إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • ya howa
    مشرف
    • 08-05-2011
    • 1106

    كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

    إصدارات أنصار الإمام المهدي (ع) / العدد (204)



    عقائد الإسلام
    يليه
    يسألونك عن الروح

    السيد أحمد الحسن


    الطبعة الأولى

    1437هـ - 2016 م

    لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن (عليه السلام)

    يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي:





    الإهداء

    إلى أنصار الإمام المهدي

    شكراً لكم ..

    كنتم لي نعم الأخوة والأخوات .. ونعم الأهل

    حفظكم الله جميعاً





    والحمدُ للهِ ربِ العالمين

    وصَلَى اللهُ على محمدٍ وآلِ محمدٍ الأئمةِ والمهديينَ وسَلَمَ تَسْليماً
    أصلُ الدينِ:

    أصلُ الدينِ أو العقيدةِ الإلهيةِ في هذهِ الأرضِ هو الاستخلافُ، فمنذُ أنْ خلقَ اللهُ أولَ إنسانٍ أرضي، وهو آدم (عليه السلام) جعلهُ خليفتَهُ في أرضِهِ.

    ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].

    ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة: 31].

    ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 32].

    ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[البقرة: 33].

    هذا ما كانَ بينَ آدمَ (عليه السلام) والملائكةِ والجن،ِ لأنَّ الملائكةَ والجنَ غيرُ قادرين على تحصيلِ المعرفةِ التي يُحصلها آدمُ (عليه السلام) ذاتياً، فكانَ حتمياً أنْ يكونَ آدمُ هو الخليفةَ، لأنهُ القادرُ على تعريفِهِم ما يجهلون. فقد عملَ ببعضِ ما أودعَ فيهِ منْ قابليةٍ وإمكانٍ حيثُ إنَّهُ إنسانٌ، والإنسانُ هو القابلُ الأوسعُ والأعظمُ، فهو مخلوقٌ على صورةِ اللهِ، أي انهُ مفطورٌ على معرفةِ أسماءِ اللهِ، ومودعةٌ فيهِ قابليةَ إظهارِ أسماءِ اللهِ للخلقِ «اللهُ خلقَ آدمَ على صورتِهِ»([1]).

    أما بينَ الناسِ أو بني آدمَ أنفسِهِم، فحتماً أنهم غيرُ متساوين في العملِ والإخلاص، فضلاً عن غفلةِ أكثرِهِم عنِ العملِ. فأصبحَ أيضاً مِن الحتمي أنْ يُستَخلَفَ العالمُ العارفُ باللهِ على الجاهلِ نسبةً إليه، فكانَ الخليفةُ الأولُ الحقيقي - وفي العوالمِ العلويةِ - هو محمداً (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ آلَ محمدٍ (عليهم السلام) ثُمَّ الأمثلَ فالأمثلَ من الناسِ، وأما في هذا العالمِ الجسماني فهو أعلمُ الخلقِ وأعرفُهُم باللهِ سبحانه في كلِ زمانٍ.

    فهنا مُستَخلِفٌ ومُسَتخلَفٌ وعلمٌ يودعُ عندَ المُستَخلَفِ، وباعتبارِ صفاتِ الخليفةِ وحيثياتِ عَمَلِهِ أو تكليفِهِ من المستخلِفِ يمكنُ أنْ نصفَهُ وما يحمِلَهُ ونصفَ مُستخلِفَهُ، فنقولُ باعتبارِ أنهُ يتلقى أنباءَ الغيبِ فهو نبيٌ يحملُ أنباءً ويُنبِئُهُ من يوحي إليهِ بالأصلِ، وباعتبارِ أنهُ حاملُ رسالةٍ فهو رسولٌ يحملُ رسالةً من مُرسلٍ، فأصلُ الدينِ وهو الاستخلافُ يتضمّنُ أصولاً ثلاثة هيَ: المُستخلِفُ والخليفةُ والعلمُ، أو مُنْبِئٌ ونبيٌ وأنباءٌ، أو مُرسِلٌ ورسولٌ ورسالةٌ. ويمكنُ أنْ نصفَ الخليفةَ بأنهُ إمامٌ إذا كانَ لهُ مقامُ الإمامةِ.

    وهذا الأصلُ (الاستخلافُ) : هو أصلُ الدينِ وعمودُهُ وركيزتُهُ. فمَنْ يَنْقُضْهُ فقد نقضَ الدينَ الإلهي ولم يُبقِ منهُ شيئاً. ولهذا أكدَ الأئمةُ (عليهم السلام) والإمامُ الصادقُ (عليه السلام) على أنَّ مَنِ اغتصبوا حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) كانوا أصحابَ الحظِ الأوفرِ في نقضِ الإسلامِ، ليس لاغتصابِهِم حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) فقط، بل لأنَّ هذا الاغتصابَ هو عبارةٌ عن نقضِ الأصلِ الذي يَرتكزُ عليهِ الدينُ الإلهي وهو الاستخلافُ، ومِنْ ثَمَّ جعلوا الناسَ ينحرفونَ عنْ هذا الأصلِ الذي هو الدينُ الإلهي من ألفِهِ إلى يائِهِ.

    قالَ الإمامُ جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) :

    «إنَّ الدينَ وأصلَ الدينِ هو رجلٌ وذلكَ الرجلُ هو اليقينُ وهو الإيمانُ وهو إمامُ أمتِهِ وأهلِ زمانِهِ فمَنْ عرفهُ عرفَ اللهَ ومَنْ أنكرهُ أنكرَ اللهَ ودينَهُ ومَنْ جَهِلَهُ جَهِلَ اللهَ ودينَهُ ولا يعرف الله ودينه وشرايعَهُ بغيرِ ذلكَ الإمام كذلك جرى بأنَّ معرفةَ الرجالِ دينُ اللهِ، والمعرفةُ على وجهه ([2])معرفةٌ ثابتةٌ على بصيرةٍ يعرف بها دين اللهِ ويوصل بها إلى معرفةِ اللهِ»([3]).

    وأكدَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمرِ في حديثِ الفرقةِ الناجيةِ المشهور في كتبِ السُّنةِ:

    «تفترقُ هذهِ الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُها في النارِ إلا فرقةً واحدةً. قيلَ يا رسولَ اللهِ! ما هذهِ الفرقة؟ قال: من كانَ على ما أنا عليهِ اليومَ وأصحابي».

    «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»([4]).

    إذن، الرسولُ (صلى الله عليه وآله) قد حدّدَ صفةَ الفرقةِ الناجيةِ بأنها الفرقةُ التي يكونُ فيها قائدٌ منصبٌ مِنَ اللهِ، كما كانَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومؤمنون بهذهِ القيادةِ الإلهيةِ المُعرِّفةِ باللهِ وبأمرِ اللهِ، كما كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).

    فالحقُ إذن كما حددَهُ ووصفَهُ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بدقةٍ، هو الفرقةُ التي فيها العلاقةُ الموافقةُ للعلاقةِ التي بينَهُ وبينَ أصحابِهِ، أي الإيمان بالاستخلافِ، فهناكَ خليفةٌ إلهي منصب من الله، وهناكَ مؤمنون بهذا الخليفةِ و بهذا الأصلِ الذي هو أصلُ الدينِ الإلهي.

    وروى قريباً منهُ الشيخُ الصدوقُ رحمهُ اللهُ قالَ:

    «حدثنا أبو نصر محمد بن أحمد بن تميم السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد محمد بن إدريس الشامي قال: حدثنا إسحاق بن إسرائيل قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال: حدثنا الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمر قال: قالَ رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ والهِ) : سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلٌ بمثلٍ وإنهم تفرقوا على اثنين وسبعين ملةً وستفرق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملةً تزيدُ عليهم واحدةً كلها في النارِ غير واحدةٍ. قال: قيل: يا رسولَ اللهِ وما تلك الواحدةُ ؟ قالَ هوَ: ما نحنُ عليهِ اليومَ أنا وأصحابي»([5]).


    الأصول الثلاثة:
    الأصل الأول: المُستَخلِف

    وهو الله سبحانه وتعالى أو الحقيقة.

    هناك طريقان للتصديق بوجود الحقيقة الغائبة الشاهدة الموجدة لهذا العالم:
    الأول: طريق الوحي

    ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].

    يجب أن يعي أي إنسان أنه من غير المنطقي أن يقوم هو بغلق أذنيه عن سماع ما وراء الجدار، ثم يقول - عناداً وتعنتاً - لمن سمعوا: لا يوجد شيء خلف الجدار. فالمفروض أولاً أن أفتح أذني وأحاول السماع، وعندها إذا لم أسمع كما سمعوا، يمكنني أن أحكم أنه لا يوجد شيء خلف الجدار.

    الحق، إنّ طريق الوحي هو الطريق الأصل والأشرف، وأوله التصديق بوجود الحقيقة (أو الله سبحانه)، ولكنه يمتد إلى ما بعد التصديق وهو المعرفة وهي علة الخلق([6])، ويكون ابتداءً بالاستعداد للسماع من الحقيقة، ومن ثم بالتجرد والإخلاص للحقيقة الموجدة لهذا الكون، حتى تسمع روح الإنسان من الحقيقة الحكيمة، ويثبت له الوجود والحكمة، ومن ثم تبدأ رحلته إلى المعرفة، فيسمع من الله ومن رسله بالوحي في الرؤيا والكشف، بل حتى يصل الأمر إلى أن يسمع الإنسان حتى الجمادات ([7])، وهو طريق الأنبياء والأولياء، والمفروض أنه طريق كل ولد آدم، ولكنهم يعرضون عن ربهم وهو يناديهم، وينشغلون في الدنيا فيغفلون. وربما كانت أفعالهم خبيثة كمعاداة أولياء الله حتى يغشى قلوبهم الرين فلا يسمعون ولا يعون، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين: 14].

    وبما أن هذا الطريق كما بيّنت يمتد إلى ما بعد التصديق، فلا بأس أن نتوسع قليلاً في مسألة المعرفة التي هي علة خلق الإنسان.

    المعرفة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56].

    الإنسان بالأساس مفطور على معرفة الله، لأنه خلق على صورته، أي أن الإنسان هو تجلي الله في عوالم الخلق. فالصورة كما نعرف تحكي الحقيقة بقدر ما، ولكن لمـَّا أعرض عامة الناس عن سبيل الله وانشغلوا بالدنيا وغفلوا عن ربهم وكان المتذكرون منهم خاصة وقليل فقط، كالنجوم المضيئة في ظلمة السماء؛ كانت مشيئة الله - ولرحمته - أن اختار رسلاً من هؤلاء الخاصة الذين تذكروا وسمعوا، وأرسلهم ليذكروا الغافلين المشغولين بالدنيا ويعرفونهم الطريق ويسيرون بهم إلى الله، لينجوا بعض هؤلاء الغافلين ويتذكروا ويعرفوا بفضل الله وبفضل هؤلاء الناجين الأوائل. إذن، الأصل أن الناس كلهم يتذكرون ولا يحتاجون من يذكرهم. فلو كان هناك رسول فالمفروض أن يعرفوه حتى دون إعلانه عن نفسه.

    ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].

    ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].

    ولو أنهم غفلوا، فالمفروض أن المتذكر (الرسول) - الذي أرسله الله لهم ليسلك بهم الطريق الذي أضاعوه بغفلتهم - لا يحتاج إلى الكثير ليذكرهم.

    بل المفروض أن خليفة الله لا يحتاج أكثر من الإعلان عن نفسه. والمفروض أن الناس قادرون على التعرف على خليفة ربهم وإلههم الذي يمكنهم الاتصال به ومعه دائماً وسؤاله عن رسوله، هذا هو الأصل إن كانوا أناساً محافظين على فطرتهم وإنسانيتهم وإن كانوا غافلين، ولهذا بيّن القرآن أن الأنبياء وإبراهيم لم يكونوا يحتاجون أكثر من إعلان دعواتهم، أي الأذان: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[الحج: 27]. فالآية واضحة؛ أذن يا إبراهيم، والناس يأتوك على عجلة بمجرد أن يعلموا بإعلانك عن دعوة الله التي تحملها ([8])، لأنهم سيتذكرون ويتصلون بربهم ويعلمون منه أمر رسوله وأحقيته، بل المفروض أنهم متذكرون مثلك، ويعرفونك قبل أن تؤذن، ولكنهم للأسف انشغلوا بالدنيا حتى ذكرتهم أنت فانتبهوا.

    إذن، فالناس يأتوك بمجرد أن تعلن، أما غير الناس أو الذين نكسوا فطرتهم حتى لم يعد من اللائق أن يسموا ناس، فهؤلاء أكيد لا ينفعهم لا أذان ولا أي شيء آخر. وبين الناس وبين من نكسوا فطرتهم هناك كثير ممن لوثوا فطرتهم وأنفسهم بقدر ما، فهم يحتاجون لأشياء أخرى غير الإعلان والأذان، وهي ما نسميها بالأدلة لمعرفة خليفة الله أو قانون معرفة الحجة.

    ولرحمته سبحانه وتعالى لم يكتف بإرسال الرسل مع أنه فضْل منه سبحانه، بل أمر رسله بالإعلان عن دعواتهم، رغم ما سيتحمله رسله وأحباؤه سبحانه من أعدائه بسبب هذا الإعلان. بل ولسعة رحمته سبحانه وتعالى لم يكتفِ بكل هذا حتى أرسل مع رسله الآيات والبينات (الأدلة الواضحة الجلية لكل طالب حق)، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ولا حجة لمحتج مهما كان هذا العذر واهناً وهذه الحجة داحضة، ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: 165]. فمع أنه - كما بيَّنا - لا حجة حقيقية لهم، ولكنه الكريم الرحيم اعتبرها حجة لهم لعظم كرمه. فأرسل الرسل بالآيات وبالبينات ليقطع دابر هذه الحجة الموهومة. ومع هذا - وللأسف - فهؤلاء المتمردون عديمو الحياء الذين أعطاهم الله الفرصة بعد الأخرى من غير استحقاق، سيطلبون فرصة أخرى، ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[غافر: 11].

    ولكي نتصور المسألة أكثر أضرب هذا المثال: لو كان لديك عمل ما وكلفتَ به شخصاً معيناً، وهو لا يؤديه بسبب إهماله وكسله، وعندما تسأله لِمَ لمْ تؤدي العمل ؟ سيأتيك بأعذار واهية غير حقيقية. فيقول لك مثلاً: أحتاج كذا وكذا لأداء العمل. فأنت لتقطع عليه أعذاره وحججه الواهية - مع علمك بأنها أعذار واهية كاذبة - تحقق له مطالبه، وهكذا كأنك اعتبرتها أعذار وحجج حقيقية، وكما يقول المثل المعروف: اتبع الكذاب إلى عتبة الباب، ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]. فالمسألة من هذا الباب ولا يتصور أحد أن للناس حجة حقيقية على الله، سواء أرسل رسل أم لم يرسل، سواء كان مع الرسل آيات وبينات وأدلة، أو كانت أيديهم خالية إلا من ذكر الله.

    إذن، فالمطلوب من كل إنسان أن يتذكر ويخلص ليكون نبياً يوحى إليه ويعرف الحقيقة وما يريده منه بارئه سبحانه، فقد فطره الله على هذا وخلقه لهذا وهو ممتحن ليكون هكذا، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]. ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].

    ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].

    ولكن للأسف أكثر الناس يركنون إلى ظلمة هذا العالم الجسماني ويغفلون عن ربهم. فلا يسلك هذا الطريق وهو طريق الوحي إلا قليل، كأنبياء الله ورسله وأوليائه سبحانه. ففتح الله لبقية بني آدم طريق الواسطة أو الخليفة الذي يوصلهم ويعرفهم، وهكذا ظهر مع فتح طريق الواسطة أصلان آخران مرتبطان بالمستخلف الواجب معرفته سبحانه، وهما الخليفة والرسالة التي يحملها للتعريف.
    الثاني: الطريق العقلي

    وهو طريق يتحرّى إثبات وجود الله أو الحقيقة وإثبات الصفات، ولكنه لا يحقق المعرفة الحقيقية التي هي علة الخلق.

    تعرّض القرآن لبعض الأدلة العقلية، كدليل النظام والحكمة التي يراها الإنسان في الكون، ودليل أن العدم غير منتج. وسنتعرض لبعض الأدلة العقلية لعلها تكون حجة على من يلتزمون العقل ([9]) في الاستدلال كما يدّعون.

    وهنا لابد من تشخيص وتحديد أمر مهم لابد أن يرافقنا في أي موضع نريد إقحام العقل فيه، وهو أن العقل ميزان وليس أوزان. فالعقل يقايس المعلومات التي تعطى له ويبين ما فيها، وثقله وخفته أو حتى عدمه وعدم قيمته. ولهذا ولكي تتحقق مهمة العقل بصورة صحيحة، لابد من وجود أوزان قياسية حقيقية ثابتة يقينية، لكي تكون المرجع في الموازنة. وإلا فسيكون ما يوضع في إحدى كفتي الميزان أو العقل مجرد وهم لا يمت للحقيقة بصلة، فتكون النتيجة الخلوص إلى نتائج خاطئة. وللأسف هذا أمر واقع ومنتشر بشكل واسع سواء على مستوى العقيدة أم التشريع.

    وبما أن الكلام هنا في إثبات وجود الحقيقة الموجدة للعالم أو المُستَخلِف (الله)، فلا يمكن أن تكون أوزاننا في ميزان العقل شرعية دينية، لأننا هنا في صدد إثبات الأصل الذي يرجع إليه الدين. إذن، لابد أن تكون أوزاننا من الثوابت والبديهيات التي لا تحتاج إلى نظر، مثل: استحالة أن يكون الشيء معدوماً وموجوداً معاً، واستحالة أن تتسلسل الموجودات المتناهية العدد في سلسة لا متناهية من كل حيثية وجهة، واستحالة أن يكون العدم منتجاً، وأمثال هذه الثوابت.

    ومن الأدلة العقلية التي احتج بها الله سبحانه وتعالى على الملحدين في القرآن ([10]) :

    أ/ العدم لا ينتج شيئاً، والأثر دال على المؤثر.

    قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور: 35].

    إنّ العالم (أو العوالم) ليس أزلياً، بل حادث لأنه متغير، وكل حادث مسبوق بالعدم، فلابد له من محدث، لأن العدم المطلق لا شيئية فيه فهو غير منتج، فيستحيل أن يأتي شيء من لا شيء مطلقاً، أي بمعنى أن يأتي شيء من عدم مطلق. والكون أو الأكوان أو الوجود الحادث شيء، فلا يمكن أن يكون قد أتى من عدم مطلق. إذن، فالوجود الحادث (الكون أو الأكوان ) يثبت أنه أتى من وجود أزلي غني عنه وعن غيره.

    فنحن إنْ قلنا: إنّ محدثه قديم أزلي غير مسبوق بالعدم أثبتنا وجوده سبحانه ([11]).

    وإنْ قلنا: إنه حادث، أيضاً لزمه محدث. ولا يمكن أن يكون هو الأول، لأن معناه أن الشيء موجود ومعدوم معاً. فإن كان غيره تسلسل ولا يمكن أن تكون هذه السلسلة غير متناهية من كل حيثية وجهة؛ لأن العالم حادث متناهي وله بداية. ولما كانت السلسلة متناهية على الأقل من جهة كونها لها بداية، فلابد أن تنتهي إلى مُحدِث أزلي قديم، وبهذا ثبت وجوده سبحانه.

    ومرادنا بالأزل، ليس الأزل الزماني، بل هو بمعنى غير المسبوق بالعدم بغض النظر عن بعد الزمان ووجوده من عدمه.

    وباللامتناهي المطلق: هو غير المحدود من أي حيثية وجهة، فلا بداية له ولا نهاية، وبغض النظر عن بعد الزمان والمكان ووجودهما من عدمه. وليس مرادنا هو الـ (ما لا نهاية) في بعض المعادلات مثل:
    1+1/2+1/4+1/16………..=2
    فالطرف الأيسر للمعادلة صحيح أنه يمتد إلى ما لا نهاية ولكن له بداية، ومثله الكون المسطح فصحيح أن المفروض اتساعه إلى ما لا نهاية ولكن له بداية بدأ منها.

    وكون العالم الجسماني أو الكون الجسماني الذي نعيش فيه حادث، قد ثبت حتى بحسب البحوث الفيزيائية الحديثة. فلو كان العالم الجسماني أزلياً لكان مستقراً متوازناً، لا كما هو حاله الآن من الاضطراب والتغير المستمر. والمفروض أن الملحدين يلتزمون الآن بحدوث العالم وعدم أزليته؛ لأنهم بحسب ادعائهم تطبيقيون ويقرّون ما يقرّه العلم المادي وقوانينه.

    أقول هذا لإقامة الحجة على الملحدين؛ لأنهم يلتزمون بالعالم الجسماني فقط، مع أن الكلام في إثبات حدوث العالم لا يُقصد به العالم الجسماني فقط.

    ب/ صفة الأثر دالة على صفة المؤثر.

    ولبيان هذا الدليل سأنقل هنا بعض النصوص من كتاب وهم الإلحاد، ومن يريد التفصيل عليه الرجوع لكتاب وهم الإلحاد

    [فصل الخطاب "التطور هادف":

    لدينا جينات وطفر جيني وقانون البقاء للجينة الأفضل أو يمكن أن نقول: للكائن الأفضل، فالفرق بين الجينة والكائن كالفرق بين خريطة بناء البيت والبيت نفسه وقانون البقاء للجينة المفضلة يصقل هذه الجينات، ونحن نعلم الآن بشكل قطعي أن آلة البقاء الأفضل بالنسبة للحياة الأرضية على الإطلاق هي آلة الذكاء (الدماغ)، ورغم أن كلفة آلة الذكاء أو الدماغ الاقتصادية عالية جداً على الكائن الحي حيث إنه يحتاج كمية غذاء كبيرة ولكن التطور بالنتيجة مُجبَر على أن يسير بهذا الاتجاه أي أن يطور آلة الذكاء.

    فطالما أن الطفر الجيني موجود منذ البداية فلابد أن تتوفر جينات بناء آلة الذكاء (الدماغ مثلاً) عاجلاً أم آجلاً حتى وإن كان الطفر الجيني عشوائياً تماماً.

    وبما أن قانون البقاء للجينات الأفضل أو للكائن الأفضل ([12]) هو الحاكم في عملية التطور، إذن فالنتيجة أننا الآن يمكننا الجزم بأن التطور منذ البداية متجه وهادف لإنتاج جينات آلة ذكاء أو كائن ذكي، فالتطور إذن هادف.

    وأعتقد أن هذا الاستدلال التام كافٍ لنقض نظرية د. دوكنز الإلحادية ضمن نطاق الحياة الأرضية القائمة على إن التطور غير هادف على المدى البعيد.

    والحقيقة، إننا لو أردنا التوسع في حكمنا المتقدم أكثر ونعمم الحكم على أي نوع حياة يمكن أن نتخيله فيمكننا أن نجزم - بناءً على قانون التطور المعتمد على طفر المتضاعفات أو آلات النسخ وانتخاب الأفضل منها - أن أي حياة سواء كانت كحياتنا الأرضية - مبنية على الماء والكربون والنتروجين والمواد الكيميائية الأخرى - أم كانت في كوكب آخر أو كون آخر ومبنية على الأمونيا بدل الماء، أم على السليكون بدل الكربون - لأنه قادر على تكوين سلاسل طويلة كالكربون - فستكون نتيجتها الحتمية هو إنتاج آلة الذكاء، هذا هو الهدف الحتمي للتطور بحسب القانون الذي نعرفه الآن، ولا يمكن أن تحيد أي حياة أو متضاعفات أو آلات نسخ وتطور عن الوصول إليه عاجلاً أم آجلاً.

    مع العلم أن المتوقع من أي حياة أخرى في كوننا الاعتماد على الماء والكربون؛ لأن الماء يعتبر حالة سائلة مثالية لاستضافة الحياة حيث تقل كثافته عند الانجماد ويطفو وبهذا يسمح الجليد للحياة أن تستمر في الماء السائل تحته وهذه العناصر الأربعة الهيدروجين والأوكسجين والنتروجين والكربون هي الأكثر وفرة في الكون والكربون دون غيره قادر على تشكيل سلاسل ضعيفة يمكن أن تكسر بسهولة وهذا مناسب للأيض والحياة بعكس سلاسل السليكون.

    هكذا نكون قد وصلنا إلى فصل الخطاب وحسم الخلاف حول إمكان إثبات وجود رب أو إله بحسب نظرية التطور، فقد أثبتنا للحياة صفة الهدف وأنها هادفة والتطور هادف، وحيث إن صفة الأثر دالة على صفة المؤثر فيثبت للمؤثر صفة أنه هادف ومدرك وعالم، وبهذا أثبتنا وجود مؤثر هادف ومدرك وعالم، وبالنتيجة يثبت وجود رب أو إله سواء كان هو المؤثر المباشر أم كان المؤثر المباشر أثر من آثاره دال عليه بصفته أيضاً، أي صفة الهادف التي أثبتناها، وهذا بحد ذاته كافٍ لنقض النظرية الإلحادية الحديثة المبنية على أساس أن التطور غير هادف على المدى البعيد.

    آلة الذكاء:

    قلت: إن التطور يهدف الوصول إلى آلة ذكاء؛ لأن آلة الذكاء هي آلة البقاء الأفضل على الإطلاق في منافسة البقاء المحتدمة بين الجينات، ومع أن وجود سبعة مليارات إنسان على الأرض اليوم كافٍ لإثبات هذه الحقيقة، ولكن لا بأس في مناقشة هذه الحقيقة باختصار للتوضيح، فنحن حتى لو فرضنا أن الطفر الجيني عشوائي منذ البداية سنقول إنه حتماً لابد أن يوفر جينة مؤهلة لبناء آلة ذكاء، وليس المقصود بآلة الذكاء هنا الدماغ الحالي للإنسان والحيوانات بل مقصدنا أي شيء يمكن أن نتصوره كبداية للدماغ مثل خلية عصبية واحدة، وأكيد أن من يمتلكون آلات الذكاء هم المفضلون في المنافسة وسيكون نصيبهم من البقاء أكبر ومن ثم لو انتقلت المنافسة بين من يمتلكون آلات الذكاء فستكون الكائنات التي تمتلك آلة ذكاء توفر ذكاءً أكبر هي الفائزة في سباق البقاء للأفضل وهكذا، ففي التطور بداية آلة الذكاء حتمية وتحسين آلة الذكاء مع الزمن أيضاً أمر حتمي، وبهذا يمكننا أن نقول: إن آلة الذكاء هدف حتمي للتطور أي يمكن أن نختصر ونقول التطور يهدف الوصول للذكاء.

    وأود التنبيه إلى أني لا أقول: إن أي منافسة تجري بين الأفراد ستكون نتيجتها لصالح الفرد الذكي بل حتى بين الأنواع، ولكني أقول: إن جينة بناء آلة الذكاء هي المفضلة في المنافسة وهي الفائزة في السباق حتماً.

    فالفرد الأذكى أو الذي يمتلك آلة ذكاء أفضل ربما يخسر أمام فرد أقل ذكاءً أو يمتلك آلة ذكاء أدنى أو حتى لا يمتلك آلة ذكاء نتيجة حيثيات المواجهة وظروفها.

    والنوع الذي يمتلك آلة ذكاء أفضل ربما يخسر في المنافسة على البقاء أمام نوع يمتلك آلة ذكاء أدنى نتيجة حيثيات المواجهة وظروفها.

    ولكن جينة بناء آلة الذكاء متى ما وجدت ودخلت إلى مجموع الجينات التي تبني الكائنات الحية، فلا يمكن أن تخسر في المنافسة أمام الجينات الأخرى، ولا يمكن أن تخرج من مجموع الجينات العاملة على بناء الكائنات الحية بل ستتقدم وبتسارع ملحوظ يزداد مع الزمن؛ لأن الفرق بينها وبين الجينات الأخرى في المنافسة على البقاء أو التقدم وإحراز موقع الصدارة كبير.

    والمنافسة بين الجينات لا تتوقف عند المنافسة على البقاء، بل هناك منافسة بين الجينات على موقع الصدارة في المجموعة الجينية التي تبني أجسام الكائنات الحية، فهي تسعى لتكون الأكثر عدداً حتى وإن كان تنافسها بصورة غير واعية ولا مدركة، بل هو تنافس يمر من خلال قانون التطور العام وخاضع له.

    الأدلة العقلية التي يسوقها القرآن لإثبات وجود الله:

    ما تقدم في هذا الفصل كافٍ لإثبات أن التطور هادف وبالتالي إثبات أن من ورائه من يريد الوصول إلى هذا الهدف، وبالنتيجة أثبتنا وجود إله ضمن قانون صفة الأثر دال على صفة المؤثر، فالأثر الذي هو الحياة الأرضية أثبتنا أنها تتصف بأنها هادفة، وبهذا أثبتنا صفة طلب الهدف والإدراك لمؤثرها، وبهذا أثبتنا وجود إله مدرك عالم. ولكن مع هذا سأناقش في بقية هذا الفصل مسألة أن التطور هادف حتى من منظور التجزئة بل سأركز عليه؛ لأن علماء الأحياء يعتمدون مسألة تجزئة التطور والملحدون منهم يصرون على النظر من زاوية التجزئة فقط رغم أني أراها زاوية تساوي العور والنظر بعين واحدة.
    نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...
  • ya howa
    مشرف
    • 08-05-2011
    • 1106

    #2
    رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

    أما بالنسبة لدليل (العدم غير منتج) فلابد من الانتباه إلى أن الأثر الذي يجب أن نناقشه للدلالة على الله كمؤثر هو أصل الكون الجسماني وما بعده، وهذا لا يكون الكلام فيه بحدود نظرية دارون أو علم الأحياء، بل يمكن نقاشه علمياً في حدود بحوث ونظريات الفيزياء التي تختص بالكون وكيفية نشوئه، وهذا الأمر سيتم مناقشته في الفصل السادس بالتفصيل.

    الدليل الأول على وجود إله مطلق: صفة الأثر دالة على صفة المؤثر

    ومنه دليل التقنين: فوجود القوانين في الأثر دالة على أن مؤثره مقنن، وبالتالي دال على مؤثر عالم، وهو المطلوب إثباته.

    ومنه دليل النظم: فوجود النظام في الأثر دال على إن مؤثره منظِّم، وبالتالي دال على مؤثر عالم، وهو المطلوب إثباته.

    ومنه دليل الهدف: فوجود هدف للأثر دال على مؤثره هادف، وبالتالي دال على مؤثر عالم، وهو المطلوب إثباته.

    ومنه دليل الحكمة: فاتصاف الأثر سواء كان قولاً أو فعلاً بالحكمة دال على أن مؤثره حكيم وعالم، وهو المطلوب إثباته.

    وملخص الاستدلال هو:

    عندما نجد شيئاً منظماً نعلم أن مؤثره عالم قادر على التنظيم وبالتالي يثبت وجود المؤثر المنظم العالم، وعندما نجد قولاً أو فعلاً يتصف بالحكمة نعلم أنها صدرت من حكيم وبالتالي يثبت وجود المؤثر الحكيم، مثلاً: عندما نجد أن مجموعة أشجار مثمرة مزروعة بانتظام نحكم بأن من زرعها يتصف بأنه مُنظِّم وهادف وبالتالي نحكم أنه عالم ومدرك لما يفعل فنقول: إنه إنسان مثلاً، وعندما نجد غابة فيها مجموعة أشجار عشوائية وغير منتظمة تدلنا صفة عشوائية الأشجار فيها على أن الإنسان لم يقم بزراعتها.

    وهذا الدليل عموماً يمكن أن يكون بعض تطبيقه ضمن حدود الحياة الأرضية وأمثلته كثيرة خصوصاً بالنسبة للكائن الإنساني واعتبار أنه يتصف بصفات خاصة تدل على أن مؤثره الأصلي عالم قادر على التنظيم وهادف، ويمكن أن تكون لهذا الدليل علاقة بنظرية التطور.

    صفة الأثر دالة على صفة المؤثر في الكون الذي نعيش فيه:

    هناك ولا شك حزمة قوانين فيزيائية تحكم الكون، والقانون يعني أن هناك مقنناً، كما أن القانون ولا شك يؤدي إلى النظام، والنظام يعني أن هناك منظماً.

    وليتبين الأمر أكثر أضرب هذا المثل:

    وهو أننا عندما نجد أن هناك تقاطع طرق وفيه إشارات مرور تنظم مرور السيارات في التقاطع نعلم أن هناك قوة مدركة عالمة منظمة مريدة لهذا النظام هي التي وضعت هذه الإشارات المرورية، وبنفس الطريقة نقول: إن قانون الجاذبية دال على واضعه، وكذا القوى الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة والقوية على مستوى وجودها وعلى مستوى قدرها، فكلها تفرض قوانين مرور كونية كما في تقاطعنا المذكور، ولولا أنها بهذا القدر لما وجدت المادة ولما وجدنا نحن في هذا الكون، فهل من المعقول أننا عندما نرى إشارات المرور البسيطة نحكم بوجود شرطة مرور أو بلدية وضعت إشارات المرور في التقاطع لتنظيم المرور ونحكم أن من وراء هذه الشرطة حكومة تنظم عملها، ولا نحكم أن هناك قوة حكيمة عالمة هي التي وضعت القوانين الكونية التي وجدناها وثبتت لنا علمياً ووجدنا أنها تنظم وتحكم المرور في الكون كله؟!

    العاقل يحكم ولا شك بوجود منظم وضع هذه القوانين التي تنظم الكون، أما الذي يصر على إنكار المنظم الحكيم العالم فإصراره والحال هذه مجرد عناد ولجاج مقيت يدل على أن صاحبه لا يختلف كثيراً عن أولئك الذين كانوا يصرون على أن الأرض لا تدور.

    فهل كل هذا النظام بلا منظم؟! عجبت والله ممن يعتقد هذا، ومع ذلك يقول: إن من وضع الإشارات الضوئية هم شرطة المرور أو إدارات الطرق وكان عليه أن يكون منصفاً مع نفسه ويمرر عشوائيته هنا أيضاً ويقول: إن إشارات المرور صنعت نفسها بنفسها وجاءت بنفسها إلى التقاطع، فهل من العقل أننا نرى نظاماً وقوانين في موضع فنقول: إنّ هناك منظماً، ونرى النظام والقوانين في موضع آخر ونقول: لا يوجد منظم عالم قد وضعها؟!!!

    ولو اختصرنا دليل صفة الأثر دالة على صفة المؤثر وبالتالي على وجود المؤثر المتصف بها نقول:

    لدينا - نحن والملحدون - عندما ندخل لمحكمة العقل الإنساني:

    الأثر = الكون، صفة الكون = قانون ونظام، صفة المؤثر = مُنظم عالم، المؤثر = مجهول.

    فنحن تتبعنا الكون في العلوم الحديثة فعرفنا صفته، وهذه الصفة عرفتنا بصفة الموصوف الذي أظهرها للوجود، فتبين من صفته أنه منظم (مقنن)، وبالتالي فهو مدرك وعالم.

    الآن ثبت أن هناك مؤثراً يتصف بأنه منظم ومدرك وعالم.

    إذن، فنحن أثبتنا وجود المنظم العاِلم الذي قنن الكون (وبالنسبة لنا: فهو المطلوب إثباته).

