إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

كتاب العدالة – بروفيسور مايكل ساندل / ترجمة: مروان الرشيد

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    كتاب العدالة – بروفيسور مايكل ساندل / ترجمة: مروان الرشيد




    رابط التحميل





    فِعْلُ ما يجدر فِعْلُهُ – مايكل ساندل / ترجمة: مروان الرشيد

    الحلقة الأولى – الفصل الأول من كتاب “العدالة” لمايكل ساندل

    1. فِعْلُ ما يجدر فِعْلُهُ
    في صيف عام ٢٠٠٤، ضجَّ الإعصار «شارلي» من خليج المكسيك، كاسحا فلوريدا وصولا إلى المحيط الأطلسي، مُزهقا حياة ٢٢ روحا، ومتسببا بأضرار تساوي ١١ مليار دولار. كذلك خلّف وراءه جدالا يدور حول التحايل في الأسعار.
    ففي محطة وقود في أورلاندو، حيث كانت تباع أكياس الثلج بدولارين، بِيعت آنذاك بعشرة دولارات. وفي غياب الكهرباء والثلاجات والمكيفات، في منتصف أغسطس، اضطرَّ الناس أن يشتروا الثلج بهذه القيمة المبالغ بها. والأشجار التي آلت على البيوت، محدثة الثقوب، كانت تحتاج إلى المناشير لإزالتها، وكانت السقوف تحتاج للإصلاح. فعرض مقاولون إزالة شجرتين من سقف أحدهم لِقاء ٢٣,٠٠٠ دولار. والمحلات، التي كانت تبيع مولدات الكهرباء الصغيرة مقابل ٢٥٠ دولا، صارت تطلب ٢,٠٠٠ دولار. وطُلب من عجوز تبلغ السابعة والسبعين، نزحت عن الإعصار بصحبة زوجها الهرم وبنتها المقعدة، دفع ١٦٠ دولارا لقاء ليلة في نُزُل يكلِّف في الأحوال العادية ٤٠ دولارا.
    كان الكثير من أهالي فلوريدا غاضبين من تضخّم الأسعار. وعنونت «يو إس إي توداي»: «النسور تأتي في أعقاب العاصفة». يقول أحد السكان، الذي أُخبر أن إزالة شجرة سقطت على منزله ستكلفه ١٠,٥٠٠ دولارا، يقول إن ما جرى كان جورا، أن «يحاول أحدهم التكسّب من بؤس الناس ومحنتهم». يتفق مع هذا تشارلي كريست، المدعي العام لولاية فلوريدا، الذي قال: «لقد صدمني مستوى الطمع الذي قد يحدو بالإنسان إلى أن يكون مستعدا لاستغلال معاناة الناس عشية الإعصار».
    في فلوريدا هناك قانون ضد التحايل في الأسعار، وغداة الإعصار تلقى المدعي العام ما يفوق الألفيّ شكوى، بعضها أدت إلى دعاوى قضائية ناجعة. فأُجبر نُزُل «الأيّام»، غربيَّ «بالم بيتش»، أن يدفع ٧٠,٠٠٠ دولارا غرامات وتعويضات لكل زبون تم مقاضاته، لقاء الإقامة، أكثر من القيمة المعقولة.
    وبينما كان المدعي العام كريست على وشك إنفاذ قانون مكافحة التحايل في الأسعار، كان بعض الاقتصاديين يُحاجّون أن هذا القانون، ووراءه الغضبة الشعبية، هما نتيجة أوهام؛ ففي العصور الوسطى، كان الفلاسفة واللاهوتيون يؤمنون أن تبادل البضائع يجب أن يُحْكم بقانون «السعر العادل»، الذي يتحدد بالتقاليد أو بالقيمة الفعلية للأشياء. لكن، يقول الاقتصاديون، في المجتمعات المحكومة بالسوق يجب أن تُحكم الأسعار بقوانين «العرّض والطلب»، لا بشيء يسمى «السعر العادل».
    أحد اقتصاديي السوق الحر، هو توماس سوويل، قال عن مصطلح «التحايل في الأسعار»، أنه مصطلح له «قوة عاطفية، لكن لا معنى له على المستوى الاقتصادي، ولا أحد من الاقتصاديين يلقي له بالا؛ لأنه مصطلح هائم». وفي مقالة له في الـ «تامپا تريبيو» سعى سوويل إلى إيضاح كيف أن «التحايل في الأسعار كان عونا لأهالي فلوريدا». يقول سوويل، إن دعاوى التحايل في الأسعار تظهر حينما «ترتفع الأسعار بشكل ملحوظ عمّا اعتاده الناس»، ولكن «الأسعار التي اعتادها الناس» لم تتحدد بصورة أخلاقية مقدسة، وهي ليست أكثر امتيازا، ولا أكثر إنصافا، مما تنتجه تقلبات السوق؛ ومن بينها تلك التي تسببها عاصفة.
    حجة سوويل هي التالي: سيقلل ارتفاع أسعار الثلج والمياه المعدنية وكلفة اصلاح السقوف والمولدات الكهربائية وغرف الفنادق، من استهلاك المستهلكين لها، ويعطي حافزا لمقدمي الخدمة، في الأماكن البعيدة، لتوفير البضائع والخدمات لسكان فلوريدا غداة الإعصار. فبلوغ أكياس الثلج مبلغ ١٠ دولارات، في الوقت الذي يواجه فيه أهالي فلوريدا انقطاعا في التيار الكهربائي في قيظ شهر أغسطس، سيجعل من المُجدي، في نظر مصانع الثلج، أن تنتج وتشحن المزيد من الثلج. ويوضّح سوويل أن لا شيء ظالم في هذه الأسعار: فهي، ببساطة، تعكس القيمة التي يختارها البائع والمشتري للبضاعة التي يتبادلونها.
    كتب جيف جيكوب، وهو مراقب مؤيّد للسوق، يحاج ضد قوانين مكافحة التحايل في الأسعار، من نفس المنطلقات تقريبا، قال: «إن إتباع التسعيرة التي ينتجها السوق ليس تحايلا أو جشعا أو صفاقة، إنها الكيفية التي تكتسب بها البضائع والخدمات قيمتها في المجتمع الحر». يُقرّ جيكوب أن «ارتفاع الأسعار بهذا الشكل يثير السخط، خصوصا بالنسبة لشخص رمته عاصفة مميتة في معمعة»، لكن الغضب الشعبي ليس مبررا للتدخل في السوق الحرّ. فما يبدو أنه سعر باهظ؛ «نفعه أكثر من ضرره»، لأنه يمنح حافزا للمنتجين لإنتاج المزيد من البضائع الضرورية. وينتهي چيكوب إلى القول إن «شيطنة باعة فلوريدا لن يسرّع تعافي الولاية من الإعصار، على عكس تركهم يتولون أعمالهم بلا تدخّل».
    نشر المدعي العام كريست (وهو جمهوري سينتخب فيما بعد حاكما لفلوريدا) في افتتاحية صحيفة «تامپا» مقالة يدافع فيها عن قوانين مكافحة التحايل في الأسعار، يقول فيها: «في أوقات الأزمات، لا يكمن أن تقف الحكومة مكتوفة الأيدي بينما يُرهق الناس بأثمان مفرطة، وهم ينزحون للنفاذ بحياتهم، أو يبحثون عن سلع ضرورة لعائلاتهم، غداة الإعصار». ويرفض كريست فكرة أن هذه الأسعار «المفرطة» تعكس، حقا، تبادلا حرا.
    يقول: «إنها ليست أوضاع السوق الحر الطبيعية؛ حيث يختار البائع أن يدخل طوعا في السوق، ليقابل مشتر يشتري طوعا، ويتم حينها الاتفاق على السعر وفقا للعرض والطلب. أما في الأزمات، فالمشتر مقسور ولا حرية له، وهو مجبر في ابتياعه لضرورات مثل المأوى الآمن».
    هذا الجدل الذي ظهر للعيان في أعقاب الإعصار تشارلي اصطحب معه أسئلة معضلة في الأخلاق والسياسة: هل من الشطط أن يستغل باعة الخدمات والبضائع الكوارث الطبيعية، ليطلبوا أي سعر ينتجه السوق؟ وإن كان ذلك يعد خطأ، فما الذي يجب على القانون أن يفعله إزاء هذا؟ هل على الدولة أن تحرِّم التحايل في الأسعار، ولو كان ذلك يعني التدخّل في حرية الباعة والمشترين في تحديد العقد الذي يشاءون؟


