الخطبة الاولى:
اعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، الحمدلله مالك الملك، مجري الفلك مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديان الدين، رب العالمين، الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها وترجف الأرض وعمارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها. اللهم صل على محمد وآل محمد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة آل عمران 35 - 37]
- عن أبي عبد الله (ع)، قال: (إنّ الله تعالى أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكراً سوياً مباركاً، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت... ) الكافي: ج1 ص535.
المتشابهات ج4 س163 [ ... ولذلك: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ ([276])، وعلل هذا الدعاء بـ ﴿إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾ ([277]).
﴿الْمَوَالِيَ﴾: أي علماء بني إسرائيل، خاف منهم على عيسى (ع)؛ لأنه كان يعلم بأمره، فزكريا (ع) هو الحجة على مريم (ع)، وأراد زكريا (ع) ذرية طيبة ترث آل يعقوب حقيقة، أي ميراث الحكمة والنبوة والنصرة لولي الله عيسى (ع) فرزقه الله يحيى. فكفالة زكريا لمريم (ع) لشأنها، فإن الله كفّله شأنها ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، وأهم ما في شأنها هو أنها أمٌ لعيسى (ع)، نبي من أولي العزم مصلح للديانة الإلهية.
كما أنّ يحيى الذي هو إجابة دعاء زكريا (ع) كان أهم ما فيه هو إجابة دعاء زكريا، وذلك أنه أصبح الناصر لعيسى (ع)، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ([278])، والمصدق هو يحيى (ع)، وكلمة الله والسيد الحصور هو عيسى (ع)، فهو سيد من أولي العزم، ومَلِك بني إسرائيل، وحصور لا يأتي النساء ولا الدنيا.
والآن لننظر في دعاء زكريا، وهو طلب الولد: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾ ([279]).
1- ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي﴾: أي علماء بني إسرائيل خفتهم على عيسى (ع) السيد ومَلِك بني إسرائيل، وكلمة الله. وهنا طلب زكريا (ع) من الله، فـ (هب لي ولداً) يتم كفالتي لأمر مريم (ع) بعد موتي فقد بلغت من الكبر والعمر حتى شاب رأسي، فالمتوقع أن أكون ميتاً عند بعث عيسى (ع).
2- ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾: في نصرة عيسى (ع)، فعيسى (ع) (قائم آل يعقوب)، فنصرة يحيى (ع) له نيابة عن زكريا (ع)، وكفالته نيابة عن آل يعقوب الصالحين من الأنبياء والمرسلين والأولياء.
3- ﴿واجعله رب رضياً﴾: أي راضياً بالبلاء والامتحان، وتعرضه للقتل في نصرة عيسى (ع). فقد وجّه يحيى (ع) تلاميذه والناس لنصرة عيسى (ع) قبل أن يُبعث عيسى (ع) وقُتل واستشهد في بداية بعث عيسى. ... ]
٦٦ - تفسير العياشي ج ٢ ص ٣٣٧: عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله "، ثم ذكر الغلامين فقال: " * (وكان أبوهما صالحا) *، ألم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما ". ونقله عنه في البحار ج١٣ ص٣١٢
المتشابهات ج3 س72 [ 2- قصة الغلام:
... ولهذا قال موسى (ع) عنه (نفساً زكية) أي بحسب الظاهر؛ لأنه ابن مؤمنَين، وفي الوقت الحالي؛ لأنه لم يظهر الكفر والفساد، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في نفس هذا الفتى من (الأنا) والتكبر على أمر الله وحججه (ع).
فهذه النفس الخبيثة هي من أعداء الأنبياء والمرسلين، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى العالم (ع) ليحقق لهذين المؤمنَين أملهما بالذرية البارة المؤمنة الصالحة، ولم يكن هناك سبيل لتفريقهم إلا بقتل الغلام ، فقتله العالم (ع) بأمر الله سبحانه واستجابة لدعاء أبويه. ...
... وكل أعمال العالِم (ع) عادت بالخير الكثير على أصحابها، فالسفينة حُفظت ولم يضطر أهلها لمعونة الظالم، والغلام العاق ذو الباطن الأسود قُتل وأُبدل أبويه بفتاة صالحة بارة ولدت الأنبياء، والجدار حَفظ المال والذهب والحكمة من أن تصل لغير أهلها. ... ]
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [سورة الكهف 80 - 81]
نتوقف عند هذا القدر، ونكمل في الخطبة الثانية ان شاء الله...