    صفة الأثر دالة على صفة المؤثر في الحياة الأرضية:

    لا شك أن حزمة القوانين الفيزيائية الكونية أيضاً حاكمة على الأرض وفي الأرض وبهذا فيصلح أن تساق كدليل هنا أيضاً، فالقوانين هي سبب هذا النظام المُنتِج، والطبيعة التي تقوم بالانتخاب ما هي إلا نتاج لهذه القوانين وبالتالي فهي مبنية على قوانين صارمة ومقننة، ولا يمكن أن يقال: إنها عشوائية وغير مقننة، والنتيجة فانتخاب الطبيعة للأشكال المناسبة أو الأنسب مقنن أو مرتكز على قوانين، وما دام هناك قوانين فيزيائية على الأقل هي واضحة لنا وبقدر لا بأس به في المستوى الذري وما دون الذري وهو مستوى تعتمد عليه الحياة ويشكّل الحياة على الأرض، فإذن هناك مقنن، وهو المطلوب.

    وهذا أمر واضح، لهذا نكتفي بهذا البيان له هنا وسنعرض له في مواضع أخرى، وسنعرض فيما يأتي إلى ثلاثة أمور أخرى تتعلق بالحياة الأرضية بالخصوص هي:

    - الخريطة الجينية.

    - وقانون التطور أو الارتقاء بالانتخاب الطبيعي.

    - والهدف من التطور أو الارتقاء بالانتخاب الطبيعي] ([13]).

    وهنا يطرح الملحدون إشكالاً مفاده: إن حدوث الزلازل في الأرض واصطدام بعض الأحجار أو الكويكبات بالأرض في أوقات سابقة... الخ، يدل على أن الموجود ليس نظاماً بل عشوائية.

    وهذا في الحقيقة لا يعدو كونه إشكال الجاهل على فعل ما يجهله، فوجود النظام العام المنتج وثبوته وثبوت كونه منتج لهدف، لا ينقض بوجود حدث لا يتفق مع النظام العام بحسب الظاهر، ولتقريب الصورة أكثر: فلو كان هناك بستان منظم وفيه أشجار منظمة وغاية في الدقة والتنظيم من جهة الأنواع والمسافات بينها، ورأينا في وسط هذا البستان قطعة أرض قد قلعت أشجارها وجرفت تربتها، فهل هذا الحدث وجهلنا بحيثياته يخولنا أن نحكم على هذا البستان بأنه غابة أو غير منظم، رغم كل التنظيم الذي نراه يحيط بهذه البقعة التي خربت؟ الحقيقة إننا نكون في قمة العبثية إن حكمنا على هذا البستان بأنه غابة لأننا وجدنا في وسطة بقعة خربت بصورة ما، مع أننا لا ندري لعل سبب هذا التخريب هو لإنشاء دار للسكن في البستان، أو إنشاء بحيرة لزراعة الأسماك، أو مزرعة أبقار أو مرعى مكشوف... الخ، من أسباب محتملة لا نعلمها. ونفس الشيء ينطبق على الأحداث التي يقولون إنها تنقض دليل النظم في هذه الأرض وهذا الكون، فحيث إن النظم قد تبين وثبت بالأدلة، فإنه لا يُنقض بأحداث جُزئية لا يُعلم علتها بصورة تامة، وربما لو عرفنا علتها لقلنا إنها غاية التنظيم والحكمة ([14]).

    فأي جهل أكبر من أن يحكم كائن لا يتجاوز عمره في أحسن الأحوال مائة عام - كالإنسان -، على حدث يمتد أثره بعده آلاف أو مئات الآلاف أو حتى ملايين السنين، أليس هذا تماماً كحكم خُلد أعمى يقبع في جحر تحت الأرض على من يقومون بحفر أساس لناطحة سحاب، بأنهم مخربون وعبثيون وقوة غير منظمة ولا عاقلة؛ لأن حفرهم تسبب بإتلاف جحره مثلاً؟! ثم من قال إن كل حدث يخالف المصالح المادية الجسمانية لبعض الموجودات في وقتٍ ما هو فعل عبثي غير عاقل، أليس من الممكن أن يكون هادفاً لإصلاح بعض النفوس، أو يهدف لتحقيق مصلحة الكل ؟ أليس القوانين العادلة التي يقرها الجميع تنص على معاقبة المجرم القاتل أو السارق، فهل هذه العقوبة عبث وتدل على عدم النظام وعدم العقل؛ لأنها تسبب ضرراً لإنسان ما؟ أم إن هذه العقوبة هي غاية الحكمة والتنظيم والعقل مع اشتمالها على إتلاف نفس أو مال أو التسبب بضرر ما ؟!!! الحقيقة إن النظم ثابت، وبالتالي فقد ثبت المنظم الحكيم لمن يطلب الحق، والإشكالات لا تنقض الدليل، بل تبقى مجرد إشكالات تشير إلى فشل ملقيها في إثبات عقيدته، ولهذا فهو انتقل إلى الإشكال بعد أن أقرّ بعجزه عن مقارعة الدليل ([15]).
    إشكالات يسوقها الملحدون:
    الرحيم المطلق لماذا يعذب بالنار؟!:

    قبل كل شيء يجب الالتفات إلى أن المالك الحقيقي لا يمكن أن يكون ظالماً عندما يتصرف في ملكه وممتلكاته، وبالتالي فالعذاب أو نار جهنم لا تتعارض مع مفهوم العدل. نعم يمكن الإشكال - بسبب فهم خاطئ لمعنى العذاب والنار - على أنها تتعارض مع مفهوم الرحمة، أو الإشكال بأن الأمر عبثي أو عبارة عن لعب؛ حيث لا رحمة ولا حكمة في أن يقوم الله بخلقهم ثم يعذبهم، فكان الأولى به أن لا يخلقهم من البداية.
    رد الإشكال:

    العذاب أو نار جهنم ما هو إلا كشف الحقائق الدنيوية لمن اختاروا هذه الحياة الدنيا وتعلقوا بها، فالأمر لا يتعدى إعطاء شخص ما أراد هو لنفسه من بقاء وخلود في هذه الحياة الدنيا، ولكن مع كشف حقيقة اختياره له، وبالتالي فهو عدل ورحمة وإحسان، فهو اختار الحياة الدنيا وأعطاه الله ما أراد، فأين الظلم أو القسوة في هذا؟!

    قال تعالى:

    ﴿لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾[الأنبياء: 13].

    ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾[العنكبوت: 54].

    [﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾([16]).

    هذه هي الحقيقة، الله أعطى كل إنسان المفتاح الرئيس الذي يفتح كل الأبواب والذي يثبت إنسانيته، فيمكنه أن يفتح الأبواب واحداً بعد الآخر لينتقل من نور إلى نور أعظم منه حتى يصل إلى مواجهة النور الذي لا ظلمة فيه، ويمكنه أيضاً بكل بساطة أن يلقي المفتاح إلى الأرض ويعود إلى حيوانيته وبهيميته والتي بها يمسي يساوي القرد كما في النص القرآني ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ﴾ !

    لا ظلم في ساحة الله، فالنار هي الدنيا لمن اختاروها وطلبوا الخلود فيها، فقط سيكشف الغطاء عنهم ليجدوها مشتعلة بأعمالهم وظلمهم وفسادهم، وملأتها عقارب حسدهم ووحوش أفكارهم وجرائمهم وحقائقهم الحيوانية البهيمية التي ستظهر لهم جلية فيعذب بعضهم بعضاً بتلك الحقائق الخبيثة عندما يكشف الغطاء. لا ظلم في ساحة الله، من طلب الخلود الدنيوي سيعطى أمنيته ويبقى حيث أراد، فقط سيكشف عنه الغطاء ليرى الحقائق كما هي ﴿لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾([17]).

    الله عادل في كل شيء، بل هو محسن وكريم إلى درجة لا يمكننا أن نفهمها وليس عادلاً فقط، لهذا فهو لا يؤذي أحداً بل أشد عقوبته هي أن يعطي الإنسان اختياره الذي عادة يكون فيه هلاكه الأبدي، لهذا فمعنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾([18])، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾([19])، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾([20]) :

    أي أنهم ألقوا المفاتيح من أيديهم وخسروا الروح الإنسانية التي بثها الله في أبيهم آدم (عليه السلام) وحثهم على تحصيلها، ولم تبقَ لهم إلا الروح الحيوانية، فعادوا إلى أصولهم حيوانات وبهائم لا يكادون يفقهون قولاً] ([21]).

    وهنا ربما يطرح إشكال مفاده: إن هذا الإنسان يجهل حقيقة اختياره، وبالتالي فهو تعرض لعملية خداع فهو لا يعرف أن هناك حقيقة مخفية خلف الصور التي يراها في هذه الحياة الدنيا، ولا يعلم أن هذه الحقائق بشعة وأن العيش فيها مع رؤيتها والإحساس بها تمثل عذاباً عظيماً لا يحتمل، فهو لو كان يعلم بهذه النتيجة لما أقدم على هذا الاختيار.

    وهذا الإشكال مبني على أساس أن الإنسان ليس لديه أي علم بنتائج اختياره، ولهذا فهو غير صحيح، نعم، لو كان الله لم يخبره بحقيقة اختياره ربما يكون للإشكال وجه، ولكنه أخبره وحذره.
    الإعاقة والمرض:

    هناك إشكال يطرحه الملحدون، وهو: ما ذنب من يولد معاقاً، فلو كان هناك إله فهو ظالم؛ لأنه خلق هذا الكائن بإعاقة تسبب له عذاباً شديداً طيلة حياته على الأرض إلى درجة أن بعضهم يعتبر الموت أرحم له من الحياة.
    رد الإشكال:

    المشاكل الصحية هي نتائج طبيعية؛ لكون جسم الإنسان مجرد جسم حيواني متطور على هذه الأرض، وهو ليس مثالياً ولا محصناً، بل كأي جسم حيواني أو نباتي حي على هذه الأرض، مكون من مواد كيميائية ومعرض للخلل أثناء تكونه، نتيجة خلل جيني مثلاً أو حتى بعد تكونه نتيجة حادث. وبالتالي لا معنى للإشكال، اللهم إلا أن يقال: لماذا لم يجعل الله الكون مثالياً وينتج حالة مثالية؟ وهذا جوابه بسيط، فالكون المخلوق فيه ظلمة وليس نوراً مطلقاً، والنقص والخلل من لوازم الظلمة، وهو مرافق حتمي لا يمكن تجنبه، فالأمر محال في نفسه. لهذا فهو لا يصدر عن الله سبحانه وتعالى. فمن غير الممكن أن الكون مخلوق مع أنه نور لا ظلمة فيه؛ لأن النور المطلق هو اللاهوت المطلق فقط، وبالتالي فالكون المخلوق لا يكون إلا نور وظلمة. وطالما أن الظلمة فيه فلابد أن نرى تأثيرها كظلمة وهو النقص والعجز والتنافي الذي هو ملازم لكل العوالم المخلوقة.

    أما الإشكال بأنَّ حتى ضمن حدود النقص في هذا العالم فإن التصميم الجيني فيه خلل معتد به وظاهر.

    فجوابه: إن المباشر للخلق ليس اللاهوت المطلق، بل هم خلق خلقهم اللاهوت المطلق ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾[الذاريات: 47].

    ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾[يس: 71].

    ولا يمكن أن يكون للاهوت المطلق أيد هي جزء منه، وإلا لانتقض لاهوته، وبالتالي فأيد الله هم خلق خلقهم الله، وهم باشروا الخلق الأدنى منهم، كالعالم الجسماني موضوع الإشكال، وهذا الوصف شائع جداً، فعادة يقال عن الشخص الذي يقوم بالعمل لشخص آخر أو نيابة عنه بأنه يده، ومقولة أحدهم لآخر: (أنت يدي التي أصول بها) شائع.

    [- الاتجاه الثاني: يمكن تصور نظرية التصميم الذكي بحيث إنها توافق التطور وتريد أن تثبت من خلال تركيب وتعقيد ودقة نظام الأجسام الحية وأجزاءها أن الكائنات الحية مصممة والتطور هادف، وبالتالي فهناك وراءه إله يريد الوصول إلى الهدف.

    والإشكال على كلا الاتجاهين هو وجود ثغرات كبيرة في التصميم رغم أن المصمم الـمُدعى (الإله) علمه مطلق وقدرته مطلقة، ومن كان كذلك لابد أن يكون تصميمه متكاملاً ولا يحتوي ثغرات كبيرة كضعف العمود الفقري بالنسبة للإنسان وسبب ضعفه أنه مصمم لجسم منحني وغير مكتمل التصميم لجسم منتصب كجسم الإنسان، ولهذا فكثير من البشر على الكرة الأرضية يعانون آلاماً في الظهر على الأقل في فترة من حياتهم. أيضاً عصب الحنجرة واستطالته التي يعتبرها بعض المتخصصين في التشريح المقارن خطأ في التصميم وبالتالي فلا يمكن أن تكون مصممة لكل نوع؛ لأنها استطالة بلا فائدة حقيقية بل مضرة حيث تعرض هذه الاستطالة العصب لاحتمالية التعرض للضرر أكثر مما لو كان قصيراً ومختصراً على مقدار الحاجة.

    بالنسبة لمن يقولون بالخلق دفعة واحدة لا يمكن رد هذا الإشكال بصورة منطقية حيث إن خطأ عصب الحنجرة خطأ كبير وبالتالي فهو كافٍ لنفي التصميم الذكي للجسم بكل أجزائه لكل نوع، ولا يمكن أن يفسر هذا الخلل وهو بهذا المستوى من الابتعاد عن التصميم الذكي إلا إذا كان عبارة عن إرث تطوري.

    أما بالنسبة لمن يقولون بالتطور ومع هذا يقولون بالتصميم الذكي، فأيضاً إن قالوا إن المصمم هو اللاهوت المطلق أي علمه مطلق وقدرته مطلقة فيكون الإشكال قائماً؛ حيث إن الأجسام الحية في تصميمها خلل ينفي العلم المطلق للمصمم، أما إن قالوا كما قال الله في القرآن بأن الخلق أو التصميم والتنفيذ للخلق كان بأيد الله أي بتوسط خلق الله سبحانه عندها يمكن تعليل أن يكون التصميم ليس متكاملاً تماماً، ويمكن تعليل وجود خطأ صغير في التصميم عند بداية التطور توسع نتيجة التطور حتى أصبح إرثاً تطورياً متراكماً يؤشر خطأ واضحاً في التصميم.

    ويمثل هذا أيضاً دلالة واضحة على أن الخالق الأصيل هو الله سبحانه الإله المطلق، ولكن الخالق المباشر ليس الله سبحانه وتعالى، بل هم خلق مكرمون باشروا الخلق بأمر الله سبحانه وعكسوا نقصهم كمخلوقات نورانية تحتوي الظلمة؛ لأن النور الذي لا ظلمة فيه هو الله سبحانه وتعالى أحسن الخالقين، الذي خلق العقل الأول محمداً (صلى الله عليه آله) وخلق منه الأنوار الأولى ثم أمرهم بمباشرة الخلق كما يشاء وبحوله وقوته سبحانه، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ([22]).

    انظر إلى المفرد والجمع في الآية أيضاً: (خَلَقْنَا، جَعَلْنَاهُ، خَلَقْنَا، فَخَلَقْنَا، فَخَلَقْنَا، فَكَسَوْنَا، أَنشَأْنَاهُ)، ثم ختمت الآية ببيان أن المهيمن على الخالقين المباشرين للخلق هو الله سبحانه ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، وبيّن الله حال هؤلاء الخالقين وأنهم أيد الله سبحانه أي الذين باشر الله أحسن الخالقين الخلق بواسطتهم ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾([23]).

    ربما يقول بعضهم: قد يكون لوضع العمود الفقري للإنسان بهذا الشكل ولخريطة عصب الحنجرة في الجسم بهذه الصورة فوائد معينة في مسيرة التطور أو حتى في مراحل عمرية معينة، وفي الحقيقة إن هذا حتى لو صح بما لا يقبل الشك، فهو أيضاً لا ينفي كون هذه الأمور دالة على أنها إرث تطوري تاريخي وبالتالي فهي تنفي الخلق دفعة واحدة.

    وهو أيضاً لا ينفي أنه ليس تصميماً صادراً من عالم قادر مطلق، فبالإمكان تصور وجود تصميم أفضل منه وهذا يعني أنه ليس التصميم الأفضل والأمثل والأتم وبالتالي لا مناص من القبول بما بيّنه الله في القرآن من توسط أيد الله في الخلق] ([24]).
    إشكال: عمر نبي الله نوح:

    ومفاد الإشكال: إن حياة جسم الإنسان معروفة ومحددة جينياً، فكيف عاش جسم نوح في هذه الحياة المادية كل تلك الفترة التي يذكرها القرآن أو النص الديني ؟
    رد الإشكال:

    بما أننا أثبتنا ضرورة وجود إله وبالأدلة العلمية، وناقشنا الإلحاد العلمي ضمن نطاق العلم، فيلزم أي ملحد ألحد وكفر بوجود إله بناءً على استدلال علمي أن يرد على مناقشتي العلمية واستدلالي العلمي وبصورة علمية صحيحة ودقيقة، أو أن يقر بأنّ ما أثبته حق، وإلا فسيكون معانداً مجادلاً لا يطلب معرفة الحقيقة كما هي، وإنما هو شخص عبثي لا أكثر.

    أما عمر الإنسان في الماضي فمعروف علمياً وبدقة؛ حيث إن جينات الإنسان معروفة اليوم بتفصيل لا بأس به، والعلماء يعرفون السبب الجيني ولماذا ومتى تهرم الخلايا وينهار جسم الإنسان، وهم يجرون بحوثاً في محاولة لإحداث طفر جيني لإطالة عمر الإنسان، وهو أمر ممكن الوصول له يوماً ما. وبالتالي فهم أيضاً يعرفون بصورة قطعية أن الإنسان في زمن نوح وقبله لم يكن يعيش ألف عام ولا حتى أي رقم قريب من هذا الرقم، تماماً كما تعرف أنت طول المسطرة التي في يدك.

    لكن مسألة عمر نوح أو غيرها من المسائل التي تخالف الواقع العلمي لا تصلح للإشكال على ما أثبتناه وهو وجود إله؛ لأننا نستطيع أن نقول باختصار شديد: لا إشكال أن يجري الله المعجزات وإن كان بعضها يخالف الواقع العلمي، لأنها حالات فردية هدفها وضع الإنسانية الآدمية في بدايتها على طريق الإيمان بإله خالق للكون، هذا طبعاً مع أن بعضها ليست معجزات وإنما قضايا صعبة الفهم على من لا يعرف لغة المتكلم بها، فلغة القرآن لا يفهمها من لا يعرف العوالم العلوية التي نزل منها القرآن.

    ولتوضيح المسألة علمياً أقول باختصار: إن ما يراه المراقب الخارجي للمنظومة الفيزيائية يختلف عما يراه المراقب الداخلي. وبالتالي عند حصول تمدد أو تقلص مثلاً في المنظومة الفيزيائية ستكون قياسات المراقب الموجود داخل المنظومة مختلفة تماماً عن قياسات المراقب الخارجي، والسبب أن المراقب الداخلي هو جزء من المنظومة، وبالتالي فهو مشمول بتمدد وتقلص المنظومة، وكذا معدات قياسه مشمولة بتمدد وتقلص المنظومة. وهذا يجعله عاجزاً عن معرفة أو قياس أي تغير شامل لكل المنظومة.

    وهذا لا يمنع - إن كان لديه حياة نفسية كما هو حالنا - أن يحس إحساساً نفسياً أن هناك تغيراً في المنظومة، أو هناك تسارع أو تباطؤ، كإحساس كثير من الناس اليوم بتسارع الزمن مع أنهم عندما يقيسونه لا يجدونه قد تغير شيئاً.

    وكمثال لتوضيح هذا الكلام؛ لنفترض أن إنساناً يعيش في غرفة ولديه أداة قياس طول (مسطرة مثلاً)، وطلبنا منه قياس طول طاولة في الغرفة، ومقارنة طوله مع طول وارتفاع الطاولة. ثم بعد ذلك لو فرضنا أن الغرفة وما فيها حصل لها تمدد منتظم شمل الجميع بنفس النسبة. فالآن لو طلبنا منه قياس طول الطاولة فسيجد أن الطول لم يتغير. وإذا طلبنا منه أن يقارن طوله مع طول وارتفاع الطاولة فلن يلحظ أي تغير، والسبب أنه تمددَ وكذا مسطرة القياس بنفس نسبة تمددِ الطاولة.

    إذا توضح هذا؛ فيمكن فهم أن أي مراقب يمكنه القيام بالمراقبة من خارج المنظومة الكونية التي نعيش فيها ستكون قياساته مختلفة عن قياساتنا نحن الذين نعيش داخل المنظومة. فلو أن سلوك الكون المادي ككل تغير بصورة ما بحيث إن الزمن كبعد كوني رابع تمدد أو تقلص - أو بلغة بسيطة تباطأ أو تعجل - في المنظومة ككل، فلن نستطيع نحن قياسه ولا معرفة هذا التغير، لكن مراقباً يمكنه أن يراقب من خارج المنظومة الكونية التي نعيش فيها سيمكنه قياس هذا التغير، وعندما يتكلم سيعطينا أرقاماً تختلف عما قسناه نحن. وهذا باختصار يفسر لنا أن مراقباً من خارج المنظومة (الله سبحانه وتعالى أو الملائكة مثلاً) عندما تسأله أو يتكلم عن عمر نوح وقومه فسيعطيك رقماً يختلف عما تقيسه أنت الذي تعيش في داخل المنظومة، وعندما تطلب منه مقارنة عمر الإنسان اليوم وعمره قبل خمسة عشر ألف عام فسيعطيك أرقاماً مختلفة، مع أنك لا تجد أي اختلاف ملموس يمكن قياسه في الحدود المادية التي تعيش فيها.


    الأصل الثاني: الخليفة

    تنصيب خليفة الله في أرضه ([25]) أو الرسول وكونه الأعلم وأمْرُ المكلفين بطاعته، أمرٌ حتمي في كل زمان.فلابد من نصب خليفة في كل زمان.

    ويدل عليه:

    أولاً: إن الغرض من الخلق هو المعرفة ([26])، ولا يتحقق هذا الغرض في هذا العالم لمعظم الخلق إلا بتنصيب ناقل للعلم وظيفته تعريف الناس، وترك فعل ما يتحقق به الغرض مع القدرة عليه فيه نقض للغرض، وهذا تناقض لا يصدر من الحكيم المطلق. فبما أن تنصيب خليفة الله المعرف بالله وبدين الله بإرادة الله يحقق الغرض من الخلق، إذن لابد من تنصيبه.

    ولا يصح أن يخلو منه زمان مع وجود القابل، فلا يعرف الخلق دين الله وإرادة الله، فلا يعلمون ولا يعبدون ولا يعرفون، فينقض الغرض من الخلق. وكذا لا يصح أن يخلو منه الزمان حتى عند عدم وجود القابل؛ لأن به يقطع عذر المنكرين كما سيأتي. وهذا النصب وضرورته يقرّه - عملياً ملجأين إليه - كل من نصبوا فقهاء أو أوصياء على الدين يشرعون لهم وإن أنكروه بألسنتهم، حيث إنهم لما كفروا بالنصب الإلهي ومن ينقل لهم دين الله، نصبوا هم لأنفسهم من يشرع لهم بالظنون والأهواء في ما ليس فيه نص إلهي متوفر عندهم. وهكذا هم قد أقروا بعملهم هذا ضرورة نصب خليفة الله، وأعلنوا حاجتهم له لينقل لهم العلم الإلهي وحكم الله الحق في كل واقعة.

    ثانياً: المالك العالم المطلق لابد أن يأمر المكلفين العاملين في ملكه بإنفاذ إرادته؛ لأنه الأعلم بصلاح ملكه ومن فيه ([27])، وإلا لكانوا معذورين في إنفاذ جهلهم في ملكه، وبهذا يكون قد جانب الحكمة إلى السفه، وهذا لا يصح من الحكيم المطلق. وليتحقق هذا الغرض لابد له من إيصال أمره وإرادته للمكلفين ليعملوا بها، ولا سبيل إلى ذلك مع وجود المُلك وغياب المالك عند المكلفين ([28]) العاملين في ملكه ([29]) إلا بواسطة مَن حضر عنده المالك (أي من يوحى له ويتصل بالمالك ويعرف إرادته)، فلا يصح ترك نصب - خليفة الله - الواسطة مع القدرة؛ لأنه نقض للغرض الذي يريده المالك وهو تنفيذ إرادته في ملكه.

    فإذا نصب المالك العالم الحكيم المطلق خليفة عنه في ملكه، متصلاً به يَعرف إرادة المالك ويمكن أن يُعرِّف غيره من المكلفين بإرادة المالك، عندها يمكن أن ينفذ مَن يريد مِن المكلفين إرادة المالك، وتقام الحجة على الغافلين ويقطع عذر المنكرين المتكبرين. وله أشار تعالى في القرآن بقوله: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: 165]. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾[طه: 134].

    إذن، ترك تنصيب من يعرف إرادة المالك، مع غياب المالك عند المكلفين، ومع وجود القابل في المكلفين، أو مع أن فيه إقامة الحجة على المكلفين وقطع عذر الجاحدين، سيكون مجانبة للحكمة ونقض للغرض، وهذا لا يصح نسبته للحكيم المطلق ([30])، وكما أنه أيضاً مجانبة للرحمة، وهذا لا يصدر من الرحيم المطلق ([31]).

    أما مسألة كون الخليفة هو الأعلم فيما انتدب إليه ([32])، فلأن تنصيب الأقل علماً مع وجود الأعلم تضييع لبعض العلم الموجود عند الأعلم أن يصل للمكلفين. وفي هذا مجانبة للحكمة، لهذا فالمالك لابد أن يزود خليفته بالعلم اللازم لأداء رسالته. وعموما فالخليفة دائماً يكون الأعلم؛ لأنه يعرف إرادة المالك دون سواه، وبميزة العلم يكون الخليفة هو الأعرف بالطريق وهو الأقدر على أداء الوظيفة وبلوغ الغاية وتحقيق الهدف وإنجاز الغرض.

    وأما مسألة حتمية أمر العاملين بطاعة الخليفة - مع وجود القابل - فلأن ترك هذا الأمر فيه تعطيل للمهمة والوظيفة المطلوب من خليفة الله أداءها ([33])، وهذا لا يصدر من حكيم مطلق.

    ومع عدم وجود القابل فيمكن أن يكون الخليفة أو الرسول موجوداً منصباً وقد هيأه الله بالعلم، ولكن لا يأمره الله بالتبليغ (أي مجمّد)، ووجوده والحال هذه موافق للحكمة؛ لأن فيه إقامة الحجة على الناس وقطع عذر المنكرين، ولا يكون للناس حجة مع وجود الرسول ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، ويكون هذا الزمان هو زمان فترة، يوجد فيه رسول وهو خليفة الله في أرضه وحجته على عباده ولكن لا يؤمر بالتبليغ (أي مجمّد) وإن كانت الفترة طويلة كان فيها أكثر من رسول، وله أشار تعالى بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[المائدة: 19].
    نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

    Comment

    • ya howa
      مشرف
      • 08-05-2011
      • 1106

      #3
      رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

      وبسبب عدم وجود القابل يمكن أن يكون هناك أماكن لا يرسل فيها، وأقوام لم تصلهم الرسالات السماوية ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنفال: 22 - 23].

      والحجة مقامة على هؤلاء جميعاً بخليفة الله في أرضه، ولا حجة لهم على الله ولا لغيرهم مع وجود الخليفة، وإن لم يؤمر بالتبليغ لعدم وجود القابل فيهم، فالله سبحانه يعلم حال هؤلاء وقد أرسل لأمثالهم وكان ردهم دائماً التكذيب وطلب المعجزات القاهرة التي تقهرهم على الإيمان بدليل مادي محض لا يبقي للغيب نصيباً ﴿وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾[القصص: 4847].
      علة الإرسال الدائمة التي لا تتخلف هي إقامة الحجة:

      ممّا تقدم تبيّن أن الإرسال حتمي في كل زمان؛ لأن به يتحقق الغرض من الخلق وهو المعرفة، وبه يتحقق إنفاذ إرادة المالك الحقيقي في ملكه، حيث يقوم المرسل أو الخليفة بهذه المهمة أو الوظيفة، كما أنه بالإرسال نفسه تقام الحجة ويقطع العذر حتى وإن كان الرسول أو الخليفة في بعض الأزمنة مجمّداً ولا يؤمر بالتبليغ لعدم وجود القابل، فعلة الإرسال التي لا تتخلف في كل زمان هي قطع العذر، حيث إنها علة قائمة دائمة في حال وجد القابل أم لم يوجد ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165].

      بل حتى في حال آمن الناس جميعاً فإنّ إقامة الحجة وقطع العذر تبقى علة قائمة للإرسال؛ لأن معرفتهم وتطبيقهم يعتريها النقص بسبب تقصيرهم، وبهذا يكون وجود الرسول حجة قائمة عليهم.
      الاستخلاف سنة الله:

      بيَّنا عقلاً أنّ تنصيب الخليفة موافق للحكمة والرحمة، ومخالفته لا تصدر من الرحيم والحكيم المطلق سبحانه وتعالى. والآن لنعرج على النصوص ولنرى ما حصل في أرض الواقع وبحسب ما روته الكتب السماوية الثلاثة:
      أولاً: القرآن:

      1. نجد أول إنسان ([34])عاش على هذه الأرض وهو آدم (عليه السلام) قد نصبه الله خليفته في أرضه، وأمر الملائكة بطاعته والتعلم منه ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 30 - 34].

      فالآيات واضحة؛ إن الله منذ البداية ومنذ اليوم الأول نصب آدم خليفته في أرضه ثم بلغ الملائكة ليطيعوه، فلما اعترضوا وجادلوا بيَّن الله لهم جهلهم لما سألهم، ومن ثم بيَّن لهم علم آدم (عليه السلام) الذي أودعه فيه فعرفوا أحقية آدم وخضعوا للحق. ثم أمرهم الله بالسجود فسجدوا واتخذوا آدم (عليه السلام) إماماً ومعلماً وقبلة إلى الله يعرفهم بالله. وقد ورد في تفسير الآية:

      «الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ (عليه السلام) : ألَا تَدُلُّنِي إِلَى مَنْ آخُذُ عَنْه دِينِي، فَقَالَ: هَذَا ابْنِي عَلِيٌّ إِنَّ أَبِي أَخَذَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ قَالَ : "إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" وإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِذَا قَالَ قَوْلاً وَفَى بِه»([35]).

      2. والله قد آتى إبراهيم الملك الإلهي، وجعله خليفته في أرضه قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 258].

      3. ونبي الله داود (عليه السلام) قد نصبه الله خليفة في أرضه، قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[صـ: 26].

      وقال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[البقرة 251].

      4. ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[الرعد: 7].

      والآية واضحة؛ إن لكل قوم هاد فيما مضى قبل الرسول محمد وفيما بقى. وقد فسرها الرسول (صلى الله عليه وآله) في أحاديث نقلها السنة في كتبهم بشخص معين من بني هاشم، وفي رواية بأحد مصاديقها وهو علي (عليه السلام) :

      أخرج ابن جرير الطبري في جامع البيان (13 / 142) بسنده عن ابن عباس، قال: «لما نزلت "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" وضع (ص) يده على صدره، فقال: أنا المنذر ولكل قوم هاد، وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي»([36]).

      وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (7 / 2225 برقم 12152) بسنده عن علي (عليه السلام)، لكل قوم هاد قال: «الهاد رجل من بني هاشم». قال ابن أبي حاتم: قال ابن الجنيد: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ([37]).

      وأخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه (3 / 130) بسنده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" قال علي: «رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر وأنا الهادي». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

      5.﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.

      فالله كتب على نفسه الرحمة، واستخلاف خليفة يقيم حدود الله من الرحمة. وهذا الاستدلال القرآني أيضاً قد بيّناه عقلاً فيما تقدم.
      ثانياً: الروايات في خليفة الله المهدي:

      وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن المهدي خليفة الله، وهذا أمر لا خلاف فيه عند الشيعة والمروي فيه كثير، وأصل المذهب الشيعي أن الأرض لا تخلو من الحجة (خليفة الله).

      أما في كتب السنة فأيضاً هذا الأمر مروي بوضوح وبالتالي فهو يلزمهم:

      سنن ابن ماجة: «حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف، قالا: حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتتل عند كنزكم ثلاثة. كلهم ابن خليفة. ثم لا يصير إلى واحد منهم. ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق. فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم". ثم ذكر شيئاً لا أحفظه. فقال «فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج. فإنه خليفة الله، المهدي»([38]).

      وأخرجه الحاكم في المستدرك بسند آخر عن سفيان الثوري: «أخبرنا أبو عبد الله الصفار ثنا محمد بن إبراهيم بن أرومة ثنا الحسين بن حفص ثنا سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقاتلونكم قتالاً لم يقاتله قوم ثم ذكر شيئاً فقال إذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين»([39]).

      المستدرك على الصحيحين، للحاكم: «أخبرنا الحسين بن يعقوب بن يوسف العدل ثنا يحيى بن أبي طالب ثنا عبد الوهاب بن عطاء أنبأ خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فاتوها ولو حبوا فإن فيها خليفة الله المهدي. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»([40]).

      وفي مسند أحمد بن حنبل: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا وكيع عن شريك عن علي بن زيد عن أبي قلابة عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فائتوها فإن فيها خليفة الله المهدي»([41]).

      وفي القول المسدد لابن حجر: «عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبلت الرايات السود من خراسان فائتوها فإن فيها خليفة الله المهدي»([42]).

      وأخرج أبو نعيم الأصبهاني في (الأربعين حديثاً في المهدي) : «الحديث السادس عشر، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يخرج المهدي وعلى رأسه عمامة، فيها مناد ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتّبعوه»([43]).

      النتيجة من القرآن والسنة النبوية:

      أول يوم للبشر على هذه الأرض كان هناك خليفة منصب، وهو آدم (عليه السلام) وداود الذي جاء بعد آدم بسنين طويلة أيضاً ذكر في القرآن أنه خليفة الله، بل الحقيقة لا أعتقد أن مؤمناً بالأنبياء (عليهم السلام) يعترض على كونهم خلفاء الله في أرضه كآدم (عليه السلام)، والمهدي الذي يقع في الختام أيضاً خليفة الله في أرضه.

      إذن لو تصورنا دين الله كتاباً: وفتحنا أول صفحة فيه فوجدنا مكتوباً فيها آدم خليفة الله، وفتحنا صفحة في وسطه ووجدنا داود خليفة الله، وفتحنا صفحة في آخره فوجدنا المهدي خليفة الله، ماذا يمكن أن نفهم من هذا الكتاب الذي أوله ووسطه وآخره خليفة الله؟ وعن ماذا يتكلم هذا الكتاب؟ أليس من الواضح أن الكتاب كله عن خليفة الله؟ أليس من الواضح الآن أن تنصيب خليفة الله سنة إلهية مستمرة في هذه الأرض؟ وسنة الله لا تتبدل ولا تتغير، ولا يمكن أن يخلو زمان من خليفة الله في أرضه، أليس من الواضح تماماً الآن لمن يطلب الحق أن دين الله هو خليفة الله ؟ كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) :

      «إن الدين وأصل الدين هو رجل وذلك الرجل هو اليقين وهو الإيمان وهو إمام أمته وأهل زمانه فمن عرفه عرف الله ومن انكره انكر الله ودينه ومن جهله جهل الله ودينه ولا يعرف الله ودينه وشرايعه بغير ذلك الإمام كذلك جرى بان معرفة الرجال دين الله والمعرفة على وجهه معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين الله ويوصل بها إلى معرفة الله» ([44]).