    الرفاهُ والحريَّةُ والفضيلةُ
    هذه الأسئلة ليست حيال علاقة الأفراد بعضهم ببعض وحسب، بل هي أيضا أسئلة حيال القانون كيف يجب أن يُصاغ، والمجتمع كيف يجب أن يُدبَّر؛ إنها أسئلة حيال العدالة. ومن أجل الإجابة عليها لا بد لنا من أن نسبر معنى العدالة. وقد بدأنا، بالفعل، هذه العملية. فأنت إن أجلت نظرك في جدل التحايل في الأسعار، فإنك واجد أن الحجج التي تدعم قوانين مكافحة التحايل في الأسعار، والتي تقف ضدها، تدور حول أفكار ثلاثة، هي: تعظيم الرفاه، واحترام الحرية، وإشاعة الفضيلة. وكل واحدة من هذه الأفكار تشير إلى أنماط مختلفة في التفكير بالعدالة.
    الحجة التقليدية للأسواق الحرة تقوم على دعويين: إحداهما عن الرفاه، والأخرى عن الحرية. الأولى هي، أن السوق يشيع الرفاه العمومي بواسطة تقديم حوافز للناس أن يجدِّوا في انتاج السلع التي يجدها الأناس الآخرون ضرورية (نميل في أحاديثنا المعتادة إلى مساواة الرفاه بالازدهار الاقتصادي، على الرغم من أن الرفاه مفهوم يسع الوجوه غير الاقتصادية للرخاء الاجتماعي). الثانية، أن السوق يوقِّر حرية الأفراد؛ فهو لا يفرض قيمة معينة على الخدمات والسلع، بل بالعكس، يترك للناس حرية أن يختاروا القيمة التي يشاءون للأشياء التي يتعاملون بها.
    ليس من المستنكر أن يتوسّل معارضو قوانين مكافحة التحايل في الأسعار بهذين الحجتين، في سبيل الانتصار للسوق الحر. فبماذا يرد المدافعون عن قوانين مكافحة التحايل في الأسعار؟ إنهم، أولا، يحتجون بأن الرفاه العمومي لا يتأتى من خلال تقاضي أثمان باهظة في أوقات المحن، فحتى لو كانت الأسعار الباهظة ستؤدي لمزيد من السلع، فإنه يجب أن توضع هذه المنفعة على كفة الميزان، ويوضع في الكفة الأخرى العبء الذي يقع على عاتق المعسرين الذين لا حيلة لهم في دفع هذه المبالغ. فبالنسبة للميسورين، دفع الأثمان المتضخمة لجالون من الوقود أو لغرفة نُزُل في يوم عاصف تثير الانزعاج لا غير، أما بالنسبة لذوي الموارد المتواضعة فهذه الأثمان تشكّل مصدر شقاء حقيقي، وقد تؤدي لتعريضهم للأخطار الجسيمة وتقف عائقا أمام سلامتهم. إذن يحتج مؤيدو قوانين مكافحة التحايل في الأسعار أن أي تقدير لمستوى الرفاه العمومي لا بد أن يضع في اعتباره ألم وشقاء الذين قد تمنعهم هذه الأسعار من الحصول على سلع ضرورة في أوقات الطوارئ.
    ثانيا، يؤكد المدافعون عن قوانين مكافحة التحايل في الأسعار أنهُ، في ظروف معينة، لا يعود السوق الحر حرّا بالفعل. فكما يشير كريست، أن «المشترين الذين يقعون تحت وطأة الضرورة، ليسوا أحرارا. فابتياعهم للضروريات، كالمأوى الآمن، عملية يشوبها الاجبار». وأنت حين تفرّ من إعصار بصحبة عائلتك، فإن الأسعار الباهظة التي تدفعها مقابل الوقود والمأوى ليست مقايضة طوعيّة، إنها شيء شديد الشبه بالابتزاز.
    لأجل أن نقرر ما إذا كانت قوانين مكافحة التحايل في الأسعار عادلة، علينا أن نُقيّم هذان الفهمان المتعارضان للرفاه والحريّة.
    ولكن قبل ذلك علينا أن نضع في الاعتبار أمرا آخر، هو أن غالب الدعم الشعبي لقوانين مكافحة التحايل في الاسعار يصدر عن شيء أكثر وجدانية من الرفاه أو الحرية؛ فالناس غاضبين من «النسور» التي تتغذى على بؤس الآخرين، ويرون وجوب معاقبة هؤلاء المستغلين، لا أن يتم مكافأتهم بالقطوف الدانية. لكن هذه الاعتبارات توصف، غالبا، أنها عاطفية ولا يجب أن يكون لها شأن في تقرير السياسات وسن القوانين، فكما قال جيكوب: «شيطنة الباعة لن يؤدي لتسريع عملية تعافي فلوريدا».
    لكن الغضب من التحايل في الأسعار ليس غضبا أهوجا، إنه غضب يستند على فكرة أخلاقية جديرة بالاعتبار، وهو غضب يعتريك حين تعتقد أن الناس يعاملون بما لا يستحقونه، وهو من الطراز الذي يثيره انعدام العدالة.
    لقد لامس كريست المضمون الأخلاقي لهذا الغضب عندما وصف الطمع «الذي يسكن روح أحدهم بالقدر الذي يجعله مستعدا لاستغلال معاناة الناس في أعقاب الإعصار»، لكنه لم يفصح عن العلاقة بين ملاحظته هذه وبين قانون مكافحة التحايل في الأسعار، إنما في عمق تعليقه كان يقبع شيء يشبه هذه الدعوى، ولنسمها: دعوى الفضيلة.
    إن هذه الدعوى تجري كالتالي: الطمع رذيلة، وهو طريقة رديئة في الحياة، خصوصا عندما يكون سببا لمعاناة الآخرين. وفوق أنه خصلة شخصية سيئة، فهو على خلاف مع الفضيلة المدنية، ففي أوقات المصائب نجد أن المجتمع الصالح متضامنا، وبدلا من محاولة تعظيم المنفعة الشخصية يعتني الناس ببعضهم البعض؛ فالمجتمع الذي يستغل فيه الناس جيرانهم في أوقات الأزمات، لأجل تحصيل مكاسب مالية، ليس بمجتمع صالح. لذا، فالطمع رذيلة يتوجب على المجتمع الفاضل أن يتجنبها قدر الإمكان. وقوانين مكافحة التحايل في الأسعار ليس في مقدورها إزالة الطمع من النفوس، لكن بإمكانها، على الأقل، تقييد أكثر أشكاله وقاحة؛ وأن تُظهر موقف المجتمع تجاه هذا السلوك، باعتباره سلوكا بغيضا. ومن خلال معاقبة الطمع بدلا من إثابته، يُرسّخ المجتمع الفضيلة المدنية التي تدعو للتضحية المشتركة في سبيل خير الجماعة.
