توفي النبي والقرآن مفرقٌ في الرقاع والعظام والأحجار وشبهها، ولم يُجمع القرآن في زمنه في صحف، هكذا يدعون.
قال ابن حجر العسقلاني: (وقد كان القرآن كله مكتوباً في عهده ، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور) ( ).
أما لماذا لم يجمع رسول الله القرآن قبل مماته مع اعترافهم بأنّ القرآن كله مكتوب في زمانه، أو لا أقل لِمَ لم يكلف أحد المسلمين بالقيام بهذه المهمة الخطيرة حقاً ؟
فيقولون: لاعتبارات كثيرة، منها ( ):
الاعتبار الأول: (إنه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعاً في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف، ولا مثل ما وجد في عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف، فالمسلمون وقتئذٍ بخير، والقراء كثيرون، والإسلام لم تتسع دولته، والفتنة مأمونة، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة، وأدوات الكتابة غير ميسورة، والنبي بين أظهرهم، وعنايته باستظهار القرآن تفوق الوصف، فلا خوف على ضياع شيء منه في تلك المدة).
أقول: كل ما قيل استحسان لم يقم عليه دليل وينبغي أن يضرب به عرض الحائط بعد أن كان الكلام في مسألة تتعلق بالقرآن الكريم إن كانوا يحترمونه فعلاً، هذا أولاً.
وثانياً: إن ما قالوه في دواعي الجمع فيمن تأخر عن النبي موجود في زمنه روحي فداه. نعم، ربما هم قاسوا رسول الله على أنفسهم فصوروا ما منتهم به أنفسهم من دواعي، وإلا فماذا يعني قولهم: (والفتنة مأمونة)، فهل يريدون قول إنّ رسول الله يحلّ من الفتنة ما هو فعلي فقط ويترك ما سواه يتداركه رجال من قريش، أو أنه قام - في حياته - بوضع الحلول لأمته والتي تتعلق بكل ما يمكن أن يعرض لها من فتن وقد رسم لها فعلاً طريق الهداية والنجاة؟! أكيد الثاني، ولا يتقوّل بالأول مسلم يحترم نبيه الكريم .
وجعلوا من الدواعي أنّ (أدوات الكتابة غير ميسورة) في زمنه وأنها أصبحت ميسورة في زمن أبي بكر ومن تلاه، فإن كان هذا صحيحاً فأبو بكر بنظركم هو التالي لرسول الله مباشرة ولم يدم حكمه ثلاث سنين، فكيف انتشر في أيامه فجأة ما لم يتيسر قبل أشهر بل أيام قليلة؛ إذ لم يحدثنا التاريخ أنّ معامل الورق أو صناعة الأقلام وأدوات الكتابة قد ابتدعت في زمن أبي بكر أو ازدهرت وانتشرت في عصره ولا حتى صار اتساع في دولته قدر أنملة ليقبل المسلمون تبريركم هذا ؟!!
ولك أيها المنصف أن تطالع باقي الدواعي وترى قيمتها العلمية؛ لأني في الحقيقة لا أريد تسطير ما لا قيمة له في بحثي هذا، وكان بإمكانهم ذكر رواية عن رسول الله توضح ما بينوه وتكفيهم كل هذا التهريج الذي لا طائل من ورائه لو كانوا يملكون.
الاعتبار الثاني: (أن النبي كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله نسخه من القرآن، ولو جمع القرآن في مصحف واحد وقتئذٍ لكان عرضة لتغيير المصاحف كلما وقع نسخ).
أقول: مرة أخرى قول بلا دليل، واستحسان لا قيمة له في ميزان البحث العلمي بعد أن كان الكلام في أقدس شيء عند المسلمين، أليس كذلك ؟!
على أن لا أحد من المسلمين يتجرأ ليعلّم الرسول لو أراد جمع القرآن متى يجمعه ومن يكتبه له، وكيف يتدارك الحل بالنسبة للآيات الناسخة والمنسوخة، فيدعي انسداد حلّ ذلك عليه وأنه لو قام بجمعه لصار عرضة للتغيير، فلا كل القرآن قد نسخ، ولا لأن بعض الآيات تنسخ يترك النبي القرآن كلّه منثوراً على الأحجار والعظام، فما بالكم بين إفراط وتفريط وكأنكم حرّمتم على أنفسكم الجادة الوسطى ؟!!
ثم إنّ القرآن قد جمع الناسخ والمنسوخ بين طياته وهو أمر واضح، وليس كل منسوخ يمحى من الكتاب كما أرادوا تصويره.
الاعتبار الثالث: (أن القرآن لم ينزل جملة واحدة، بل نزل منجماً في مدى عشرين سنة أو أكثر، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النزول، ولو جُمِع القرآن في مصحف واحد وقتئذٍ لكان عرضة لتغيير المصاحف كلما نزلت آية أو سورة).
أقول: والكلام فيه ما قلناه في سابقيه، فلا نكلف أنفسنا عناء الرد أصلاً.
ربما هذا وغيره دعا الحاكم النيسابوري وهو من علماء العامة أيضاً إلى القول بعد نقل كلام زيد المتقدم "كنا نؤلف القرآن من الرقاع .."، قال: (وفيه البيان الواضح أنّ جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة رسول الله ، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر، والجمع الثالث هو في ترتيب السورة كان في خلافة عثمان بن عفان) ( ).
وهو اعتراف منه لا أقل بأنّ بعضه كان مجموعاً في زمن رسول الله ، بخلاف ما يقوله جمهورهم وإن كنّا نخالفه بشخص الجامع كما سيتضح.