      وقد روى السنة في صحيح مسلم، قال رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) :

      «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»([45]).

      وواضح أنّ البيعة إنما تكون لإمام وخليفة، فيكون معنى الحديث؛ من لم يبايع خليفة أو إماماً مات ميتة جاهلية. ومعنى هذا لا ينفعه صوم ولا صلاة ولا عبادة ولا حتى إيمانه بمحمد رسول الله إن لم تكن في عنقه بيعة لرجل معين بعينه. فأصبح الدين يدور حول بيعة رجل وطاعة رجل في كل زمان بحسب صحيح مسلم؛ لأن هذا الحديث موجه لكل فرد مسلم إلى يوم القيامة أنّ عليه مبايعة رجل بعينه أو يموت ميتة جاهلية، وبما أن الولاية لله والحاكمية على الخلق لله سبحانه بالأصل ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾[طه: 114]، ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[المؤمنون: 116]، فنقل الملك والحكم لغيره واستخلافه يحتاج لدليل قطعي تشخيصي، لذا وجب البحث عمن نقلت له الولاية ونصبه الله خليفة وإماماً لمبايعته وتجنب الميتة الجاهلية. أما تنصيب أيٍّ كان من نفسه أو من الناس أيٍّ كانوا فلا يعدو كونه فضولاً وتطفلاً واعتداء على ملك الله وحاكميته دون إذن منه. وبهذا يبطل أي مذهب يقول بنصب واستخلاف غير المنصب من الله ومبايعته وفرض الطاعة له.

      أما اعتبار نفس الحديث أعلاه دليلاً على وجوب بيعة وطاعة غير المنصب، وأن الإنسان بدونها يموت ميتة جاهلية، فهذا دون إثباته خرط القتاد.

      بل الحديث نفسه دال على أن الطاعة والخلافة لا تكون إلا لمنصب ومستخلف من الله، فالحديث أولاً وقبل كل شيء وبحسب واقع الحال الذي قيل فيه يشمل زمن رسول الله محمد، وكانت البيعة للرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في زمانه وهو منصب من الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً..... لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾[الفتح: 10 - 18]، والمبايع له هنا منصوب من الله سبحانه وتعالى فمن أراد تغيير شروط المبايع له وحاله عن الأصل عليه أن يأتي بالدليل القطعي، والسنة قد بدلوا وغيروا شروط المبايع له دون دليل، أما من بقي على الأصل فدليله أنه باقٍ على الأصل الذي قيل فيه الحديث، وهو أن البيعة لمنصب، كما كانت لأول من شمله الحديث وهو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) المنصب من الله. وهذا ما نقوله وهو فصل الخطاب.
      ثالثاً: ما نقل في العهد القديم "التوراة":

      نجد نفس السنة الإلهية التي رواها القرآن ودين الإسلام ماثلة بوضوح في العهد القديم، وهذه بعض النصوص كمثال:

      «وقال الرب لموسى هوذا أيامك قد قربت لكي تموت. أدع يشوع وقفا في خيمة الاجتماع لكي أوصيه. فانطلق موسى ويشوع ووقفا في خيمة الاجتماع 15 فتراءى الرب في الخيمة في عمود سحاب ووقف عمود السحاب على باب الخيمة»([46]).

      والكلام واضح في أنّ )يشوع( أو )يوشع( هو وصي موسى (عليه السلام).

      «1 وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته 2 فقال. جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلالا من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم. 3 فأحب الشعب. جميع قديسيه في يدك وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك»([47]).

      والنص يذكر موسى وعيسى ومحمداً. ويمكن مراجعة ما بيّنته في تفسير نص دعاء السمات.

      «وقال الملك داود ادع لي صادوق الكاهن وناثان النبي وبناياهو بن يهوياداع. فدخلوا إلى أمام الملك. 33 فقال الملك لهم خذوا معكم عبيد سيدكم وأركبوا سليمان ابني على البغلة التي لي وانزلوا به إلى جيحون 34 وليمسحه هناك صادوق الكاهن وناثان النبي ملكا على إسرائيل واضربوا بالبوق وقولوا ليجي الملك سليمان. 35 وتصعدون وراءه فيأتي ويجلس على كرسيي وهو يملك عوضا عني وإياه قد أوصيت أن يكون رئيسا على إسرائيل ويهوذا. 36 فأجاب بناياهو بن يهوياداع الملك وقال آمين. هكذا يقول الرب إله سيدي الملك. 37 كما كان الرب مع سيدي الملك كذلك ليكن مع سليمان ويجعل كرسيه أعظم من كرسي سيدي الملك داود»([48]).

      «1 ولما قربت أيام وفاة داود أوصى سليمان ابنه قائلا 2 أنا ذاهب في طريق الأرض كلها. فتشدد وكن رجلا. 3 إحفظ شعائر الرب إلهك إذ تسير في طرقه وتحفظ فرائضه وصاياه وأحكامه وشهاداته كما هو مكتوب في شريعة موسى لكي تفلح في كل ما تفعل وحيثما توجهت. 4 لكي يقيم الرب كلامه الذي تكلم به عني قائلاً إذا حفظ بنوك طريقهم وسلكوا أمامي بالأمانة من كل قلوبهم وكل أنفسهم قال لا يعدم لك رجل عن كرسي إسرائيل»([49]).

      والنصان أعلاه واضح فيهما أنّ نبي الله الملك سليمان (عليه السلام) هو وصي نبي الله الملك داود (عليه السلام) والذي أوصى بسليمان بأمر الله سبحانه وتعالى.
      رابعاً: ما نقل في العهد الجديد "الإنجيل"

      «21: 15 فبعدما تغدوا قال يسوع لسمعان بطرس يا سمعان بن يونا أتحبني اكثر من هؤلاء قال نعم يا رب أنت تعلم اني احبك قال له ارع خرافي 21: 16 قال له أيضاً ثانية يا سمعان بن يونا أتحبني قال له نعم يا رب أنت تعلم اني احبك قال له ارع غنمي

      21: 17 قال له ثالثة يا سمعان بن يونا أتحبني فحزن بطرس لأنه قال له ثالثة أتحبني فقال له يا رب أنت تعلم كل شيء أنت تعرف اني احبك قال له يسوع ارع غنمي» ([50]).

      واضح أن سمعان بطرس (شمعون الصفا) هو الوصي بعد عيسى (عليه السلام)([51])، فعيسى (عليه السلام) أو يسوع ليس لديه خراف أو غنم، وإنما المقصود رعيته والمؤمنين به.
      الاستخلاف سنة دائمة لم تتخلف في الواقع:

      الله سبحانه هو مالك الأرض ومن عليها، وله الحاكمية المطلقة في ملكه. ولكي تنتقل الحاكمية في ملكه لغيره لابد من أن يستخلف شخصاً بعينه ويدل عليه، فمن تطفل ونصب نفسه أو غيره، يكون غاصباً لخلافة الله وظالماً ومعتدياً على ملك الله دون إذنه، ونحن نجد - سنة الله - أنه قد نصب فيما مضى قبل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) خلفاء له في أرضه، ونصب رسول الله محمداً (صلى الله عليه وآله)، وحتماً لم يترك الله الناس دون نصب خليفة لهم بعد رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، كما نص سبحانه وتعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[الرعد: 7].

      أما من يقول بتخلّف السنّة الإلهية بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، فعليه نقض الاستدلال على أنّ الملك لله ولا يجوز ركوبه إلا بإذنه وبنص تشخيصي، ثم الإتيان بالدليل القطعي على تخلف السنة الإلهية التي دامت طيلة مسيرة الدين الإلهي من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله).
      الحاكمية لله تشريعاً وتنفيذاً:

      تبيّن ممّا تقدم أنّ خلافة الله في أرضه هي العقيدة الحقة، وأن الله يرسل خلفاءه في كل زمان، سواء كانوا ظاهرين معلنين ينصرهم بعض الناس عند وجود القابل، أو مستورين غير معلنين (مجمّدين) عند عدم وجود القابل، فبهم تقام الحجة على الناس ويقطع عذرهم، (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)، وهم يحققون العلة من الخلق وهي المعرفة، وأيضاً بهم تمضى إرادة الله في ملكه؛ لأنهم السبيل الوحيد لذلك، فغيرهم عاجزون عن معرفة إرادته فكيف يمضونها في ملكه.

      وهنا يجب الالتفات إلى أنّ هذه العقيدة الحقة التي بيّناها فيما تقدم موافقة للأصل الذي يدركه أي مؤمن عاقل، وهو أن المالك الحقيقي للأرض ومن فيها هو الله وليس لأحد ولاية في ملك الله بدون إذنه سبحانه، بينما الاعتقاد بحاكمية الناس تشريعاً أو تنفيذاً أو حتى القول بإمكان تخلف الاستخلاف يعني أن هناك ولاية لغيره سبحانه وتعالى في ملكه بدون إذنه، وهو باطل بداهة بل والاعتقاد بهذا يصل إلى حد إبطال لاهوته المطلق.

      وبهذا يُردّ قول أهل السنة وغيرهم إن التنصيب بيد الناس (بالشورى أو بيعة أهل الحل والعقد أو الغلبة أو غيرها من وسائل).

      فالأرض ومن عليها والسماوات بما فيها خلقها الله وهو مالكها بما فيها. فالملك ملك الله، والثابت بداهة أن التصرف في الملك لمالكه الحقيقي، وليس لأي أحد أن يتصرف بملك غيره بغير إذنه، فنقل أهل السنة حق التصرف بملك الله إلى الناس وجعل الحاكمية بملكه سبحانه للناس وأنهم لهم حق تنصيب من يشاءون حاكماً في ملك الله بدون دليل قطعي هو عملية اغتصاب لحق الله وتجاوز على الله سبحانه، ولا مخرج لهم إلا بالإقرار بأنّ الحاكمية لله والتنصيب بيد الله سبحانه. وبهذا يثبت أن الحق مع آل محمد (عليهم السلام) أو أن يأتي منظرو السنة بدليل قطعي بأن الله قد أذن للناس في تنصيب من يشاءون، وهذا غير موجود. فالعقائد تؤخذ بالأدلة القطعية وليس لديهم دليل قطعي على قولهم.

      ولا بأس من بيان الأمر بصورة أخرى:

      الأصل في الولاية على الناس أنها لله، والاستخلاف فرع عن هذا الأصل، فالخليفة ولايته فرع ولاية الله، ولا يحق لأحد أن ينقل ولاية الله لغيره إلا بدليل شرعي قطعي.

      فالأصل أنّ الولاية ثابتة لله على الناس، وليس لإنسان على إنسان ولاية إلا بدليل قطعي. فأما أن يقولوا إنّ الحاكم - أو أيٍّ كان من خلفائهم - ليس له ولاية على الناس فينتقض حكمه ويبطل، أو أن يقولوا إنّ له ولاية على الناس كحال المنصب من الله فعليهم أن يأتوا بدليل قطعي ونص تشخيصي إلهي لكل فرد يدعون له الخلافة والولاية على الناس.
      أزمنة الفترات:

      المكلّفون الذين يواجهون أي مرسل (خليفة) سبقته فترة ليسوا مكلفين بمعرفة حال الناس السابقين في زمن الفترة التي تسبق الخليفة المرسل، وإلى أين مآلهم، وهل ذهبوا للجنة أم للنار، وما كان يجب عليهم أن يعملوا؛ لأنه زمن قد انتهى، وهم قوم قد ماتوا وانقضى زمن تكليفهم، وتكليف من يواجهون المرسل هو البحث في دليله والإيمان به لا الانشغال بالسؤال عن حال من سبقوهم ومآلهم، وما كان عليهم أن يعملوا، وهل كانوا مقصرين أم لا، وهل تقصيرهم أدى بهم إلى النار والعياذ بالله أم لا.

      ولهذا قال تعالى في جواب فرعون على لسان موسى (عليه السلام) : (عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي).

      ففرعون ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾[طه: 51].

      وجواب موسى (عليه السلام) الإلهي: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾[طه: 52].

      والجواب الإلهي لفرعون على لسان موسى (عليه السلام) معناه: لا تسأل عن القرون الأولى بقصد استخفاف قومك بهذا الإشكال؛ لأن السؤال عنها لا علاقة له بالموضوع المطروح، وهو صحة بعثة موسى (عليه السلام)، وبطلان عقيدة فرعون وقومه الآن.

      إنّ السؤال "فما بال القرون الأولى"، أو "ماذا كان على الناس أن تفعل قبل بعثك أيها المرسل"؟ هو سؤال أو إشكال كان دائماً علماء الضلال يستخدمونه لتبرير منهجهم الباطل؛ بأن الأمر محصور بمنهجهم لا غير، حيث يدَّعون أنه لا يوجد بديل إلهي قبل بعث المرسل !

      ولو كان هناك خطأ فلماذا لم يرسل الله قبلك مرسلين لإصلاح هذا الخطأ والضلال؟!

      لماذا تأخّر الإصلاح كل هذه الفترة، وما ذنب السابقين؟

      وهكذا واجه الأحناف واليهود والمسيحيون محمداً (صلى الله عليه وآله) بنفس الإشكال وهو: إذا كان منهج مرجعية العلماء باطل فأين البديل الإلهي في الأزمنة السابقة؟ لماذا لم يرسل قبلك كل هذه الفترة الطويلة، لماذا الفترة ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾ [المائدة: 19]؟ لماذا لم ينذر الآباء، وتركوا في غفلتهم وباطلهم لو كانوا على باطل أو يتبعون منهجاً مبتدعاً باطلاً لا يرضاه الله؟ ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾[يس: 6].

      ونفس الإشكالات تتجدد الآن.

      إذن، والحال هذه فلا بأس من بيان معنى الفترة وعلّتها (سببها)، وحال الناس السابقين على إرسال الرسول في أزمان الفترات.

      الفترة: هي زمن لا يكون فيه رسول مرسل مأمور بتبليغ الناس برسالته، ففي زمن الفترة يمكن أن يكون الرسول موجوداً منصباً وقد هيأه الله بالعلم، ولكن لعدم وجود القابل لا يأمره الله بالتبليغ، ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ... وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 6، 10]. فليس من الحكمة التبليغ والحال إنه لا يوجد قابل ولا نتيجة مرجوّة من التبليغ، ووجود الرسول والحال هذه موافق للحكمة؛ لأن فيه إقامة الحجة على الناس، ولا يكون للناس حجة مع وجود الرسول، فيكون هذا الزمان هو زمان فترة يوجد فيه رسول وهو خليفة الله في أرضه وحجته على عباده، أو من نصبه - في زمن غيبته أو رفعِه ([52]) - ولكن لا يؤمر بالتبليغ وإنْ كانت الفترة طويلة كان فيها أكثر من رسول، ولزمن الفترة أشار تعالى بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[المائدة: 19].

      وكلمة "فترة" في الآية لا تعني الانقطاع التام، بل تعني الضعف والفتور، أي أنّ الرسل في زمن الفترة موجودون، ولكن هناك فترة وسكون في مهمتهم الرسالية، يتمثل في عدم تكليفهم بتبليغ الرسالة الإلهية التي تتمثل على أقل تقدير في أنّ هؤلاء الرسل هم حجة على بقية الناس والكاشفين عن إرادة الله سبحانه وتعالى، وسبب وعلة عدم تكليفهم بالتبليغ إضافة إلى عدم وجود القابل هو أيضاً الرحمة بالناس، فحمْل المؤمنين بالحق كثيراً من الباطل واعتقادهم ببعض الباطل، وكونهم للأسف مقصرين في استقبال المرسل من الغيب؛ هذا لا يعني أنهم حتماً يخلدون في النار، بل إنّ مقتضى رحمة الله فيما سبق هو بما أنه لا يوجد قابل فقد رحمهم الله ولم يجعل الرسول المهيأ يبلغهم ويعلن دعوته لجميع الناس؛ لأنه لو بلغهم ولم يقبلوه ستكون نتيجتهم أنهم يستحقون جهنم، ولهذا تركهم الله لرحمته ولم يأمر بتبليغهم وكانوا بهذا مرجون لأمر الله في زمن الفترة.

      ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 106].

      أي أن سبب وعلة الفترة هي عدم وجود القابل، وأيضاً لكون الفترة تمثل رحمة للناس.

      ونجده سبحانه وتعالى بيّن بوضوح تام مسألة الفترة وحال الناس فيها، ولماذا لم يرسل لهم، وما سيكون حالهم لو أنه سبحانه أرسل لهم، ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 6 - 12].

      والآيات كما تبيّن الفترة وعلتها وهو عدم وجود القابل ﴿وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، تبين أيضاً بوضوح أنّ سبب إرسال الرسول ليبلغ الناس وينذرهم بعد الفترة السابقة هو وجود القابل الآن ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾، وفي كلا الحالين كان الحاكم على الإرسال والتبليغ من عدمه هو الرحمة الإلهية المطلقة وعلمه سبحانه بحال عباده، ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾. ولهذا فمقتضى الرحمة كان أنْ لا يأمر المرسل بالإنذار والتبليغ عندما لم يكن هناك قابل، فيترك عباده لرحمته مرجون لأمره، بينما يرسل من ينذر ويبلغ عندما جاء القابل ليكسب أولياؤه أعلى الدرجات وهم ينصرون رسله وأمره سبحانه وتعالى. وقد بيّن القرآن أنّ الرسل الذين بلغوا وأعلنوا دعواتهم هم مجتبون من عموم الرسل ([53])، ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران: 179].

      ومسـألة ترك الناس مرجون لأمر الله لم تقتصر على زمن الفترة الذي لا يعلن فيه المرسل رسالته للناس، بل أيضاً قد تكون في أزمان يعلن فيه المرسل رسالته لبعض الناس، ولكن لا يعلنها لبعضهم لمصلحة أو فائدة أعظم كالتقية أو الحفاظ على حياتهم أو لأيِّ أمرٍ يريده الله.

      وهذا الأمر كان حتى مع بعض أبناء الأئمة ([54]).
      نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

      Comment

      • ya howa
        مشرف
        • 08-05-2011
        • 1106

        #4
        رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

        وأدناه رواية ([55])، هي عبارة عن نقاش بين زيد بن علي وبين مؤمن الطاق وبإقرار الإمام الصادق (عليه السلام) لمؤمن الطاق أنّ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ترك ابنه زيداً مرجواً لأمر الله وله فيه الشفاعة:

        «عن مؤمن الطاق واسمه محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر الأحول، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل زيد بن علي فقال لي: يا محمد بن علي أنت الذي تزعم أن في آل محمد إماماً مفترض الطاعة معروفاً بعينه ؟ قال: قلت: نعم كان أبوك أحدهم. قال: ويحك فما كان يمنعه من أن يقول لي فو الله لقد كان يؤتى بالطعام الحار فيقعدني على فخذه ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها، أ فتراه كان يشفق على من حر الطعام ولا يشفق على من حر النار ؟ قال: قلت: كره أن يقول لك فتكفر فيجب من الله عليك الوعيد ولا يكون له فيك شفاعة، فتركك مرجئ لله فيك المشيئة و له فيك الشفاعة»([56]).

        وعن مؤمن الطاق قال:

        «قال زيد بن علي: يا محمد بن علي بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إماماً مفترض الطاعة. قال: قلت: نعم وكان أبوك علي بن الحسين أحدهم. فقال وكيف وقد كان يؤتى بلقمة وهي حارة فيبردها بيده ثم يلقمنيها، أفترى أنه كان يشفق على من حر اللقمة ولا يشفق على من حر النار ؟ قال: قلت له: كره أن يخبرك فتكفر فلا يكون له فيك الشفاعة ولا لله فيك المشيئة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أخذته من بين يديه ومن خلفه فما تركت له مخرجاً»([57]).

        وفي الكافي:

        «عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبَانٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الأَحْوَلُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بَعَثَ إِلَيْه وهُوَ مُسْتَخْفٍ قَالَ فَأَتَيْتُه فَقَالَ لِي يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَا تَقُولُ إِنْ طَرَقَكَ طَارِقٌ مِنَّا أتَخْرُجُ مَعَه قَالَ فَقُلْتُ لَه إِنْ كَانَ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ خَرَجْتُ مَعَه قَالَ فَقَالَ لِي فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ أُجَاهِدُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَاخْرُجْ مَعِي قَالَ قُلْتُ لَا مَا أَفْعَلُ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ فَقَالَ لِي أتَرْغَبُ بِنَفْسِكَ عَنِّي قَالَ قُلْتُ لَه إِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَ لِلَّه فِي الأَرْضِ حُجَّةٌ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْكَ نَاجٍ والْخَارِجُ مَعَكَ هَالِكٌ وإِنْ لَا تَكُنْ لِلَّه حُجَّةٌ فِي الأَرْضِ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْكَ والْخَارِجُ مَعَكَ سَوَاءٌ قَالَ فَقَالَ لِي يَا أَبَا جَعْفَرٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَ أَبِي عَلَى الْخِوَانِ فَيُلْقِمُنِي الْبَضْعَةَ السَّمِينَةَ ويُبَرِّدُ لِيَ اللُّقْمَةَ الْحَارَّةَ حَتَّى تَبْرُدَ شَفَقَةً عَلَيَّ ولَمْ يُشْفِقْ عَلَيَّ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِذاً أَخْبَرَكَ بِالدِّينِ ولَمْ يُخْبِرْنِي بِه فَقُلْتُ لَه جُعِلْتُ فِدَاكَ مِنْ شَفَقَتِه عَلَيْكَ مِنْ حَرِّ النَّارِ لَمْ يُخْبِرْكَ خَافَ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقْبَلَه فَتَدْخُلَ النَّارَ وأَخْبَرَنِي أَنَا فَإِنْ قَبِلْتُ نَجَوْتُ وإِنْ لَمْ أَقْبَلْ لَمْ يُبَالِ أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ ثُمَّ قُلْتُ لَه جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنْتُمْ أَفْضَلُ أَمِ الأَنْبِيَاءُ قَالَ بَلِ الأَنْبِيَاءُ قُلْتُ يَقُولُ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً لِمَ لَمْ يُخْبِرْهُمْ حَتَّى كَانُوا لَا يَكِيدُونَه ولَكِنْ كَتَمَهُمْ ذَلِكَ فَكَذَا أَبُوكَ كَتَمَكَ لأَنَّه خَافَ عَلَيْكَ قَالَ فَقَالَ أَمَا واللَّه لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ حَدَّثَنِي صَاحِبُكَ بِالْمَدِينَةِ أَنِّي أُقْتَلُ وأُصْلَبُ بِالْكُنَاسَةِ وإِنَّ عِنْدَه لَصَحِيفَةً فِيهَا قَتْلِي وصَلْبِي فَحَجَجْتُ فَحَدَّثْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) بِمَقَالَةِ زَيْدٍ ومَا قُلْتُ لَه فَقَالَ لِي أَخَذْتَه مِنْ بَيْنِ يَدَيْه ومِنْ خَلْفِه وعَنْ يَمِينِه وعَنْ شِمَالِه ومِنْ فَوْقِ رَأْسِه ومِنْ تَحْتِ قَدَمَيْه ولَمْ تَتْرُكْ لَه مَسْلَكاً يَسْلُكُه»([58]).
        الفترة قبل ظهور المهدي:
        الإمام مُنتظِر وليس مُنتظَر

        هذه هي الحقيقة التي يقرّها جميع من يؤمن بما روي عن محمد وآل محمد (عليهم السلام) بصورة أو بأخرى، على الأقل هم يقرّونها عندما يقولون إنّ الإمام ينتظر تهيؤ (313) رجلاً ليقوم، وإن لم يفقهوا هذا القول سابقاً وقبل هذا البيان، بل يقرّها كل من يقول إنّ هناك مختارين لنصرة المنقذ كما في الإنجيل ([59]).

        وبالتالي فالسؤال القديم الجديد ومحاولة تبرير الاستمرار على المنهج المنحرف ([60]) بالقول "فما بال القرون الأولى"، أو "ما حال من سبقونا، وكيف كان عليهم أن يعملوا في الدين"، مبني على مغالطة وهي أنهم يفترضون عدم تقصير القرون الأولى، وبالتالي فما كانوا عليه هو الحق كله والحقيقة المطلقة، وهذا غير صحيح كما تبيّن، وقد بيّنته مسألة ذُكرت في الروايات وهي أنّ الفرج متعلق من جهة بتهيؤ (313) رجلاً، أي أنّ هذه الروايات بيّنت أنّ الفترة التي تسبق القيام لا يوجد فيها (313) رجلاً مهيأين لاستقبال المهدي ([61])، أي لا يوجد قابل لخليفة الله في أرضه وللرسالة الإصلاحية التي يحملها. ولهذا حصلت الغيبة الكبرى ونزع الحجة من بين أظهرهم لتقصيرهم كما في الرواية ([62])، وتأخر مجيء المهدي الأول إلى هذا العالم الجسماني إلى حين تهيؤ القابل.

        وهذه رواية تبيّن بوضوح أنّ زمن الغيبة (ورفع الإمام المهدي عليه السلام) ما هو إلا زمن فترة كالفترة التي سبقت بعث رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، وكان عيسى (عليه السلام) فيها مرفوعاً أيضاً. بل وتبيّن بوضوح أنّ المهدي الذي يملأها عدلاً هو المهدي الأول الذي يبعث على فترة من الأئمة؛ وذلك لأن الإمام المهدي محمد بن الحسن (عليه السلام) لم يبعث على فترة من الأئمة، بل كان بعثه وإرساله وإعلان رسالته مباشرة بعد شهادة والده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) :

        النعماني: «حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن أحمد ابن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن جعفر بن القاسم، عن محمد بن الوليد الخزاز، عن الوليد بن عقبة، عن الحارث بن زياد، عن شعيب بن أبي حمزة، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: لا. فقلت: فولدك؟ فقال: لا. فقلت: فولد ولدك؟ فقال: لا. قلت: فولد ولد ولدك؟ قال: لا. قلت: فمن هو؟ قال: الذي يملأها عدلا كما ملئت ظلما وجورا لعلى فترة من الأئمة يأتي كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث على فترة من الرسل»([63]).

        أما بالنسبة لمن يقولون بأنّ المهدي هو فقط الذي يولد في آخر الزمان، ولا يقولون بالإمام المهدي محمد بن الحسن (عليه السلام) وبالغيبة، فيطَّرد معهم السبب السابق أيضاً، وهو أنّ تأخير ولادته إلى آخر الزمان إنما سببه عدم وجود القابل في الزمان السابق، وإلا فلو كان هناك قابل لخلقه الله في هذا العالم الجسماني قبل ذلك وبعثه لينشر العدل والقسط وإعادة سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضّة طرية كما بشر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل حتى لو اقتصروا مهمة المهدي - رغم أنه خليفة الله عند السنة ([64]) - على إقامة الخلافة الراشدة سيطرد معهم السبب السابق؛ حيث إنّ الخلافة الراشدة عندهم انتهت بخلافة علي (عليه السلام) أو الحسن (عليه السلام) قبل أكثر من ألف عام، فلِمَ كل هذا التأخير بظهور خليفة الله المهدي إنْ لم يكن الأمر متعلقاً بالقابل كما بيّنته.

        ممّا تقدّم:

        يتبيّن بوضوح أنّ الزمن الذي يكون بين رفع الإمام المهدي محمد بن الحسن (عليه السلام) وبعث المهدي الأول أو اليماني هو زمن فترة كالزمن الذي كان بين رفع عيسى (عليه السلام) وبعث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ([65]). وعلة الفترة كما بيّنت عدم وجود القابل، ولشدة رحمة الله بالناس فقد تركهم مرجون لأمره لتشملهم رحمته.

        أيضاً: تبيّن بوضوح وجلاء علة الغيبة بل وعلة تأخّر ولادة المهدي الأول وخلقه في هذا العالم الجسماني.

        وأيضاً: فيه جواب على شبهة أنّ غياب الحجة أو رفعه مع حاجة الناس إليه مخالف للعدل والحكمة الإلهية كما يدّعي الوهابيون أو من يسمون أنفسهم السلفية.

        وأيضاً: فيه بيان لمعنى ما ورد في أنّ كل راية قبل القائم هي راية طاغوت ([66])، ذلك لأنها رايات في زمن الفترة التي تسبق الظهور، وبالتالي فهي رايات تحمل بعض الباطل وإن خلطته ببعض الحق.

        إذن، فالإمام المهدي في الحقيقة مُغيَّب مرفوض لعدم وجود القابل، عن أبى جعفر (عليه السلام) :

        «إنّ الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم»([67]).

        فلا أحد يستطيع إنكار عدم وجود القابل في زمن الغيبة أو الزمن الذي يسبق القيام وإقامة العدل في الأرض؛ لأنّ القابل كحد أدنى كما هو واضح في الروايات هم (313). إذن، فالقابل غير موجود ([68]) طيلة فترة الغيبة، والإمام مُغيّب وليس غائباً.
        آية إكمال الدين:

        قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[المائدة: 3].

        الذي اكتملَ بحسبِ هذه الآيةِ هو الدينُ، والدينُ هو الشريعةُ والعقيدةُ، والقولُ بعدمِ اكتمالِ أحدِهما يتعارضُ مع ظاهرِ الآيةِ. كما أنَّ عدمَ اكتمالِ أيٍّ منهما في واقعِ حالِ وفي أطروحةِ أيِّ طائفةٍ إسلاميةٍ يعني أنَّ هذه الطائفةَ غيرُ محقةٍ؛ لأنَّ واقعَ حالِها يخالفُ ظاهراً قرآنياً جلياً.

        السلفيون أو الوهابيون والسنةُ عموماً يشرّعون بالأمسِ واليوم دونَ وجودِ نصِّ عن المعصومِ في مسائلَ كثيرةٍ؛ من المستجداتِ الحياتيةِ التي تتطلّبُ حكماً شرعياً تعبدياً، وكمثالٍ: الصلاة في المناطقِ القريبةِ من القطب، وبالتالي فواقعُ حالِهم يقولُ: إنَّ الدينَ عندهم غيرُ مكتملٍ، ولهذا اضطرُّوا للتشريعِ بالآراءِ عند فقدِ النص، كما أنهم أيضاً مختلفونَ فيما بينهم في العقيدةِ اختلافاً كبيراً، فالسلفيون أو الوهابيون مثلاً يعتقدونَ بأنَّ لله عينينِ ويدينِ وأصابعَ على الحقيقةِ، والأشاعرة كالأزهر لا يعتقدونَ بهذا، بل يعتقدونَ بفسادِ العقائدِ السلفيةِ الوهابية.

        أمّا آلُ محمدٍ (صلى الله عليه وآله) فاكتمالُ الدينِ عندهُم بتنصيبِ خليفةِ الله؛ حيثُ إنّه (صلى الله عليه وآله) مَنْ يتكفّلُ بيانَ العقيدةِ الحقّةِ والتشريعِ بأمرِ اللهِ، وبالتالي لا توجدُ ثغرةٌ ولا تناقضٌ بينَ هذهِ العقيدةِ وبينَ ظاهرِ آيةِ إكمالِ الدين، فالدينُ يكتملُ بتنصيبِ الناطقِ عن اللهِ أو خليفةِ اللهِ بعدَ رسولِ اللهِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، وبهذا يكونُ الدينُ عقيدةً وتشريعاً قد اكتمل، فلا توجدُ ثغرةٌ في هكذا دين يسدُّها فقهاءٌ غيرُ معصومين بآرائِهم وأهوائِهم كما هو الحالُ في الاعتقادِ السنّيِ المتعارضِ مع ظاهرِ الآيةِ.

        أمّا مسألةُ غيبةِ المعصومِ فنحنُ نقولُ: إنَّ غيابَ المعصومِ هو عبارةٌ عن عمليةِ تغييبٍ لهُ نتيجة عدمِ وجودِ القابلِ لهُ ولمشروعِهِ الإلهي كما هو، لا كما يفترضهُ ويتوهّمهُ المنتظرونَ المفتَرضونَ، وبالتالي فلا تعارضَ بينَ هذهِ العقيدةِ وبينَ ظاهرِ آيةِ إكمال الدين.

        نعم، التعارضُ مع آيةِ إكمالِ الدين يكونُ في ساحةِ مَنْ يعتقدونَ أنَّ المعصومَ غابَ وتركَ التشريعَ ليتبرّعَ فقهاءٌ غيرُ معصومين ويشرّعوا في دينِ اللهِ أو في المستجداتِ بآرائِهم، ثم ليزيدوا الطينَ بلّةً ويفرضوا على المؤمنينَ عقيدةَ وجوبِ تقليدِ غيرِ المعصوم والنيابةَ عن المعصوم.

        والحقيقةُ، إنهُ لا سبيلَ للتوافقِ مع ظاهرِ آيةِ إكمالِ الدينِ بغير ما نقولُ ونعتقدُ من أنَّ إكمالَ الدينِ إنّما صارَ بتنصيبِ خلفاءِ اللهِ بعد رسولِ اللِه محمدٍ (صلى الله عليه وآله) والذينَ يشرّعونَ - ويوصلونَ التشريعَ من اللهِ - للناسِ، وأنَّ الإمامَ مُغيّبٌ لعدمِ وجودِ القابلِ، وأنَّ الزمانَ السابقَ لظهورِ المهديِّ الأولِ المذكورِ في وصيةِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) هو زمانُ فترةٍ، وأنَّ الناسَ فيهِ مرجَونَ لأمرِ اللهِ وغيرُ مستحقينَ للثوابِ، وإنّما يُثابونَ برحمةِ اللهِ سبحانَه.

        فالآيةُ تثبتُ بطلانَ كلِّ منهجٍ يقولُ بجوازِ خلوِّ الزمانِ من خليفةِ اللهِ (كالمنهج السنّي أو السلفي الوهابي). وأيضاً: تثبتُ بطلانَ كلِّ منهجٍ يقولُ بغيابٍ للمعصومِ دونَ تقصيرِ الأمةِ وعدمِ وجودِ القابلِ. فالآيةُ تتعارضُ مع هذه المناهجِ في الصميمِ؛ حيث إنَّ الدينَ عندهم وبحسبِ واقعِهم العملي - غيرُ مكتملٍ إلهياً بخليفةٍ إلهيٍّ منصبٍ من اللهِ أو مِن مَنْ نصّبهُ للتواصلِ مع الناسِ كالسفراءِ، وإنّما يُكملهُ فقهاءٌ غير معصومين تبرّعاً وتطفّلاً في فترةٍ ما، ليُشرّعوا بالظنِ وينتجوا أحكاماً هم يقولونَ إنها ليستْ حُكمَ اللهِ الواقعي، وبالتالي فهم أنفسُهم يُقرّونَ أنَّ الدينَ عندهم وبحسبِ أطروحتهم ناقصٌ وغيرُ مكتملٍ، وبالتالي فهم يقرّونَ من حيثُ لا يعلمونَ أنَّ أطروحتَهم العقائدية تتعارضُ مع آيةِ إكمالِ الدين.

