من الثابت عند الفريقين أنّ الذين استولوا على مقاليد الاُمور بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) منعوا حديث النبي (صلى الله عليه وآله)، منعوا من تدوينه، بل منعوا حتّى من ذكره وتداوله، وهو أمر في غاية الغرابة، ونسأل: لماذا كان ذلك؟ أليس إنّ السنّة النبوية الشريفة هي المفصّلة لمعاني القرآن والموضحة لغوامضه والمبيّنة لأهدافه وفرائضه، وهل نستطيع أن نستغني عن السنّة في فهم القرآن، وقد قال تعالى:
(وَأنْزَلـْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ)([1][62]).
والتبيان هو التفسير والتوضيح، فإذا كانت السنّة النبويّة المطهّرة هي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في الحجّيّة والاعتبار عند المسلمين فلماذا مُنع حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) من التدوين، بل وحتّى الذكر والتحدّث عنه و...؟ سؤال يبعث على الاستغراب والدهشة.
فلقد جاء في كنز العمّـال([2][63]):
أنّ الخليفة أبا بكر أحرق في خلافته خمسمائة حديث كتبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولمّـا قام عمر بعده بالخلافة نهى عن كتابة الحديث وكتب إلى الآفاق: إنّ من كتب حديثاً فليمحه. ثمّ نهى عن التحدّث فتركت عدة من الصحابة الحديث عن رسول الله([3][64]) (صلى الله عليه وآله).
وهذا ابن جرير الطبري في تأريخه يقول:
إنّ عمر ابن الخطاب كان كلّما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد يوصيه في جملة ما يوصيه: «جوّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمد».
وجاء في طبقات ابن سعد([4][65]) والمستدرك على الصحيحين([5][66]) عن قرضة بن كعب الأنصاري، قال: أردنا الكوفة، فشيّعنا عمر إلى (صرار) وقال: أتدرون لِمَ شيّعتكم؟ فقلنا: نعم نحن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال: إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم. جوّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن رسول الله.
وقد حفظ التأريخ أنّ الخليفة قال لأبي ذرّ وعبد الله ابن مسعود وأبي الدرداء مستنكراً: «ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد»([6][67]).
وهذا الخطيب البغدادي يذكر بسنده:
إنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً فاستنكرها وكرهها وقال: أ يّها الناس، إنّه قد بلغني أ نّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي. قال: فظنّوا أ نّه يريد ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثمّ قال:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أهل الكتاب»([7][68]).
وقد صار عمل الخليفتين سنّة فمشى عثمان مشيهما وكذلك سائر حكام بني اُميّة ما عدا عمر بن عبد العزيز الذي أحسّ بضرورة تدوين الحديث فكتب إلى أبي بكر ابن حزم في المدينة: اُنظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء... فإنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّاً»، ومع هذا الإصرار من عمر بن عبد العزيز فلم يكتب الحديث بسبب رواسب الحظر السابقة، فأمسى ترك كتابة حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) سنّة إسلامية وكتابته أمراً منكراً مخالفاً لها.
وبقيت المسألة على هذه الصورة طيلة حكم بني اُميّة وبني العباس حتّى عهد المنصور سنة 143 هجرية حيث أمر بكتابة الحديث فشرع علماء الإسلام بتدوينه.
ولقد كان هذا المنع إساءة بالغة إلى الإسلام والمسلمين لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه وتعالى، ذلك أنّ حديثاً تحدّث به النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكتب إلاّ بعد مضيّ مائة وثلاثون عاماً أو أكثر مات خلالها أكثر من جيل من الصحابة والتابعين، كيف سيكون حاله مع وجود أصحاب الأغراض والأطماع والأهواء والأحقاد والغايات الشريرة من الحاكمين أو اللابسين لباس الإسلام من اليهود والنصارى والزنادقة وغيرهم، لذلك يبدوا لنا جلياً حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): «سيكثر عليّ الكذابة، فما جاءكم عنّي مخالفاً للقرآن فاضربوا به عرض الجدار».
ومن شهادات أصحاب الصحاح ممّن دوّن حديث النبيّ بعد الإذن بالتدوين نعلم عظم البلاء الذي وقع على المسلمين من جرّاء المنع.
قال البخاري: لقد وجدت أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله)تربو على 600 ألف حديث لم يصحّ لي منها إلاّ أربعة آلاف حديث.
كذلك قال أبو داود ومسلم وأحمد وغيرهم.
ومعنى ذلك أنّ هناك حديثاً صحيحاً واحداً مقابل مائة وخمسين حديثاً باطلا كذباً وزوراً.
فأيّ إساءة أعظم إلى الدين من إساءة الذين منعوا من تدوين حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا لشيء إلاّ ليطمسوا فضائل عليّ (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين الذين أشاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بمناقبهم ومنازلهم في كلّ حين.