هذا والحمدلله رب العالمين
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [سورة الناس]
***
الخطبة الثانية:
اعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَاَمينِكَ، وَصَفِيِّكَ، وَحَبيبِكَ، وَخِيَرَتِكَ مَنْ خَلْقِكَ، وَحافِظِ سِرِّكَ، ... اَللّـهُمَّ وَصَلِّ عَلى عَليٍّ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ، وَوَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ الْعالَمينَ، عَبْدِكَ وَوَليِّكَ، وَاَخي رَسُولِكَ، وَحُجَّتِكَ عَلى خَلْقِكَ، وَآيَتِكَ الْكُبْرى، وَالنَّبأِ الْعَظيمِ، وَصَلِّ عَلَى الصِّدّيقَةِ الطّاهِرَةِ فاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ الْعالَمينَ، وَصَلِّ عَلى سِبْطَيِ الرَّحْمَةِ وَاِمامَيِ الْهُدى، الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ سَيِّدَيْ شَبابِ اَهْلِ الْجَّنَةِ، وَصَلِّ عَلى اَئِمَّةِ الْمُسْلِمينَ، عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد، وَمُوسَى بْنِ جَعْفَر، وَعَلِيِّ بْنِ مُوسى، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّد، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن محمد والمهديين من ولده ، حُجَجِكَ عَلى عِبادِكَ، وَاُمَنائِكَ في بِلادِكَ صَلَاةً كَثيرَةً دائِمَةً...
... (نكمل الموضوع الذي ابتدأناه في الخطبة الأولى) ...
المتشابهات ج4 ((مقتطفان)) [ سؤال/ 128: ما معنى قول إبراهيم (ع) : ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ([50]) ؟ وهل صحيح أنّ إبراهيم (ع) قالها لأنه كان يحمل همَّ ذريته، كما يقول بعض العلماء؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين
عندما حمل إبراهيم (ع) وهو شاب الفأس وكسَّر الأصنام، وألقاه النمرود وعلماء الضلالة في النار، كافأه الله سبحانه وتعالى بدون أن يطلب هو (ع)، بأن جعل الأنبياء اللاحقين بعده من ذريته. ثم إن إبراهيم (ع) استمر بدعوته الإلهية، فلما امتحنه الله سبحانه وتعالى بالكلمات ونجح إبراهيم (ع) بالامتحان والابتلاء خاطبه تعالى فقال له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾.
ومرتبة الإمامة الإلهية مرتبة عالية، لم ينلها كل الأنبياء والمرسلين (ع)، وهنا سأل إبراهيم (ع) الله سبحانه وتعالى هذا السؤال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، أي وهل أنّ الأنبياء الذين بشرتني بهم فيما مضى هم (أئمة) أيضاً ؟ فقال تعالى: ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، أي الظالمين من الأنبياء (ع). ...
... أما قول بعضهم: إن إبراهيم (ع) كان يحمل همَّ ذريته ، فإذا كانوا يقصدون أنه (ع) أراد لهم الإمامة (ع) فهذا لا؛ لأنّ إبراهيم (ع) لم يكن حريصاً على دنيا ولا على آخرة، إنما كان حريصاً على رضا الله سبحانه وتعالى. ودعاء الأنبياء وإبراهيم (ع) لذريتهم إنما هو للصالحين منهم بعد علم الأنبياء (ع) بصلاحهم، ومن قبل إبراهيم (ع) نوح (ع) فإنه لعن ابنه بعد أن لعنه الله سبحانه، وبعد أن علم أنه ضال عن الصراط المستقيم ومن أهل الجحيم.
فلم يكن إبراهيم (ع) أو الأنبياء يحملون همَّ ذريتهم لأنهم أولادهم، وإلا لكانوا بذلك على درجة كبيرة من حب الأنا والانحراف عن الصراط المستقيم، (حاشاهم من ذلك) وهم خيرة الله من خلقه، إنما كان إبراهيم والأنبياء (ع) يحملون همَّ الصالحين من ذريتهم؛ لأنهم علموا بصلاحهم، ولأنهم علموا أن هؤلاء الأبناء الصالحين سوف يخلفونهم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتحمل العناء والمشقة والأذى من الناس في سبيل نشر التوحيد وكلمة الله سبحانه وتعالى في أرضه.
فكان إبراهيم (ع) والأنبياء (ع) يحملون همَّ الصالحين من ذريتهم؛ لأنهم أولياء الله سبحانه، لا لأنهم أولادهم. والفرق شاسع بين الأمرين، كالفرق بين حب الله سبحانه، وحب الدنيا في قلب الصالح والطالح. ]
( ... فبينما هم كذلك إذ سمعوا هاتفا " من داخل الكعبة وهو يقول: (قد قبل الله منكم الفداء، وقد قرب خروج المصطفى)، ... ) بحار الانوار ج١٥ ص٩٠
عندما أرادوا تزويج والد النبي بأمه آمنة سمعوا هاتفا ... (بخ بخ لكم يا معشر أهل الصفا، قد قرب خروج المصطفى)، ... ) المصدر السابق ص٩٩
هذا والحمدلله رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]
اعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، الحمدلله مالك الملك، مجري الفلك مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديان الدين، رب العالمين، الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها وترجف الأرض وعمارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها. اللهم صل على محمد وآل محمد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة آل عمران 35 - 37]
- عن أبي عبد الله (ع)، قال: (إنّ الله تعالى أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكراً سوياً مباركاً، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت... ) الكافي: ج1 ص535.