    إن الاقرار بالقوة المعنوية والأخلاقية لدعوى الفضيلة لا يعني أنها يجب أن تفوق باقي الاعتبارات المتنافسة دائما. فقد يخطر لك أن مجتمعا ضربه الإعصار عليه أن يعقد صفقة مع الشيطان؛ أن يسمح بالتحايل في الأسعار على أمل أن يجتذب هذا جيشا من مصلحي الأسقف ومن المقاولين من جميع الأصقاع، ولو كان ذلك على حساب تكريس الطمع أخلاقيا؛ فلتصلَّح الأسقف الآن، ولنترك اصلاح النسيج الاجتماعي لما بعد. لكن ما علينا أن نلفت النظر إليه هو أن جدل قوانين مكافحة التحايل بالأسعار لا يتعلق بالرفاه والحرية وحسب، بل إنه أيضا يتعلق بالفضيلة، أي تنمية التصرفات والنوازع وتربية الشخصية القويمة التي يستند عليها المجتمع الصالح.
    لكن بعض الناس، من بينهم العديد من مؤيدي قوانين مكافحة التحايل في الأسعار، يجدون دعوى الفضيلة مُربكة. سبب ذلك، أن هذه الدعوى تتضمن حكما أخلاقيا أكثر من الدعاوى التي تستند على الرفاه والحرية. فالتساؤل حول ما إذا كان التدبير السياسي سيؤدي لتسريع التعافي الاقتصادي أو يستنهض نموه، يجب ألا ينطوي على حكم أخلاقي تجاه خيارات الآخرين. إنه يسلِّم مسبقا أن جميع الناس يفضّلون دخلا ماليا أكبر على دخل مالي أقل، وهو لا ينزع لإنزال حكم أخلاقي على الكيفية التي ينفق بها الناس أموالهم. والتساؤل حول كون الناس أحرارا فعلا في الأزمات، لا يتطلّب تقويما أخلاقيا لخياراتهم، إنما ينحصر في نطاق محدد: فيما إذا كان الناس أحرارا أم مكرهين، أو إلى أي حد هم أحرار.
    وعلى النقيض من كل هذا، تستند دعوى الفضيلة على حكم أخلاقي مقتضاه أن الطمع رذيلة، ويستوجب شجبا من الدولة. ولكن من المخوّل بتقرير ما النفيس وما الدنيء على المستوى الأخلاقي؟ أليس من عادة مواطني المجتمعات التعددية الاختلاف في تقرير هذه القضايا؟ أليس من الخطر فرض أحكام أخلاقية بواسطة القانون؟ يفضِّل غالب الناس، أمام هذه الهموم، أن تقف الدولة على الحياد من قضايا الفضيلة والرذيلة؛ إذ عليها ألّا تحاول تشجيع السلوكيات الجيدة أو تثبّيط السلوكيات السيئة.
    إننا حين نرى ردود الأفعال حول التحايل في الأسعار يتجاذبنا منزعان: إننا غاضبون من أن الناس يحرمون مما يستحقونه، إذ يجب ردع الطمع الذي يتغذى على البؤس الانساني لا تشجيعه؛ ولكن في نفس الوقت يعترينا قلق من أن تصير الأحكام الأخلاقية، حول الفضيلة، مصدرا للقانون.
    هذه المعضلة تُحيلنا إلى المشكلات الجِسْام في الفلسفة السياسية: هل المجتمع العادل يسعى إلى تعزيز الفضيلة في مواطنيه؟ أم يجب على القانون أن يلتزم الحياد، فاتحا الطريق للتصورات المختلفة والمتبارية للفضيلة، مما يتيح المواطنين اتباع الفهم الذي يستحسنونه للفضيلة بحرية.
    هذا السؤال، وفقا لما تقرر في كراريس الفلسفة السياسية، يفصل بين القديم والحديث في التفكير السياسي. لقد علَّم أرسطو أن العدالة تعني: اعطاء كل ذي حق حقه. وينبغي لأجل تقرير ذوي الحقوق، وماذا يستحقون، أن نحدد أيّا من الفضائل قمينة بالاحترام والجزاء. يوكِّد أرسطو أنه ليس بمقدورنا التوصّل لدستور عادل من دون التدبّر مليّا في الطريقة المثلى للعيش، وبالنسبة له يستحيل أن يكون القانون محايدا تجاه قضايا الحياة الصالحة.
    وعلى النقيض، تجادل الفلسفة السياسية الحديثة، منذ إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر إلى جون راولز في القرن العشرين، أن مبادئ العدالة، التي تقرر حقوقنا، يجب ألا تؤسس على أي مفهوم معيّن للفضيلة أو طريقة مُثلى للعيش، وترى أن المجتمع العادل هو مجتمع يحترم حرية أفراده في اختيار مفهومهم الخاص للحياة الصالحة.
    هكذا يمكننا القول إن المذاهب القديمة للعدالة تنطلق من الفضيلة، فيما المذاهب الحديثة تنطلق من الحرية. وسنرى في الفصول القادم مواضع القوة والضعف لكلا المذهبين. لكن قبل الاستهلال من الأهمية بمكان ملاحظة أن التفاوت الذي أوردناه قد يكون مُضِّللا.
    إننا إذا أجلنا أنظارنا في المساجلات التي تتعلق بالعدالة، والتي تحتدم في السياسة المعاصرة، ليس في أوساط الفلاسفة، إنما في أوساط سواد الناس من الرجال والنساء، سنجد صورة أكثر التباسا. فحقا أن أكثر سجالاتنا تجري حيال تعزيز الرخاء واحترام الحرية الفردية، لكن هذا على السطح فحسب؛ ففي أسس هذه الحجج، وفي طياتها، غالبا ما نلمح مجموعة من المعتقدات في الفضائل القمينة بالتبجيل والثواب، وفي السلوك الذي على المجتمع الصالح أن يعززه. فمهما كنا ممتثلين لقيمتي الحرية والرخاء، ليس بمقدورنا التخلص، تماما، من أحابيل الفضيلة في تقرير العدالة. إن اعتقاد أن العدالة تتضمن الفضيلة، وكذلك الاختيار، معتقد قديم. ولا بد أن يتصل التفكير بالعدالة، بالتفكير بالحياة الفاضلة.