        ويجبُ الالتفاتُ إلى أمرٍ في غايةِ الأهميةِ وهو: إنَّ كلا المنهجينِ يرميانِ التقصيرَ في ساحةِ اللهِ وساحةِ خليفةِ اللهِ أو المعصوم؛ حيث يفترضانِ أنَّ اللهَ تركَ الدينَ لهم ليشرّعوا في كلِّ ما يستجدُ ويحتاجُ إلى حكمٍ شرعيٍّ، فبدلاً من أن يقرّوا هم بالتقصيرِ كونهُم رافضينَ لخليفةِ اللهِ المنصبِ (أو من ينوبُ عنهُ) يفترضونَ أنَّ اللهَ تركَ الدينَ لأشخاصٍ غيرِ معصومينَ وغيرِ منصبينَ من المعصومِ ليُشرّعَ كلٌّ منهم برأيهِ وبدونِ أيِّ نصٍ شرعيٍّ، وهذا في الحقيقةِ طعنٌ صريحٌ بحكمةِ اللهِ أضافةً إلى أنهُ كما تقدم يتعارضُ مع قولِ اللهِ سبحانه من أنهُ أكملَ الدينَ.

        إذن، خلصنا في هذا المختصرِ إلى:

        إنَّ هناك منهجاً يفترضُ خلوَّ الأرضِ من الحجةِ ومثالُهُ: المنهجُ السني والسلفي، وهو منهجٌ واعتقادٌ يعارضُ ظاهرَ النصِ القرآني في مواضع؛ منها: آيةُ إكمالِ الدينِ كما تبيّن.

        أمّا المنهجُ الآخر فهو الذي يقرُّ بأنَّ الزمانَ لا يخلو من الحجةِ، ولكنهُ يقول بأنَّ الحجةَ يمكنُ أنْ يغيبَ مع وجودِ القابلِ دون أنْ ينصبَ وينصَّ على من يقومُ مقامَهُ بعينهِ ليقومَ هذا النائبَ بإيصالِ حكمِ اللهِ الواقعي، وبالتالي فمَن يسدُّ النقصَ في الدينِ هُمْ فقهاءٌ متبرعونَ من أنفسِهم وغيرُ منصبينَ من حجةِ اللهِ، وتعارضُ هذا المنهجِ مع آيةِ إكمالِ الدينِ واضحٌ، فبحسبِ واقعِ حالِهم أنَّ اللهُ لم يكملْ الدينَ، ولهذا فالحلُ عندهم أنْ يتبرّعَ فقهاءٌ غيرُ منصبينَ ولا منصوص عليهم بأعيانِهم لسدِّ النقصِ بأحكامِهم وفتاواهُم التي لا تمثّلَ حكمَ اللهِ الواقعي. والحقيقةُ إنّ هذا المنهجَ لا يفترقُ عن سابقِهِ كثيراً فكلاهُما يتعارضانِ مع آيةِ إكمال الدين.

        أما المنهجُ الثالثُ فهو ما طرحناهُ، وهو أنَّ الزمانَ لا يخلو من الحجةِ ولا يصحُّ أن يغيبَ الحجةُ ما لمْ ينصّبْ من ينوبُ عنه، وفي حالِ غابَ ولمْ ينصبْ من ينوبُ عنه علناً فتكونُ الأمةُ ككل مقصرةً ومنحرفةً عن الحقِ وليس فيها القابلُ للمنهجِ الإلهيّ الصحيحِ، وفي هذا الحال تقامُ الحجةُ بتعيينِ الرسولِ أو النائبِ ولكن لا يُطلبُ منه الإعلانُ والتواصلُ مع الناسِ لعدمِ وجودِ القابلِ لهُ، وفي هذا الحال تكونُ الأمةُ المؤمنةُ بخلفاءِ اللهِ في زمانِ فترةٍ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[المائدة: 19] ويكونُ حالُ أفرادِها أنهم مُرجَونَ لأمرِ الله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 106].

        كحالِ الأحنافِ قبلَ بعْثِ الرسولِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، وحالِ الشيعةِ قبلَ بعْثِ المهديِّ الأولِ المذكورِ في وصيةِ رسولِ اللهِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله).

        في كتابِ الغيبةِ للنعماني: «حدثنا محمدُ ابنُ يعقوبَ الكليني، قال: حدثنا محمدُ ابنُ يحيى، عن أحمدَ ابنِ إدريسَ، عن محمدِ بنِ أحمدَ، عن جعفرَ بنِ القاسمِ، عن محمدِ بنِ الوليدِ الخزازِ، عن الوليدِ بنِ عقبة، عن الحارثِ بنِ زيادِ، عن شعيبِ بنِ أبي حمزةِ، قال: دخلتُ على أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام) فقلتُ لهُ: أنتَ صاحبُ هذا الأمرِ؟ فقالَ: لا. فقلتُ: فولدُك؟ فقالَ: لا. فقلتُ: فولَدُ ولَدِك؟ فقالَ: لا. قلتُ: فولَدُ ولَدِ ولَدِك؟ قالَ: لا. قلتُ: فمنْ هو؟ قالَ: الذي يملأُها عدلاً كما مُلئتْ ظلماً وجوراً، لعلى فترةٍ من الأئمةِ يأتي كما أنَّ النبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) بُعثَ على فترةٍ من الرسل»([69]).

        فالخلاصةُ: إنهُ لا يوجدُ منهجٌ ينزّهُ ساحةَ اللهِ من التقصيرِ وكذلك يتطابقُ مع آيةِ إكمال الدين ولا يتعارضُ معها غيرَ المنهجِ الذي طرحناهُ وهو: أنَّ الزمانَ لا يخلو من حجةٍ ظاهرٍ متصلٍ بالأمةِ مباشرةً أو من خلالِ سفراءَ في حالِ وجودِ مانعٍ، أو حجةٍ غائبٍ غيرِ متصلٍ بالناسِ، وفي هذا الحالِ فالزمانُ هو زمانُ فترةٍ لعدمِ وجودِ قابلٍ، والمؤمنون فيهِ مقصّرونَ وحالُهم أنّهم مُرجَونَ لأمرِ الله.
        كيف يعرف خليفة الله في أرضه:

        الاستخلاف أمر حتمي كما تبيّن؛ لأن تركه مخالف للحكمة والعقل ومخالف للرحمة، وبما أنّ الإنسان هو الأكمل بين الخلق فتحتم أنْ يقع الاختيار على أحد أفراده. وقد أشار المُستَخلِف إلى أنّ الإنسان عبارة عن مشروع استخلاف، ومفطور ليكون خليفة الله ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، «الله خلق آدم على صورته»([70]). ورد في التوراة أو العهد القديم:

        «26 وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» ([71])،

        «فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه»([72]).

        فمن الحتمي إذن والحال هذه أن يقع اختيار الله لكل زمان على إنسان ليكون خليفة لله في أرضه، بل حتى الخليفة إذا اضطر للغياب فلابد له من استخلاف من يقوم مقامه لنفس العلة. فنحن هنا شخصنا الخليفة من بين المخلوقات عموماً، وحددنا نوعه وكونه إنسان لأنه خلق وفطر على صورة اللاهوت.

        يبقى أنْ نشخص الفرد في الخارج، وهنا نحتاج إلى قانون نميّز به الخليفة دائماً، وإلا فسينقض الغرض من الاستخلاف وهو هداية الناس وتعريفهم بالله سبحانه وتعالى وبأوامره وإرادته ونهيه، وبالتالي فنحن نحتاج لقانون مُعرِّف بالحجة وساري المفعول منذ أول يوم لبعثته إلى قيام الساعة وينتهي الامتحان في هذه الدنيا؛ لأن الناس مكلفون بالإيمان بخلفاء الله عند بعثهم وبعد بعثهم، ومعرفة الحق والعقيدة منهم ومن تراثهم والالتزام بما جاءوا به ما لم ينسخ من خليفة لاحق، وعلى أقل تقدير فالقانون لابد أن يكون ساري المفعول مدة من الزمن تمتد حتى انتهاء الفائدة والانتفاع من الرسالة التي بعث بها المرسل، فهي مثلاً بالنسبة لمحمد (صلى الله عليه وآله) ممتدة إلى اليوم.
        قانون معرفة الحجة وفقراته الثلاث:

        القانون الذي يوافق العقل والحكمة هو تماماً الفقرات الثلاث نفسها التي سقناها على أنها حتمية لإثبات تنصيب خليفة لله في أرضه، وأنها لابد أنْ تصدر من الحكيم والرحيم المطلق سبحانه، وهي تنصيب خليفة، وكونه أعلم، وأمر المكلفين بطاعته. ولكن هنا سنعرضها في مرحلة أخرى؛ وهي مرحلة العلاقة بين الخليفة والمكلفين، وكونها هي دليل الخليفة الذي يحتج به على المكلفين ([73]).
        أولاً: النص

        يمكن إثبات التنصيب للمكلفين بالنص، ونحن لما وجدنا ما وصلنا من تنصيب الله لخلفائه في أرضه دائماً بالنص؛ ثبت أنّ القانون الإلهي الثابت والسنة الإلهية في تنصيب خلفاء الله في أرضه هو النص من الله، أو من خليفة سابق مباشر أو غير مباشر، وسنة الله لا تتبدل ولا تتحول. قال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾[الإسراء: 77]، ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾[فاطر: 43]، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾[الأحزاب: 62]، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾[الفتح: 23]([74]).

        والأمر ابتدأ بالنص من الله سبحانه وتعالى مباشرة على الحجة الأول آدم (عليه السلام) لكونه أول الحجج، ثم تحوّل الأمر إلى النص من الحجة السابق على الحجة اللاحق، سواء كان مباشراً أم غير مباشر لوجود الحجة الذي بنصه ووصيته على من يأتي بعده دليل واضح على تشخيصه، والأمر الأول وهو نص الله على الحجة باقٍ ولم يرفع، بل بقي كدليل تشخيص لخليفة الله مع النص من الخليفة السابق.

        ولابد أن يكون النص من الله موافق للنص من الخليفة السابق، فمن يدّعي النص من الله (أو شهادة الله) بخلاف أو بدون النص من الخليفة السابق فهو كاذب. والنص من الخليفة السابق أكثر وضوحاً وظهوراً للناس من شهادة الله في الملكوت؛ لأنهم غافلون عن ملكوت الله ومنغمسون في المادة وأنسهم بها، فيطلبون نصاً يأتيهم من نفس عالمهم، وليس من عالم الملكوت الذي يجهلونه وهم عنه غافلون.

        والنص المباشر من الله سبحانه وتعالى يكون بالوحي، كما أوحى الله للملائكة خلافة آدم (عليه السلام). وطريق الوحي المبذول لكل الناس والذي يمكن أن يسمعه كل الناس هو الرؤيا، أما النص من الخليفة السابق فيكون بالوصية، سواء كان مباشراً أم غير مباشر للمنصوص عليه. ونحن سنتعرض للطرق الثلاثة للنص ونفصل عند الحاجة للتفصيل.
        الأول: النص من الله سبحانه وتعالى

        وهذا النص مهم وهو دليل، لأنه من الله سبحانه مباشرة، وحاضر في كل زمان ([75]) ولكل الناس ([76]).

        ولا يمكن أن يكون النص من الله مخالفاً للنص من الخليفة السابق عند وجوده؛ لأن كلاهما نص إلهي ([77])، فالرؤى (النص الإلهي) التي يمكن الاحتجاج بها هي الرؤى المتواترة التي يمتنع تواطؤ مدعي رؤيتها على الكذب، والموافقة للنص الإلهي الواصل من الخليفة السابق المباشر، أو النص التشخيصي من الخليفة غير المباشر، والموصوف بأنه عاصم من الضلال مثلاً.

        وهو عقلاً: موافق للحكمة والرحمة، فلا يتركه حكيم ورحيم مطلق ([78])، فنحن لما أثبتنا وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه حكيم مطلق ورحيم مطلق ولا نقص في ساحته، وأثبتنا حتمية الاستخلاف لموافقته الحكمة المطلقة والرحمة المطلقة، ثبت تبعاً لها أنّ الموافق للحكمة والرحمة المطلقة هو النص المباشر منه على خليفته طالما كان هناك سبيل لذلك. ولما كان طريق النص المباشر منه هو الوحي وطريق الوحي المفتوح بينه وبين كل خلقه من الناس هو الرؤيا الصادقة، ثبت أنه حتماً ينص على خليفته ويشهد له بالوحي لخلقه بالرؤيا الصادقة في النوم أو اليقظة، وإلا فلو ترك هذا الطريق للنص لكان مخالفاً للرحمة والحكمة المطلقة؛ حيث إنه ترك طريقاً به يتحقق الهدف من الخلق وهو المعرفة، فتنتقض ألوهيته المطلقة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

        ونقلاً:ثبت هذا الطريق بصورة واضحة وقطعية:

        فقد بيّنه تعالى في قصة تنصيب آدم (عليه السلام)، وهو أول خليفة لله في أرضه، فبهذا الطريق افتتح النص على خليفة الله في أرضه فأوحى الله للملائكة بأن آدم خليفته ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].

        وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب يوسف (عليه السلام)، فأوحى الله ليوسف (عليه السلام) بأنه خليفته في أرضه ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾[يوسف: 4]. وهنا الرؤيا كانت دليلاً تشخيصياً لخليفة الله في أرضه يوسف (عليه السلام). وكلام نبي الله يعقوب (عليه السلام) واضح في أنها دليل تشخيص لخليفة الله في أرضه يوسف، ولهذا حذّر يوسف من قص الرؤيا على أخوته لكي لا تتكرر مأساة هابيل عندما يسمع أخوة يوسف الرؤيا، ويعلمون أنه تم تشخيص يوسف (عليه السلام) خليفة الله في أرضه من بينهم ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[يوسف: 5].

        وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب موسى (عليه السلام)، فأوحى الله بالرؤيا لأم موسى - وهي من المكلفين - وشهد الله لها بأنّ موسى خليفة الله في أرضه ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[القصص: 7].

        وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب داود، فبيّن لداود بأنه خليفته في أرضه ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[صـ: 26].

        وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب عيسى، فأوحى الله للحواريين بأنّ عيسى (عليه السلام) خليفته ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾[المائدة: 111].

        هل يوجد وضوح أكثر من هذا الذي نراه جلياً في الآية لموضوع الرؤيا في دين الله؟! أليس واضح في الآية شهادة الله للحواريين بالوحي، وطريقا الوحي هما: الرؤيا في المنام، والرؤيا في اليقظة. هل يوجد وضوح أكثر من هذا؛ إنّ الرؤيا هي طريق شهادة الله لخليفته في أرضه عند عامة العباد الذين يطلبون شهادة الله. هل يوجد وضوح أكثر من هذا؛ إنّ الرؤيا هي طريق لنص الله على خليفته في أرضه، طريق يسمعه كل من يريد استماعه من الناس دون قيد أو شرط؟!

        وقد بيَّن تعالى هذا الأمر بوضوح لا لبس فيه في دعوة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، حيث عرض سبحانه وتعالى نفسه كشاهد لمحمد (صلى الله عليه وآله)، لكل من يطلب شهادته سبحانه فقال تعالى:

        ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾[النساء: 79].

        ﴿لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾[النساء: 166].

        ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[الرعد: 43].

        ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾[الإسراء: 96].

        ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[العنكبوت: 52].

        ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ [الفتح: 28].

        وهذه الشهادة وهذا النص مرافق للخليفة منذ اليوم الأول لإعلان دعوته، بل هو مرافق له قبل إعلان دعوته.

        فالله شهد لخلفائه عند المكلفين فيما مضى، ويعرض نفسه دائماً كشاهد لخلفائه عند المكلفين. فهي سنة الله إذن التي لا تتبدل ولا تتحول كما تبيّن، وكيف يمكن أن يشهد الله لخلقه بغير الوحي سواء المباشر أو بتوسط بعض خلقه من الأرواح والملائكة، وأي طريق للوحي مفتوح دائماً بين الله وكل المكلفين غير الرؤيا الصادقة من الله، أما من ينكر هذا الطريق للنص الإلهي وهو طريق الوحي بالرؤيا، فهو معلن لكفره ببعض القرآن، أو أنَّ عليه إيجاد طريق آخر يشهد به الله عند كل المكلفين. فالله يرد على من طلبوا الآيات أو المعجزات بأنه يكفيهم شهادة الله لو كانوا مؤمنين إيماناً حقيقياً بوجود الله سبحانه ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ..... قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[العنكبوت: 50، 52].

        إذن، تبيّن بوضوح من الآيات أنّ الله شهد لخلفائه عند المكلفين بالوحي بالرؤيا كرؤى حواريي عيسى، ورؤى أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله). وهذه سنّة الله فمن ينكرها ويدَّعي تبدّلها وتحوّلها عليه إقامة البينة والدليل ([79])، ومن يدَّعي عدم كفاية شهادة الله بالوحي بالرؤيا الصادقة عليه أنْ يجد معنى آخر لكلمة "كفى" التي تكررت في كل الآيات السابقة:

        ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾.

        ﴿(لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾.

        ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.

        ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾.

        ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

        ومعنى الآيات بيّن وهو: إنّ شهادة الله بالرؤيا في النوم واليقظة لعامة الناس الذين عرض الله نفسه لهم كشاهد لوحدها كافية لتشخيص خليفة الله في أرضه.

        إذن، بحسب ما تقدم فالرؤيا الصادقة والكشف الصادق التي يشهد فيها الله لخليفته في أرضه عند المكلفين نص من الله سبحانه، والإعراض عنها هو إعراض عن النص المباشر من الله سبحانه وتعالى.

        أما حدود حجية هذا النص أي كون هذا النص حجة فقط على صاحبه أم أنه حجة على غير صاحبه، أو لو قلنا هل يمكن أن يكون هذا النص الإلهي حجة على غير صاحبه باعتبار أنّ حجيته على صاحبه ثابتة؟

        في الحقيقة إنّ هذا الأمر تكفّل القرآن ببيانه، وأوضح بجلاء بأنّ النص الإلهي حجة على غير صاحبه، فرؤيا يوسف (عليه السلام) جعلها يعقوب دليلاً على أنّ يوسف خليفة الله في أرضه، ولهذا منعه من قصها على أخوته؛ لأنّ أخوته أبناء أنبياء ويعرفون الشريعة جيداً، ويعرفون موضع الرؤيا في دين الله وأنها نص إلهي على
        نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

        Comment

        • ya howa
          مشرف
          • 08-05-2011
          • 1106

          #5
          رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

          خليفته في أرضه، وبالتالي فعند سماعهم الرؤيا سيعرفون أنها في تشخيص يوسف (عليه السلام) خليفة الله في أرضه، فخاف يعقوب (عليه السلام) أن يحسدوا يوسف (عليه السلام)، وتعاد قصة ولدي آدم (عليه السلام) القديمة مع يوسف وأخوته، وهذا واضح لمن تدبر الآيات وأنصف نفسه ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[يوسف: 4 - 5]. يكيدون لك كما كاد قابيل لهابيل لما علم أنه وصي آدم (عليه السلام). إذن، النص الإلهي بهذا الطريق حجة على صاحبه وعلى غير صاحبه كما هو واضح في القرآن.

          أما لو احتمل غير صاحب الرؤيا كذب من يقول إنه رأى الرؤيا، أو إن ما رآه حلم من الشيطان، أو من هوى النفس؛ عندها لا تكون لهذه الرؤيا حجية عليه وهنا نحتاج البحث في أمور هي:

          1- احتمال كذب من قال إنه رأى:

          وهذا الأمر يندفع بأنْ تكون رؤى كثيرة ومستمرة ويراها أناس متفرقون، ولا رابط ولا علاقة بينهم قبل إيمانهم بداعي الحق، ليتصور من يسمع رؤاهم أنهم تواطئوا على الكذب، عندها لا يمكن إلا لمكابر معاند اتهام هؤلاء بالكذب؛ حيث يمتنع عقلاً تواطؤهم على الكذب، وبهذا تكون رؤاهم بمجموعها حجة على الناس غيرهم، ولو كان هؤلاء الذين رأوا الرؤى من مشارب وخلفيات عقائدية مختلفة، فإن الحجة ستكون أعظم ولا سبيل لرد شهادتهم بما رأوا وسمعوا من شهادة الله عندهم ونصه على خليفته في أرضه.

          2- احتمال أن تكون الرؤيا من الشيطان:

          وهذا الأمر يندفع بأنْ يكون في الرؤيا خليفة لله في أرضه ثبتت خلافته للمتلقي، أو ملك من ملائكته، أو أن يكون فيها اسم من أسماء الله، أو آية من كتاب سماوي ثابت للمتلقي، أو أنْ تكون في الرؤيا رموز حكيمة لا يمكن أنْ تصدر من سفهاء كالشيطان وجنده.

          وفي القرآن رد الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾[الشعراء: 210 - 211] على من قالوا إنّ القرآن تنزلت به الشياطين، فالله يقول لا، ليس للشياطين سلطة وقدرة على قراءة القرآن، فما ينبغي للشيطان أنْ يدعو للصلاح كما في القرآن، وإلا فكيف تقوم للشيطان قائمة وهو يدعو للصلاح والخلق الكريم وذكر الله !

          وإذا كانت هذه الأمور التي ذكرت في القرآن جاء بها الشيطان، فكيف إذن سيدعو للشر ومتى وأين، ثم هل الشيطان يحارب نفسه؟!!! ما ينبغي له أنْ يفعل هذا،

          كما أنّ الشيطان لا يمكنه تلاوة كلمات الله، أو يتمثل برموز ملكوت السماوات وبخلفاء الله وملائكة الله وبأسماء الله، وإذا أمكنه فعل هذا فلم يعد الملكوت بيد الله بل أصبح بيد الشيطان، ولم يعد هناك مجال للاطمئنان إلى أي شيء يأتي من الملكوت، وبهذا يتم الطعن بكل رسالات السماء وبكل خلفاء الله بالقول إنهم توهموا وإنّ ما رأوه هو الشيطان وإنه تمثّل لهم بصورة ملاك وقرأ لهم كلاماً على أنه كلام من الله .... إلخ، ولهذا اختصر الأمر سبحانه وتعالى وقال: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي لا يمكنهم قراءة القرآن فكيف تقولون إنهم تنزلوا به؟!!!

          فإذا كانوا عاجزين عن إيحاء القرآن أو بعض آيات القرآن، فكيف يمكن أن يقول شخص بجهالة وهو يدّعي العلم: إن الشياطين يتمثلون برسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) في الرؤيا ؟! هل يقبل العقل أنّ الشيطان عاجز عن التنزّل بالقرآن وقراءته وهو قادر على التمثّل بمحمد (صلى الله عليه وآله)، ومحمد هو كلمة الله التامّة والقرآن الناطق؟! هذه والله قسمة ضيزى.

          هل وصل الأمر إلى التقوّل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتجرؤ عليه بهذا الأمر العظيم، وأنْ يقول من يدَّعون العلم إنّ الشيطان يتمثل برسول الله (صلى الله عليه وآله) دون أنْ يكون لديهم دليل، بل فقط تقول لرد دعوة الحق ﴿مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً﴾[الكهف: 5]،

          ثم هل يعتبر نفسه عاقلاً وصاحب علم من يقول إنّ الشيطان يمكنه التمثل بالأنبياء والأوصياء وبالملائكة، إذن فماذا يبقي من الدين لو أمكن الشيطان التمثل بالأرواح الطاهرة، وكيف ميَّز الأنبياء والرسل وحي الله وعلموا أنه من الله وليس من الشيطان، وأنّ الذي كان يوحي لهم ملك وليس شيطاناً؟!! كيف علم إذن محمد (صلى الله عليه وآله) أنّ الذي كلّمه جبرائيل وليس الشيطان؟!! على حسب قولهم إنّ الشيطان يمكنه التمثل بجبرائيل أيضاً لأنهم جوزوا تمثله بمحمد (صلى الله عليه وآله) وهو أعظم من جبرائيل، هل كان على الأنبياء أن يطلبوا من كل ملك يكلمهم ويوحي لهم معجزة ليعلموا أنه ملك ومن الله وليس شيطاناً، ثم عندما يكون الوحي للأنبياء بالرؤيا، كيف سيميزون أنه وحي من الله وليس شيطاناً تمثل لهم بصورة ملك؟!!! والله إنّ من يقولون بتمثل الشيطان بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبالأوصياء وبالملائكة قد فتحوا باباً عظيماً للشيطان وجنده من الملحدين، لا يبقي من دين الله شيئاً وأمكنوا من أعناقهم لو كانوا يفقهون.

          هل علم من يدّعون العلم عظم الجريمة التي أقدموا عليها؟!!! هم الآن طعنوا بكل الكتب السماوية وبمصداقية كل الأنبياء والمرسلين وبالقرآن من بائه إلى سينه؟!! فعلى من تجرأ على دين الله وعلى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) بقوله إنّ الشيطان يتمثل بمحمد (صلى الله عليه وآله) والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) أنْ يتوب إلى الله ويستغفر ربه، فهذه الحقائق تتبيّن للناس وهم يتعرّفون عليها يوماً بعد يوم، وينكشف لهم زيف أهل الباطل وجهلهم وتجرؤهم على الله وملكوته وعلى رسوله وعلى الأئمة (عليه السلام).

          إذن، فالرؤيا التي تحتوي ذكر الله أو خلفاء الله أو ملائكة الله ليست من الشيطان حتماً، بل من الله ومن ملكوت الله ومن ملائكة الله ومن الأرواح الطاهرة.

          وقد روى المسلمون أنّ الشيطان لا يتمثّل بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذا نموذج منه:

          «عن علي بن الحسـين بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسـن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) : أنّه قال له رجل من أهل خراسان: يا ابن رسول الله: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام كأنّه يقول لي: كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي واستحفظتم وديعتي وغيب في ثراكم نجمي»؟!

          فقال له الرضا (عليه السلام) : أنا المدفون في أرضكم، وأنا بضعة نبيكم، فأنا الوديعة والنجم، ألا ومن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تبارك وتعالى من حقي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاءه نجا ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجن والإنس. ولقد حدثني أبي، عن جدي، عن أبيه، عن آبائه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رآني في منامه فقد رآني؛ لأنّ الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم. وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة»([80]).

          أما قول بعضهم ([81]) بأنّ المقصود بالحديث هو فقط من رأى الرسول في الدنيا ويعرف صورته المادية، فهذا تنقضه نفس الرواية؛ حيث إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) يعلم يقيناً أنّ الشخص الذي قصّ عليه الرؤيا لم يرَ رسول الله محمداً (صلى الله عليه وآله) ومع هذا قال له: من رأى الرسول فقد رآه فإنّ الشيطان لا يتمثل به، وهو يوجه الكلام له ويقصد بالكلام رؤياه بالتحديد.

          إذن، فهذا الشرط - الذي وضعه بعضهم - بأنّ الرائي لابد أنّ يكون قد رأى الرسول في الحياة الجسمانية منقوض بهذه الرواية، وبما تقدم من الكلام قبلها، بل هو أصلاً شرط من أهوائهم وأوهامهم ولا دليل عندهم عليه إلا العناد والكبر.

          فهل من المعقول أن نقبل لكل أحد أن يضع شروطاً في الأمور الدينية والعقائدية وبدون دليل شرعي عليها؟! بل والدليل قائم بالضد من الشرط الموضوع،

          ثم إنهم إذا اشترطوا هذا مع الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فكيف سيطرد هذا الشرط مع الملائكة؟! فهل أيضاً يقولون: إنّ الذي يرى الملائكة في الرؤيا لابد أنّ يكون قد رآهم في الحياة الجسمانية وإلا فهم شياطين؟!

          ثم إنّ كل الأنبياء ومنهم محمد (صلى الله عليه وآله) كانت بداية رسالاتهم أن يروا ملائكة الله في الرؤيا والكشف ويكلمونهم وهي رؤيتهم الأولى لهم، فهل لو كان من يسمون أنفسهم اليوم بـــ (علماء الإسلام) موجودون في زمن الأنبياء السابقين الذين يؤمنون بهم، هل كانوا سيواجهونهم بنفس هذا الكلام، يعني هل يقولون للأنبياء: وما أدراكم ربما هذا الشيطان جاءكم وتمثل بالملائكة، أو الشيطان جاءك وأصحابك يا محمد (صلى الله عليه وآله) وتمثّل بموسى (عليه السلام) أو بعيسى (عليه السلام)، فأنت وأصحابك لم تروا موسى (عليه السلام) في الحياة الجسمانية ؟!

          ثم هل يعلم علماء الضلال أنّ هذا الكلام واجه به أشباههم محمداً (صلى الله عليه وآله) والأنبياء قبله، فردّوا شهادة الله لعباده، وردوا نص الله على محمد (صلى الله عليه وآله) نبيه بالرؤيا التي يراها الناس فقالوا كقولهم اليوم: ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾[الأنبياء: 5].

          والحقيقة التي يجهلها هؤلاء إنّ الشيطان لا يتجرأ وليس له أنْ يري أحداً رؤيا أنه خليفة الله في أرضه، أو أنّ فلاناً هو خليفة الله في أرضه، بل أحلام الشيطان أعاذنا الله هي أحلام تحزين وأحلام سفيهة.

          3- احتمال أن تكون الرؤيا من هوى النفس:

          وهذا أمر يندفع بنفس ما قلته في الأمر الأول؛ لأنه في الحقيقة أيضاً كذب، حيث لا يوجد شيء اسمه أنّ شخصاً يرى رؤيا أو كشفاً من نفسه بأنه خليفة الله أو فلان من الناس خليفة الله، بل حقيقة الأمر أنّ هذا الشخص يوهم نفسه بأنه رأى، وهو في الحقيقة فقط توهم وأوهم نفسه. ولهذا قلت هوى النفس، فهو في الحقيقة كما يقولون: "كذب الكذبة وصدقها"، فهو عن عمد يوهم نفسه بما يتمنّى وبما يوافق هواه ويصدق وهمه على أنه حقيقة ([82]).

          فالنتيجة: إنّ الرؤى الصادقة هي وحي ونص من الله عند خلقه، يعرفهم به على خليفته في أرضه، وهي باعتبارها وحياً إلهياً فهي دليل مستقل إنْ تحققت فيها الشروط. وبعد آدم لابد أنْ يكون مع الخليفة نص من خليفة سابق لتوفره، فإن لم يكن حاملاً لهذا النص ستكون الرؤى المدعاة مجرد أكاذيب تواطأ عليها كذابون لتأييد مذهبهم ودينهم المنحرف المخالف للدين الحق والعقيدة الحق؛ وهي نص خلفاء الله في أرضه بعضهم على بعض، وكما يمكن معرفة أنها أكاذيب من إمكان تواطئ المدعين لها على الكذب مثلاً.

          ولا يجب الالتفات للرؤى المدعاة في نفي خلافة الله في أرضه عن شخص؛ لأن ما ثبت شرعاً هو أنها تأتي كدليل تشخيص، ولم يثبت شرعاً أنها تأتي كدليل معارضة أو نفي، ولا يجب الالتفات للرؤى في تحديد الأحكام الفقهية والعقائد إلا إنْ أقرّها خليفة الله؛ لأنّ الدين يبيّنه خليفة الله القائم به بأمر الله.
          محاولة بائسة:

          ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾[الأنبياء: 5] هذا القول يكرّره الذين يكفرون بملكوت السماوات ويكذبون رسل الله في كل زمان، يكررونه مع كل رسالة وكأنهم تواصوا به وبتكراره.

          ومن محاولاتهم البائسة لإثبات أنّ رؤى المؤمنين ما هي إلا أضغاث أحلام؛ هو الكذب على الله وافتراء رؤى مكذوبة ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾[الأنعام: 93].

          هو أمر عند الله عظيم، ولكنه عند هؤلاء المنكوسين هيّن. فهم بكل سهولة يقومون بتأليف رؤى مكذوبة ضد خليفة الله في زمانهم، في محاولة بائسة للطعن بشهادة الله أمام المؤمنين، وفي نفس الوقت هم يقولون إنهم لا يعتقدون بالرؤيا وبأنها دليل تشخيص لخليفة الله في أرضه، وهذا يكشف كذبتهم ومحاولتهم للفرار من إلزامهم بآلاف الرؤى الواضحة والموافقة لنص تشخيص خليفة الله، والتي رآها عدد من الناس يمتنع تواطؤهم على الكذب.

          وأيضاً هؤلاء المنكوسون عندما يكذبون ويؤلفون رؤى لا يلتفتون إلى أنّ هذا الأمر أصبح كشفه بسيطاً جداً بعد آدم (عليه السلام)؛ حيث إنّ هناك نصاً من خليفة سابق وهو نص إلهي، فنص الله على خليفته بالرؤيا حتماً مطابق له ولا يخالفه، وبالتالي فكل من يؤلف رؤيا كذباً وزوراً مخالفة لنص الخليفة السابق يتبيّن أنه كاذب على الله ([83]).

          وعموماً، هم يريدون الوصول إلى نتيجة من هذا الكذب؛ وهي الطعن في الرؤيا عموماً وفي أهميتها، فكأنهم يقولون إنّ رؤاهم (المكذوبة) تنقض رؤى المؤمنين (الصادقة)، فتسقط حجية رؤى المؤمنين، أي أنهم يحاولون أو يريدون الطعن في ملكوت السماوات من خلال الافتراء على ملكوت السماوات، أي بطريقة غاية في الخبث والشيطنة، فهم يريدون أنْ يقولوا: إن الأخبار التي أتت من ملكوت السماوات متضاربة، وبالتالي تتساقط. وهذا يعني أنهم يعتقدون ببطلان الرؤى من رأس وأنها لا قيمة ولا حجية لها أصلاً. فالذي يعتقد أنّ الرؤى من ملكوت السماوات، وأنها كلام الله يعلم قطعاً ويقيناً أنها تصب في اتجاه واحد وتشير لحقيقة واحدة؛ لأنها كلمات الله وبالتالي فلا تضارب حقيقي بينها. نعم، هناك تضارب بين رؤى حقيقية وأكاذيب وأوهام وسفاهات شيطانية تبدأ بالطعن برؤى المؤمنين، ثم الطعن بملكوت السماوات، وأخيراً تنتهي بتكذيب القرآن القائل: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ.... قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[العنكبوت: 50، 52]. بل وتكذيب الواقع الذي نقله التاريخ من شهادة الله لمن آمنوا بعيسى (عليه السلام) وبمحمد (صلى الله عليه وآله) وبعلي (عليه السلام) وبالحسن وبالحسين (عليهما السلام) و... و... و....

          وعموماً فالأمر واضح، والطريق مقطوع على المكذبين كما بيّنت سابقاً أنه لا يجب الالتفات إلى الرؤى المدعاة في نفي خلافة الله في أرضه عن شخص؛ لأنّ ما ثبت شرعاً هو أنها تأتي كدليل تشخيص وليس دليل معارضة أو نفي عمّن ثبت فيه النص الشرعي من خليفة سابق.
          استخفاف السفهاء برؤيا الحكماء:

          الرؤيا في دين الله سبحانه وتعالى تمثّل طريقاً للوحي، والرؤيا تنقسم إلى: رؤيا في النوم ورؤيا في اليقظة، أو كما تسمّى عرفاً عند الناس بالكشف في اليقظة (أو الوحي)، أي بمعنى أنّ الإنسان كشف عنه الغطاء فأصبح يرى ما لا يراه الناس، وكلاهما تمثلان عملية تواصل بين الإنسان والعوالم العلوية، ووحي الأنبياء يتم بهذين الطريقين، فهو إما رؤيا في النوم أو رؤيا في اليقظة.