* * *
الدكتور علاء السالم / كتاب ( ماذا جرى على القران وقراءة اهل البيت (ع) - ج1)
قال ابن حجر العسقلاني: (وقد كان القرآن كله مكتوباً في عهده ، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور) ( ).
أما لماذا لم يجمع رسول الله القرآن قبل مماته مع اعترافهم بأنّ القرآن كله مكتوب في زمانه، أو لا أقل لِمَ لم يكلف أحد المسلمين بالقيام بهذه المهمة الخطيرة حقاً ؟
فيقولون: لاعتبارات كثيرة، منها ( ):
الاعتبار الأول: (إنه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعاً في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف، ولا مثل ما وجد في عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف، فالمسلمون وقتئذٍ بخير، والقراء كثيرون، والإسلام لم تتسع دولته، والفتنة مأمونة، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة، وأدوات الكتابة غير ميسورة، والنبي بين أظهرهم، وعنايته باستظهار القرآن تفوق الوصف، فلا خوف على ضياع شيء منه في تلك المدة).
أقول: كل ما قيل استحسان لم يقم عليه دليل وينبغي أن يضرب به عرض الحائط بعد أن كان الكلام في مسألة تتعلق بالقرآن الكريم إن كانوا يحترمونه فعلاً، هذا أولاً.
وثانياً: إن ما قالوه في دواعي الجمع فيمن تأخر عن النبي موجود في زمنه روحي فداه. نعم، ربما هم قاسوا رسول الله على أنفسهم فصوروا ما منتهم به أنفسهم من دواعي، وإلا فماذا يعني قولهم: (والفتنة مأمونة)، فهل يريدون قول إنّ رسول الله يحلّ من الفتنة ما هو فعلي فقط ويترك ما سواه يتداركه رجال من قريش، أو أنه قام - في حياته - بوضع الحلول لأمته والتي تتعلق بكل ما يمكن أن يعرض لها من فتن وقد رسم لها فعلاً طريق الهداية والنجاة؟! أكيد الثاني، ولا يتقوّل بالأول مسلم يحترم نبيه الكريم .
وجعلوا من الدواعي أنّ (أدوات الكتابة غير ميسورة) في زمنه وأنها أصبحت ميسورة في زمن أبي بكر ومن تلاه، فإن كان هذا صحيحاً فأبو بكر بنظركم هو التالي لرسول الله مباشرة ولم يدم حكمه ثلاث سنين، فكيف انتشر في أيامه فجأة ما لم يتيسر قبل أشهر بل أيام قليلة؛ إذ لم يحدثنا التاريخ أنّ معامل الورق أو صناعة الأقلام وأدوات الكتابة قد ابتدعت في زمن أبي بكر أو ازدهرت وانتشرت في عصره ولا حتى صار اتساع في دولته قدر أنملة ليقبل المسلمون تبريركم هذا ؟!!
ولك أيها المنصف أن تطالع باقي الدواعي وترى قيمتها العلمية؛ لأني في الحقيقة لا أريد تسطير ما لا قيمة له في بحثي هذا، وكان بإمكانهم ذكر رواية عن رسول الله توضح ما بينوه وتكفيهم كل هذا التهريج الذي لا طائل من ورائه لو كانوا يملكون.
الاعتبار الثاني: (أن النبي كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله نسخه من القرآن، ولو جمع القرآن في مصحف واحد وقتئذٍ لكان عرضة لتغيير المصاحف كلما وقع نسخ).
أقول: مرة أخرى قول بلا دليل، واستحسان لا قيمة له في ميزان البحث العلمي بعد أن كان الكلام في أقدس شيء عند المسلمين، أليس كذلك ؟!
على أن لا أحد من المسلمين يتجرأ ليعلّم الرسول لو أراد جمع القرآن متى يجمعه ومن يكتبه له، وكيف يتدارك الحل بالنسبة للآيات الناسخة والمنسوخة، فيدعي انسداد حلّ ذلك عليه وأنه لو قام بجمعه لصار عرضة للتغيير، فلا كل القرآن قد نسخ، ولا لأن بعض الآيات تنسخ يترك النبي القرآن كلّه منثوراً على الأحجار والعظام، فما بالكم بين إفراط وتفريط وكأنكم حرّمتم على أنفسكم الجادة الوسطى ؟!!
ثم إنّ القرآن قد جمع الناسخ والمنسوخ بين طياته وهو أمر واضح، وليس كل منسوخ يمحى من الكتاب كما أرادوا تصويره.
الاعتبار الثالث: (أن القرآن لم ينزل جملة واحدة، بل نزل منجماً في مدى عشرين سنة أو أكثر، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النزول، ولو جُمِع القرآن في مصحف واحد وقتئذٍ لكان عرضة لتغيير المصاحف كلما نزلت آية أو سورة).
أقول: والكلام فيه ما قلناه في سابقيه، فلا نكلف أنفسنا عناء الرد أصلاً.
ربما هذا وغيره دعا الحاكم النيسابوري وهو من علماء العامة أيضاً إلى القول بعد نقل كلام زيد المتقدم "كنا نؤلف القرآن من الرقاع .."، قال: (وفيه البيان الواضح أنّ جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة رسول الله ، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر، والجمع الثالث هو في ترتيب السورة كان في خلافة عثمان بن عفان) ( ).
وهو اعتراف منه لا أقل بأنّ بعضه كان مجموعاً في زمن رسول الله ، بخلاف ما يقوله جمهورهم وإن كنّا نخالفه بشخص الجامع كما سيتضح.
* * *
الدكتور علاء السالم / كتاب ( ماذا جرى على القران وقراءة اهل البيت (ع) - ج1)