدل الرهبان لفظ "الفارقليط" في المطبوعات الأخيرة بـ "المعزي".
قال بعضهم: ولا عجب من هذه التحريفات المتجددة بتجدد الطبعات فإنها سجية القوم في كتبهم المقدسة: (سجية تلك فيهم غير محدثة) اهـ
نص بشارة المسيح - عليه السلام - ببعثة أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم -
وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، ونصها: [إن كنت تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب [وصفت الأناجيل الله - عز وجل - بأنه أب للمؤمنين، مثل ما جاء عن المسيح - عليه السلام - أنه قال: " إني أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم " (يو 20: 17)] فيعطيكم فارقليط آخر [رجح البروفيسور عبد الأحد داود أن كلمة "آخر" تتبع اسماً أجنبياً يُعَلَنْ لأول مرة، تبدو في غاية الغرابة، ولا داعي لها البتة، قال: " ولا ريب في أن النص كان عرضة للتلاعب والتشويه "وإذا أردنا أن نجد المعنى الحقيقي لهذه الكلمات، فعلينا تصحيح النص، ووضع الكلمات المسروقة أو المحرفة على الصورة التالية: (وسوف أذهب إلى الآب، وسيرسل لكم رسولاً سيكون اسمه البرقليطوس، ولكن يبقى معكم إلى الأبد) أ هـ من (محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس) ص 219].
ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله، لأنه ليس يراه، ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم] (يو 14: 15-17)
[والفارقليط روح القدس [وقد رجح (موريس بوكاي) أن تكون كلمة (روح القدس) هنا ملحقة عمداً لإبطال دلالة الفارقليط على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال البرفيسور عبد الأحد داود: " أما بالنسبة لروح القدس في المعادلة فهو ليس شخصاً أو روح فرد، بل وسيلة أو قوة، أو قدرة الله التي يولد بها الإنسان، أو يهدي إلى الدين، وإلى معرفة إله واحد " أهـ] الذي يرسله الآب باسمي، وهو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم]
[والآن قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنون] (يو 14: 26).
وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا:
7 ـ [لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم].
8 ـ [فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم]
9 ـ [أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي]
10 ـ [وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد]
11 ـ [وأما على الحكم فإن أركون هذه قد دين]
12 ـ [وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن]
13 ـ [وإذا جاء روح الحق ذلك فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي]
14 ـ [وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم].
شرح هذه الوصية
عندما كان يُظهر التلاميذ محبتهم لعيسى - عليه السلام - بحزنهم على تفكيره في ارتحاله عنهم، أمرهم بأن يظهروا محبتهم لا بالبكاء والحزن، بل بالحرص على اهتمامهم بتأدية واجباتهم وبطاعة عامة لكل وصاياه.
فهذا هو ما يسره ويرضيه، وحينما يهتمون بالواجب، وتنفيذ الوصايا، سوف يطلب لهم من الله - عز وجل - أن يرسل لهم نبياً من بعده، هذا النبي اسمه أحمد "بيراكليت"، وهذا النبي ستظل شريعته إلى يوم القيامة، وعبر عن دوامها بقوله: سيمكث معكم إلى الأبد، أي تظل شريعته معكم إلى يوم القيامة، وهذا الوصف متحقق في نبي الإسلام لأنه " خاتم النبيين " كما وصفه الله - عز وجل - في القرآن المجيد.
[روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه، ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه] هذا النبي الآتي سيكون آتياً برسالة حقيقية من الحق جل جلاله سوف ينير أذهانكم بمعرفة الحق، ويثبت إيمانكم بالحق، لقد انحرف اليهود، وانحرف العالم، ولجأوا إلى معتقدات بشرية، وكل يدعي أنه على حق، لكن الحق الحقيقي مع هذا النبي، والعالم لن يقبله، لأن العالم يموج في الشر والفساد، والناس يسعون إلى الدنيا وشهواتها غير مبالين برسالات السماء، لكنكم أيها التلاميذ تعرفونه بكلامي هذا، وبما قلت لكم عنه سابقاً، وتؤمنون بالله مدبر أمر العالم.
إن هذا النبي يستمد قوته من الله الحق، والتلاميذ سيعرفونه متى جاء، لأن عندهم خبراً عنه، وخبراً عن الأديان من قِبَلِ السماء، أما العالم الذي لا يعترف بديانات السماء، وينكر وجود الله فلا يستطيع أن يقبل هذا النبي بسهولة لأنه ينكر ما وراء المادة، وهذا النبي متى جاء سوف يُعَلِّم أتباع عيسى كل شيء يحتاجون إليه في شأن الدين والدنيا، وسوف يذكركم بكل التعاليم التي قالها لهم عيسى وهو بينهم.