          يبقى أنّ المقابل في الرؤيا يحدد شأن الرؤيا، فالرؤيا يمكن أنْ تكون وحياً مباشراً من الله من وراء حجاب، أو تكون وحياً من رسول يرسله الله، ويمكن أنْ يكون هذا الرسول ملك عظيم كجبرائيل أو أحد ملائكة الرؤيا، أو يكون من أرواح الأنبياء السابقين (عليهم السلام). كما أنّ ماهية الرؤيا تحدد هل إنّ هذه الرؤيا وحي تبليغي كما هو حال الأنبياء والأوصياء، أم أنها شهادة إلهية عند الإنسان كما هو حال المكلفين بالإيمان بالأنبياء والرسل عندما يشهد لهم الله سبحانه وتعالى، أو إخبار بأمر غيبي يحدث بعد حين كما هو حال الأنبياء وغير الأنبياء.

          فمحاولة بعض السفهاء الاستخفاف بالرؤيا التي يشهد بها الله لخليفته في أرضه، هي إنكار لوحي الله وجحود لشهادة الله سبحانه وتعالى، بل هي كفر بالقرآن الذي عرض الله فيه نفسه كشاهد لكل الناس، وهل هناك وسيلة اتصال بين الله وبين كل الناس أوضح من الرؤيا التي يستهزئ بها هؤلاء السفهاء؟!!!

          فالرؤيا التي تشهد لخليفة الله في أرضه عبارة عن كلام الله ووحي الله وشهادة الله ونص الله، فمن يستخف بنص الله وبشهادة الله ووحي الله لأجل أنْ يرضي هواه ماذا يمكن أنْ يوصف؟! غير أنه - في الحقيقة - كافر بالله، وأنّ ما يدّعيه من إيمان هو مجرد إيمان ظاهري، وإلا فهل من يستخف بكلام إنسان ويستهزئ به يمكن وصفه بأنه مؤمن بهذا الإنسان أو على الأقل يحترمه؟! أم أنه كافر به ومستخف به ولهذا يسخر من كلامه، كذا مَنْ يسخرون مِنَ الرؤيا التي تكون شهادة الله لخليفته في أرضه؛ فهم يسخرون من كلام الله سبحانه وتعالى الذي أوحاه لعباده بالرؤيا مباشرة منه سبحانه أو بتوسط الملائكة والأرواح. وبهذا فحقائق هؤلاء وأرواحهم كافرة بالله، لذا لا يجدون حرجاً من الاستهزاء بكلام الله والضحك عليه من على المنابر وأمام الناس، وللأسف فمن لا ينكر عليهم فهو منهم ومؤمن بباطلهم، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [العنكبوت: 52].

          إذا كانت شهادة الله لخليفته عند عباده بالوحي في الرؤيا، فمن يكون الباطل في الآية المقابل لشهادة الله ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً.... وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ...﴾؟! أليس واضح أن الباطل هم هؤلاء الذين يسخرون من الرؤيا، وبالتالي يسخرون من شهادة الله؟!

          فاقرأوا وصف الله لمن يسمع لهم ويقبل قولهم واستهزاءهم بالرؤيا التي تكون شهادة الله لخليفته في أرضه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

          ثم تدبّروا آيات الله قبل هذه الآية في سورة العنكبوت: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[العنكبوت: 50 - 52]. فقهاء الضلال الذين يواجهون الأنبياء دائماً يقولون نفس القول: لا نؤمن إلا بالمعجزة المادية، بل ويريدونها قاهرة وكل منهم يريد رؤيتها بعينه، ولا يقبل شهادة المؤمنين الذين رأوها، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾.

          والرد القرآني هو: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾، أي أنّ الآيات ينزلها الله عندما يريد ومتى يريد وبالكيفية التي يريد والتي توافق الحكمة والعدالة، بحيث لا تقهر أحداً على الإيمان، فإذا كانت قاهرة كانت للمؤمنين، وبالتالي لم تكن قاهرة لهم على الإيمان وإنما تزيدهم يقيناً وثباتاً على الحق، فهم مؤمنون أصلاً. وإذا كانت لغير المؤمنين أو للكفار والجاحدين كانت من الآيات التي يمكن تأويلها لتبقي مساحة للإيمان بالغيب، ﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾[القصص: 48].

          ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾: أي لماذا هم يطلبون آيات، ألا يكفيهم كتاب الله والعلم والحكمة التي جئتهم بها يا محمد (صلى الله عليه وآله)، والتي أنزلها الله رحمة بهم لعلهم يتذكرون؟!!

          ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: أي أنّ كل ما تقدم من طلبكم للآية المعجزة المادية القاهرة ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾، وكذا الآية العلمية التي أعطاكم الله لرحمته بكم ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ إنما هي زائدة على ما جاءكم به المرسل من الأساس وفي البدء؛ وهو شهادة الله له عندكم بالوحي في الرؤيا والكشف ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾، الله الشاهد على كل شيء وعلى أعمال العباد هو الشاهد لكم، الله الذي يعلم ما في السماوات والأرض، وليس للشيطان أي سلطان على ملكوته لكي يوهمكم السفهاء أنّ هذه الرؤى الملكوتية من الشيطان، ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.

          انتبهوا أيها الناس؛ الرؤى من الملكوت ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[الأنعام: 75]، والملكوت ملكوت الله ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[المؤمنون: 88]، وليس للشيطان تسلط على ملكوت الله ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[يس: 83].

          فلا يخدعكم الباطل وإنْ تشبَّه برسول الله (صلى الله عليه وآله) وارتقى منبر الرسول (صلى الله عليه وآله) أو منبر الحسين (عليه السلام)، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾. ألم يخبركم الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) أنهم سينزون على منبره كالقرود؟ فإذا كانوا قد نزوا على منبر محمد (صلى الله عليه وآله) وهو خير خلق الله كالقرود، هل تظنون أنهم لا ينزون اليوم على منبر الحسين (عليه السلام) كالقرود ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً﴾[الإسراء: 60]. لقد أفتوا بضلال الحسين (عليه السلام) من على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وضللوا الناس وجعلوهم يقاتلون الحسين (عليه السلام)، فهل تظنون أن نظراءهم اليوم لا يفتون بضلال المهدي (عليه السلام) من على منبر الحسين (عليه السلام)، ويضللون الناس ويجعلونهم يقاتلون المهدي؟ انتبهوا يرحمكم الله، انتبهوا واقرأوا وتعلموا ولا تتركوا أحداً يخدعكم وتعاد الكرة مرة أخرى ([84]).

          هلا انتبهتم أين يتاه بكم، وإلى أين يريد أنْ يقودكم هؤلاء السفهاء الذين يخبطون خبط العشواء ويسفهون الرؤى ويسفهون ملكوت السماوات، هلا انتبهتم وقلتم لهم: هذا القرآن بين أيدينا والله يقول فيه إنه يشهد لخليفته عند الناس وينص عليه: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾، فكيف تكون شهادة الله لعامة الناس مؤمنهم وكافرهم صالحهم وطالحهم أليس بالوحي، وأي طريق للوحي مفتوح بين الله وبين عامة الناس غير الرؤيا؟!!!

          الخلاصة بالنسبة للرؤى:

          1- الرؤى دليل تشخيص مصداق خليفة الله، والدليل القرآني القائم هو أنّ الرؤى الصادقة هي وحي ونص من الله عند خلقه، يعرفهم به على خليفته في أرضه. وهي باعتبارها وحياً إلهياً؛ فهي دليل إنْ تحققت فيها الشروط التي تجعلها دليلاً تشخيصياً لخليفة الله، وهي:

          1.كونها مطابقة للنص الإلهي التشخيصي الصادر من خليفة الله السابق، فلا قيمة لرؤى مدّعاة لشخص غير منصوص عليه بعد آدم (عليه السلام)، ولا داعي للنظر فيها أصلاً؛ لأنه بعد آدم (عليه السلام) أصبح الخليفة ينص على وصيه أو أوصيائه من بعده.
          2.تواترها عند أناس يمتنع تواطؤهم على الكذب.
          3.توافر الرؤيا على ما يمنع كونها من الشيطان؛ كوجود معصوم أو قرآن أو إخبار غيبي.
          4.محكمة المعنى بمجملها في التنصيص على شخص بعينه.

          2- لا حجية للرؤى في مقابل النص، فمع وجود النص - كما هو الحال من بعد آدم إلى أن تقوم الساعة - فالرؤى تكون تابعة له، وكل أحلام تخرج عن نص الخليفة السابق فهي أما هوى نفس أو من الشيطان أو أكاذيب يؤلفها أصحابها. فبعد آدم لابد أنْ يكون مع الخليفة نص من خليفة سابق، فإنْ لم يكن حاملاً لهذا النص ستكون الأحلام التي يدّعيها أصحابها مجرد أوهام نفسية أو وحي من شياطينهم، والرؤى المدّعاة في الكذابين فاقدي الدليل الشرعي هي مجرد أكاذيب تواطأ عليها كذابون لتأييد مذهبهم ودينهم المنحرف.

          3- لا حجية للرؤيا في نفي خلافة الله في أرضه عمّن ثبتت حجيته بالدليل القطعي، وهو النص الإلهي الواصل من خليفة الله المباشر أو غير المباشر على تفصيل سيأتي.

          4- لا حجية للرؤيا في دين الله عقيدة وتشريعاً، غير ما أثبته النص (القرآن والروايات)، وهو ما بيّناه من تشخيص مصداق خليفة الله في أرضه. فلا قيمة شرعية للرؤى المدّعاة في تأييد ادعاء أو اعتقاد غير مبني على الدليل، مثل عقيدة تقليد غير المعصوم، وخلافة الرسول بالشورى، أو حجية لشخصٍ ما غير خليفة الله وما شابه من عقائد منحرفة لم يقم عليها معتقدوها دليلاً شرعياً، ولا حتى عقلياً تاماً يمكن الركون إليه.
          الثاني: النص من خليفة سابق مباشر للمنصوب المنصوص عليه

          وهذا أمر يتفق عليه كل من يؤمن بخلفاء الله، فنص المباشر على وصيه بعينه حجة على من يسمعه وعلى من يصل لهم هذا النص. وقد أوجب تعالى على المؤمنين أنْ ينتدبوا منهم أفراداً ليعرفوا هذا الأمر من خليفة الله في زمانهم ويوصلوه لهم، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة: 122]، ولا شك أنّ هذا النص دليل مستقل بذاته على خليفة الله في أرضه.
          الثالث: النص من خليفة سابق غير مباشر للمنصوب المنصوص عليه

          والنص من خليفة سابق غير مباشر يعين المنصوص عليه؛ إنْ كان هناك صفات أو دلالات في نفس النص أو نصوص أخرى تمنع انطباق النص على غير شخص واحد عند الادّعاء. وكمثال على ذلك: وصية الرسول ليلة وفاته، حيث وصف هذا النص بأنه عاصم من الضلال لمن تمسك به.

          وهنا نقول: إنه لابد أنْ يحفظ العالم القادر الصادق الحكيم المطلق النص الذي وصفه بأنه عاصم من الضلال لمن تمسك به، أن يحفظه من ادّعاء المبطلين له، حتى يدّعيه صاحبه ويتحقق الغرض منه، وإلا لكان جاهلاً أو عاجزاً أو كاذباً مخادعاً ومغرياً للمتمسكين بقوله باتباع الباطل. ومحال أنْ يكون جاهلاً أو عاجزاً؛ لأنه عالم وقادر مطلق. ويستحيل أنْ يصدر من الحق سبحانه وتعالى الكذب؛ لأنه صادق وحكيم ولا يمكن وصفه بالكذب، وإلا لما أمكن الركون إلى قوله في شيء ولانتقض الدين.

          ونص خليفة الله في أرضه على من بعده مع وصفه بأنه عاصم من الضلال لمن تمسك به - نصاً إلهياً - لابد أنْ يكون محفوظاً من الله من ادّعاء الكاذبين المبطلين حتى يدّعيه صاحبه، وإلا فسيكون كذباً وإغراءً للمكلفين باتباع الباطل، وهذا أمر لا يصدر من العالم الصادق القادر الحكيم المطلق سبحانه ([85]).

          وقد تكفّل الله في القرآن وفيما روي عنهم (عليهم السلام) بحفظ النص الإلهي من ادّعاء أهل الباطل، فأهل الباطل مصروفون عن ادّعائه، فالأمر ممتنع كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾[الحاقة: 44 - 46]([86])، والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (إن هذا الأمر لا يدّعيه غير صاحبه إلا تبر الله عمره) ([87])، فالمبُطِل مصروف عن ادّعاء الوصية الإلهية الموصوفة بأنها تعصم من تمسك بها من الضلال، أو أنّ ادّعاءه لها مقرون بهلاكه قبل أنْ يُظهِر هذا الادّعاء للناس؛ حيث إنّ إمهاله مع ادّعائه الوصية يترتب عليه إما جهل أو عجز أو كذب من وعد المتمسكين به بعدم الضلال، وهذه أمور محالة بالنسبة للحق المطلق سبحانه، ولهذا قال تعالى: ﴿أَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ وقال الصادق (عليه السلام) : (تبر الله عمره).

          وللتوضيح أكثر أقول: إنّ الآية تطابق الاستدلال العقلي السابق؛ وهو أنّ الادّعاء ممتنع وليس ممكناً، فإنّ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾، معناه أنّ الهلاك ممتنع لامتناع التقول، أي أنه لو كان متقوّلاً لهلك، والآية تتكلم مع من لا يؤمنون بمحمد (صلى الله عليه وآله) والقرآن، وبالتالي فالاحتجاج بالكلام في الآية ليس لكونها كلام الله، لأنهم لا يؤمنون بهذا، بل الاحتجاج هو بمضمون الآية، أي احتجاج بما هو ثابت عندهم عقلاً؛ وهو أنّ النص الإلهي الموصوف بأنه عاصم من الضلال لمن تمسك به لا يمكن أنْ يدّعيه غير صاحبه؛ لأنّ القول بأنه يمكن أنْ يدّعيه غير صاحبه يلزم منه نسبة الجهل أو العجز أو الكذب لله سبحانه وتعالى.

          إذن، فلا يمكن - عقلاً وقرآناً ورواية - أن يحصل ادّعاء النص الإلهي التشخيصي الموصوف بأنه عاصم من الضلال لمن تمسك به، أي أنّ النص محفوظ من الادعاء حتى يدّعيه صاحبه ليتحقق الغرض من النص وهو منع الضلال عن المكلف المتمسك بالنص كما وعده الله سبحانه ([88]).

          ولابد من الانتباه إلى أن كلامنا في ادّعاء النص التشخيصي الموصوف بأنه عاصم من الضلال، وليس في ادّعاء المنصب الإلهي عموماً، فادّعاء المنصب الإلهي أو النبوة أو خلافة الله في أرضه باطلاً بسفاهة ودون الاحتجاج بالوصية (النص التشخيصي) حصل كثيراً، وربما بقي من ادّعى باطلاً حياً فترة من الزمن ([89])، فالادّعاء بدون شهادة الله ونص الله وبدون الوصية لا قيمة له وهو ادّعاء سفيه، فمن يصدق هكذا مدّعي مبطل لا عذر له أمام الله.

          إذن، فالمقصود ليس منع أهل الباطل من الادّعاء مطلقاً، بل منعهم من ادّعاء النص التشخيصي الموصوف بأنه عاصم لمن تمسك به من الضلال، وهو وصية الحجة للناس، وهذا المنع الذي أثبتناه عقلاً وأكد عليه النص القرآني والروائي يؤكده أيضاً الواقع، فمرور مئات السنين على النص دون أنْ يدّعيه أحد كافٍ لإثبات هذه الحقيقة. فقد مرّ على وصايا الأنبياء في التوراة ووصية عيسى (عليه السلام) مئات السنين ولم يدّعيها غير محمد (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه من بعده، كما ولم يدّعي وصية النبي غير الأئمة (عليهم السلام). وقد احتج الإمام الرضا (عليه السلام) بهذا الواقع على الجاثليق، فبعد أن بيّن النص من الأنبياء السابقين على الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) من التوراة والانجيل، احتج الجاثليق بأنّ النصوص يمكن انطباقها على أكثر من شخص، فكان احتجاج الإمام الرضا (عليه السلام) على الجاثليق؛ أنه لم يحصل ادّعاء المبطلين للوصايا. وهذا هو موضع الفائدة من النص:

          «... ولكن لم يتقرر عندنا بالصحة إنه محمد هذا فأما اسمه محمد فلا يصح لنا أن نقر لكم بنبوته ونحن شاكون إنه محمدكم .... فقال الرضا (عليه السلام) : احتججتم بالشك فهل بعث الله من قبل أو من بعد من آدم إلى يومنا هذا نبيا ًاسمه محمد؟ وتجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها على جميع الأنبياء غير محمد؟ فأحجموا عن جوابه»([90]).

          فاحتجاج الأوصياء السابقين بهذا النص حجة على من يؤمن بهم، وقد احتج به عيسى ومحمد صلوات الله عليهما، فعيسى احتج بنص الأنبياء السابقين عليه رغم عدم مباشرتهم له:
          نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

          Comment

          • ya howa
            مشرف
            • 08-05-2011
            • 1106

            #6
            رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

            «فدفع إليه سفر اشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه * روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر وارسل المنسحقين في الحرية * واكرز بسنة الرب المقبولة * ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه * فابتدأ يقول لهم انه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم * وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ويقولون أليس هذا ابن يوسف»([91]).

            ومحمد (صلى الله عليه وآله) كما في القرآن احتج بنص عيسى (عليه السلام) عليه ونص الأنبياء قبل عيسى (عليه السلام) عليه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾[الصف: 6].

            ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الأعراف: 157].

            والله بيّن في القرآن أنّ ادّعاء محمد (صلى الله عليه وآله) لو كان باطلاً - وحاشاه - لما تركه يدّعيه؛ لأنّ الله متكفّل بحفظه وصونه من ادّعاء المبطلين، والله متكفل بصرفهم عن النص: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الحاقة: 38 - 52].
            ثانياً: العلم

            وخليفة الله هو العالم الذي يمكنه الاستغناء عن غيره من الناس، وليس لأحد من الناس الاستغناء عنه وعن علمه؛ لأنّ الله يوحي إليه كل ما يستجد في دين الله، وكل ما يحتاجه أهل زمانه في دينهم. والعلم الواجب هنا هو العلم الديني الذي يكلف خليفة الله بتبليغه للناس، فلابد أنْ يكون خليفة الله متصلاً بالله ويعلمه الله ما يحتاج إليه في تبليغ رسالته وإيصال الدين الحق الذي يرضاه الله للناس، وكل ما يستجد من أحكام إلهية، والقول الفصل وحسم ما يختلف فيه الناس.

            ويمكن لمن يطلب الحق أنْ يكون هذا الأمر - أي العلم بما يستجد وقول الفصل وحسم ما اختلف فيه الناس - دليلاً له لمعرفة خليفة الله يعضد دليل النص عليه، ولا يشترط بخليفة الله معرفة علوم استقرائية أو تجريبية أو حتى دينية سابقة كرسالات خلفاء الله الذين سبقوه، وإنما الواجب في علمه أنْ يكون متصلاً بالله ويعلمه الله أولاً بأول ما يحتاجه في رسالته التي يرسله الله بها للناس. وهذا لا يعني أنه لابد أنْ يكون خليفة الله يجهل رسالات خلفاء الله السابقين أو العلوم التجريبية أو الاستقرائية، وإنما فقط لا يجب ولا يشترط فيه أنْ يعلمها أو يعلم كل تفاصيلها. فهو قد يعلمها بالتحصيل أو حتى بإلهام إلهي أو بكليهما عند وجود ضرورة لذلك، أي أنه يتعلم كغيره بالقراءة مثلاً، ولكن الله يمنّ عليه بأنْ يزيده بالإلهام الإلهي باعتباره خليفة الله، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالدين، كإثبات وجود الله سبحانه أو الدفاع عن الدين عموماً، أما الاعتقادات الساذجة لبعض الحشوية من وجوب العلم بكل اللغات، أو العصمة باللغة وما شابه من جهالات، كالاتصاف بالتأثير بالحجر، فسيأتي مناقشتها وبيان جهل من يعتقدها.

            وربما يضطر خليفة الله للصمت فترة من الزمن من خلافته، ولا يظهر علمه كما هو حال أزمنة الفترات. وقد بيّنتها وبيّنت علّتها، وهو عدم وجود القابل للحق، أو يصمت لضرورة يريدها الله سبحانه، كأن يؤدي مهمّته الأولى وهي تهيئة من سيستلم خلافة الله من بعده، فتسليم خلافة الله أمانة كلف بها خليفة الله، ولابد له من تهيئة كل ما يمكنه ليكون هذا الأمر بأفضل صورة تقام بها الحجة على الناس، ولا يكون للمتخلف منهم عذر باتباع خطوات الشيطان، والتخلف عن دين الله أو خليفة الله اللاحق.

            قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾[النساء: 58]، والمراد هو أنّ تسليم خلافة الله للخليفة اللاحق مهمة لابد أنْ يقوم بها الخليفة السابق بأتم وجه؛ لأنها أمانة إلهية في رقبته، ولهذا فقد يضطر إلى الصمت ربما للحفاظ على حياته، حتى تهيئة بعض ما يخص الخليفة اللاحق أو حتى ولادته، وهذه الروايات تبيّن ذلك:

            الكليني: «الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَائِذٍ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ، قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) : عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ إِيَّانَا عَنَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَوَّلُ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ الْكُتُبَ وَالْعِلْمَ وَالسِّلَاحَ وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إِيَّانَا عَنَى خَاصَّةً أَمَرَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِطَاعَتِنَا فَإِنْ خِفْتُمْ تَنَازُعاً فِي أَمْرٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ كَذَا نَزَلَتْ وَكَيْفَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَيُرَخِّصُ فِي مُنَازَعَتِهِمْ إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ لِلْمَأْمُورِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»([92]).

            الكليني: «الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قَالَ هُمُ الْأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِمَامُ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ وَلَا يَخُصَّ بِهَا غَيْرَهُ وَلَا يَزْوِيَهَا عَنْهُ»([93]).

            الكليني: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) : فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قَالَ هُمُ الْأَئِمَّةُ يُؤَدِّي الْإِمَامُ إِلَى الْإِمَامِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَا يَخُصُّ بِهَا غَيْرَهُ وَلَا يَزْوِيهَا عَنْهُ»([94]).

            الكليني: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قَالَ أَمَرَ اللَّهُ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ»([95]).

            الصدوق: «وَرَوَى مُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) : قَالَ قُلْتُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ مَا عِنْدَهُ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ وَأُمِرَتِ الْأَئِمَّةُ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَأُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ»([96]).

            الطوسي: «مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي الْمِعْزَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : قَالَ قُلْتُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ مَا عِنْدَهُ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ وَأُمِرَتِ الْأَئِمَّةُ بِالْعَدْلِ وَأُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ»([97]).

            إذن، فقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ أي يؤدي خليفة الله أو الإمام لمن بعده، وهذا هو تكليفه الأول، لهذا ربما لا يظهر علمه ولا يكلم الناس حتى يتم مهمته الأولى وهي تهيئة من يأتي بعده لتحمّل رسالته الإلهية، وقد حصل هذا الأمر مع الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) :

            «عن أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الْأَرْمَنِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلِيطٍ الزَّيْدِيِّ قَالَ أَبُو الْحَكَمِ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ الْجَرْمِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلِيطٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) وَنَحْنُ نُرِيدُ الْعُمْرَةَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ هَلْ تُثْبِتُ هَذَا الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ قَالَ نَعَمْ فَهَلْ تُثْبِتُهُ أَنْتَ قُلْتُ نَعَمْ إِنِّي أَنَا وَأَبِي لَقِينَاكَ هَاهُنَا وَأَنْتَ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَمَعَهُ إِخْوَتُكَ فَقَالَ لَهُ أَبِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنْتُمْ كُلُّكُمْ أَئِمَّةٌ مُطَهَّرُونَ وَالْمَوْتُ لَا يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ فَأَحْدِثْ إِلَيَّ شَيْئاً أُحَدِّثْ بِهِ مَنْ يَخْلُفُنِي مِنْ بَعْدِي فَلَا يَضِلَّ قَالَ نَعَمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ وُلْدِي وَهَذَا سَيِّدُهُمْ وَأَشَارَ إِلَيْكَ وَقَدْ عُلِّمَ الْحُكْمَ وَالْفَهْمَ وَالسَّخَاءَ وَالْمَعْرِفَةَ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَفِيهِ حُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجَوَابِ وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِيهِ أُخْرَى خَيْرٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَهُ أَبِي وَمَا هِيَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ (عليه السلام) يُخْرِجُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ غَوْثَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغِيَاثَهَا وَعَلَمَهَا وَنُورَهَا وَفَضْلَهَا وَحِكْمَتَهَا خَيْرُ مَوْلُودٍ وَخَيْرُ نَاشِئٍ يَحْقُنُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الدِّمَاءَ وَيُصْلِحُ بِهِ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيَلُمُّ بِهِ الشَّعْثَ وَيَشْعَبُ بِهِ الصَّدْعَ وَيَكْسُو بِهِ الْعَارِيَ وَيُشْبِعُ بِهِ الْجَائِعَ وَيُؤْمِنُ بِهِ الْخَائِفَ وَيُنْزِلُ اللَّهُ بِهِ الْقَطْرَ وَيَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ خَيْرُ كَهْلٍ وَخَيْرُ نَاشِئٍ قَوْلُهُ حُكْمٌ وَصَمْتُهُ عِلْمٌ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَيَسُودُ عَشِيرَتَهُ مِنْ قَبْلِ أَوَانِ حُلُمِهِ فَقَالَ لَهُ أَبِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَهَلْ وُلِدَ قَالَ نَعَمْ وَمَرَّتْ بِهِ سِنُونَ قَالَ يَزِيدُ فَجَاءَنَا مَنْ لَمْ نَسْتَطِعْ مَعَهُ كَلَاماً قَالَ يَزِيدُ فَقُلْتُ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) فَأَخْبِرْنِي أَنْتَ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُوكَ (عليه السلام) فَقَالَ لِي نَعَمْ إِنَّ أَبِي (عليه السلام) كَانَ فِي زَمَانٍ لَيْسَ هَذَا زَمَانَهُ فَقُلْتُ لَهُ فَمَنْ يَرْضَى مِنْكَ بِهَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ قَالَ فَضَحِكَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ ضَحِكاً شَدِيداً ثُمَّ قَالَ أُخْبِرُكَ يَا أَبَا عُمَارَةَ إِنِّي خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي فَأَوْصَيْتُ إِلَى ابْنِي فُلَانٍ وَأَشْرَكْتُ مَعَهُ بَنِيَّ فِي الظَّاهِرِ وَأَوْصَيْتُهُ فِي الْبَاطِنِ فَأَفْرَدْتُهُ وَحْدَهُ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيَّ لَجَعَلْتُهُ فِي الْقَاسِمِ ابْنِي لِحُبِّي إِيَّاهُ وَرَأْفَتِي عَلَيْهِ وَلَكِنْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَلَقَدْ جَاءَنِي بِخَبَرِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ أَرَانِيهِ وَ أَرَانِي مَنْ يَكُونُ مَعَهُ وَ كَذَلِكَ لَا يُوصَى إِلَى أَحَدٍ مِنَّا حَتَّى يَأْتِيَ بِخَبَرِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَجَدِّي عَلِيٌّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) خَاتَماً وَسَيْفاً وَعَصًا وَكِتَاباً وَعِمَامَةً فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لِي أَمَّا الْعِمَامَةُ فَسُلْطَانُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السَّيْفُ فَعِزُّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمَّا الْكِتَابُ فَنُورُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمَّا الْعَصَا فَقُوَّةُ اللَّهِ وَأَمَّا الْخَاتَمُ فَجَامِعُ هَذِهِ الْأُمُورِ ثُمَّ قَالَ لِي وَالْأَمْرُ قَدْ خَرَجَ مِنْكَ إِلَى غَيْرِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرِنِيهِ أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَا رَأَيْتُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَحَداً أَجْزَعَ عَلَى فِرَاقِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ وَلَوْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ بِالْمَحَبَّةِ لَكَانَ إِسْمَاعِيلُ أَحَبَّ إِلَى أَبِيكَ مِنْكَ وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَرَأَيْتُ وُلْدِي جَمِيعاً الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتَ فَقَالَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) هَذَا سَيِّدُهُمْ وَ أَشَارَ إِلَى ابْنِي عَلِيٍّ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَاللَّهُ مَعَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ يَزِيدُ ثُمَّ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) يَا يَزِيدُ إِنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ فَلَا تُخْبِرْ بِهَا إِلَّا عَاقِلًا أَوْ عَبْداً تَعْرِفُهُ صَادِقاً وَإِنْ سُئِلْتَ عَنِ الشَّهَادَةِ فَاشْهَدْ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَقَالَ لَنَا أَيْضاً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) فَأَقْبَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ قَدْ جَمَعْتَهُمْ لِي بِأَبِي وَأُمِّي فَأَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْمَعُ بِفَهْمِهِ وَيَنْطِقُ بِحِكْمَتِهِ يُصِيبُ فَلَا يُخْطِئُ وَيَعْلَمُ فَلَا يَجْهَلُ مُعَلَّماً حُكْماً وَعِلْماً هُوَ هَذَا وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ ابْنِي ثُمَّ قَالَ مَا أَقَلَّ مُقَامَكَ مَعَهُ فَإِذَا رَجَعْتَ مِنْ سَفَرِكَ فَأَوْصِ وَأَصْلِحْ أَمْرَكَ وَافْرُغْ مِمَّا أَرَدْتَ فَإِنَّكَ مُنْتَقِلٌ عَنْهُمْ وَمُجَاوِرٌ غَيْرَهُمْ فَإِذَا أَرَدْتَ فَادْعُ عَلِيّاً فَلْيُغَسِّلْكَ وَلْيُكَفِّنْكَ فَإِنَّهُ طُهْرٌ لَكَ وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا ذَلِكَ وَذَلِكَ سُنَّةٌ قَدْ مَضَتْ فَاضْطَجِعْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَصُفَّ إِخْوَتَهُ خَلْفَهُ وَعُمُومَتَهُ وَمُرْهُ فَلْيُكَبِّرْ عَلَيْكَ تِسْعاً فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَقَامَتْ وَصِيَّتُهُ وَوَلِيَكَ وَأَنْتَ حَيٌّ ثُمَّ اجْمَعْ لَهُ وُلْدَكَ مِنْ بَعْدِهِمْ فَأَشْهِدْ عَلَيْهِمْ وَأَشْهِدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً قَالَ يَزِيدُ ثُمَّ قَالَ لِي أَبُو إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) إِنِّي أُؤْخَذُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالْأَمْرُ هُوَ إِلَى ابْنِي عَلِيٍّ سَمِيِّ عَلِيٍّ وَ فَأَمَّا عَلِيٌّ الْأَوَّلُ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ الْآخِرُ فَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) أُعْطِيَ فَهْمَ الْأَوَّلِ وَحِلْمَهُ وَنَصْرَهُ وَوُدَّهُ وَدِينَهُ وَمِحْنَتَهُ وَمِحْنَةَ الْآخِرِ وَصَبْرَهُ عَلَى مَا يَكْرَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ قَالَ لِي يَا يَزِيدُ وَإِذَا مَرَرْتَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلَقِيتَهُ وَسَتَلْقَاهُ فَبَشِّرْهُ أَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ غُلَامٌ أَمِينٌ مَأْمُونٌ مُبَارَكٌ وَسَيُعْلِمُكَ أَنَّكَ قَدْ لَقِيتَنِي فَأَخْبِرْهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْغُلَامُ جَارِيَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مَارِيَةَ جَارِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أُمِّ إِبْرَاهِيمَ فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهَا مِنِّي السَّلَامَ فَافْعَلْ قَالَ يَزِيدُ فَلَقِيتُ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) عَلِيّاً (عليه السلام) فَبَدَأَنِي فَقَالَ لِي يَا يَزِيدُ مَا تَقُولُ فِي الْعُمْرَةِ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ذَلِكَ الكافي إِلَيْكَ وَمَا عِنْدِي نَفَقَةٌ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا كُنَّا نُكَلِّفُكَ وَلَا نَكْفِيكَ فَخَرَجْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَابْتَدَأَنِي فَقَالَ يَا يَزِيدُ إِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ كَثِيراً مَا لَقِيتَ فِيهِ جِيرَتَكَ وَعُمُومَتَكَ قُلْتُ نَعَمْ ثُمَّ قَصَصْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ فَقَالَ لِي أَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَمْ تَجِئْ بَعْدُ فَإِذَا جَاءَتْ بَلَّغْتُهَا مِنْهُ السَّلَامَ فَانْطَلَقْنَا إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَرَاهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَمْ تَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ ذَلِكَ الْغُلَامَ قَالَ يَزِيدُ وَكَانَ إِخْوَةُ عَلِيٍّ يَرْجُونَ أَنْ يَرِثُوهُ فَعَادُونِي إِخْوَتُهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ جَعْفَرٍ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَيَقْعُدُ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي لَا أَجْلِسُ فِيهِ أَنَا»([98]).
            ثالثاً: الدعوة إلى حاكمية الله

            الأرض لا تخلو من الهدى والحق، ولو خليت من راية منصوبة داعية لحاكمية الله لخليت من الهدى والحق، ولهذا فالدعوة لحاكمية الله وخصوصاً إذا انفرد بها داعي الحق في زمانه تكون دليلاً لمن يطلب معرفة الحق يعضد دليل النص المتقدم، فهو دليل بانضمامه إلى النص، أي يكون دليلاً يعضد النص ويزيد من يقين المؤمنين بالحق.

            والمقصود بحاكمية الله ليس على مستوى التشريع فقط، بل على مستوى التنفيذ أيضاً، مع أنه لا يمكن بحال القول بحاكمية الله على مستوى التشريع دون المستوى التنفيذي؛ حيث إنّ التشريع متجدّد فلابد إذن من منفّذ متصل بالله ليوصل حكم كل مستحدث ومستجد، وليس ضرورياً أنْ يباشر خليفة الله الحكم بنفسه، بل الضروري أنْ يكون مسلّطاً على نظام الحكم وبالخصوص الدماء، أي مثلاً ما يخص قرار الحرب والسلم، أو القصاص أي كأحكام الإعدام.
            المعجزة المادية الجسمانية وموضعها في دين الله:

            علة الدخول إلى هذا العالم الجسماني هو الامتحان واختبار الناس. قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]. فإذا كان الناس دخلوا الدنيا للامتحان فلا يصح من الممتحن الحكيم المطلق تفضيل بعضهم على بعض في خوض هذا الامتحان دون سبب، ولا يصح إلغاء امتحان بعضهم وإعطائهم أفضل نتيجة دون سبب أو مقدمات قاموا بها.