المتشابهات ج4 س163 [ ... ولذلك: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ ([276])، وعلل هذا الدعاء بـ ﴿إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾ ([277]).
﴿الْمَوَالِيَ﴾: أي علماء بني إسرائيل، خاف منهم على عيسى (ع)؛ لأنه كان يعلم بأمره، فزكريا (ع) هو الحجة على مريم (ع)، وأراد زكريا (ع) ذرية طيبة ترث آل يعقوب حقيقة، أي ميراث الحكمة والنبوة والنصرة لولي الله عيسى (ع) فرزقه الله يحيى. فكفالة زكريا لمريم (ع) لشأنها، فإن الله كفّله شأنها ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، وأهم ما في شأنها هو أنها أمٌ لعيسى (ع)، نبي من أولي العزم مصلح للديانة الإلهية.
كما أنّ يحيى الذي هو إجابة دعاء زكريا (ع) كان أهم ما فيه هو إجابة دعاء زكريا، وذلك أنه أصبح الناصر لعيسى (ع)، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ([278])، والمصدق هو يحيى (ع)، وكلمة الله والسيد الحصور هو عيسى (ع)، فهو سيد من أولي العزم، ومَلِك بني إسرائيل، وحصور لا يأتي النساء ولا الدنيا.
والآن لننظر في دعاء زكريا، وهو طلب الولد: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾ ([279]).
1- ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي﴾: أي علماء بني إسرائيل خفتهم على عيسى (ع) السيد ومَلِك بني إسرائيل، وكلمة الله. وهنا طلب زكريا (ع) من الله، فـ (هب لي ولداً) يتم كفالتي لأمر مريم (ع) بعد موتي فقد بلغت من الكبر والعمر حتى شاب رأسي، فالمتوقع أن أكون ميتاً عند بعث عيسى (ع).
2- ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾: في نصرة عيسى (ع)، فعيسى (ع) (قائم آل يعقوب)، فنصرة يحيى (ع) له نيابة عن زكريا (ع)، وكفالته نيابة عن آل يعقوب الصالحين من الأنبياء والمرسلين والأولياء.
3- ﴿واجعله رب رضياً﴾: أي راضياً بالبلاء والامتحان، وتعرضه للقتل في نصرة عيسى (ع). فقد وجّه يحيى (ع) تلاميذه والناس لنصرة عيسى (ع) قبل أن يُبعث عيسى (ع) وقُتل واستشهد في بداية بعث عيسى. ... ]
٦٦ - تفسير العياشي ج ٢ ص ٣٣٧: عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله "، ثم ذكر الغلامين فقال: " * (وكان أبوهما صالحا) *، ألم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما ". ونقله عنه في البحار ج١٣ ص٣١٢
المتشابهات ج3 س72 [ 2- قصة الغلام:
... ولهذا قال موسى (ع) عنه (نفساً زكية) أي بحسب الظاهر؛ لأنه ابن مؤمنَين، وفي الوقت الحالي؛ لأنه لم يظهر الكفر والفساد، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في نفس هذا الفتى من (الأنا) والتكبر على أمر الله وحججه (ع).
فهذه النفس الخبيثة هي من أعداء الأنبياء والمرسلين، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى العالم (ع) ليحقق لهذين المؤمنَين أملهما بالذرية البارة المؤمنة الصالحة، ولم يكن هناك سبيل لتفريقهم إلا بقتل الغلام ، فقتله العالم (ع) بأمر الله سبحانه واستجابة لدعاء أبويه. ...
... وكل أعمال العالِم (ع) عادت بالخير الكثير على أصحابها، فالسفينة حُفظت ولم يضطر أهلها لمعونة الظالم، والغلام العاق ذو الباطن الأسود قُتل وأُبدل أبويه بفتاة صالحة بارة ولدت الأنبياء، والجدار حَفظ المال والذهب والحكمة من أن تصل لغير أهلها. ... ]
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [سورة الكهف 80 - 81]
نتوقف عند هذا القدر، ونكمل في الخطبة الثانية ان شاء الله...