ثم يقول عيسى - عليه السلام -: من الآن قلت لكم أيها التلاميذ لتؤمنوا به إذا جاء ولتنصرنه، ولتتركوا كل شيء من أجله، لا أتكلم كثيراً عما سيقوله لكم، لكن ينبغي أن تعرفوا أني نبهت عليه، ودعوت إلى اتباعه، حتى إذا جاء الشيطان ليُضلَّ العالم لا يكن عَلَىَّ لوم في عدم التنبيه، سوف يأتي الشيطان ليصد الناس عن اتباع هذا النبي، لكن الشيطان لن يستند في إضلاله على كلام صدر مني، أو عن سكوت مني على الحق، لن يكون للشيطان فِيَّ شيء يستند عليه، إذا ما حوسب عن إضلال الناس، لأني بلَّغْتُ.
[بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما الفارقليط الروح المقدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم]
هنا نجد أن رسالة عيسى تنتهي عند مجيء الفارقليط، وهنا يشجعهم عيسى بأن ينتظروا معلماً آخر، وأخبرهم أن هذا النبي سيرسل من قِبَلِ الله بناءً على طلب من عيسى نفسه، وذلك أدعى لاحترامه متى جاء، لأنه دعوة سيدهم، وأعلمهم أن هذا النبي سيعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله عيسى.
ومجيء نبي الإسلام من الله باسم عيسى، يلزم أتباع عيسى بشريعة هذا النبي، والدخول معه في دينه، لأنه لم يأت من تلقاء نفسه، ولأنه عظَّم عيسى ودعوته الحقيقية، وأشار إلى نزاهته وبراءته هو وأمه من العيوب، التي اختلقها اليهود زوراً وإثماً.
وأما عن الأمر الأول، وهو: (يعلمهم كل شيء) فمعناه: أنه يلزمهم بترك القديم الذي يعلمونه، ويكتفون بكل شيء جاء به هذا النبي، أي يتركون الشريعة القديمة ويتمسكون بالشريعة الجديدة.. وأما عن الأمر الثاني، وهو: (يذكرهم بكل ما قاله لهم) فمعناه: أنهم سينسون شيئاً مما قاله عيسى، وقد نسوا أشياء كثيرة، كما أشار القرآن الكريم بقوله - تعالى -:
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ (المائدة: 14) ولما جاء نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - كان مُعَلِّماً ومُذَكِّراً..
8 " وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون " هذه العبارة تفيد التعظيم للنبي الآتي، لأنهم لو عرفوا لماذا يأتي وما في دعوته من اليسر؟ لفرحوا بقدومه فرحاً عظيماً، وهذه العبارة تمهيد لما سيقوله بعد من وجوب إيمان التلاميذ به، واعتناق مبادئه، " وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ".
[ومتى جاء الفارقليط الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء]
وهذا النبي إذا جاء، سوف يشهد أني عبد الله ورسوله، وأني بلغت رسالة الله كاملة غير منقوصة، وتشهدون أيها التلاميذ مع هذا النبي بذلك، بناء على ما عندكم من العلم المدون في التوراة وفي الإنجيل.
وهذا الفارقليط عبَّر عنه عيسى - عليه السلام - بأنه [روح الحق] وأنه [يظهر من قِبَل الله وحده، ويستمد شريعته ودعوته من الله وحده]، وهذا الفارقليط سوف يشهد لعيسى بالنبوة، وأنه عبد الله ورسوله، وهذه علامة نطق بها عيسى، ليُعْرَفَ بها صدق نبي الإسلام، أي إن شهد بفضل عيسى ونبوته كان صادقاً، لأني أخبرتكم بهذا حين كنتم معي أول الأمر قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً 29 قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً الآيات … (مريم: 29، 30)
لقد أخبرتكم الآن بأن اسمه المبارك: أحمد، ولم أسمه لكم في بدأ نبوتي، بل ذكرت أوصافه، لأني كنت معكم، أما الآن وأنا مغادر هذه الحياة فأنا أخبركم، حتى إذا جاء تذكرون أني قلت لكم، إني منطلق إلى رحمة الله الذي أرسلني، ولا تحزنوا، لأنه إن لم أغادر هذه الدنيا، لا يأتيكم هذا النبي العظيم.
[ومتى جاء ذا يُبَكِّتُ العالَمَ على خَطِيَّةٍ وعلى بِرٍّ وعلى دينونة].
والمعنى: أن النبي الآتي سيكون من شانه توبيخ العالم بحيثُ يُفحمهم عن الرد عليه، ولا يستطيعون مع هذا التوبيخ مناقضة كلامه، لكن من المقصود بالعالَم؟
يقول النصارى: " العالم: اليهود والأمم ".