ويا ليت أ نّهم اكتفوا بذلك المنع من دون أن يسمحوا للرهبان والأحبار وغيرهم ممّن لبس رداء الإسلام نفاقاً من التحدّث عن التوراة والإنجيل والعهد القديم والجديد ونشر الإسرائيليات في التفسير والحديث والتأريخ فانتشرت بسبب ذلك عقائد اليهود والنصارى والمجوس التي ما أنزل الله بها من سلطان في الإسلام وعند المسلمين عن طريق الحديث الشريف، فركب هؤلاء الحاقدون والمغرضون حتّى الحديث الشريف ووضعوا على لسان صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله) أحاديث هو منها براء.
فانتشرت عند المسلمين عقائد فاسدة وباطلة، كعقيدة الجبر في القضاء والقدر، وعقائد التجسيم والتشبيه لله سبحانه وتعالى، والقول بخلق القرآن، أو القول بقدم القرآن، أو عقيدة رؤية الله سبحانه وتعالى، وتجويز الخطأ والمعاصي على الأنبياء، أو القول بعدم عصمتهم، ممّـا نجده في التوراة والأناجيل المحرّفة بنصّ القرآن.
وقد اعتنق هذه العقائد الفاسدة الباطلة القسم الأعمّ الأغلب من المسلمين ممّن يسمّون بالجمهور من أهل الحديث والسنّة والأشاعرة وغيرهم، حتّى دخلت في اُصولهم، وصاروا يكفّرون من لا يؤمن بها، وهي لم تأتِ إلى الإسلام إلاّ عن طريق الزور والبهتان والكذب على النبيّ (صلى الله عليه وآله).
ذلك لأنّ الحديث الشريف الذي لم يدوّن قرابة قرن ونصف دخله ما دخله من كيد الكَيَدة ومكر المَكَرَة، فلمّـا اُذن بتدوينه بعد هذه الفترة الطويلة صار مصدراً للعقائد الباطلة ومنبعاً للأفكار المخرّبة، فنشأت بسببه المذاهب والفِرَق والطوائف المنحرفة.
([1][62]) النحل : 44 .
([2][63]) كنز العمّـال 10 : 237 .
([3][64]) المستدرك على الصحيحين 1 : 102 و 104 .
([4][65]) طبقات ابن سعد 6 : 7 .
([5][66]) المستدرك على الصحيحين ( 1 : 102 ) : إنّ عمر كان قد شيّع قرضة بن كعب الأنصاري ومن معه إلى ( صرار ) على ثلاثة أميال من المدينة وأظهر لهم أنّ مشايعته لهم إنّما كانت لأجل الوصيّة بهذا الأمر .
([6][67]) كنز العمّـال 10 : 293 ، الحديث رقم 29479 .
([7][68]) تقييد العلم ; الخطيب البغدادي : 52 .
(وَأنْزَلـْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ)([1][62]).
والتبيان هو التفسير والتوضيح، فإذا كانت السنّة النبويّة المطهّرة هي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في الحجّيّة والاعتبار عند المسلمين فلماذا مُنع حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) من التدوين، بل وحتّى الذكر والتحدّث عنه و...؟ سؤال يبعث على الاستغراب والدهشة.
فلقد جاء في كنز العمّـال([2][63]):
أنّ الخليفة أبا بكر أحرق في خلافته خمسمائة حديث كتبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولمّـا قام عمر بعده بالخلافة نهى عن كتابة الحديث وكتب إلى الآفاق: إنّ من كتب حديثاً فليمحه. ثمّ نهى عن التحدّث فتركت عدة من الصحابة الحديث عن رسول الله([3][64]) (صلى الله عليه وآله).
وهذا ابن جرير الطبري في تأريخه يقول:
إنّ عمر ابن الخطاب كان كلّما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد يوصيه في جملة ما يوصيه: «جوّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمد».
وجاء في طبقات ابن سعد([4][65]) والمستدرك على الصحيحين([5][66]) عن قرضة بن كعب الأنصاري، قال: أردنا الكوفة، فشيّعنا عمر إلى (صرار) وقال: أتدرون لِمَ شيّعتكم؟ فقلنا: نعم نحن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال: إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم. جوّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن رسول الله.
وقد حفظ التأريخ أنّ الخليفة قال لأبي ذرّ وعبد الله ابن مسعود وأبي الدرداء مستنكراً: «ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد»([6][67]).
وهذا الخطيب البغدادي يذكر بسنده:
إنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً فاستنكرها وكرهها وقال: أ يّها الناس، إنّه قد بلغني أ نّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي. قال: فظنّوا أ نّه يريد ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثمّ قال:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أهل الكتاب»([7][68]).