    غضب الإنقاذ المالي – مايكل ساندل / ترجمة: مروان الرشيد



    الحلقة الثالثة – الفصل الأول من كتاب “العدالة” لمايكل ساندل




    ثلاثةُ مذاهب في العدالة – بروفيسور مايكل ساندل / ترجمة: مروان الرشيد

    الحلقة الرابعة – الفصل الأول من كتاب “العدالة” لمايكل ساندل

    أن تسأل ما إذا كان المجتمع عادلا، هو أن تسأل كيف يوزِّع الأشياء التي يُثمِّنها: الدخل والثروة؛ الواجبات والحقوق؛ السلطات والفرص؛ المناصب والتشريفات. والمجتمع العادل يوزّعها بالطريقة الصحيحة: إذ يعطي لكل ذي حق حقه. والأسئلة الصعبة تبتدئ حينما نسأل: ماذا يستحق الناس، ولماذا.
    ولقد بدأنا بالفعل في مصارعة هذه الأسئلة. فبينما كنا نتأمل في صواب وخطأ التحايل في الأسعار والتنافس في استحقاق القلب الأرجواني والإنقاذ المالي، رأينا ثلاثة مذاهب في توزيع المنافع: الرفاه، والحرية، والفضيلة. وكل فكرة من هذه الأفكار تشير لطريقة مختلفة في التفكير بالعدالة.
    بعض جدالاتنا تعكس اختلافا في معنى تعظيم الرفاه، أو احترام الحرية، أو إشاعة الفضيلة. والبعض الآخر يعكس اختلافا في طريقة التصرف إذا تعارضت هذه المُثُل. ليس بمقدور الفلسفة السياسية أن تحسم هذه الاختلافات نهائيا، ولكن يمكنها أن تصقل حججنا، وتقدم وضوحا أخلاقيا للخيارات التي تواجهنا بصفتنا مواطنين ديمقراطيين.
    هذا الكتاب يقدم فحصا لمواضع القوة والضعف في هذه الطرق الثلاثة في التفكير بالعدالة. ولنبدأ بفكرة تعظيم الرفاه؛ فهي تقدم نقطة بدء في المجتمعات السوقية، كمجتمعنا. وأغلب الجدالات المعاصرة في السياسة هي إزاء كيفية تعظيم الرخاء، أو تحسين مستوى معيشتنا، أو تحفيز النماء الاقتصادي. لكن لماذا نهتم بهذه الأشياء؟ الإجابة الأوضح هي: أن الرخاء يجعلنا في وضع أفضل، كأفراد وكمجتمع. وفي عبارة أخرى، الرخاء مهم لأنه يزيد من رفاهيتنا. لأجل فحص هذه الفكرة، نتجه إلى النفعية، الفكرة الأكثر تأثيرا في كيفية، وسبب، تعظيم الرفاه، أو – كما يقول النفعية – السعي لسعادة أكبر لأكثر عدد ممكن.
    بعده، ننظر في النظريات المختلفة التي تصل العدالة بالحرية. غالبية هذه النظريات تؤكد احترام الحقوق الفردية، وإن كانت تختلف بينها في تحديد أي الحقوق أكثر أهمية. فكرة العدالة باعتبارها احتراما للحرية والحقوق الفردية فكرة شائعة في الفكر السياسي المعاصر كشيوع الفكرة النفعية في تعظيم الرفاه. على سبيل المثال، وثيقة الحقوق الأمريكية تحدد حريات معينة – تتضمن حرية التعبير والحرية الدينية – لا يمكن حتى للأغلبية أن تنتهكها. ويتزايد، في جميع أرجاء العالم، اعتناق فكرة أن الحرية تعني احترام حقوق إنسانية مطلقة (نظريا على الأقل، وليس عمليا).
    مذهب أن العدالة تبتدئ بالحرية مدرسة رحبة. وفي الواقع، فأشد الجدالات السياسية التي تجري في زمننا تجري داخل هذه المدرسة: بين معسكر “الدعْهُ يعمل”[2]، ومعسكر الإنصاف. يتضمن معسكر “الدعْهُ يعمل” ليبرتاريو السوق الحر، الذين يعتقدون أن العدالة هي احترام القرارات الطوعية التي يتخذها البالغون المتراضون. وأما مخيم الإنصاف فيتضمن منظرين لهم منزع مساواتي، يقولون إن السوق الحر ليس عادلا ولا حرا. ففي نظرهم، تتطلب العدالة سياسة تُعالج العوائق الاقتصادية والاجتماعية، وتمنح الجميع فرصة متساوية للنجاح.
    وأخيرا، نتجه إلى النظريات التي ترى العدالة خليطا من الفضيلة والحياة الصالحة. في السياسة المعاصرة، يتم غالبا ربط منظري الفضيلة بالمحافظة الثقافية والحقوق الدينية. وفكرة تقنين الأخلاق بالنسبة لمواطني المجتمعات الليبرالية فكرة بغيضة، بما أنها تحمل خطر أن تتحول إلى تعصب وإجبار. ولكن فكرة أن المجتمع العادل يؤكد فضائلا معينة ومفاهيم للحياة الصالحة هي فكرة ألهمت حركات ونقاشات سياسية عبر الطيف الإيديولوجي؛ ليس فقط طالبان، ولكن أيضا حركة إلغاء العبودية ومارتن لوثر كينج كلها استلهمت رؤاها للعدالة من مُثُل دينية وأخلاقية.
    قبل تقويم نظريات العدالة هذه، من القمين السؤال عن الكيفية التي تجري فيها هذه النقاشات الفلسفية، خصوصا في مجال مُحْتد كالفلسفة السياسية والأخلاقية. في العادة تنطلق من وضع واقعي، كما رأينا في نقاشات التحايل في الأسعار والقلب الأرجواني والإنقاذ المالي؛ وفي الاختلاف تجد التأملات الأخلاقية والسياسية قاعدتها. غالبا ما يكون الاختلاف بين الأحزاب المتعادية في المجال العام. لكن أحيانا يكون الاختلاف بيننا نحن الأفراد، عندما نجد أنفسنا ممزقين إزاء سؤال أخلاقي مُعْضل.
    ولكن كيف لنا أن نسلك سبيلنا من أحكام نطلقها على حالات واقعية إلى مبادئ نعتقد أنه نتطبق في كل الحالات؟ بعبارة أخرى، كيف يجري التفكير الأخلاقي؟
    حتى نرى كيف يجري التفكير الأخلاقي، فلنلتفت إلى حالتين، إحداهما قصة خيالية افتراضية دائما ما يناقشها الفلاسفة، والأخرى قصة حقيقية حول معضلة أخلاقية مؤلمة.
    أولا، انظر إلى هذه الفرضية الفلسفية. وهي ككل القصص، تنطوي على سيناريو نزع منه تعقيدات الواقع، لأجل أن نستطيع التركيز على عدد محدد من المسائل الفلسفية.
    العربة الجامحة
    لنفترض أنك قائد عربة قطار (ترام) تسير على القضبان بسرعة ستين ميلا في الساعة، فترى أمامك خمسة عمال واقفين على القضبان وبأيديهم أدواتهم. تحاول التوقف، ولا تستطيع؛ المكابح لا تعمل. تشعر بالإحباط، لأنك تعلم أنه إن اصطدمت بهم ماتوا جميعا (لنفترض أنك تعلم هذا على اليقين).