            والمعجزة المادية الجسمانية إنْ لم يكن فيها أي مجال للّبس وإلقاء الشبهة من المخالفين، فإنها ستكون قاهرة وتلغي مساحة الغيب، ولا تبقي للإيمان بالغيب فسحة، وتقوم بإلغاء امتحان بعض الممتحنين، وفيها تفضيل لبعض الممتحنين على بعض دون سبب، فنجد أنها تلغي امتحان من تحصل له - على فرض حصولها -، حيث إنّ إيمانه يكون إيماناً مادياً محضاً ونسبة الغيب فيه صفراً، ونجد أنّ من تحصل معه قد فضّل على غيره وحصل على الجنة دون امتحان، وبالتالي لم تحقق العدالة بين الداخلين في الامتحان، ولهذا فنحن نقول التالي: لابد أنْ تكون المعجزة المادية - إنْ أتت - ضمن حدود لا تنقض السنة الإلهية للإيمان بالغيب.

            ولو استقرأنا النص الديني بين أيدينا نجد التالي:
            في القرآن:

            أولاً: آيات تبيّن أنّ الأنبياء يأتون بالمعجزة بإذن الله، وربما لا يأذن الله:

            ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109].

            ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50].

            ثانياً: آيات بيّنت أنّ المعجزات إنْ أتت قاهرة ولم تبقي للغيب شيئاً، لا يقبل الإيمان من خلالها:

            ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ [الأنعام: 158].

            والآية واضحة: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾، فعندما تأتي بعض الآيات (المعجزات) لا يقبل الله الإيمان. هذا مع أننا نعرف حقيقة قبول التوبة إلى آخر نفس. إذن، لا مجال هنا إلا أنْ يكون المعنى؛ إنّ هذه الآيات ألغت الامتحان، بحيث أصبح حال الإنسان كالميت الذي خرج من دنيا الامتحان، فلا يقبل منه إيمان ولا عمل، أي أنه ألغي امتحانه أو قل وضعت الإجابات أمامه بوضوح (معجزة قاهرة) ولم يعد هناك معنى لطلب إجابته على السؤال المطروح.

            ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 90 - 92]، وقد كتبت في بيان معنى هذه الآيات فيما مضى ويمكن مراجعة (تفسير آية من سورة يونس).

            ثالثاً: آيات تبيّن أنّ الذين آمنوا عند نزول المعجزة يقبل الله إيمانهم، وإيمانهم صحيح: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى.... وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 70 - 76].

            وسبب قبول إيمانهم هو أنهم لم يحصلوا على الإجابة الكاملة، وإنما حصلوا على بعض الإجابة، أي كمن تعطيه إشارات وعلامات تساعده على جواب أسئلة الامتحان، فهو وإنْ كان بمستوى أقل من الآخر الذي أجاب بدون مساعدة، ولكن بالنتيجة هذا أيضاً يُقبل منه الجواب؛ لأنه أثبت أنّ لديه معرفة بقدرٍ ما، مكّنته من الوصول للجواب وإن كانت بمساعدة معينة، أي أنّ هؤلاء لم يلغَ امتحانهم ولم توضع أمامهم أجوبة أسئلة الامتحان حتى يكون جوابهم بلا قيمة، وهكذا فهم لم يخرجوا من الامتحان كحال الفئة في "ثانياً".

            رابعاً: المعجزات لابد أنْ يكون فيها شيء من اللّبس:

            ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 9].

            خلاصة ما تقدم: إنّ الآيات تأتي بإذن الله وليس بطلب الناس، وبالتالي فطلب الناس للمعجزة وامتناع الرسول من تقديمها لا يعني عدم أحقية الرسول. أيضاً: هناك معجزات يقبل إيمان الإنسان عندما تأتي ويراها، وهناك آيات لا يقبل إيمان الإنسان عندما تأتي. أيضاً: الله يقول إنّ الآية إذا أرسلتها أجعل فيها لبساً كما تقدم ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾.

            إذن، الآية التي يقبل الإيمان من خلالها هي الآية التي فيها لبس، والتي تركت مجالاً للإيمان بالغيب، أما الآية التي لا يقبل الإيمان من خلالها؛ فهي الآية التي لا لبس فيها ولا مجال لأحد للطعن فيها. وهذا الأمر أيضاً واضح من قصة موسى، ففرعون استطاع الطعن والتشكيك بمعجزة العصا عندما تحوّلت إلى أفعى: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طه: 71]، ﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾، ولكنه عجز عن التشكيك بمعجزة انشقاق البحر وخضع وصدق وقال آمنت، ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90]، ولكن لم يقبل إيمانه؛ لأنه إيمان بمعجزة قاهرة لا لبس فيها ولا تقبل التشكيك، ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 91 - 92].

            بل حتى على مستوى الآيات التي تبيّن طلب المخالفين للمعجزة من رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50]، فهي تتعارض ظاهراً مع ما نقل تاريخياً من معجزاته حيث يمكن أن يفهم بعضهم من هذه الآية أنه لم يأتي بمعجزة ولهذا هم يطلبون منه المعجزة وهو يتحجج بأن المعجزة عند الله، والحقيقة إنّ هذا الأمر بالنسبة لبعض من يطعنون بالإسلام وصحة نبوة الرسول (صلى الله عليه وآله) يمثل تعارضاً واضحاً، فهو على الأقل تعارض بين النص القرآني والمنقول في ادعاء حصول معجزات للرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، ولكن الحقيقة إنه لا يوجد أي تعارض؛ لأنّ المعجزات تقع ضمن القانون العام والسنة الإلهية للإيمان بالغيب، أي كون الإيمان المقبول هو الإيمان بالغيب، وبالتالي فالمعجزات التي يطرحها المرسلون ومنهم محمد (صلى الله عليه وآله) أمام المخالفين المدعوين للإيمان لا تكون قاهرة، بينما يطلب المنكرون معجزات قاهرة لا لبس فيها.

            والمعجزة إنْ وقعت قاهرة ولم تبقي للغيب شيئاً لم يقبل الإيمان من خلالها، ولذا فهي لا تأتي ليؤمن المعاند من خلالها بل تقع إما:

            1- أمام المؤمنين، وبالتالي لا يكون لها أثر على كون إيمانهم بالغيب؛ لأنّ إيمانهم سبق وقوعها. نعم، هي تزيد يقينهم، وتكون حجة على من تُنقل لهم.

            2- أمام من هم على وشك الإيمان والإقرار بالحق، وبالتالي فهي لم تلغي مساحة الغيب من إيمانهم؛ حيث إنهم وصلوا إلى نسبة ترجيح لصدق الدعوة الإلهية، وبالتالي فهم مؤمنون بالدعوة الإلهية بقدرٍ ما ولكنهم لم يعلنوا إيمانهم.

            3- أمام الكافرين المعذبين بها، كمعجزة طوفان نوح (عليه السلام)، ومعجزة شق البحر لموسى (عليه السلام).

            وعادة إنْ وقعت المعجزة أمام الجميع، أو أمام المنكرين الذين يطلب إيمانهم بها؛ فلابد أنْ يكون فيها مجالاً للغيب، ويكون فيها لبساً. لهذا فالكفار لم يكونوا يرون أنّ ما وقع مرافقاً لدعوة محمد معجزات؛ حيث إنهم يعتبرون نَقْلَ المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله) لما حصل أمامهم كذباً، ويعتبرون ما وقع أمامهم هم أنفسهم أو ما وقع أمام آخرين منهم مجرد سحر أو أوهام، ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14 - 15]، أو مجرد تخرصات وتأول لحوادث طبيعية تحصل كل يوم، فمن يهلكه الله مباشرة بحصان يجرّه للنار أو يقع عليه حجر ويقتله لتجاوزه على محمد (صلى الله عليه وآله)؛ هم يعتبرونه مجرد حادث طبيعي، وأنّ الموت جاري ويحصل كل يوم. ونقْل المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله) لحنين الجذع الذي في المسجد لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ يعتبره المخالفون كذباً، وأنّ المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله) يحاولون التسويق لمحمد (صلى الله عليه وآله)،

            وهكذا تستمر عملية الرد على المعجزات غير القاهرة التي تبقي للغيب مساحة، وهذا قولهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50]، أي أنهم يريدون آيات قاهرة واضحة لا لبس فيها لا تبقي للإيمان بالغيب أي نسبة، هذا هو مختصر طلبهم، وهو طلب مستمر إلى اليوم، في حين أنه منافي للعقل والنص الديني وللسنة الإلهية، ولم يقع فيما مضى ولن يقع فيما بقى؛ لأنّ معناه إلغاء امتحان بعض الخلق رغم أنهم دخلوا للدنيا للامتحان، وهذا سفه لا يصدر من حكيم مطلق، فكيف يدخل الناس للامتحان ثم يلغي امتحان بعضهم دون بعض ودون سبب راجح ودون أنْ يكون هناك مائز بين من ألغي امتحانه وبين من يتم امتحانه؟!!!

            وكيف يدخل من ألغي امتحانه للجنة في حين يدخل الممتحن إلى النار إنْ فشل في الامتحان، أين هي إذن عدالة الله سبحانه وتعالى في هذا القول والافتراء على الله؟!!!

            فالمحصلة من القرآن والعقل معاً؛ إنّ مسألة المعجزة لها حدود وقيود، وليست بالعبثية والعشوائية التي يصورها العلماء غير العاملين، خصوصاً وهم يواجهون الأنبياء والأوصياء في كل زمان.

            فالمعجزة كما تبيّن لا تأتي لرغبة الرسول ولا رغبة المكلفين، بل هي أمر الله يجريه الله متى شاء وأينما شاء. والمعجزة المادية إنْ جاءت يجب أنْ لا تلغي مساحة الغيب؛ لأن القانون الإلهي والسنة الإلهية هي الإيمان بالغيب، بينما وللأسف يطلب أكثر الناس وعلى مر العصور معجزات تقهرهم على الإيمان ولا تبقي أي مساحة للتأول أو الشك، وبالتالي فهم يطلبون إيماناً مادياً محضاً لا مساحة للغيب فيه، وهذا إيمان لا يقبل، وبالتالي فهم يطلبون طلباً سفيهاً لا يحققه الله لهم؛ لأنه حكيم مطلق ولا يجاري السفهاء في سفاهتهم.
            في الإنجيل:
            عيسى (عليه السلام) والمعجزة كما في الإنجيل:

            «38عِنْدَئِذٍ أَجَابَهُ بَعْضُ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نَرْغَبُ فِي أَنْ نُشَاهِدَ آيَةً تُجْرِيهَا!» 39فَأَجَابَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ خَائِنٌ يَطْلُبُ آيَةً؛ وَلَنْ يُعْطَى آيَةً إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. 40فَكَمَا بَقِيَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هَكَذَا سَيَبْقَى ابْنُ الإِنْسَانِ فِي جَوْفِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» ([99]).

            «11فَأَقْبَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَأَخَذُوا يُجَادِلُونَهُ، طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ لِيُجَرِّبُوهُ. 12فَتَنَهَّدَ مُتَضَايِقاً، وَقَالَ: «لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: (لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً! )» 13ثُمَّ تَرَكَهُمْ»([100]).

            فكما نلاحظ في النصين الإنجيليين عيسى (يسوع) يقول: «جِيلٌ شِرِّيرٌ خَائِنٌ يَطْلُبُ آيَةً؛ وَلَنْ يُعْطَى آيَةً». وقال: «لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: (لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً!) «.

            ففي كلا النصين هناك تأكيد على أنّ الآية (المعجزة) التي يطلبونها لن تأتي، ومعنى هذا أنهم يطلبون معجزة من نوع آخر (قاهرة) غير نوع المعجزات التي أتت، وإلا لتناقضت أقوال عيسى في الإنجيل، فهناك نصوص في الإنجيل تقول إنّ هناك آيات (معجزات) حدثت، وكمثال:

            «وبينما هو يتكلم جاءوا من دار رئيس المجمع قائلين ابنتك ماتت. لماذا تتعب المعلم بعد. فسمع يسوع لوقته الكلمة التي قيلت فقال لرئيس المجمع لا تخف. آمن فقط. ولم يدع احد يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب. فجاء إلى بيت رئيس المجمع ورأى ضجيجا. يبكون ويولولون كثيرا. فدخل وقال لهم لماذا تضجون وتبكون. لم تمت الصبية لكنها نائمة. فضحكوا عليه. أما هو فاخرج الجميع واخذ أبا الصبية وأمها والذين معه ودخل حيث كانت الصبية مضطجعة. وامسك بيد الصبية وقال لها طليثا قومي. الذي تفسيره يا صبية لك أقول قومي. وللوقت قامت الصبية ومشت. لأنها كانت ابنة اثنتي عشر سنة. فبهتوا بهتا عظيما. فأوصاهم كثيرا أن لا يعلم احد بذلك. وقال ان تعطى لتأكل» ([101]) .

            «وفيما هو يكلمهم بهذا اذا رئيس قد جاء فسجد له قائلا إن ابنتي الآن ماتت. لكن تعال وضع يدك عليها فتحيا. فقام يسوع وتبعه هو وتلاميذه. واذا امرأة نازفة دم منذ اثنتي عشرة سنة قد جاءت من ورائه ومسّت هدب ثوبه. لأنها قالت في نفسها إن مسست ثوبه فقط شفيت. فالتفت يسوع وابصرها فقال ثقي يا ابنة. إيمانك قد شفاك فشفيت المرأة من تلك الساعة» ([102]).

            «ولما اكمل أقواله كلها في مسامع الشعب دخل كفرناحوم. وكان عبد لقائد مئة مريضا مشرفا على الموت وكان عزيزا عنده. فلما سمع عن يسوع ارسل إليه شيوخ اليهود يسأله أن يأتي ويشفي عبده. فلما جاءوا إلى يسوع طلبوا إليه باجتهاد قائلين انه مستحق أن يفعل له هذا. لأنه يحب امتنا وهو بنى لنا المجمع. فذهب يسوع معهم. وإذ كان غير بعيد عن البيت ارسل إليه قائد المئة أصدقاء يقول له يا سيد لا تتعب. لأني لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي. لذلك لم احسب نفسي أهلا أن آتي إليك. لكن قل كلمة فيبرأ غلامي. لأني أنا أيضا إنسان مرتّب تحت سلطان. لي جند تحت يدي. وأقول لهذا اذهب فيذهب ولآخر ائت فيأتي ولعبدي افعل هذا فيفعل. ولما سمع يسوع هذا تعجب منه والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال أقول لكم لم اجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا. ورجع المرسلون إلى البيت فوجدوا العبد المريض قد صحّ. وفي اليوم التالي ذهب إلى مدينة تدعى نايين وذهب معه كثيرون من تلاميذه وجمع كثير. فلما اقترب إلى باب المدينة اذا ميت محمول ابن وحيد لامّه وهي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة. فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها لا تبكي. ثم تقدم ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال أيها الشاب لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى امه. فاخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه. وخرج هذا الخبر عنه في كل اليهودية وفي جميع الكورة المحيطة. فاخبر يوحنا تلاميذه بهذا كله» ([103]).

            كما نلاحظ أنّ الجامع المشترك لإحياء الموتى في النصوص أعلاه هو أنهم ماتوا خلال فترة قريبة ساعات مثلاً (ابنتي الآن ماتت) ولم يقبروا، ولهذا ببساطة يمكن أنْ يحاجج من يتخذ اللبس مركباً أنّ هؤلاء كان مغمى عليهم، أو أي عذر للطعن بالمعجزة التي حدثت. أيضاً الشفاء يجري مجرى هذا.

            أما النصوص التي تروي المعجزة على أنها قاهرة في الإنجيل أو التوراة، فنحن لا نعتقد بصحتها، وحتى المسيحيين أنفسهم يلزمهم عدم الاعتقاد بصحة كل النصوص حرفياً؛ حيث لديهم أكثر من نص تأريخي للحوادث أو المعجزات، فأكيد أنّ بعضها - على الأقل - غير دقيق، فلا يمكن اعتماد صحة كلا نصّي إنجيلي متى ويوحنا إنْ تعارضا مثلاً.

            الخلاصة:

            المعجزة المادية التي يمكن أنْ تأتي من الله ويقبل الله إيمان من يؤمن بسببها؛ هي المعجزة المادية غير القاهرة، كتحوّل عصا موسى (عليه السلام) إلى ثعبان ([104])، وسماع بعض المؤمنين أنين الجذع لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإطعام رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) الخلق الكثير بالطعام القليل، وهلاك بعض من كان في الطف بدعاء الإمام الحسين (عليه السلام)، وانتصار مظلومية الحسين (عليه السلام)، وشفاء بعض المرضى، وغيرها من معجزات الأنبياء والأوصياء، وهذه المعجزات مشتبهة - بقدرٍ ما - على أكثر الناس الذين واجهوها؛ حيث لا يمكنهم التمييز - مئة بالمئة - إنْ كان الأمر كما قال فرعون: سحران تظاهرا، أم أنّ ما جاء به موسى معجزة وما جاء به السحرة سحر فقط ([105])، وهذا يعني أنّ المعجزة - غير القاهرة - ليست دليلاً قائماً بذاته، وإنما هي مؤيد ودليل داعم للنص.

            أما من يعتبرون المعجزة غير القاهرة دليلاً قائماً بذاته؛ فغاية ما يحتجون به هو: إنّ المعجزة لو أجريت على يد المبطل لكانت إضلالاً للناس، وهو أمر لا يصدر من الحكيم المطلق. ولكنهم لم يلتفتوا إلى أنّ الكلام في نفس إثبات كونها معجزة للناس الذين يواجهونها، فالأمر مشتبه وفيه لبس كما نص القرآن ([106])، وكما بيّنت وكما هو بيِّن في كل معاجز الأنبياء التي وقعت أمام غير المؤمنين والتي هي موضوع البحث كعصا موسى (عليه السلام).

            إذن، موضع المعاجز في دين الله هو أنها مؤيد ودليل غير مستقل بذاته، بل بانضمامه إلى غيره، أي أنها لو أتت مع الدليل القائم بذاته، فستكون زائدة عن الحاجة، وموضعها في دين الله سيكون لزيادة اليقين، وحث الناس على الإيمان بخليفة الله في أرضه الذي أتى بالدليل (النص).
            نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

            Comment

            • ya howa
              مشرف
              • 08-05-2011
              • 1106

              #7
              رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

              هذا يعني أيضاً أنّ طريق معرفة الإمام المهدي الغائب منذ أكثر من ألف عام مسدود عند من دليلهم عليه هو أنْ يأتيهم بالمعجزة.
              مناقشة بعض الأقوال في المعجزة:

              قال الحلي:

              «الثالث: الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه لأن العصمة من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلا الله تعالى فلا بد من نص من يعلم عصمته عليه أو ظهور معجزة على يده تدل على صدقه»([107]).

              قال المقداد السيوري وهو يعلق على قول الحلي:

              «أقول: هذه إشارة إلى طريق تعيين الإمام، وقد حصل الإجماع على أن التنصيص من الله ورسوله وإمام سابق سبب مستقل في تعيين الإمام (عليه السلام)، وإنما الخلاف في أنه هل يحصل تعيينه بسبب غير النص أم لا، فمنع أصحابنا الإمامة من ذلك مطلقا وقالوا لا طريق إلا النص، لأنا قد بينا أن العصمة شرط في الإمامة، والعصمة أمر خفي لا اطلاع عليه لأحد إلا الله فلا يحصل حينئذ العلم بها، في أي شخص هي، إلا بإعلام عالم الغيب وذلك يحصل بأمرين: أحدهما: إعلامه بمعصوم كالنبي (صلى الله عليه وآله) فيخبرنا بعصمة الإمام (عليه السلام) وتعيينه. وثانيهما: إظهار المعجزة على يده الدالة على صدقه في ادعائه الإمامة»([108]).

              بيّنت فيما تقدم أنّ النص من الحجة السابق المباشر أو غير المباشر؛ هو الدليل لتشخيص خليفة الله في أرضه. أما المعجزة فمؤيد، وأما كلام الحلي والسيوري في المعجزة هنا فليس له وجه إلا إن كان مبنياً على أنّ المعجزة عند الإتيان بها تأتي ظاهرة بشكل لا لبس فيه، على أنها معجزة لمن يواجهون بها، وهذا أمر غير موجود في أرض الواقع بالنسبة للمعاجز التي يقبل إيمان من يؤمن عندما تظهر أمامه، حيث إنها تكون مشتبهة وفيها لبس لكي لا تلغي مساحة الغيب من الإيمان، ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 9]. إذن، لا يمكن في الواقع تطبيق القاعدة العقلية المتقدمة إلا على المعجزة القاهرة عندما تظهر للناس؛ لأنها لا تبقي مساحة للبس والشبهة، وهذه ليست موضوع البحث كما تقدم، فهي أصلاً ليست موضوعاً للإيمان، ولا يقبل إيمان من يؤمن بها، كما تبين سابقاً عند مناقشة هذا الأمر عقلاً ونقلاً.

              فالحقيقة إنّ المشكل الذي واجهه هؤلاء الفقهاء وجعلهم يقعون في هذا الخطأ؛ هو أنهم لم يتمكنوا من التمييز بين المعجزة القاهرة التي لا يقبل إيمان من يؤمن بسببها، كما حصل مع فرعون عندما فلق الله البحر لموسى (عليه السلام)، وغير القاهرة التي يقبل إيمان من يؤمن بسببها، كما حصل مع السحرة عندما تحولت عصا موسى (عليه السلام) إلى أفعى والتهمت عصيهم التي كان يراها الناس أفاعي تسعى، فهذه الأخيرة والتي هي موضوع البحث مشتبهة وفيها لبس، وهي لمن واجهها ليست معجزة ظاهرة مئة بالمئة.
              خلافة محمد (صلى الله عليه وآله) :
              أولاً - النص:

              خلافة الله في أرضه ممتدة منذ أنْ بعث الله آدم (عليه السلام)، وبالنسبة لنا لن نتعرض هنا لإثبات خلافة خلفاء الله الذين سبقوا محمداً (صلى الله عليه وآله)، وسنكتفي بالتعرض لإثبات خلافة محمد (صلى الله عليه وآله). وبما أنّ إثبات خلافة أي خليفة إلهي يحتاج للنص، لهذا سنعتمد النصوص في الكتب الإلهية المعتمدة في الديانتين الإبراهيميتين اللتين سبقتا الإسلام أي اليهودية والمسيحية، وهذه الكتب هي العهدان القديم والجديد.

              التكوين - الأصحاح الحادي والعشرون:

              «فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع. 15 ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار. 16 ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس. لأنها قالت لا أنظر موت الولد. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت. 17 فسمع الله صوت الغلام. ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها مالك يا هاجر. لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. 18 قومي احملي الغلام وشدي يدك به. لأني سأجعله أمة عظيمة. 19 وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء. فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام. 20 وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. 21 وسكن في برية فاران».

              وعند الله كثرة العدد لا تمثل أمة عظيمة، فالمراد من الأمة العظيمة - والعظمة لله سبحانه - هم الأنبياء والأوصياء، أي المقصود بالأمة العظيمة من إسماعيل (عليه السلام) هم أنبياء وأوصياء من ذريته، وهؤلاء هم محمد وآل محمد بالخصوص خلفاء الله في أرضه، وهم فقط الأمة العظيمة المعروفة اليوم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، فمن ينكرهم ينكر ما بشرت به التوراة، وينكر أهم أسفارها؛ سفر التكوين.

              حبقوق - الأصحاح الثالث:

              «1 صلوة لحبقوق النبي على الشجوية 2 يا رب قد سمعت خبرك فجزعت. يا رب عملك في وسط السنين أحيه. في وسط السنين عرف. في الغضب أذكر الرحمة 3 الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السموات والأرض امتلأت من تسبيحه. 4 وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته. 5 قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى».

              تيمان تعني اليمن، وفاران تعني مكة، فيكون معنى النص أعلاه:

              «الله جاء من تيمان»: أي الله جاء من اليمن.

              و «القدوس من جبل فاران»: أي القدوس جاء من مكة.

              وتعالى الله أنْ يوصف بالمجيء من السماء فكيف من الأرض؟! لأنّ الإتيان والمجي تستلزم الحركة، وبالتالي الحدوث، وبالتالي نفي القدم والأزلية، وبالتالي نفي الألوهية المطلقة. فلا يمكن اعتبار أنّ الذي يجيء من تيمان أو اليمن هو الله سبحانه وتعالى، ولا الذي يجيء من فاران هو الله سبحانه وتعالى. هذا فضلاً عن الأوصاف الأخرى كاليد والأرجل تعالى الله عنها علواً كبيراً، «وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته. 5 قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى».

              وبالتالي فالذي جاء وينطبق عليه الوصف الذي في النص أعلاه تماماً هو عبد الله ورسوله محمد، وآله من بعده؛ حيث إنهم من مكة (فاران) ومحمد وآل محمد يمانيون أيضاً؛ لأنّ مكة تهامية وتهامة من اليمن (تيمان). ومجيء محمد هو مجيء الله؛ لأنّ محمداً هو الله في الخلق، كما بيَّنته سابقاً في كتاب التوحيد ([109]).

              ومسألة أنّ تيمان تعني اليمن قد ورد في الإنجيل أيضاً على لسان عيسى (عليه السلام) عندما سمى ملكة اليمن بملكة التيمن (أو تيمان).

              إنجيل متى - الأصحاح الثاني عشر:

              «ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه. لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان. وهو ذا أعظم من سليمان ههنا».

              إنجيل لوقا - الأصحاح الحادي عشر:

              «ملكة التيمن ستقوم في الدين مع رجال هذا الجيل وتدينهم. لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان».

              إشعيا- الأصحاح الحادي عشر:

              «1 ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله 2 ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب. 3 ولذته تكون في مخافة الرب فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. 4 بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه. 5 ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه 6 فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معاً وصبي صغير يسوقها. 7 والبقرة والدبة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً. 8 ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على حجر الأفعوان. 9 لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر. 10 ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجداً 11 ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من أشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماة ومن جزائر البحر. 12 ويرفع راية للأمم ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض».

              النص أعلاه من العهد القديم وهو يتكلم عن المنقذ في آخر الزمان، وقد فسره المسيحيون بعيسى (عليه السلام) (يسوع)، لكن تفسير المسيحيين للغصن بأنه عيسى (عليه السلام) غير صحيح؛ حيث إنّ النص يأبى تفسيرهم ويناقض عقيدتهم. فعيسى (عليه السلام) بحسب معتقدهم هو الرب المطلق نفسه، فكيف يخاف من الرب وتكون لذته في مخافة الرب؟!! وربما يعلِّلون هذا باللجوء إلى عقيدة الأقانيم الثلاثة الباطلة والمتناقضة والتي بيَّنت بطلانها بالدليل في كتاب التوحيد.

              كما أنّ عيسى لم يحكم ولم يقضِ بين الناس، فهو لم يتمكّن من إقامة العدل أو إنصاف المظلومين، فكيف ينطبق عليه النص أعلاه؟!

              وعيسى (عليه السلام) لم يتحقق في زمنه ما يصوّره النص من أنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر، ويكون لهذه المعرفة أثر وهو أنّ الأغنياء يواسون الفقراء، وأنّ القوي يعين الضعيف، وأنّ تخلو الأرض من الظلم تقريباً، فلم يتحقق هذا حتى على مستوى منطقة أو مدينة صغيرة.

              فالنص كله تقريباً بعيد كل البعد عن عيسى (عليه السلام) وعن دعوته، فهو لم يجمع منفيي إسرائيل (يعقوب عندهم)؟؟ ولم يضمَّ مشتتي يهوذا (ابن يعقوب عندهم) من أطراف الأرض؟؟ ولو قالوا: جمعهم وضمّهم بالإيمان به، أيضاً لا يصح؛ لأنّ دعوة عيسى (عليه السلام) إلى حين رفعه لم تتجاوز حدود مدن قليلة على مستوى التبليغ بها فضلاً عن الإيمان والاعتقاد بها. بينما نجد النص يقول: إنّ هذا الشخص يضم مشتتي يهوذا من أطراف الأرض، أي أنّ معنى النص: أنّ هذا الشخص يؤمن به ويعتقد به في زمن بعثته أناس كثيرون من مختلف دول العالم ومن الدول النائية عن مكان بعثته بالخصوص (أطراف الأرض).

              «ويرفع راية للأمم ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض»:

              كلمة يهوذا معناها بالعربي: (حمد) أو أحمد.

              في التوراة في سفر التكوين - الأصحاح التاسع والعشرون:

              «35 وحبلت أيضاً وولدت ابناً وقالت هذه المرة أحمد الرب. لذلك دعت اسمه يهوذا. ثم توقفت عن الولادة» ([110]).

              وكلمة إسرائيل معناها بالعربي: عبد الله.

              فيكون النص: «ويرفع راية للأمم ويجمع منفيي إسرائيل "عبد الله" ويضم مشتتي يهوذا "أحمد" من أربعة أطراف الأرض».

              ومحمد عند بعثه نزل القرآن في أنه هو أحمد أو (يهوذا) المبشّر به في الكتاب، أي أنه ادعى أنّ هذا النص ينطبق عليه، وكما أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) قال: أنا عبد الله وأنا إسرائيل وما عناه عناني.

              إذن، فأحمد (يهوذا) وعبد الله (إسرائيل) المبشر به في الكتاب المقدس قد جاء وادعى النص وهو محمد (صلى الله عليه وآله).

              أيضاً: في الإسلام (المشتتون) الذين يجتمعون كقزع الخريف من أطراف الأرض لنصرة القائم (المهدي الأول أحمد) هم أنصار الإمام المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان، كما هو معلوم من روايات محمد وآل محمد.

              أما النص من الله سبحانه وتعالى، فالله في القرآن بيّن أنه سبحانه وتعالى نص على محمد لمن طلبوا نص الله سبحانه، وقدّم نفسه شاهداً لمن يطلبون شهادته. وطريق شهادة الله للناس هو الملكوت، أي الرؤى المحكمة التي يراها الإنسان ويتضح له منها طريق الحق.

              قال تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ [الإسراء: 96].

              ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 43].

              ومن يطلبون شهادة الله لمحمد (صلى الله عليه وآله)؛ فالله بالأمس واليوم وغداً يقدم نفسه شاهداً لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله). فعلى الإنسان فقط الإخلاص في طلبه لله لمعرفة الحق، وسيكلّمه الله بالرؤى والطرق الملكوتية الروحية، ويبيّن له الحق وأنه مع محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله).

              وفي زمن رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) طلب كثير من الناس شهادة الله لهم بالرؤى، وقد شهد الله لهم وآمنوا نتيجة رؤاهم المحكمة التي رأوها والتي بيّن فيها الله لهم حق محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله). وهذه بعض الرؤى التي شهد الله فيها لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) :

              عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:

              «دخل جندب ابن جنادة اليهودي من خيبر على رسول الله، فقال: يا محمد، أخبرني عما ليس لله وعما ليس عند الله وعما لا يعلمه الله. فقال رسول الله: أما ما ليس لله فليس لله شريك، وأما ما ليس عند الله فليس عند الله ظلم للعباد، وأما ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود "إنه عزير ابن الله" والله لا يعلم له ولداً. فقال جندب: أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله حقاً. ثم قال: يا رسول الله، إني رأيت البارحة في النوم موسى بن عمران ع فقال لي: يا جندب أسلم على يد محمد واستمسك بالأوصياء من بعده...) ([111]).

              2. أخرج ابن عساكر في قصة إسلام سعد بن أبي وقاص بسنده:

              «عن عائشة بنت سعد قالت: سمعت أبي يقول: رأيت في المنام قبل أن أسلم بثلاث كأني في ظلمة لا أبصر شيئاً إذ أضاء لي قمر فاتبعته فكأني أنظر إلى من سبقني إلى ذلك القمر فأنظر إلى زيد بن حارثة وإلى علي بن أبي طالب وإلى أبي بكر وكأني أسألهم: متى انتهيتم إلى ها هنا ؟ قالوا: الساعة، وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مستخفياً، فلقيته في شعب أجياد وقد صلى العصر فقلت: إلى ما تدعو ؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: قلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله»([112]).

              3. روى ابن سعد والحاكم وغيرهما:

              «قال محمد بن عمر قال حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال كان إسلام خالد بن سعيد قديماً وكان أول إخوته أسلم وكان بدء إسلامه أنه رأى في النوم أنه واقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله به أعلم ويرى في النوم كأن أباه يدفعه فيها ويرى رسول الله آخذا بحقويه لئلا يقع ففزع من نومه فقال أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق ... فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد فقال: يا محمد إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده. قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فسر رسول الله بإسلامه..»([113]).

              أيضاً يضاف إلى النص المعجزات التي أيد الله بها دعوة محمد (صلى الله عليه وآله).
              ثانياً - العلم والحكمة:

              في الكتاب المقدس هناك الحكمة والعلم والدعوة إلى الله، وبيان أنّ دعاة الشيطان يتكلمون بالسفه، بينما دعاة الله يتكلمون بالحكمة، وقد جاء محمد (صلى الله عليه وآله) بالحكمة والعلم.

              قال عيسى (عليه السلام) :

              «...وكان يخرج شيطاناً وكان ذلك أخرس. فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس. فتعجب الجموع. 15 وأما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. 16 وآخرون طلبوا منه آية من السماء يجربونه. 17 فعلم أفكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وبيت منقسم على بيت يسقط. 18 فإن كان الشيطان أيضاً ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته ...»([114]).

              فمن يؤمنون بالإنجيل ليقرأوا نصوصاً من القرآن ويتدبروها بإنصاف، ثم على ضوء النص الإنجيلي السابق؛ هل يمكنهم اعتبار هذه النصوص شيطانية كما يفعل الموتورون الذين لا همَّ لهم إلا سبّ محمد؟

              وهذه أمثلة من النصوص القرآنية:

              ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].

              ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ [النساء: 36].

              ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18].

              ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 23].

              فليقرأوا هذه الآيات من سورة الإسراء ويسألوا أنفسهم:

              هل الشيطان يدعو لعبادة الله وحده؟ هل الشيطان يدعو لمكارم الأخلاق، والإحسان للوالدين وللفقراء، وإنفاق المال ومساعدة من يحتاج للمساعدة، وينهى عن القتل، وعن الزنا، وعن الاعتداء على مال اليتيم، ويأمر بالإيفاء بالوعد، والإيفاء بالكيل؟

              وإذا كان الشيطان يأمر بهذه الأخلاق الطيبة فالله سبحانه وتعالى يأمر بماذا عندهم؟

              أليست هذه هي وصايا كل الأنبياء وحكمتهم التي جاءوا بها من عند الله:

              ﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً * وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾ [الإسراء: 22 - 39].

              عيسى (عليه السلام) قال:

              «كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وبيت منقسم على بيت يسقط. 18 فإن كان الشيطان أيضاً ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته».