هذا والحمدلله رب العالمين
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [سورة الناس]
***
الخطبة الثانية:
اعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَاَمينِكَ، وَصَفِيِّكَ، وَحَبيبِكَ، وَخِيَرَتِكَ مَنْ خَلْقِكَ، وَحافِظِ سِرِّكَ، ... اَللّـهُمَّ وَصَلِّ عَلى عَليٍّ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ، وَوَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ الْعالَمينَ، عَبْدِكَ وَوَليِّكَ، وَاَخي رَسُولِكَ، وَحُجَّتِكَ عَلى خَلْقِكَ، وَآيَتِكَ الْكُبْرى، وَالنَّبأِ الْعَظيمِ، وَصَلِّ عَلَى الصِّدّيقَةِ الطّاهِرَةِ فاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ الْعالَمينَ، وَصَلِّ عَلى سِبْطَيِ الرَّحْمَةِ وَاِمامَيِ الْهُدى، الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ سَيِّدَيْ شَبابِ اَهْلِ الْجَّنَةِ، وَصَلِّ عَلى اَئِمَّةِ الْمُسْلِمينَ، عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد، وَمُوسَى بْنِ جَعْفَر، وَعَلِيِّ بْنِ مُوسى، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّد، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن محمد والمهديين من ولده ، حُجَجِكَ عَلى عِبادِكَ، وَاُمَنائِكَ في بِلادِكَ صَلَاةً كَثيرَةً دائِمَةً...
... (نكمل الموضوع الذي ابتدأناه في الخطبة الأولى) ...
المتشابهات ج4 ((مقتطفان)) [ سؤال/ 128: ما معنى قول إبراهيم (ع) : ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ([50]) ؟ وهل صحيح أنّ إبراهيم (ع) قالها لأنه كان يحمل همَّ ذريته، كما يقول بعض العلماء؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين
عندما حمل إبراهيم (ع) وهو شاب الفأس وكسَّر الأصنام، وألقاه النمرود وعلماء الضلالة في النار، كافأه الله سبحانه وتعالى بدون أن يطلب هو (ع)، بأن جعل الأنبياء اللاحقين بعده من ذريته. ثم إن إبراهيم (ع) استمر بدعوته الإلهية، فلما امتحنه الله سبحانه وتعالى بالكلمات ونجح إبراهيم (ع) بالامتحان والابتلاء خاطبه تعالى فقال له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾.
ومرتبة الإمامة الإلهية مرتبة عالية، لم ينلها كل الأنبياء والمرسلين (ع)، وهنا سأل إبراهيم (ع) الله سبحانه وتعالى هذا السؤال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، أي وهل أنّ الأنبياء الذين بشرتني بهم فيما مضى هم (أئمة) أيضاً ؟ فقال تعالى: ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، أي الظالمين من الأنبياء (ع). ...
... أما قول بعضهم: إن إبراهيم (ع) كان يحمل همَّ ذريته ، فإذا كانوا يقصدون أنه (ع) أراد لهم الإمامة (ع) فهذا لا؛ لأنّ إبراهيم (ع) لم يكن حريصاً على دنيا ولا على آخرة، إنما كان حريصاً على رضا الله سبحانه وتعالى. ودعاء الأنبياء وإبراهيم (ع) لذريتهم إنما هو للصالحين منهم بعد علم الأنبياء (ع) بصلاحهم، ومن قبل إبراهيم (ع) نوح (ع) فإنه لعن ابنه بعد أن لعنه الله سبحانه، وبعد أن علم أنه ضال عن الصراط المستقيم ومن أهل الجحيم.
فلم يكن إبراهيم (ع) أو الأنبياء يحملون همَّ ذريتهم لأنهم أولادهم، وإلا لكانوا بذلك على درجة كبيرة من حب الأنا والانحراف عن الصراط المستقيم، (حاشاهم من ذلك) وهم خيرة الله من خلقه، إنما كان إبراهيم والأنبياء (ع) يحملون همَّ الصالحين من ذريتهم؛ لأنهم علموا بصلاحهم، ولأنهم علموا أن هؤلاء الأبناء الصالحين سوف يخلفونهم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتحمل العناء والمشقة والأذى من الناس في سبيل نشر التوحيد وكلمة الله سبحانه وتعالى في أرضه.
فكان إبراهيم (ع) والأنبياء (ع) يحملون همَّ الصالحين من ذريتهم؛ لأنهم أولياء الله سبحانه، لا لأنهم أولادهم. والفرق شاسع بين الأمرين، كالفرق بين حب الله سبحانه، وحب الدنيا في قلب الصالح والطالح. ]
( ... فبينما هم كذلك إذ سمعوا هاتفا " من داخل الكعبة وهو يقول: (قد قبل الله منكم الفداء، وقد قرب خروج المصطفى)، ... ) بحار الانوار ج١٥ ص٩٠
عندما أرادوا تزويج والد النبي بأمه آمنة سمعوا هاتفا ... (بخ بخ لكم يا معشر أهل الصفا، قد قرب خروج المصطفى)، ... ) المصدر السابق ص٩٩
هذا والحمدلله رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]