    فجأة، ترى مسارا جانبيا، على اليمين، وفيه عامل واحد؛ واحد لا غير. تدرك إمكانية تغيير مسير العربة إلى هذا المسار؛ فتقتل هذا العامل الواحد، بدلا من العمال الخمسة.
    ما الذي عليك فعله؟ سيقول أغلب الناس: “انعطف! فمن المأساوي قتل شخص، لكن قتل خمسة أكبر هولا”. يبدو أن التضحية بشخص من أجل إنقاذ خمسة هو الأمر الأصوب.
    الآن انظر لنسخة أخرى من قصة العربة. هذه المرة لست قائد العربة، وإنما أحد المشاهدين، وتقف على جسر يطل على القضبان (هذه المرة لا يوجد مسار جانبي). ها أنت ترى العربة قادمة، متجهة نحو خمسة عمال، والمكابح لا تعمل. العربة على وشك الاصطدام بالعمال الخمسة، وتشعر بالعجز عن تفادي هذه الكارثة، حتى تلاحظ أن بجانبك على الجسر رجل بدين جدا؛ يمكنك أن تدفعه من على الجسر إلى القضبان، أمام العربة القادمة. يمكن أن يموت، لكن العمال الخمسة سوف ينجون (تفكر بالقفز على القضبان بنفسك، لكنك تدرك أنك أضعف بنية من أن توقف العربة).
    فهل دفع الرجل البدين إلى القضبان سيكون الأمر الأصوب؟ غالبية الناس ستقول: “بالطبع لا. سيكون من المريع أن تدفع رجلا إلى السكة”.
    دفع شخص من على الجسر إلى موت محقق شيء سيء، حتى لو عنى ذلك إنقاذ خمسة أشخاص أبرياء. ولكن هذا يطرح معضلة أخلاقية: لماذا المبدأ، الذي يبدو صحيحا، في الحالة الأولى – أن تضحي بواحد لتنقذ خمسة – يبدو خاطئا في الحالة الثانية؟
    إذا كان العدد يُحدث فرقا، كما تبين من الحالة الأولى – أي أن إنقاذ خمسة حيوات خير من إنقاذ واحدة – فلماذا لا نطبق هذا المبدأ في الحالة الثانية، وندفع الرجل؟ إنه لمن الوحشي أن تدفع رجل للموت حتى ولو كان ذلك في سبيل قضية ممتازة، ولكن هل دعسه بعربة القطار أقل وحشية من دفعه؟
    ربما ما يجعل هذا الفعل خاطئا هو أننا نستخدم الرجل ضد إرادته، فهو لم يقصد إلى أن يشترك في الفعل؛ كل ما فعله أنه كان واقف هناك.
    ولكن الشيء نفسه يمكن قوله عن الشخص الذي يعمل على المسار الجانبي. فهو لم يختر الاشتراك في هذا العمل أيضا. إنه يقوم بعمله فحسب، ولم يتطوع للتضحية بحياته في حالة جموح إحدى العربات. قد يقال إن عمال السكك الحديدة يأخذون على عاتقهم طوعا مخاطرة لا يأخذها الواقف بجانب السكة الحديدية. ولكن لنفترض أن توصيف عمل عمال السكة الحديدية لا يقول إنهم مستعدون للموت في حالات الطوارئ لينقذوا حياة الآخرين، وأن حالهم من حال الواقف على الجسر من حيث عدم موافقتهم على التضحية بحياتهم.
    ربما الفرق، أخلاقيا، لا يكمن في التأثير الذي يقع على الضحايا – إذ سينتهي بهما الأمر إلى الموت – وإنما يكمن في نية الشخص الذي يتخذ القرار. بصفتك قائدا للعربة، قد تستطيع الدفاع عن خيارك بتحويل مسار العربة من خلال الإشارة إلى أنك لم تنوي موت العامل الموجود على المسار الجانبي، رغم حتميته؛ وإنما قصدك كان ليتحقق لو، بمعجزة ما، نجى العمال الخمسة، وكذلك نجى العامل السادس.
    ولكن الأمر نفسه ينطبق في حالة دفع الرجل البدين. فموت الرجل الذي تدفعه من على الجسر ليس في صلب غايتك، فكل ما تحتاجه منه هو أن يسد الطريق أمام العربة، ولو أمكنه أن يفعل هذا دون أن يموت لسُرِرت بذلك.
    أو ربما، بعد تدبر، يجب أن يحكم الحالتين المبدأ ذاته؛ ففي كلتيهما نرى اتخاذ قرار متعمد ومقصود، لسلب حياة شخص بريء من أجل اجتناب خسائر أكبر في الأرواح. وربما ترددك في دفع الرجل من على الجسر مجرد اشمئزاز عليك التغلب عليه. قد يكون دفع رجل، بيديك، إلى حتفه أكثر قسوة من تحريك عجلة عربة، ولكن فعل الصواب ليس بالأمر السهل دائما.
    نستطيع اختبار هذه الفكرة من خلال تعديل القصة قليلا. لنفترض أن بإمكانك رمي الرجل الضخم الواقف بجانبك إلى السكة دون دفعه، تخيّل أنه يقف على فخ يمكنك فتحه بواسطة عجلة؛ ستحقق النتيجة نفسها دون دفعه. هل هذا سيجعل الفعل صائبا؟ أما لا يزال أسوأ أخلاقيا من كونك سائق العربة الذي ينحرف للمسار الجانبي؟
    ليس من الهين توضيح الفارق الأخلاقي بين هاتين الحالتين: لماذا تحريك العربة يبدو صائبا، فيما دفع الرجل يبدو خاطئا. لكن لاحظ أن الضغط واقع علينا لأجل تعليل الفرق بين الحالتين تعليلا مقنعا، وإن لم نفلح في التعليل فإننا نعيد النظر في حكمنا السابق على كلتي الحالتين. أحيانا نرى التعليل الأخلاقي كوسيلة لإقناع الآخرين، ولكنه كذلك وسيلة لترتيب قناعاتنا الأخلاقية، ولمعرفة ما الذي نؤمن به، ولماذا نؤمن به.
    بعض المعضلات الأخلاقية تظهر بسبب تعارض المبادئ الأخلاقية. على سبيل المثال، المبادئ الفاعلة في قصة العربة هي: أن علينا إنقاذ أكبر عدد من الأشخاص، ولكن مبدأ آخر يقول إن من الخطأ قتل نفس بريئة، حتى لو كان ذلك في سبيل قضية صالحة. أمام هذه الحالة التي يعتمد فيها إنقاذ العديد من الأشخاص على قتل شخص بريء؛ نجد أنفسنا في ورطة أخلاقية، وعلينا أن نحاول التوصل إلى المبدأ الذي يرجح على الآخر، أو يكون الأنسب في هذه الحالة.
    بعض المعضلات الأخلاقية تظهر بسبب عدم تيقننا من مسار الأحداث، فالأمثلة الافتراضية كقصة العربة تزيل عدم اليقين الذي يلف الخيارات في الحياة الحقيقية. في الأمثلة الافتراضية نفترض أننا نعلم، على وجه اليقين، عدد الذين سيموتون إن لم ننعطف، أو إن لم ندفع الرجل. وهذا يجعل هذه القصص والأماثيل عاجزة عن أن تكون دليلا يستدل به عند الفعل، ولكنها أدوات مفيدة للتحليل الأخلاقي. فمن خلال إزالة الاحتمالات – مثل “ماذا لو لاحظ العمال العربة وقفزوا عن السكة؟” – تساعدنا الأمثلة الافتراضية في عزل المبادئ الأخلاقية الفاعلة، واختبار قوتها.