              أليس المفروض بالمسيحيين أنْ يجعلوا هذا القول مقياساً يقايسون به ما جاء في القرآن ليعلموا أنه من عند الله.

              أليس هذا هو قياس عيسى (عليه السلام)، فلماذا الإعراض عنه؟! اللهم إلا الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه؟

              القرآن مليء بالحكمة والدعوة إلى الخير وإلى التحلي بالأخلاق الطيبة الكريمة، فكيف يكون من الشيطان السفيه الذي يدعو إلى الشر وإلى الأخلاق الذميمة، هل الشيطان منقسم على نفسه؟ هل مملكة الشيطان منقسمة على نفسها؟

              أليس هكذا يميز الشيطان بأنه يدعو لإقامة مملكته وليس لهدمها.

              أعتقد أنّ الناس - لو أرادوا - فهم قادرون على التمييز بين الحكمة والسفه، بين الخير والشر، بين الأخلاق الطيبة وبين الأخلاق الذميمة.

              ومملكة الشيطان غير منقسمة على نفسها، فلا تدعو للخير بل للشر؟ ولا تدعو للأخلاق الكريمة بل للأخلاق الذميمة؟

              «كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وبيت منقسم على بيت يسقط. 18 فإن كان الشيطان أيضاً ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته».

              ثم فلننظر إلى التصحيح العقائدي الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه من بعده، والعودة للتوحيد ونقض عقيدة الثالوث، وقد بيّنت كيف أنّ هذه العقيدة باطلة وغير صحيحة من نفس الإنجيل، ومن يأتي بالحق أحق أنْ يتبع فمن أبطل عقيدة الكنيسة ومن الكتاب المقدس بصورة لا لبس فيها أحق أنْ يتبع ([115]).

              وأيّ منصف يقرأ القرآن بتجرّد يجد أنّ العلم والحكمة التي جاء بها محمد في القرآن حكمة بالغة لا يمكن أنْ تكون إلا منه سبحانه.
              ثالثاً - حاكمية الله:

              محمد (صلى الله عليه وآله) طالب بحاكمية الله، بل ولما سنحت له الفرصة طبّق حاكمية الله في المدينة المنورة ثم مكة والحجاز، وبيَّن بوضوح أنّ الحق في حاكمية الله، وأنّ كلَّ فرق المسلمين التي ستخرج عن حاكمية الله هي فرق ضالة. وحديث الفرقة الناجية وصفتها أشهر من نار على علم.

              عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قال من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي»([116]).

              وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهن في النار إلا واحدة قالوا وما تلك الفرقة قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي»([117]).

              وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثل بمثل وإنهم تفرقوا على اثنين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم واحدة كلها في النار غير واحدة. قال: قيل: يا رسول الله وما تلك الواحدة؟ قال هو: ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي»([118]).

              إذن، صفة الفرقة الناجية هي أنها فرقة فيها علاقة كما كانت العلاقة بين رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وهي علاقة واضحة فرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) قائد منصّب من الله وأصحابه مؤمنون بهذه القيادة الإلهية.

              تبقى مسألة الإشكال والجدال، فهذا يقول لماذا محمد فعل كذا، ولماذا قال كذا، ولو كان رسول لما قال هذا ولما فعل ذاك، والقرآن مخالف لقواعد العربية والنحو وفيه لحن وركاكة في البلاغة، وإشكالات يمكن أنْ توجه نفسها إلى أيِّ رسول أو كتاب أو دين إلهي آخر، وهي مردودة.

              في حين أننا لابد أنْ نلتفت إلى أنّ من ينتقل إلى الإشكال قبل أنْ يرد الدليل وينقضه ويبيِّن أنه ليس دليلاً، فهو في الحقيقة قد أقرَّ الدليل والعقيدة التي يشكل عليها وأنفذها، وإنما هو بإشكاله في طور تجليتها وإظهارها؛ لأنّ الإشكالات لا تعدو كونها إشكالات ترد ولا قيمة لها في الحقيقة، غير أنها أداة استخفاف طاغوتية يستعملها علماء الضلال والطواغيت لاستخفاف أتباعهم وإبقائهم على اتّباعهم وتقليدهم الأعمى ليحتفظوا بمناصبهم ودنياهم.

              وهم بعد أنْ تهدم عقيدتهم الباطلة وتسقط كل إشكالاتهم يعودون إلى أتفه إشكال، هدفهم منه إثارة عواطف أتباعهم تجاه آبائهم وسلفهم، وهو إشكال فرعون على نبي الله موسى (عليه السلام) حيث كان قول فرعون: ﴿... فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه: 51]، فكان جواب موسى (عليه السلام) : ﴿...عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ [طه: 52].

              وقد بيّنت جواب هذا الإشكال أيضاً في مسألة أزمنة الفترات وحال الناس فيها.
              استمرار خلافة الله في أرضه بعد رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) :
              ختم النبوة:

              النبوة بمعناها العام أي معرفة بعض أنباء السماء لا تختص بخلفاء الله في أرضه، بل هي متاحة لكل الخلق وكل من يخلص لله فإنّ الله يمكن أنْ يفتح له باب معرفة بعض أنباء السماء، وبهذا فهو يكون نبياً بهذا المعنى أي عارف ببعض الأنباء من السماء، والنبوة بهذا المعنى حتماً متاحة لكل خلفاء الله صلوات الله عليهم؛ لأنهم سادة المخلصين لله سبحانه وتعالى، وسادة خلفاء الله بعد محمد (صلى الله عليه وآله) هم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فلا معنى لفهم أنّ ختم النبوة يعني أنهم (صلوات الله عليهم) لا يوحى إليهم.

              إذن، فما هو ختم النبوة بعد محمد (صلى الله عليه وآله)؟

              في الحقيقة إنّ النبوة الرسالية من الله هي التي ختمت بمحمد (صلى الله عليه وآله)، وسبب هذا الختم هو بعث خليفة الله الكامل محمد (صلى الله عليه وآله)، والوصول إلى غاية الخلق وهي خليفة الله الكامل محمد (صلى الله عليه وآله) الذي يقوم مقام الله في الإرسال، لهذا افتتحت به النبوة الرسالية منه (صلى الله عليه وآله)، و هذا التغيير حتمي بعد أنْ وصلت النوبة إلى خليفة الله الكامل محمد (صلى الله عليه وآله) الذي مثَّل اللاهوت في الخلق ([119]).

              خلفاء الله بعد رسول الله محمد - خليفة الله الكامل - لهم مقام النبوة، ولكنهم رسل من محمد (صلى الله عليه وآله)، فمرسلهم والمهيمن على إرسالهم محمد (صلى الله عليه وآله). وهذا المعنى يوضح معنى الروايات التي تنفي نبوتهم والأخرى التي تثبت أنهم يوحى لهم، فالمنفي هو النبوة الرسالية من الله سبحانه وتعالى، وليس مطلق النبوة الرسالية.

              في بصائر الدرجات:
              نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

              Comment

              • ya howa
                مشرف
                • 08-05-2011
                • 1106

                #8
                رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                «حدثنا عمران بن موسى عن موسى بن جعفر عن الحسين بن علي عن علي بن عبد العزيز عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك آن الناس يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجه علياً (عليه السلام) إلى اليمن ليقضى بينهم فقال علي فما وردت علي قضية آلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله (صلى الله عليه وآله). فقال: صدقوا.

                قلت: وكيف ذاك ولم يكن انزل القرآن كله وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) غائبا عنه؟ فقال: تتلقاه به روح القدس»([120]).

                وفي الكافي:

                «عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً فَقُلْتُ فَتَقُولُ نَبِيٌّ قَالَ فَحَرَّكَ بِيَدِه هَكَذَا ثُمَّ قَالَ أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ أومَا بَلَغَكُمْ أَنَّه قَالَ وفِيكُمْ مِثْلُه»([121]).

                ويجب الالتفات إلى أنّ ختم النبوة الرسالية من الله، وافتتاح النبوة الرسالية من محمد (صلى الله عليه وآله) لا يعني أفضلية السابقين؛ لأنّ هذا الأمر بحد ذاته لا يعني أفضلية معينة، حيث إنّ الرسالة من محمد هي رسالة من الله سبحانه وتعالى، فالإرسال السابق من الله ومن خلال محمد (الحجاب الأقرب)؛ لكونه لم يُبعث، والإرسال اللاحق من الخليفة الكامل محمد (صلى الله عليه وآله) وبأمر الله كونه قد بُعث.

                وسيأتي الكلام في علم خلفاء الله في أرضه وأنه وحي ساعة بساعة بخصوص ما يحتاجه الناس في أمور دينهم. وهنا أورد رواية في مصدر علمهم تناسب المقام، يبيّن فيها الإمام أنهم رسل من محمد (صلى الله عليه وآله)، وأن من يعلمهم هو رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله). وبالطبع بالنسبة لخلفاء الله بعد علي بن أبي طالب؛ فإنّ علياً هو باب محمد (صلى الله عليه وآله) مدينة العلم، فلا مانع أنْ يكون هو طريق علمهم أيضاً:

                «حدثنا عبد الله بن محمد عن محمد بن الوليد أو عمن رواه عن محمد بن الوليد عن يونس بن يعقوب عن منصور بن حازم قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عندنا صحيفة فيه أرش الخدش. قال: قلت: هذا هو العلم. قال: إن هذا ليس بالعلم إنما هو اثرة إنما العلم الذي يحدث في كل يوم وليلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) » ([122]).
                الأصل هو الخلافة الإلهية:

                الملك لله، ولا يحق لأحد التصرف في ملك الله إلا بإذنه، فمن يريد أنْ يخرج التصرف بملك الله من الله إلى الناس لتكون للناس ولاية تنصيب الخليفة أو الحاكم - كما هو اعتقاد السنة -، عليه أنْ يأتي بالدليل على أنّ الله أذن بهذا، وإلا فالأمر على ما هو عليه بالأصل؛ وهو أنّ الولاية لله ولا تنتقل إلا بإذن منه سبحانه وتعالى وتنصيب منه سبحانه وتعالى.

                فالأصل الثابت هو خلافة الله في أرضه بتعيين إلهي، وأنّ لكل زمان خليفة لله في أرضه يعيّنه الله.

                كما أنها سنة الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾، ومن يريد نقضه يحتاج إلى دليل نقض وهو مفقود.

                ومنذ اليوم الأول مع آدم (عليه السلام) طبق هذا الأصل:

                فاستخلف الله آدم في الأرض وعيَّنه خليفته في أرضه:

                ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

                وزوّده بالعلم الديني:

                ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.

                وأمر الخلق بطاعته (تطبيق حاكمية الله) :

                ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34].

                واستمر هذا الأمر إلى محمد (صلى الله عليه وآله) - كسنة إلهية جارية -، ويستمر بعد محمد (صلى الله عليه وآله) إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، وتنتهي الخلافة بنهاية وجود المكلفين على هذه الأرض.

                ويدل عليه النقل عند السنة:
                الأحاديث في خلافة علي (عليه السلام) لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) :
                علي هو الهادي بعد رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)([123]) :

                وهذه نماذج من الروايات:

                أخرج ابن جرير الطبري في جامع البيان (13 / 142) بسنده: «عن ابن عباس، قال: لما نزلت "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" وضع (ص) يده على صدره، فقال: أنا المنذر ولكل قوم هاد، وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي»([124]).

                وأخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه (3 / 130) بسنده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" قال علي: «رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر وأنا الهادي» ([125]).

                وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (7 / 2225 برقم 12152) بسنده: «عن علي (عليه السلام)، لكل قوم هاد قال: الهاد رجل من بني هاشم. قال ابن أبي حاتم: قال ابن الجنيد: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه»([126]).

                وجاء أيضاً عن طرق الشيعة:

                وأخرج الكليني في الكافي (1 / 191 - 192) بسند صحيح أو حسن: «عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ" فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وَ لِكُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ الْهُدَاةُ مِنْ بَعْدِهِ عَلِيٌّ ثُمَّ الْأَوْصِيَاءُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ».

                وأخرج أيضاً (1 / 192) بسنده: «عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : "إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ" فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وَعَلِيٌّ الْهَادِي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ هَلْ مِنْ هَادٍ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ: بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا زَالَ مِنْكُمْ هَادٍ بَعْدَ هَادٍ حَتَّى دُفِعَتْ إِلَيْكَ. فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَوْ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَاتَتِ الْآيَةُ مَاتَ الْكِتَابُ وَ لَكِنَّهُ حَيٌّ يَجْرِي فِيمَنْ بَقِيَ كَمَا جَرَى فِيمَنْ مَضَى».

                وأخرج أيضاً (1 / 192) بسنده: «عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى "إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ" فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وَعَلِيٌّ الْهَادِي أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَهَبَتْ مِنَّا وَ مَا زَالَتْ فِينَا إِلَى السَّاعَةِ».
                حديث من كنت مولاه فعلي مولاه ([127]) :

                وهذه نماذج من الحديث في بعض المصادر:

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا ابن نمير ثنا عبد الملك عن أبي عبد الرحيم الكندي عن زاذان بن عمر قال سمعت عليا في الرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا انهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من كنت مولاه فعلي مولاه»([128]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله ثنا علي بن حكيم الأودي أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب وعن زيد بن يثيع قالا نشد على الناس في الرحبة من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم الا قام قال فقال من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد ستة فشهدوا انهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى رضي الله عنه يوم غدير خم أليس الله أولى بالمؤمنين قالوا بلى قال اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ([129]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ثنا يونس بن أرقم ثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهدت عليا رضي الله عنه في الرحبة ينشد الناس أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد قال عبد الرحمن فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلى أحدهم فقالوا نشهد انا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم فقلنا بلى يا رسول الله قال فمن كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ([130]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني حجاج ابن الشاعر ثنا شبابة حدثني نعيم بن حكيم حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم من كنت مولاه فعلى مولاه قال فزاد الناس بعد وال من والاه وعاد من عاداه»([131]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أنا علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد على رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون انى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد على فقال من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة»([132]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا حسين بن محمد وأبو نعيم المعنى قالا ثنا فطر عن أبي الطفيل قال جمع على رضى الله تعالى عنه الناس في الرحبة ثم قال لهم أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام فقام ثلاثون من الناس وقال أبو نعيم فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده فقال للناس أتعلمون انى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا نعم يا رسول الله قال من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فخرجت وكأن في نفسي شيئا فلقيت زيد بن أرقم فقلت له انى سمعت عليا رضى الله تعالى عنه يقول كذا وكذا قال فما تنكر قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له»([133]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن ميمون عن أبي عبد الله قال كنت عند زيد بن أرقم فجاء رجل من أقصى الفسطاس فسأله عن داء فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الست أولى المؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال من كنت مولاه فعلى مولاه قال ميمون فحدثني بعض القوم عن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»([134]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد ابن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت سعيد بن وهب قال نشد على الناس فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كنت مولاه فعلي مولاه»([135]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا اسود بن عامر أنا أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي سلمان عن زيد بن أرقم قال استشهد علي الناس فقال أنشد الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فقام ستة عشر رجلا فشهدوا»([136]).

                مسند أحمد: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يحيى بن آدم ثنا حنش بن الحرث بن لقيط النخعي الأشجعي عن رياح بن الحرث قال جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا السلام عليك يا مولانا قال كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب قالوا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم يقول من كنت مولاه فان هذا مولاه قال رياح فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء قالوا نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري»([137]).

                سنن ابن ماجة: «حدثنا علي بن محمد. ثنا أبو معاوية. ثنا موسى بن مسلم، عن ابن سابط، وهو عبد الرحمن، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قدم معاوية في بعض حجاته، فدخل عليه سعد، فذكروا عليا. فنال منه. فغضب سعد، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كنت مولاه فعلى مولاه". وسمعته يقول أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وسمعته يقول "لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله"؟»([138]).

                سنن الترمذي: «حدثنا محمد بن بشار أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبه عن سلمة بن كهيل قال سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم شك شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلى مولاه". هذا حديث حسن غريب»([139]).

                المستدرك - الحاكم النيسابوري: « (حدثنا) أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الحنظلي ببغداد ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ثنا يحيى ابن حماد (وحدثني) أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه وأبو بكر أحمد بن جعفر البزار (قالا) ثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل حدثني أبي ثنا يحيى بن حماد (وثنا) أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى ثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي ثنا خلف بن سالم المخرمي ثنا يحيى بن حماد ثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش قال ثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع ونزل غدير خم امر بدوحات فقممن فقال كأني قد دعيت فأجبت اني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله تعالى وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ثم قال إن الله عز وجل مولاي وانا مولى كل مؤمن ثم اخذ بيد علي رضي الله عنه فقال من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وذكر الحديث بطوله. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله.

                (شاهده) حديث سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل أيضا صحيح على شرطهما (حدثناه) أبو بكر بن إسحاق ودعلج بن أحمد السجزي (قالا) أنبأ محمد بن أيوب ثنا الأزرق بن علي ثنا حسان بن إبراهيم الكرماني ثنا محمد بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الطفيل عن ابن واثلة انه سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام فكنس الناس ما تحت الشجرات ثم راح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية فصلى ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال ما شاء الله أن يقول ثم قال أيها الناس اني تارك فيكم أمرين لن تضلوا ان اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ثم قال أتعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه فعلي مولاه. وحديث بريدة الأسلمي صحيح على شرط الشيخين».

                المستدرك - الحاكم النيسابوري: « (حدثنا) محمد بن صالح بن هانئ ثنا أحمد بن نصر وأخبرنا محمد بن علي الشيباني بالكوفة ثنا أحمد بن حازم الغفاري (وأنبأ) محمد بن عبد الله العمري ثنا محمد بن إسحاق ثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف (قالوا) ثنا أبو نعيم ثنا ابن أبي غنية عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة فقدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتغير فقال يا بريدة الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله فقال من كنت مولاه فعلي مولاه وذكر الحديث. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»([140]).

                المستدرك - الحاكم النيسابوري: « (أخبرني) الوليد وأبو بكر بن قريش ثنا الحسن بن سفيان ثنا محمد بن عبدة ثنا الحسن بن الحسين ثنا رفاعة بن أياس الضبي عن أبيه عن جده قال كنا مع علي يوم الجمل فبعث إلى طلحة بن عبيد الله ان القنى فاتاه طلحة فقال نشدتك الله هل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال نعم قال فلم تقاتلني قال لم اذكر قال فانصرف طلحة»([141]).

                المستدرك - الحاكم النيسابوري: «(أخبرني) محمد بن علي الشيباني بالكوفة ثنا أحمد بن حازم الغفاري ثنا أبو نعيم ثنا كامل أبو العلاء قال سمعت حبيب بن أبي ثابت يخبر عن يحيى بن جعدة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى انتهينا إلى غدير خم فأمر بروح فكسح في يوم ما أتى علينا يوم كان أشد حرا منه فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أيها الناس انه لم يبعث نبي قط إلا ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله واني أوشك أن ادعى فأجيب واني تارك فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله عز وجل ثم قام فاخذ بيد علي رضي الله عنه فقال يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم قالوا الله ورسوله اعلم قال من كنت مولاه فعلي مولاه. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»([142]).

                المصنف - ابن أبي شيبة: «حدثنا مطلب بن زياد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: كنا بالجحفة بغدير خم إذا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"«.

                المصنف - ابن أبي شيبة: «حدثنا شريك عن حنش بن الحارث عن رباح بن الحارث قال: بينا علي جالسا في الرحبة إذ جاء رجل عليه أثر السفر فقال: السلام عليك يا مولاي، فقال: من هذا، فقالوا: هذا أبو أيوب الأنصاري، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه»([143]).
                أنت مني بمنزلة هارون من موسى ([144]) :

                نماذج من الحديث:

                صحيح البخاري:«حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن سعد قال سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى»([145]).

                صحيح البخاري:«حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن الحكم عن مصعب بن سعد عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال أتخلفني في الصبيان والنساء قال الا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا انه ليس نبي بعدي»([146]).

                صحيح مسلم:«حدثنا يوسف أبو سلمة الماجشون حدثنا محمد بن المنكدر عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي .....»([147]).

                صحيح مسلم:« (وحدثنا) أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة ح وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن سعد بن أبي وقاص قال خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي»([148]).

                صحيح مسلم:« (حدثنا) عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة في هذا الإسناد (حدثنا) قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد (وتقاربا في اللفظ) قالا حدثنا حاتم (وهو ابن إسماعيل) عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال امر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا التراب فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لان تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له خلفه في بعض مغازيه فقال له على يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبوة بعدي وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي عليا فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي»([149]).

                صحيح مسلم:«حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة ح وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد ابن إبراهيم سمعت إبراهيم بن سعد عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى»([150]).

                مسند أحمد:«حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ثنا سليمان بن بلال ثنا الجعيد بن عبد الرحمن عن عائشة بنت سعد عن أبيها إن عليا رضي الله عنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع وعلى رضي الله عنه يبكى يقول تخلفني مع الخوالف فقال أو ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة»([151]).

                هارون أخ ووصي موسى، وأكيد أنّ المراد بالمنزلة ليس كونه أخوه، فلا معنى أنْ يخبر الرسول بأنّ علياً قريبه فهو أمر ظاهر للجميع ومفروغ منه ولا يحتاج إخباراً أو إعلاناً وبياناً له على أنه مكافئة إلهية؛ لأنّ القرابة بحد ذاتها ليس فيها تزكية ولا تعتبر مكافئة إلهية، فأبو لهب عمّ النبي، فيبقى أنّ المراد بالمنزلة هو الوصاية وخلافة الله في أرضه، فكما أنّ هارون وصي موسى كذا علي وصي محمد، ولهذا كان المناسب بالتعقيب في بعض الأحاديث باستثناء النبوة الرسالية من الله عن علي، وهذا أمر ناقشته في كتاب "النبوة الخاتمة"، وبيّنت لماذا ختمت النبوة الرسالية من الله وافتتحت النبوة الرسالية من محمد (صلى الله عليه وآله)، و كونه صورة اللاهوت الأكمل في الخلق.

                النتيجة: ما دلت عليه هذه الأحاديث؛ أنّ علي بن أبي طالب هو خليفة الله في خلقه بعد رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله).
                الأحاديث في خلافة أئمة أهل البيت لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) :

                مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق([152]).

                وهذه نماذج من الحديث:

                المستدرك للحاكم النيسابوري، بسنده عن أبي ذر، عن رسول الله (ص) : «ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».

                البزاز بسنده عن عبد الله بن الزبير: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها سلم ومن تركها غرق».

                البزاز والطبراني بسندهما عن ابن عباس: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق».

                الطبراني بسنده عن أبي سعيد الخدري: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له».

                الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تمثل أهل البيت الذين نزلت فيهم آية التطهير؛ وهم علي وولده (صلوات الله عليهم) بأنهم كسفينة نوح التي من ركبها نجا. إذن، فرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) يبيّن بوضوح أنّ من التحق بأهل البيت فقد عرف الحق ونجا من عذاب الله، كما نجا الراكبون في سفينة نوح من العذاب الإلهي، ومن يتخلّف عن أهل البيت ولا يقبل قولهم في الدين فهو هالك في عذاب الله، كما هلك من تركوا قول نوح (عليه السلام) ولم يطيعوه. والالتحاق بأهل البيت إنما يكون بمشايعتهم والإيمان بدعوتهم وقبول قولهم وكونهم أوصياء الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) الذين نص عليهم وعلى أولهم علي بكل وضوح وجلاء وبنصوص كثيرة - وهذا أحدها -، حتى احتار المخالف كيف يغطي دلالتها الواضحة على أنّ علياً هو خليفة الله والإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
                أحاديث الخلفاء من قريش:

                وفي هذه الأحاديث أنّ هناك خلفاء للرسول محمد (صلى الله عليه وآله) من قريش، ومحمد خليفة الله فمن يخلف محمداً في الحاكمية - وبصورة شرعية مرضية عند الله - لابد أنْ يكون منصباً من الله؛ لأنّ الملك لله سبحانه وتعالى. وقد ادعى الأئمة الاثنا عشر دون غيرهم التنصيب الإلهي، كما أنّ النصوص الأخرى دلّت عليهم.

                صحيح البخاري: «حدثني محمد بن المثنى حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عبد الملك سمعت جابر بن سمرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميرا فقال كلمة لم اسمعها فقال أبي أنه قال كلهم من قريش»([153]).

                صحيح مسلم: «حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قال قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»([154]).

                صحيح مسلم: «حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا حدثنا حاتم (وهو ابن إسماعيل) عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع ان اخبرني بشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكتب إلى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»([155]).
                أحاديث الخلفاء الراشدين:

                والأحاديث في الخلفاء الراشدين مثل سابقتها في الدلالة على خلفاء الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) الشرعيين المنصبين من الله سبحانه وتعالى مالك الملك، الذي لا يحق لأحد التصرف بملكه دون إذنه.

                مسند أحمد بن حنبل: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية يعنى ابن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمى أنه سمع العرباض بن سارية قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب قلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعليكم بالطاعة وان عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد»([156]).

                مسند أحمد بن حنبل: «حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا الضحاك بن مخلد عن ثور عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن عرباض بن سارية قال صلى لنا رسول الله صلى عليه وسلم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب قلنا أو قالوا يا رسول الله كان هذه موعظة مودع فأوصنا قال «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منك يرى بعدى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وان كل بدعة ضلالة»([157]).

                المستدرك للحاكم النيسابوري: « (حدثنا) أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا عباس بن محمد الدوري ثنا أبو عاصم ثنا ثور بن يزيد ثنا خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال صلى لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة الصبح ثم اقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان امر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة. هذا حديث صحيح ليس له علة»([158]).

                السنن الكبرى للبيهقي: « (أخبرنا) أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص بن الحمامي المقرى ببغداد أنبأ أحمد بن سلمان أنبأ عبد الملك بن محمد ثنا أبو عاصم (ح وأخبرنا) أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس بن محمد الدوري ثنا أبو عاصم ثنا ثور ابن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم اقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان تأمر عليكم عبد وانه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة»([159]).
                المجدد الذي يحفظ الدين من التحريف ([160]) :

                وحتى يجدد شخص الدين ويعيد الحق فيه إلى مواضعه ويدفع عنه التحريف لابد أنْ يكون متصلاً بالله، حتى يعرّفه الله مواضع التصحيح والتجديد، وإلا فهو محرف كغيره من المحرفين للدين لا أكثر.

                ومن الأحاديث الصحيحة المشهورة عند السنة ما يرويه أبو هريرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
                نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                Comment

                • ya howa
                  مشرف
                  • 08-05-2011
                  • 1106

                  #9
                  رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                  «إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ لها دينَها» ([161]).
                  خليفة الله المهدي:

                  قد رووا أنّ المهدي خليفة الله في أرضه، وهذا الحديث لا يحتاج إلى كلام وتفسير، فهو نص على أحد خلفاء الرسول الشرعيين بأنه خليفة الله، ولا يصح أنْ يكون شخص خليفة الله ما لم ينصبه الله وينص عليه.

                  سنن ابن ماجة: «حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف، قالا: حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتتل عند كنزكم ثلاثة. كلهم ابن خليفة. ثم لا يصير إلى واحد منهم. ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق. فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم». ثم ذكر شيئاً لا أحفظه. فقال «فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج. فإنه خليفة الله، المهدي»([162]).

                  وأخرجه الحاكم في المستدرك بسند آخر عن سفيان الثوري: «أخبرنا أبو عبد الله الصفار ثنا محمد بن إبراهيم بن أرومة ثنا الحسين بن حفص ثنا سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقاتلونكم قتالاً لم يقاتله قوم ثم ذكر شيئاً فقال إذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين»([163]).
                  في كتب الشيعة:

                  ما روي في كتب الشيعة في إثبات استمرار الخلافة الإلهية بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) كثير ومنه:
                  وصية رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) :

                  الشيخ الطوسي: «أخبرنا جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، عن علي بن سنان الموصلي العدل، عن علي بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المصري، عن عمه الحسن بن علي، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)- في الليلة التي كانت فيها وفاته - لعلي (عليه السلام) : يا أبا الحسن، أحضر صحيفة ودواة، فأملا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: يا علي، إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماماً سماك الله تعالى في سمائه: علياً المرتضى، وأمير المؤمنين، والصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك. يا علي، أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم، وعلى نسائي: فمن ثبتها لقيتني غداً، ومن طلقتها فأنا برئ منها، لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي، فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه سيد العابدين ذي الثفنات علي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الرضا، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد (عليهم السلام). فذلك اثنا عشر إماماً، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أول المؤمنين» ([164]).

                  وقد بيّنت تصحيحها في جواب سابق وقلت إن الطوسي صححها لما شهد لرواتها بأنهم خاصة. وأيضاً: أسهب العالم الفاضل الشيخ ناظم العقيلي حفظه الله في أكثر من كتاب في مناقشة سند الوصية وتواتر مضمونها، وأنقل هنا قوله في كتاب الأربعين للفائدة:

                  [لقد فصلت القول في الكلام عن سند الوصية في كتاب انتصاراً للوصية، ودفاعاً عن الوصية، والوصية والوصي أحمد الحسن، ويكفيني هنا أن أقول: إن الميرزا النوري في النجم الثاقب ج2 ص71، حكم باعتبار سند رواية الوصية، حيث قال عند استدلاله على ثبوت الذرية للإمام المهدي (عليه السلام) : (روى الشيخ الطوسي بسند معتبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) خبراً ذكرت فيه بعض وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الليلة التي كانت فيها وفاته، ومن فقراتها إنه قال: "فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أول المقربين... إلى آخره").

                  والميرزا النوري من كبار العلماء وله باع طويل في علم الحديث والرجال، فلا يمكن أن يكون متهاوناً في اصدار الاحكام بدون علم ودراية، وهكذا شهادة من هكذا عالم متفق على علمه وتقواه، تختصر الكلام وتكفي في المقام.

                  فنحن عندما نتتبع أحوال رجال سند رواية ما، الهدف منه هو لنعرف هل هو معتبر ويعتمد عليه في تصحيح أو توثيق أو تحسين الرواية أم لا، وعندما نعرف من خبير ما أن السند معتبر، يكون تتبع رجال السند تحصيل حاصل وتطويل بلا طائل؛ لأن الغرض من تتبع أحوال رجال السند متحقق مسبقاً، وهو المطلوب والمراد.

                  وأيضاً ينظم إلى حكم الميرزا النوري، منهج العلامة الحلي في توثيق أو الاعتماد على الرواة، فكما بيَّن المحقق الخوئي في أكثر من مورد في معجمه، أن منهج العلامة الحلي هو الاعتماد على كل راوٍ شيعي لم يرد فيه مدح أو ذم، ورجال سند رواية الوصية قد شهد الشيخ الطوسي أنهم شيعة إمامية، عندما ذكرها مع الروايات التي قال عنها بأنها مروية عن طرق الخاصة - أي الشيعة - إذن فهم على منهج العلامة الحلي كلهم معتمد عليهم حتى إن قلنا بأنهم لم يرد فيهم أي مدح؛ لأنهم جميعاً لم يرد فيهم ذم أبداً.

                  وينظم أيضاً الى حكم الميرزا النوري، ما أفاده الشيخ علي النمازي الشاهرودي، من اعتبار الوصية دليلاً على حسن رواتها وكمال عقيدتهم، كما صرَّح بذلك عند ترجمة بعض رجال سند الوصية المقدسة.

                  وتفصيل كل هذه الأمور مع المصادر مدون في كتاب انتصاراً للوصية، وكذلك ترجمة كل واحد من رجال رواية الوصية، فمن شاء الاحاطة فليراجع] ([165]).
                  الروايات بالنص على الاثني عشر إماماً - أو بعضهم - بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) :

                  ومنها:

                  «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْعُصْفُورِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ اللَّه خَلَقَ مُحَمَّداً وعَلِيّاً وأَحَدَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِه مِنْ نُورِ عَظَمَتِه فَأَقَامَهُمْ أَشْبَاحاً فِي ضِيَاءِ نُورِه يَعْبُدُونَه قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ يُسَبِّحُونَ اللَّه ويُقَدِّسُونَه وهُمُ الأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله)»([166]).

                  «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: يَكُونُ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ بَعْدَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»([167]).
                  الروايات في النص على الاثني عشر إماماً من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)وعلي وفاطمة(عليهما السلام) :

                  وهي كثيرة وهذا مثال منها أنقله من كتاب الأربعين للشيخ ناظم العقيلي، فمن يريد الزيادة يرجع لكتاب الشيخ حفظه الله:

                  [الشيخ الكليني: «محمد بن يحيى ([168])، عن محمد بن أحمد ([169])، عن محمد

                  بن الحسين ([170])، عن أبي سعيد العصفوري ([171])، عن عمرو بن ثابت ([172])، عن أبي الجاورد ([173])، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إني واثني عشر من ولدي وأنت يا علي زر الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا» ([174]).

                  الشيخ الكليني: «أبو علي الأشعري ([175])، عن الحسن بن عبيد الله ([176])، عن

                  الحسن بن موسى الخشاب ([177])، عن علي بن سماعة ([178])، عن علي بن الحسن بن رباط ([179])، عن ابن أذينة ([180])، عن زرارة ([181]) قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (الاثنا عشر الإمام من آل محمد كلهم محدث من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) هما الوالدان»([182])]([183]).
                  الروايات في النص على الاثني عشر إماماً والاثني عشر مهدياً:

                  وتقدمت الوصية وغيرها كثير من الروايات نصت على الاثني عشر مهدياً، وأنقل هنا دعاءً عن الإمام الرضا (صلوات الله عليه) يدعو فيه للمهديين من ولد الإمام المهدي (عليه السلام) :

                  [الشيخ الطوسي ([184]) بأسانيده عن يونس بن عبد الرحمن: أن الرضا (عليه السلام) كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا: «اللهم ادفع عن وليك وخليفتك وحجتك على خلقك ... اللهم، أعطه في نفسه وأهله وَوَلَدِهِ وذريته وأمته وجميع رعيته ما تقر به عينه وتسر به نفسه وتجمع له ملك المملكات كلها قريبها وبعيدها وعزيزها وذليلها... اللهم، صل على ولاة عهده والأئمة من بعده وبلغهم آمالهم وزد في آجالهم وأعز نصرهم وتمم لهم ما أسندت إليهم من أمرك لهم وثبت دعائمهم واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً فإنهم معادن كلماتك وخزان علمك وأركان توحيدك ودعائم دينك وولاة أمرك وخالصتك من عبادك وصفوتك من خلقك وأولياؤك وسلائل أوليائك وصفوة أولاد نبيك والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته»([185])]([186]).
                  روايات النص على المهديين تفيد العلم والاعتقاد:

                  روايات النص على المهديين أو بعضهم كثيرة حد التواتر وهي تفيد العلم والاعتقاد، ولا تعارض بين الروايات المتقدمة في الأئمة والمهديين أو بعضهم، فهي روايات كثيرة جداً ولا يمكن التنكر أو إنكار طائفة منها إلا عن جهل أو عناد وتعسف أبعد صاحبه عن منهج البحث العلمي الصحيح، وإلا فالنتيجة العلمية المتحصلة أن هناك روايات تفيد العلم واليقين بأنّ هناك خلفاء لله في أرضه بعد الأئمة الاثني عشر. والجمع بين طوائف الروايات المتقدمة متيسر ويسير وجميعها موافقة لوصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)ليلة وفاته التي نصت على اثني عشر إماماً واثني عشر مهدياً. والحمد لله الذي جعل الحق ظاهراً جلياً لمن طلبه.
                  إثبات كتابة وصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) العاصمة من الضلال عند حضور الموت:

                  قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 180]، وفي هذه الآية نصان يدلان على الوجوب، الأول قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾، والثاني قوله تعالى: ﴿حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وبالتالي فالوصية واجبة على المتقي الأول رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) الذي ترك الخير كله وهو خلافة الله في أرضه، فكيف يدّعي مسلم أنه (صلى الله عليه وآله) لا يوصي بها ويشخص مصاديقها ويخالف أمر الله وحاشاه (صلى الله عليه وآله) من هذا، وقد ثبت عند السنة والشيعة أنه (صلى الله عليه وآله) همَّ بكتابتها ووصفها بأنها عاصمة للأمة من الضلال، كما في روايات حادثة رزية الخميس المشهورة.