وقد صار عمل الخليفتين سنّة فمشى عثمان مشيهما وكذلك سائر حكام بني اُميّة ما عدا عمر بن عبد العزيز الذي أحسّ بضرورة تدوين الحديث فكتب إلى أبي بكر ابن حزم في المدينة: اُنظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء... فإنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّاً»، ومع هذا الإصرار من عمر بن عبد العزيز فلم يكتب الحديث بسبب رواسب الحظر السابقة، فأمسى ترك كتابة حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) سنّة إسلامية وكتابته أمراً منكراً مخالفاً لها.
وبقيت المسألة على هذه الصورة طيلة حكم بني اُميّة وبني العباس حتّى عهد المنصور سنة 143 هجرية حيث أمر بكتابة الحديث فشرع علماء الإسلام بتدوينه.
ولقد كان هذا المنع إساءة بالغة إلى الإسلام والمسلمين لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه وتعالى، ذلك أنّ حديثاً تحدّث به النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكتب إلاّ بعد مضيّ مائة وثلاثون عاماً أو أكثر مات خلالها أكثر من جيل من الصحابة والتابعين، كيف سيكون حاله مع وجود أصحاب الأغراض والأطماع والأهواء والأحقاد والغايات الشريرة من الحاكمين أو اللابسين لباس الإسلام من اليهود والنصارى والزنادقة وغيرهم، لذلك يبدوا لنا جلياً حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): «سيكثر عليّ الكذابة، فما جاءكم عنّي مخالفاً للقرآن فاضربوا به عرض الجدار».
ومن شهادات أصحاب الصحاح ممّن دوّن حديث النبيّ بعد الإذن بالتدوين نعلم عظم البلاء الذي وقع على المسلمين من جرّاء المنع.
قال البخاري: لقد وجدت أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله)تربو على 600 ألف حديث لم يصحّ لي منها إلاّ أربعة آلاف حديث.
كذلك قال أبو داود ومسلم وأحمد وغيرهم.
ومعنى ذلك أنّ هناك حديثاً صحيحاً واحداً مقابل مائة وخمسين حديثاً باطلا كذباً وزوراً.
فأيّ إساءة أعظم إلى الدين من إساءة الذين منعوا من تدوين حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا لشيء إلاّ ليطمسوا فضائل عليّ (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين الذين أشاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بمناقبهم ومنازلهم في كلّ حين.
ويا ليت أ نّهم اكتفوا بذلك المنع من دون أن يسمحوا للرهبان والأحبار وغيرهم ممّن لبس رداء الإسلام نفاقاً من التحدّث عن التوراة والإنجيل والعهد القديم والجديد ونشر الإسرائيليات في التفسير والحديث والتأريخ فانتشرت بسبب ذلك عقائد اليهود والنصارى والمجوس التي ما أنزل الله بها من سلطان في الإسلام وعند المسلمين عن طريق الحديث الشريف، فركب هؤلاء الحاقدون والمغرضون حتّى الحديث الشريف ووضعوا على لسان صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله) أحاديث هو منها براء.
فانتشرت عند المسلمين عقائد فاسدة وباطلة، كعقيدة الجبر في القضاء والقدر، وعقائد التجسيم والتشبيه لله سبحانه وتعالى، والقول بخلق القرآن، أو القول بقدم القرآن، أو عقيدة رؤية الله سبحانه وتعالى، وتجويز الخطأ والمعاصي على الأنبياء، أو القول بعدم عصمتهم، ممّـا نجده في التوراة والأناجيل المحرّفة بنصّ القرآن.
وقد اعتنق هذه العقائد الفاسدة الباطلة القسم الأعمّ الأغلب من المسلمين ممّن يسمّون بالجمهور من أهل الحديث والسنّة والأشاعرة وغيرهم، حتّى دخلت في اُصولهم، وصاروا يكفّرون من لا يؤمن بها، وهي لم تأتِ إلى الإسلام إلاّ عن طريق الزور والبهتان والكذب على النبيّ (صلى الله عليه وآله).
ذلك لأنّ الحديث الشريف الذي لم يدوّن قرابة قرن ونصف دخله ما دخله من كيد الكَيَدة ومكر المَكَرَة، فلمّـا اُذن بتدوينه بعد هذه الفترة الطويلة صار مصدراً للعقائد الباطلة ومنبعاً للأفكار المخرّبة، فنشأت بسببه المذاهب والفِرَق والطوائف المنحرفة.
([1][62]) النحل : 44 .
([2][63]) كنز العمّـال 10 : 237 .
([3][64]) المستدرك على الصحيحين 1 : 102 و 104 .
([4][65]) طبقات ابن سعد 6 : 7 .
([5][66]) المستدرك على الصحيحين ( 1 : 102 ) : إنّ عمر كان قد شيّع قرضة بن كعب الأنصاري ومن معه إلى ( صرار ) على ثلاثة أميال من المدينة وأظهر لهم أنّ مشايعته لهم إنّما كانت لأجل الوصيّة بهذا الأمر .
([6][67]) كنز العمّـال 10 : 293 ، الحديث رقم 29479 .
([7][68]) تقييد العلم ; الخطيب البغدادي : 52 .