    معضلة أخلاقية:رعاة الماعز الأفغان – مايكل ساندل



    الحلقة الخامسة – الفصل الأول من كتاب “العدالة” لمايكل ساندل

    الآن لننظر إلى معضلة أخلاقية واقعية، شبيهة إلى حد ما بالقصة الخيالية للعربة الجامحة، ولكن يشوبها عدم اليقين في الكيفية التي ستجري بها الأمور:
    في يونيو ٢٠٠٥، انطلق فريق من القوات الخاصة بقيادة الضابط ماركوس لوترال يرافقه اثنان من القوات الخاصة التابعة للبحرية الأمريكية في مهمة استطلاعية سرية في أفغانستان، بالقرب من الحدود الباكستانية، بحثا عن قائد طالباني مُقرَّب من أسامة بن لادن. وفقا لتقارير استخباراتية، فإن هذا القائد على رأس ١٤٠ إلى ١٥٠ مقاتل مسلحين تسليحا ثقيلا، ويقيم في قرية مُحصَّنة في المنطقة الجبلية.
    بعد قليل من اتخاذ القوة لموقعها على سفح جبلي مطل على القرية، مر بها راعيان يقودان مائة رأس من الماعز، ومعهما صبي يبلغ من العمر أربعة عشر عاما. وجه الجنود الأمريكان بنادقهم تجاه الأفغان، الذين لم يكونوا مسلحين، ولوحوا لهم أن يجلسوا على الأرض، ثم دخلوا في جدال في التصرف الذي يجب اتباعه معهم. فمن ناحية يبدو أن الرعاة مدنين عُزّل، ومن الناحية الأخرى فإن تركهم قد يجر مخاطرة أن يُبلغوا الطالبان بوجود الجنود الأمريكان.
    بينما تناقش الجنود الأربعة في الخيارات، تبين لهم أن ليس بحوزتهم حبال، وهكذا فخيار ربط الأفغان حتى إيجاد مكان اختباء آخر ليس خيارا ممكنا. الخيار المتوفر كان إما قتلهم، وإما إطلاق سراحهم.
    اقترح أحد رفاق لوترال قتلهم: “نحن في مهمة خلف خطوط العدو، ولنا حق فعل أي شيء لإنقاذ أرواحنا. من الوجهة العسكرية القرار واضح، وتركهم يذهبون سيكون خطأ فادحا”. كان لوترال ممزقا، وكتب مسترجعا: “في روحي كنت أعرف أنه على حق، ولا يمكننا أن نطلق سراحهم. ولكن المشكلة أن في داخلي روحا أخرى، روحي المسيحية، التي كانت تثير ضجيجا داخلي، وتوسوس لي أن من الخطأ إعدام هؤلاء العُزَّل بدم بارد”. لم يقل لوترال ما الذي يقصده بالروح المسيحية، ولكن في النهاية لم يسمح له ضميره بأن يقتل الرعاة. فوضع صوته الحاسم لصالح إطلاق سراح الرعاة حين قرروا التصويت. وكان قرارا سيندم عليه.
    بعد ساعة ونصف الساعة من إطلاق الرعاة، وجد الجنود الأربعة أنفسهم محاصرين بثمانين إلى مائة مقاتل طالباني مسلحين بالإي كاي ٤٧ وقاذفات القنابل. وفي معركة حمي فيها الوطيس، قُتِل رفاق لوترال الثلاثة جميعهم، وكذلك أسقط مقاتلو طالبان مروحية أمريكية حاولت إنقاذ الفريق، ومات الستة عشر جنديا الذين كانوا على متنها.
    أصيب لوترال إصابة بالغة، ولكنه أستطع النجاة، فزحف سبعة أميال إلى قرية بشتونية، حماه فيها سكانها من الطالبان حتى جاءته النجدة.
    بأثر رجعي، يستهجن لوترال قراره الذي أدى لعدم قتل الرعاة، يقول في كتاب حكى فيه تجربته: “لقد كان أكثر قرارات حياتي غباء. لا بد أني كنت خاليا من العقل تلك اللحظة. لقد وضعت صوتي في قرار كنت أعلم أنه توقيع على شهادة وفاتنا… على الأقل، هكذا أنظر الآن إلى تلك اللحظة… كان القرار قراري، وسيطاردني هذا الأمر حتى أرقد في قبري الشرق تكساسي”.
    جزء من صعوبة معضلة الجنود تكمن في عدم تيقنهم مما سيحدث إذا أطلقوا الرعاة، هل سيذهبون في سبيلهم أم سيبلغون الطالبان. لكن لنفترض أن لوترال كان يعلم أن إطلاق الرعاة سيؤدي إلى معركة مدمرة ينتج عنها موت زملائه، أي موت تسعة عشر أمريكيا، وإصابته، وفشل المهمة؟ هل كان سيقرر بطريقة مختلفة؟
    بالنسبة للوترال، وهو يسترجع ما حدث، الإجابة واضحة: كان عليه قتل الرعاة. ومن الصعب عدم موافقته بالنظر إلى المأساة التي حصلت لاحقا. فمن جهة العدد؛ قرار لوترال يشبه حالة العربة الجامحة؛ قتل الأفغان الثلاثة، سينقذ حياة رفاقه الثلاثة، والجنود الستة عشر الذين حاولوا إنقاذهم. ولكن هذه الحالة شبيهة بأي نسخة من قصة العربة؟ هل قتل الرعاة شبيه بحرف مسار العربة أم بدفع الرجل من على الجسر؟ كون لوترال كان يتوقع الخطر ولكنه لم يستطع حمل نفسه على قتل العُزّل بدم بارد يشير إلى أن الحال أقرب إلى حالة دفع الرجل.