ونقول معهم: نعم يوبخ اليهود والأمم، فإنه لما جاء نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وبخ العلم أجمع، وبخ اليهود على تحريفهم كتاب الله، ونبذه وراءهم ظهريا، ووَبَّخَ النصارى كذلك على تحريفهم لتعاليم عيسى - عليه السلام -، ووبخ الكفار لعبادتهم الأصنام من دون الله، وسوف يكون توبيخه على جهة الخصوص في مسائل ثلاثة، وضحها عيسى - عليه السلام - [على خَطِيَّةٍ] [وعلى بِرٍّ] [وعلى دينونة].
[أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي] وهذا الوصف ينطبق على نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - أنه وبخ اليهود على عدم إيمانهم برسالة عيسى - عليه السلام -، ووبخ غير اليهود الذين ألصقوا بعيسى صفة الربوبية، والذين أنكروه أصلاً، وأنكروا رسالات السماء.
[وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً] يقول عيسى - عليه السلام - : إن هذا النبي متى جاء سيوبخ العالم على رفضهم إياه، لأنه هو البر الأبدي الذي كانوا ينتظرونه، وأشارت إليه الكتب. هذا البر الذي أشار إليه دانيال عن نبي الإسلام، بقوله [وليؤتي بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القديسين] [دا 9: 24] سيوبخهم لماذا يرفضون تبرير أنفسهم بالإيمان مع هذا النبي الذي أشارت إليه التوراة (بالبر الأبدي)؟
[وأما على دينونه، فلأن رئيس هذا العالم قد دين] رئيس هذا العالم فسره النصارى بالشيطان الرجيم، يقول متى هنري: " إن إبليس رئيس هذا العالم قد دين، قد تبين بأنه مضلل عظيم ومدمر عظيم ولذلك دِينَ، وبدأ تنفيذ الدينونة جزئياً، لقد طُرد من العالم الوثني، عندما أسكتت تعاليمه، وهُجِرتْ مذابحه ".
والمعنى: أن نبي الإسلام سيوبخ العالم على عدم إيمانهم به في الوقت الذي فضحت دعوته أساليب الوثنية وأوامر الشيطان، إذا كان هو قد أدان الشيطان وأخزاه، فهو بالحري يدين الناس ويخزيهم.
يقول عيسى - عليه السلام -: [إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن] هذا عطف منه كبير على تلاميذه، وسبب عطفه: ضعفهم، لأن اليهود سيؤذونهم، والعالم سيبغضهم، وهذه الأمور الكثيرة ربما توضيحات أكثر عن [ملكوت السماوات] أو أوصاف أخرى عن هذا النبي.
[وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية] أي إذا جاء نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - فإنه سيرشدكم إلى جميع الحق، والحق الذي عَرَّفتكم به وأنا معكم، والحق الذي ستنسونه سيذكركم به، وحق سيأتي به من عند الله، يخبر فيه بأشياء كثيرة قبل أن تقع لا يتخلف منها شيء، هذا كله سيخبركم به، لأن الله هو الذي سيوحي إليه، ولن يتكلم بشيء من تلقاء نفسه، قال تعال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى … (النجم: 3، 4).
وفي النهاية يشهد عيسى - عليه السلام - شهادة قيمة لنبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بقوله: [ذاك يمجدني] إنه يعظم رسالتي، ويعترف بفضلي، وعلى ذلك فلا تحتقروا رسالته، ولا تنكروا فضله، بل اتبعوه وعظموه ومجدوه، كما يمجدني، وفي هذا يقول - تعالى -: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ … [المائدة: 75].
9 وهذا التمجيد منه لي [لأنه يأخذ مما لي ويخبركم] إنه يأخذ من الله مما هو مُعَدٌّ لي في علم الله، أي من نفس العلم الذي أخذت منه، ونُسِبَ إليَّ لأني أنا الذي أتكلم معكم، كلانا في الهدف سواء، ومن مصدر واحد، استقينا معلوماتنا، ومن هذا المصدر الذي أخذت منه، سوف يأخذ ويخبركم.
وفي هذا قال - عز وجل -: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ … [الشورى: 13].
أهم مصادر جمع هذه المقالة:
1 ـ [بيركليت] اسم نبي الإسلام في إنجيل عيسى - عليه السلام - حسب شهادة يوحنا ـ د. أحمد حجازي السقا.
2 ـ إظهار الحق ـ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي.
3 ـ البرهان بورود اسم محمد وأحمد في الأسفار ـ محمد عزت الطهطاوي.
4 ـ محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس ـ البروفيسور عبد الأحد داود.
5 ـ الصحيح المسند من دلائل النبوة ـ مقبل بن هادي الوادعي.
6 ـ الرسول - صلى الله عليه وسلم - سعيد حوى.
7 ـ محاسن التأويل ـ محمد جمال الدين القاسمي.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) … [رواه مسلم].