    إنما تبدو حالة قتل الرعاة مبررة أكثر من حالة دفع الرجل من على الجسر؛ لأنهم قد لا يكونون مجرد متفرجين أبرياء، وإنما متعاطفين مع الطالبان. انظر إلى هذه المقارنة: لو كان لدينا سبب لاعتقاد أن الرجل الواقف على الجسد له يد في تخريب مكابح العربة على أمل قتل العمال الذين على السكة (لنفترض أنهم أعداؤه)، فإن التعليل الأخلاقي القائل بدفعه إلى السكة سيكتسب قوة أكبر. سنحتاج أيضا لمعرفة من هم أعداؤه، ولماذا يريد قتلهم: قد يتبين لنا أن العمال هم أعضاء في المقاومة الفرنسية، والرجل السمين على الجسر نازي يريد قتلهم بواسطة تعطيل العربة؛ هكذا يصير دفعه، من أجل إنقاذهم، واجبا أخلاقيا.
    بالطبع، قد لا يكون الرعاة الأفغان من المتعاطفين مع الطالبان، وإنما محايدين في هذا الصراع، أو حتى مناوئين للطالبان ولكن أجبروا من الطالبان على كشف مكان القوات الأمريكية. لنفترض أن لوترال ورفاقه يعلمون، علم اليقين، أن الرعاة لا ينون لهم أي شر، ولكنهم سيتعرضون للتعذيب من الطالبان للكشف عن موقعهم. قد يقتل الأمريكان الرعاة ليحموا أنفسهم ومهمتهم، ولكن هذا القرار سيكون أكثر مأساوية (وأضعف أخلاقيا)، من لو أنهم عرفوا أن الرعاة جواسيس موالون للطالبان.
    معضلات أخلاقية
    قليل منا يواجه خيارات مصيرية كتلك التي واجهت الجنود في الجبل أو التي تواجه مشاهد العربة الجامحة. ولكن مطارحة هذه المعضلات يلقي ضوءا على الطريقة التي تجري بها التعليلات الأخلاقية في حياتنا الخاصة وفي المجال العام.
    تحفل الحياة في المجتمعات الديمقراطية بالاختلاف حول ما الصواب وما الخطأ، وحول ما العادل وما المُجحف. بعض الناس يفضّل حقوق الإجهاض، والبعض الآخر يعتبر الإجهاض جريمة. البعض يؤمن أن الإنصاف يتطلب أخذ ضريبة من الأغنياء لمساعدة الفقراء، والبعض يرى أنه من الإجحاف أخذ أموال من أناس كسبوها بجهدهم. البعض يدافع عن التمييز الإيجابي في قبول الكليات كوسيلة لتصحيح أخطاء الماضي، فيما البعض يراه تمييزا مقلوبا ضد أناس يستحقون القبول على أساس أهليتهم. البعض يرفض تعذب المتهمين بالإرهاب باعتباره خطيئة أخلاقية لا تليق بمجتمع حر، وآخرون يدافعونه عنه كحل أخير لاجتناب هجوم إرهابي.
    تُكْسب الانتخابات وتُخْسر على أساس هذه الاختلافات. وما يسمى بالحروب الثقافية، هي حروب تخاض على هذه القضايا. وبالنظر إلى حدة الجدل في القضايا الأخلاقية في الحياة العامة، قد نميل إلى الاعتقاد بأن القناعات الأخلاقية ثابتة بصورة نهائية، إما نتيجة للدين أو التربية، وأنها خارج نطاق العقل.
    ولكن إن صح ذلك، فإن المناظرة الأخلاقية تغدو مُحالة، وتكون المناقشات العامة حول العدالة والحقوق مجرد تأكيدات دوغمائية بلهاء، وصراعات أيدولوجية جوفاء.
    وهذا حال سياستنا في أسوأ أحوالها، لكن ليس من الحتمي أن يكون الحال كذا، فأحيانا يغير النقاش آراءنا.
    كيف، إذن، يمكننا أن نسلك طريقنا خلال هذه الأرض الوعرة للعدالة والظلم، للمساواة والتفاوت، للحقوق الفردية والمصلحة العامة؟ هذا ما يحاول الكتاب الإجابة عليه.
    إحدى سبل الاستئناف هي من ملاحظة أن التأملات الأخلاقية تنشأ، بشكل طبيعي، من مواجهة الأسئلة الأخلاقية الصعبة. إننا نبدأ برأي، أو قناعة، حو ما هو الصحيح: “الانعطاف بالعربة إلى المسار الجانبي”، ومن ثم نفكر بقناعتنا، ونبحث عن المبدأ الذي تقوم عليه: “من الأفضل التضحية بحياة شخص واحد لإنقاذ أشخاص عديدين”. ثم نتعرض لحالة تُربك المبدأ، فنقع في الحيرة: “لقد اعتقدت أن من الصحيح، دائما، إنقاذ حياة أكبر قدر من الأشخاص، ومع ذلك يبدو لي أن من الخطأ دفع الرجل من على الجسر (أو قتل الرعاة العُزَّل)”. إن الشعور بوطأة الحيرة، وضغط البحث عن حل، هو الباعث على التفلسف.
    قد نغيّر، في وجه هذا المأزق، حكمنا إزاء ما الصحيح، أو نعيد التفكير بالمبدأ الذي تبنيناه ابتداء. وبينما تطالعنا مواقف جديدة، نراوح بين أحكامنا وبين مبادئنا، معدّلين كل منها على ضوء الآخر. وهذا التردد، بين عالم الفعل وعالم الفكر، هو صلب التفكير الأخلاقي.
    هذه الطريقة في النظر الأخلاقي، باعتباره جدلا بين أحكامنا تجاه مواقف معينة، وبين المبادئ التي يقررها التفكير، هي طريقة عتيقة. فهي تعود لمحاورات سقراط وإلى فلسفة أرسطو الأخلاقية. لكن على الرغم من جذورها القديمة، فإنها تواجه هذا التحدي:
    إن كان النظر الأخلاقي هو محاولة للتوفيق بين الأحكام التي نطلقها والمبادئ التي نقررها، فكيف لهذا النظر أن يقود إلى العدالة أو الحقيقة الأخلاقية؟ حتى لو سلخنا أعمارنا في هذه المهمة، ونجحنا في التوفيق بين حدوسنا الأخلاقية والتزاماتنا المبدئية، كيف لنا أن نعلم ما إذا كان الذي جنيناه ليس سوى أهواء متناسقة؟
    الجواب هو أن النظر الأخلاقي ليس مسعى فرديا وإنما ممارسة عمومية. إنه بحاجة إلى مُحَاوِر: إلى صديق، أو جار، أو رفيق، مواطن. أحيانا قد يكون المُحَاوِر مُتخيلا، لا حقيقيا، كما يحصل حين نناجي أنفسنا. لكن لا يمكننا اكتشاف معنى العدالة، أو الحياة الصالحة، من خلال سبر أغوار الذات وحدها.
    يُشبِّه سقراط، في جمهورية أفلاطون، عوام المواطنين بمجموعة من السجناء في كهف، وكل الذي يرونه هو ظلال تتحرك على الجدار، وهي انعكاس لأشياء لا يمكنهم استيعابها. وهنا يأتي دور الفيلسوف، الذي يقدر على الخروج من الكهف، إلى رائعة النهار، حيث يتمكن من رؤية الأشياء على حقيقتها.
    وفي رأي سقراط أن الفيلسوف، بما أنه استطاع أن يرى الشمس، فهو الأصلح لحُكْم قاطني الكهف، إن كان بإمكانه، بطريقة ما، العودة إلى ظُلمتهم.
    ما يقصده أفلاطون هو أنه، لأجل استيعاب معنى العدل وفهم كُنْه الحياة الصالحة، لا بد لنا من أن نتسامى على أهوائنا ومألوفات حياتنا اليومية. وأعتقد أنه على صواب، إنما على حد ما. إنه إن كان النظر الأخلاقي نظرا جدليا، وحركة دائبة بين الأحكام التي نطلقها على المواقف الواقعية وبين المبادئ التي تستوحى منها هذه الأحكام؛ فإننا سنحتاج الآراء والقناعات، مهما كانت متحيزة أو ساذجة، كأرضية انطلاق. والفيلسوف الذي لم تمسسه الظلال كمن يحرث في بحر ولن يجني سوى يوطوبيا عقيمة.
    حتى يصير النظر الأخلاقي سياسيا، ويسأل أي القوانين يجب أن تحكم حياتنا، فهو بحاجة لأن يسمع ضجيج المدينة، وأن يبصر الجدالات والنوازل التي تعكِّر العقل العمومي؛ كالجدالات حيال الإنقاذ المالي والتحايل في الأسعار وعدم المساواة في الدخل والتمييز الإيجابي والخدمة العسكرية وزواج المثليين، فكل هذه هي مواضيع الفلسفة السياسية. إنها تتيح لنا توضيح وتسويغ قناعاتنا السياسية والأخلاقية، ليس فقط لعائلتنا وأصدقائنا، وإنما أيضا لمواطنينا.
    الأكثر تطلبا هو رفقة الفلاسفة السياسيين، القدماء منهم والمحدثين، الذين فكروا بطرق متطرفة وفجة أحيانا لأجل إحياء الحياة المدنية؛ وأفكارهم في العدالة والحقوق، بالواجب والموافقة، بالشرف والفضيلة، بالأخلاق والقانون. أرسطو وإيمانويل كانط وجون ستورت ميل وجون راولز، هم أبطال هذه الصفحات. لكنهم لن يظهروا فيها وفقا لتسلسلهم التاريخي. فهذا الكتاب ليس تأريخيا للأفكار، ولكنه رحلة في النظر السياسي والأخلاقي. وهدفه ليس إظهار مدى أثرهم في تاريخ الفكر السياسي، وإنما هو دعوة للقراء لأجل أن يضعوا آراءهم حيال العدالة موضع الفحص الناقد؛ ليعرفوا ما الذي يعتقدونه، ولماذا.
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار
Working...
X
😀
🥰
🤢
😎
😡
👍
👎