                  عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا ما شأنه؟ أهجر، استفهموه، فذهبوا يردون عليه فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها» ([187]).

                  وعن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله يهجر»([188]).

                  وعن سليم بن قيس الهلالي قال: «سمعت سلمان يقول: سمعت علياً (عليه السلام) بعد ما قال ذلك الرجل (عمر) ما قال وغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودفع الكتف: ألا نسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الذي كان أراد أن يكتبه في الكتف مما لو كتبه لم يضل أحد ولم يختلف اثنان فسكت حتى إذا قام من في البيت وبقي علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وذهبنا نقوم وصاحبي أبو ذر والمقداد قال لنا علي (عليه السلام) : اجلسوا. فأراد أن يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن نسمع فابتدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «أن الله قد قضى الفرقة والاختلاف على أمتي من بعدي فأمرني أن اكتب ذلك الكتاب الذي أردت أن أكتبه في الكتف لك وأشهد هؤلاء الثلاثة عليه أدع لي بصحيفة. فأتى بها فأملى عليه أسماء الأئمة الهداة من بعده رجلاً رجلاً وعلي (عليه السلام) يخط بيده وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إني أشهدكم أن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي على أمتي علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم من بعدهم تسعة من ولد الحسين..»([189]).

                  وعن سليم بن قيس الهلالي: «قال الإمام علي (عليه السلام) لطلحة: ألست قد شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين دعا بالكتف ليكتب فيها مالا تضل الأمة ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال: (إن نبي الله يهجر) فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله).......»([190]).

                  وعن سليم بن قيس: «إن عليا (عليه السلام) قال لطلحة في حديث طويل عند ذكر تفاخر المهاجرين والأنصار بمناقبهم و فضائلهم: يا طلحة أ ليس قد شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين دعانا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة بعده ولا تختلف فقال صاحبك ما قال إن رسول الله يهجر فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتركها؟ قال: بلى قد شهدته. قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالذي أراد أن يكتب فيها ويشهد عليه العامة وإن جبرئيل أخبره بأن الله تعالى قد علم أن الأمة ستختلف وتفترق ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف وأشهد على ذلك ثلاثة رهط سلمان الفارسي وأبا ذر و المقداد وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة فسماني أولهم ثم ابني هذا حسن ثم ابني هذا حسين ثم تسعة من ولد ابني هذا حسين كذلك يا أبا ذر وأنت يا مقداد؟ قالا: نشهد بذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لأبي ذر: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق ولا أبر من أبي ذر. وأنا أشهد أنهما لم يشهدا إلا بالحق وأنت أصدق وأبر عندي منهما»([191]).

                  فالنتيجة أنّ الوصية واجبة عند حضور الموت وتوفر الفرصة للوصية، وأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) همَّ بكتابتها يوم الخميس ووصفها بأنها كتاب عاصم من الضلال فمُنع من كتابتها، ومن المؤكد أن الرسول (صلى الله عليه وآله) عالي الهمة ولا يركن لمن منعوه ويعصي الله الذي أمره بكتابة الوصية العاصمة للأمة من الضلال أبداً وعنده الوقت الكافي من الخميس إلى الاثنين، وهي مدة ليست بقصيرة ليكتب فيها الوصية، فهل يعقل أنّ الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله) يترك كتابة كتاب يعصم الأمة من الضلال مع تمكنه من كتابته، وإذا ترك الكتابة ألا يوصف بأنه خالف الحكمة والرحمة وحاشاه (صلى الله عليه وآله) من هذا؟! فقد كتبها فعلاً ونفذ أمر الله وتم ما أراد الله، ورويت الوصية وحيدة يتيمة لتقطع حجة منكرها وتشهد عليه بالتنكر لها، وهي وصية خاتم النبيين يوم القيامة، فويل لمن أنكرها.

                  أما من قالوا بنسخ آية الوصية بناءً على الرواية:

                  «عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام)، في قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ". قال: هي منسوخة، نسختها آية الفرائض التي هي المواريث "فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ"يعني بذلك الوصي»([192]).

                  فيجب أنْ يلتفتوا إلى أنّ الخير غير محصور بالأموال والممتلكات، فلو كانت الآية منسوخة لما تعدى النسخ حكمها فيما يخص الأموال والأملاك التي هي موضوع القسمة بين الورثة، أي كون الوصية بالأموال والأملاك المادية التي تقسم بين الورثة غير واجبة بعد نزول آيات المواريث أي غير واجبة بالثلثين، أما حكم الآية فيما عدا هذا فهو سار وجار ولا يمكن ادعاء نسخ آيات المواريث لها.

                  «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فَقَالَ تَجُوزُ قَالَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ»([193]).

                  والآية تبيّن أيضاً للمؤمن حال الثلث الذي يحق له أنْ يوصي به، وأنه يجب أنْ يوصي به أو ببعضه لخليفة الله في أرضه في زمانه، كما ورد عنهم (عليهم السلام). نعم، يحق لخليفة الله إسقاط هذا الفرض كما يحق له إسقاط الخمس؛ لأنها أموال تخصه فله إسقاطها متى شاء، فهي أموال يعيل بها الأمة وفقراءها، ويتقوّم بها حكم خليفة الله في أرضه.

                  «عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ" قَالَ: هُوَ شَيْ‏ءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ قُلْتُ فَهَلْ لِذَلِكَ حَدٌّ قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْتُ وَمَا هُوَ قَالَ أَدْنَى مَا يَكُونُ ثُلُثُ الثُّلُثِ»([194]).

                  «عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ "إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ" قَالَ: حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ قُلْتُ لِذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ كَمْ قَالَ أَدْنَاهُ السُّدُسُ وَأَكْثَرُهُ الثُّلُثُ»([195]).

                  «أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّيَّارِيُّ فِي كِتَابِ التَّنْزِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى "إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ" قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) : وَهُوَ حَقٌّ فَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ مِنَ الثُّلُثِ قِيلَ لَهُ كَمْ هُوَ قَالَ أَدْنَاهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَالْبَاقِي فِيمَا أَحَبَّ الْمَيِّتُ»([196]).

                  أيضاً: الوصية بتقوى الله وحث الناس على نصرة خليفة الله في أرضه خصوصاً لمن يظن أنّ لكلامه أو وصيته أثراً على بعض من يقرأها بعد موته في معرفة الحق ونصرة خليفة الله، فأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يأمر شخصاً مقلاً بترك الوصية بل أمره بعدم تركها وأنْ يوصي بتقوى الله.

                  «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) : أَنَّهُ حَضَرَهُ رَجُلٌ مُقِلٌّ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ أَوْصِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَمَّا الْمَالُ فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ فَإِنَّهُ طَفِيفٌ يَسِيرٌ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَأَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ خَيْراً تُوصِي فِيهِ»([197]).

                  إذن، فرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) الذي ترك خيراً كثيراً، وهو منصب خلافة الله في أرضه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، لا يصح أنْ يترك الوصية بهذا الأمر، فهو خليفة الله وخليفة الله هو طريق إيصال التكليف للناس، فكيف يترك الوصية بمن يخلفه ويترك الناس في هرج ومرج وخلاف وتناحر؟!

                  وغير صحيح قول بعض من يدّعون العلم من الشيعة: إنّ ترك كتابة الوصية مطلقاً راجح؛ لأنّ من اعترضوا - أي عمر وجماعته - في رزية الخميس على كتابتها وقالوا يهجر أو غلبه الوجع لن يتورعوا بعد وفاة رسول الله عن الطعن بسلامة قواه العقلية عند كتابته للوصية كما فعلوا في رزية الخميس.

                  وقولهم هذا غير صحيح؛ لأنّ هذا يمكن أن يحصل فيما لو كتبت الوصية وأبرزت وأظهرت لهؤلاء المعترضين، أما لو كتبت لعلي وأشهد عليها من قبلها من الأصحاب دون إبرازها لهؤلاء المعترضين، فلن يكون هناك طعن بالرسول (صلى الله عليه وآله)، وفي نفس الوقت يحقق الغرض من كتابة الوصية؛ وهو أنْ تصل إلى الخلف من هذه الأمة وتنفي الضلال عن هذه الأمة إلى يوم القيامة.

                  نعم يجوز لمن يدّعون الفقه أنْ يسوقوا الكلام السابق لتعليل عدم إصرار رسول الله (صلى الله عليه وآله) على كتابة الوصية في نفس الموقف، أي في حادثة الخميس لا مطلقاً.

                  وهذا أمر بديهي، فهل من يشق عليه صيام يوم من شهر رمضان يعرض عن صيام هذا اليوم مطلقاً، أم يصومه في يوم آخر يمكنه صيامه فيه؟ وهل من لا يتمكن من أداء الصلاة في مكان لوجود النجاسة فيه يمتنع عن الصلاة، أم يصليها في مكان آخر؟ !!!

                  وكتاب رسول الله عند الاحتضار (الوصية) أمر عظيم أعظم من الصوم والصلاة، فرضه الله على الرسول بقوله تعالى: (كتب، وحقاً)، ووصفه رسول الله بأنه يعصم الأمة من الضلال إلى يوم القيامة، فكيف يتركه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مطلقاً بمجرد أنْ اعترض عليه جماعة في يوم الخميس؟

                  في الحقيقة إنه أمر عظيم وخطير أنْ يُتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بترك كتابة الوصية عند الاحتضار؛ حيث إنه يمثل اتهاماً للرسول بأنه ترك ما أمره الله به مع تمكنه من أدائه والقيام به. فالله يوجب كتابة الوصية على سيد وإمام المتقين محمد مرتين بآية واحدة بقوله: "كتب، حقاً على"، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 180]، ويأتي فلان أو فلان اليوم ليقول إنّ محمداً ترك الوصية التي تشخص الثقلين، وهكذا بكل بساطة يتهم رسول الله بأنه يعصي الله، لأنّ الوصية الوحيدة المروية لا توافق هواه، ولأنّ فيها ذكر المهديين واسم أولهم.

                  هكذا فقط لأنها لا تعجبه يقول إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يوصِ، هل هناك اتباع للهوى أبين من هذا؟!

                  والمصيبة إنّ بعضهم يدّعون أنهم يعلمون ما في وصية رسول الله التي لم يكتبها حسب زعمهم، وبأنها مجرد تأكيد لبيعة الغدير ولحديث الثقلين المجمل، ولهذا فهو (صلى الله عليه وآله) لم يهتم لكتابتها ولم يكتبها بعد حادثة الرزية بحسب زعمهم ولو للمساكين الذي يقبلونها كعمار وأبي ذر والمقداد، ولم يكتبها حتى لعلي لتصل لمن يقبلها بعده، لكي لا يضيع ويضل كل من في أصلاب الرجال وتعصم الأمة من الضلال.

                  ولا أدري من أين علموا أنّ الوصية مجرد تكرار أو تأكيد لحادثة الغدير أو غيرها من الحوادث والأقوال السابقة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كحديث الثقلين المجمل، مع أنه (صلى الله عليه وآله) نبي ورسول من الله والوحي مستمر له ورسالته لهداية الناس مستمرة حتى آخر لحظة من حياته، فهل أنّ الله أخبرهم مثلاً أنه لم يوحي لمحمد قبل احتضاره بيوم أو بشهر أو بشهرين شيئاً جديداً وتفاصيل جديدة تخص أحد الثقلين وهو الأوصياء من بعده وأسماء وصفات بعضهم بما يضمن عدم ضلال الأمة إلى يوم القيامة، مع أنّ هذا الأمر موافق للحكمة، وإذا لم يكن قد أوحى الله لهؤلاء المدّعين شيئاً فلماذا الجزم بأنّ الوصية كانت مجرد تكرار لما سبق، ولهذا كان الأفضل ترك كتابتها بعد رزية الخميس بحسب زعمهم؟

                  وعلة الوصية عند الاحتضار لخليفة الله والحكمة منها؛ لأنّ الوحي والتبليغ مستمر لخليفة الله في أرضه حتى آخر لحظة من حياته، فوصيته قد تكون بآخر ما يوحى له فيما يخص أمر خليفة أو خلفاء الله من بعده أو أوصيائه، ولهذا قال الحكيم المطلق سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ...﴾، ولم يقل كتب عليكم الوصية فحسب. ولهذا بيَّنَ الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فيما سمي برزية الخميس بأنّ وصيته عند الموت هي العاصم من الضلال لا غير؛ لأنها في تشخيص الثقلين (المُخلَف العاصم من الضلال) بالاسم والصفة الذي لا يمكن معه حصول الضلال لمن التزم بهذه الوصية إلى يوم القيامة.

                  وهنا أعيد للتنبيه ولفت الانتباه إلى إنّ قول الرسول في يوم الرزية - كما سماه ابن عباس- : (‏ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً) معناه أنّ ما سبق من التبليغ الذي جاء به الرسول - بما فيه القرآن وعلي (عليه السلام) الذي بلغ بوصايته مرات عديدة بل والحسن والحسين (عليهما السلام) الذين شخصا بحديث الكساء وغيره - لا يعصم الأمة من الضلال إلى يوم القيامة، بل الذي يعصم الأمة من الضلال هو هذا التشخيص الدقيق للثقلين الذي أوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمره الله بتبليغه للناس بوصيته المباركة عند الاحتضار وفي ختام حياته ورسالته المباركة.

                  في الختام:

                  لدينا آية توجب كتابة الوصية عند الاحتضار وبكلمتين دالتين على الوجوب: (كتب، وحقاً على)، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:180]، فمن ينكر كتابة الوصية يتهم الرسول بالمعصية.

                  ولدينا روايات تدل على كتابة الوصية أو همَّ الرسول بكتابة الوصية عند الاحتضار كرزية الخميس المروية في البخاري وما رواه سليم بن قيس في كتابه.

                  ولدينا روايات موافقة لمحتوى الوصية وهي روايات المهديين الاثني عشر، ويمكن الرجوع إلى مصادرها عند الشيعة والسنة. وأيضاً ما رواه الطوسي عنهم (عليهم السلام) في أنّ اسم المهدي (أحمد وعبد الله والمهدي)، وما رواه السنة من أنّ اسم المهدي يواطئ اسم النبي أي أحمد كما ورد في الوصية.

                  ولدينا نص الوصية المكتوبة عند الاحتضار وهي مروية في غيبة الطوسي، ولا يوجد لدينا معارض لنص الوصية.

                  وكل إشكال أتوا به لرد الوصية تم رده وبيان بطلانه بصورة واضحة وجلية.

                  فكيف يمكن - بعد كل هذا - لعاقل أنْ يرد الوصية، وكيف لمن يخاف الآخرة أنْ يرد الوصية، وكيف لمن يتقي الله أنْ يرد الوصية؟!!!

                  الخلاصة:

                  خلافة الله في أرضه مستمرة بعد رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) كما دل العقل والنقل.

                  نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) وعلى أئمة أهل البيت.

                  ادعى خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله)أنّ الوصية فيهم، ولم يدعِ الوصية - الكتاب العاصم من الضلال - غيرهم إلى أنْ تم ادعاؤهم وتحقق الغرض من الوصية فيهم.

                  وهذا يكفي لإثبات حقهم وبطلان من خالفهم.

                  أضف: أنه قد ظهر منهم العلم فيما يحتاجه الناس مما يستجد في أمور دينهم.

                  كما أنهم دعوا لحاكمية الله في أرضه.

                  وهكذا تمت أركان إثبات خلافتهم، ولم يبقَ عذر لمن خالفهم وأعرض عنهم إلا الجهل أو العناد والتعسف.


                  الأصل الثالث
                  الرسالة:

                  الغرض من الخلق هو العبادة والمعرفة، ولتحقق هذا الغرض لابد من العلم ومعرفة إرادة الخالق أو الرسالة، فبها يعرف المكلفون فيتحقق الغرض من الخلق، ومن دونها لن تزيد سرعة السير صاحبها إلا بعداً عن الهدف.

                  والرسالة تتضمن العقيدة والتشريع، وهذا الكتاب مخصص للعقائد، ولهذا سنقتصر على الكلام في جانب الرسالة المختص بالعقيدة، وفقط سنمر مروراً سريعاً على التشريع.
                  التشريع:
                  نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                  Comment

                  • ya howa
                    مشرف
                    • 08-05-2011
                    • 1106

                    #10
                    رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                    تفاصيل التشريع ممكن أنْ تتغير في مسيرة الدين الإلهي دائماً، سواء في تعاقب الرسل أو حتى خلال مبعث رسول واحد مثل محمد (صلى الله عليه وآله)، فخلال المسيرة الرسالية للرسول محمد (صلى الله عليه وآله) حصل نسخ لأحكام أقرها هو (صلى الله عليه وآله) أول مبعثه، مثل عدة المرأة المتوفى عنها زوجها كما هو ثابت في القرآن:

                    فقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة:240].

                    وأيضاً قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 234].

                    وقد بيّن القرآن مسألة تبدل التشريع بوضوح بآيات؛ منها قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13].

                    أو حتى يمكن أنْ تكون هناك تشريعات بعض أهدافها تمحيص الناس وإفراز سفيههم عمّن يطلب الحق منهم، ففي حين أنّ قبلة الأحناف في مكة هي الكعبة كانت قبلة الرسول وصلاته إلى بيت المقدس حيث قبلة اليهود، ولما ذهب للمدينة حيث اليهود وقبلتهم بيت المقدس نجد أنّ الله جعل قبلته الكعبة، ولو كانت في مكة قبلته الكعبة لكان الإيمان أهون على الأحناف. فأكيد أنّ اتخاذ محمد (صلى الله عليه وآله) قبلة اليهود كان أمراً ثقيلاً على الأحناف في مكة؛ لأنّ قبلتهم هي الكعبة، وأيضاً اتخاذ محمد (صلى الله عليه وآله) الكعبة كقبلة أمر ثقيل على النصارى واليهود في المدينة؛ حيث إنّ قبلتهم بيت المقدس.

                    قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143].

                    قال الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 144].

                    قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145].

                    إذن، فالتشريع الإلهي قابل للنسخ والتغير والتبدل، وهناك أسباب كثيرة قد تؤدي إلى النسخ والتغيير؛ منها الظروف المحيطة بالمجتمع الإنساني في هذه الأرض.

                    أيضاً: التشريع بعضه مخوّل للرسل، فما يشرعه الرسول ضمن حدود ما خوله الله سبحانه وتعالى يرضاه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 93]، فواضح من الآيات أنّ هناك أموراً حرّمها نبي الله يعقوب (عليه السلام).

                    ولا يحق لأحد غير الله ومن خوّله من رسله أنْ يشرع، فالدين لله وهو سبحانه يتكفل دينه، ولا يحق لأحد التصدي للتشريع في دين الله تبرعاً وتطفلاً، وقد ناقشت هذا الأمر فيما تقدم في مبحث آية إكمال الدين.
                    هل الحسن والقبح عقليان؟

                    والمقصود بالعقل هو القوة المفكرة المودعة في كل إنسان، الموجودة عند الصالح والطالح والمؤمن والكافر.

                    العقل ميزان، وبالتالي فهو يحتاج إلى وزن أو معيار قياسي ليقايس به بقية الأشياء ويميز حسنها وقبحها، فإنْ توفر المعيار القياسي للعقل في أمرٍ ما، تمكن العقل أنْ يميز فيه الحق من الباطل والحسن من القبيح، وإنْ لم يتوفر المعيار القياسي لم يتمكن العقل من تمييز الحسن من القبيح والحق من الباطل، ولهذا يقع الخطأ في تمييز الحق والباطل من الناس في كثير من الأحيان.

                    فالذين لا يميزون الحسن من القبح أو الحق من الباطل لديهم أحد الأسباب التالية:

                    - فهم إما فاقدون للميزان، وهؤلاء هم المجانين والمختلون عقلياً، وهؤلاء معذورون.

                    - أو أنهم فاقدون للمعايير القياسية، وهؤلاء هم الذين لا يهتمون لتحصيل الحق ومعرفة المعايير القياسية المتاحة لتمييز الحق من الباطل، أو أنهم يطلبون الحق بجهل وضعف ادراك أو بسفاهة، أي أنهم يطلبونه بألسنتهم دون تعلم وبحث دقيق وحقيقي لمعرفة المعايير القياسية للمقايسة لمعرفة الحق من الباطل، ومن هؤلاء فئة الضالين.

                    - أو أنهم يمتلكون الميزان ويعرفون المعايير القياسية أو مطلعون عليها، ولكنهم رغم هذا يتجنبون المقايسة لمعرفة الحق من الباطل والحسن من القبح طلباً للبقاء في الباطل الذي هم عليه ونصرة له، ومن هؤلاء فئة المغضوب عليهم.

                    ولا يمكن لأحد أن يدّعي - فضلاً عن ادعاء هذا لكل الناس - أنه يمتلك كل المعايير القياسية؛ لأنّ هذا معناه أنه يعرف حقائق كل الأشياء ومآلها وما يحيط بها وبكل أحوالها، وهذا ما لا يمكن أنْ يكون لغير الله سبحانه وتعالى.

                    إذن، معرفة حسن وقبح الأشياء كلها بشكل مطلق لا يمكن أنْ يكون عقلياً، بلى العقل كما بيّنت متى توفرت له الأوزان القياسية تمكن من التمييز.

                    ولهذا فالقول بأنّ العقل مشرع قول باطل؛ لأنه يساوي القول بتعدد اللاهوت المطلق سبحانه وتعالى عمّا يصفون.
                    العقيدة الإلهية منذ آدم إلى قيام الساعة:

                    العقائد الإلهية لا يمكن أنْ تتغير أو تتبدل؛ لأنّ دين الله واحد نزل من واحد سبحانه. نعم، بعض المصاديق يمكن أنْ تتبدل، وبيان العقيدة وتوضيحها يمكن أنْ يكون أغزر وأعمق، والمعرفة المترتبة على العقيدة والعمل بها يمكن أنْ تكون أعظم تبعاً لوجود القابل، أما العقيدة فلا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]. ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52].

                    فالرسل كلهم أمة واحدة ودينهم واحد وعقائدهم واحدة، فهم خير من سلّم لله سبحانه، ودينهم هو التسليم لله أو الإسلام، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ [النساء: 125]، ولتتحقق النجاة فلابد من الاقتداء بهم والتسليم لهم ولما جاءوا به من عند ربهم من عقائد، وهي الحق المبين وما سواها زخرف باطل.

                    فدين الرسل، والدين عند الله سبحانه هو التسليم لله، قال تعالى:

                    ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130].

                    ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131].

                    ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132].

                    فدين إبراهيم هو الحق وما سواه سفه ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾.

                    ودين إبراهيم هو التسليم لله فهو الإسلام لا غير ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

                    فمن سلّم لله فهو مسلم ودينه الإسلام، سواء كان قد تبع إبراهيم (عليه السلام) في زمانه أو موسى (عليه السلام) في زمانه أو عيسى (عليه السلام) زمانه ([198])، قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 83 - 85].

                    أما رجوع الدين أو أصوله العقائدية إلى التسليم؛ فلأننا نقول إنّ هناك خالقاً مطلقاً خلق خلقاً محدودين، ثم أرسلهم في الظلمة، ثم دعاهم إليه إلى النور، فمن سلّم لخالقه وأجاب ورجع إلى النور نجا، ومن تمرّد فقد هلك حيث هو في الظلام، ولكن ولرحمته سبحانه أرسل من الناجين من يدعون الهالكين في الظلام إلى النور قبل انقضاء الوقت ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾.

                    ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21].

                    ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: 19].

                    ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [هود: 110].

                    ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه: 129].

                    ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [فصلت: 45].

                    ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [الشورى: 14].

                    فمن سلَّم للناجين ولمن أرسلهم نجا، ومن تمرّد عليهم هلك، هذه هي قصة الخلق كاملة لمن يعيها. وهذا هو الذي حصل في عالم الذر، وذكر في القرآن ([199])وفي روايات ([200])آل محمد (عليهم السلام)، فالمجيبون الأوائل - ببلى ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ -؛ أصبحوا في مرحلة متأخرة هم الدعاة والنذر وهم الامتحان، فبهم الامتحان وبهم النجاة ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ [النجم: 56]، وأعيد أنّ هذا فضل على الناس؛ لأنهم جميعاً لديهم المؤهل ليكونوا هم في نفس مستوى المجيبين الأوائل، فلا يأتون الآن ويقولون لماذا فضل هؤلاء علينا، ولماذا جعل هؤلاء كذا وكذا، بل الحقيقة؛ أبداً لم يفضل الله أحداً على أحد، إنما خلق الجميع وأعطاهم نفس الفطرة التي تؤهلهم ليكونوا جميعهم كأفضل مخلوق وكالمجيب الأول، ولكنهم تلكأوا ونظروا إلى أنفسهم وكل واحد منهم غفل عنه سبحانه والتفت إلى نفسه وأناه وقال أنا بقدرٍ ما، ولم يكونوا كالمجيبين الأوائل الذين قالوا (هو) وأعرضوا عن الأنا كلٌّ بقدره فكسبوا هذه المقامات العليا.

                    وفي الحياة الدنيا التي نعيشها هذا الأمر ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾؛ حصل ويحصل وسيحصل ويستمر إلى انتهاء هذه الحياة الدنيا، فهناك مَن خلقنا وأرسلنا في هذا العالم المادي الجسماني الظلماني، ومن ثم هو ينادينا ويدعونا دائماً، ولقد أعطانا جميعاً نفس الفطرة ونفس المؤهلات لنسمعه وننطلق إليه إلى حيث النور والطهارة، ولكن قليل من شكروا نعمته وأجابوه وقالوا (هو) وأعرضوا عن الأنا، قليل جداً هم أولئك، تماماً كالنجوم في ظلمة السماء، قليل هم أولئك الأنبياء والأوصياء والرسل (عليهم السلام)، ﴿...وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، وللأسف كثيرون انشغلوا عن ندائه سبحانه ولم يشكروا نعمه التي لا تحصى والمتجلية في خلقهم، فغفلوا عنه سبحانه وانشغلوا بأناهم وألهتهم هذه الحياة الدنيا، وهنا تدخلت الرحمة الإلهية فأرسل الذين سمعوا نداءه ونجوا بإجابة دعائه ليذكروا الغافلين لعلهم يلتفتون، ولكن للأسف أيضاً قليل من أجابهم، فتفضل سبحانه بأن أرسل معهم الدواء وربما جعل إنزاله على مراحل.
                    الاعتقاد في صفاته سبحانه:

                    الصفة الأولى له سبحانه وتعالى - أي لكنهه وحقيقته (هو) - هي اللاهوت المطلق، فبما أنّ علة الخلق هي المعرفة، وبما أنّ المعرفة بالنسبة للناقص منحصرة بتحصيل الكمال؛ كان حتماً أنْ يتجلى لهم سبحانه بالكمال المطلق أو اللاهوت المطلق ليتحقق المطلوب وهو المعرفة، واسم "الله" الذي يطلق على اللاهوت المطلق مشتق، ووجه اختصاصه بالذات الإلهية هو الاستعمال ([201]) مثله مثل اسم "الرحمن".

                    ولهذه الصفة أو هذا الاسم صفات هي في الحقيقة الكمالات التي ندرك شيئاً منها لتجليها فينا ولتجليها لنا بمن هم أعلى منا، ولأنها كمال وغنى مطلق في مقابل نقصنا وفقرنا، وهذه الصفات تتجلى في الإنسان؛ لأنه مخلوق على صورة الله، أي أنّ الإنسان هو تجلي اللاهوت في الخلق، وفطرة الإنسان تؤهله لأنْ يكون الله في الخلق، قال (صلى الله عليه وآله) :

                    «الله خلق آدم على صورته» ([202]).

                    وفي العهد القديم:

                    «26 وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» ([203])،

                    «فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه» ([204]).

                    وهذه الصورة هي صورة مخلوقة والمقصود بها محمد (صلى الله عليه وآله) تجلي اللاهوت في الخلق والإنسان الأول البرزخ بين اللاهوت والخلق.

                    «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَمَّا يَرْوُونَ أَنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه فَقَالَ: هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ واصْطَفَاهَا اللَّه واخْتَارَهَا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فَأَضَافَهَا إِلَى نَفْسِه كَمَا أَضَافَ الْكَعْبَةَ إِلَى نَفْسِه والرُّوحَ إِلَى نَفْسِه فَقَالَ "بَيْتِيَ" "ونَفَخْتُ فِيه مِنْ رُوحِي"»([205]).

                    فصفات اللاهوت: الرحمة، العلم، القدرة، الحياة، القيومية .... الخ، عندما ننسبها له سبحانه فمرادنا أنها مطلقة، أي رحمة مطلقة وعلم مطلق وقدرة مطلقة ... الخ، فلا توجد قيود أو حدود ذاتية أو خارجية لهذه الصفات، ومعرفتنا لها بقدر توجهنا له سبحانه وتجليها فينا.

                    وهي فينا لا يمكن أنْ تكون مطلقة، بل مقيدة بنقصنا وحاجتنا وفقرنا (بظلمتنا)، فحياتنا منه سبحانه وقائمة به، ورحمتنا مهما بلغت فهي غير تامة ومقيدة بنقصنا، وعلمنا وقدرتنا مقيد بفقرنا وبالحاجة إليه سبحانه.

                    فالإنسان حي يحمل الموت والفناء (الظلمة)، والله سبحانه وتعالى حي لا يحمل الموت (الظلمة)، فهو حي لا يموت؛ لأنه نور لا ظلمة فيه. والإنسان يعلم ويجهل؛ لأنه مشوب بالظلمة، والله يعلم ولا يجهل؛ لأنه نور لا ظلمة فيه. والإنسان قادر على أمور ويعجز عن أخرى، والله قادر لا يعجز؛ لأنه نور لا ظلمة فيه.

                    وقد بيّنت في كتاب التوحيد ما يمكن أنْ نعرفه من هذه الصفات:

                    [التوحيد مما مضى تبين أنه في التسبيح لا في الوصف ([206])، أي أنّ التوحيد الحقيقي يكون بتنـزيهه سبحانه عن المعرفة بكنهه وحقيقته، وإنما تكون غاية معرفته هي في معرفة العجز عن المعرفة، فغاية ما يصل إليه الإنسان من الوصف أو الأسماء الذاتية الكمالية هو الوصول إلى هذه المعرفة - أي معرفة العجز عن المعرفة - التي يتجلّى للإنسان من خلالها بوضوح أنّ التوحيد الحقـيقي في التسبيح، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾[الصافات: 159 - 160]، وذلك لأنّ المخلصين يعرفون أن الصفات ترجع في حقيقتها إلى التنـزيه عن النقص أو التسبيح والتقديس، أي أنّ ساحته سبحانه وتعالى خالية من النقص، أي أنه سبحانه وتعالى نور لا ظلمة فيه.

                    فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه»([207]).

                    وعن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبى الحسن الرضا (عليه السلام) : «روينا أن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه، قال (عليه السلام) : كذلك هو»([208]).

                    والحقيقة، إنّ معرفة عجزنا عن معرفة اللاهوت هي الممكنة لنا، ومنها نعرف عجزنا عن معرفة الحقيقة؛ لأننا لا يمكن أنْ نعرف عجزنا عن معرفة حقيقته سبحانه إلا من خلال معرفتنا لعجزنا عن معرفة اللاهوت المطلق؛ لأنّ اللاهوت المطلق هو المواجه لنا وهو يناسب حالنا ويمكن أنْ نبحر في ساحة معرفته من خلال نقصنا الذي نعرفه ([209])؛ لأنّ اللاهوت المطلق هو الكمال المطلق الذي نأله إليه ليسد نقصنا، ولكن هل يمكن مثلاً معرفة العجز عن معرفة الرحمة المطلقة دون أن نعرف رحمة ما؟ أكيد أن الجواب سيكون: لا.

                    وبالتالي فلكي نعرف عجزنا عن معرفة الرحمة المطلقة أو (الرحمن الرحيم سبحانه) لابد أن نعرف رحمة ما، وكلما كانت هذه الرحمة التي عرفناها أعظم وكلما كانت معرفتنا بها أعظم كانت النتيجة هي إن معرفة عجزنا عن معرفة الرحمة المطلقة أعظم، وبالتالي ستكون معرفة عجزنا عن معرفة الحقيقة التي واجهتنا بالرحمة المطلقة أعظم، فمعرفة الرحمة المطلقة تكون بمعرفة تجليها في الخلق، ومعرفة اللاهوت المطلق تكون بمعرفة تجليه في الخلق، كما أن معرفة الحقيقة تكون بمعرفة اللاهوت المطلق.

                    إذن، فلابد لنا من معرفة خلفاء الله في أرضه؛ لأنهم تجلي الله في الخلق، وبمعرفتهم يعرف الله أي يعرف العجز عن معرفته، وبالتالي يعرف العجز عن معرفة الحقيقة وهذا هو التوحيد المطلوب من ابن آدم، وهذا هو سر وعلة بعث الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) الحقيقية أي أن بعثهم ضروريٌ؛ لأن المعرفة تتم بهم ومن خلالهم.

                    فهنا تكمن حقيقة التوحيد وهي: أنه هو سبحانه وتعالى إنما تجلى لخلقه باللاهوت المطلق ليعرفوه وبما يناسب حالهم باعتبار أنهم فقراء ويألهون إلى الغني المطلق ليسد نقصهم، أي أن اللاهوت ليس هو الحقيقة بل هو وجه الحقيقة المناسب للخلق، فهو ظهوره سبحانه وتعالى لنا لنعرفه، فاللاهوت ليس الحقيقة بل هو الطريق الموصل لها ولكن هذا لا يعني أن اللاهوت المطلق غيره هو سبحانه وتعالى؛ لأنه في الحقيقة لا يوجد شيء اسمه لاهوت لولا وجود الخلق، فهو سبحانه وتعالى لاهوت بالنسبة لنا؛ لأننا فقراء ونحتاج أن نسد نقصنا فنأله إليه سبحانه وتعالى، أي أن تجليه هو سبحانه باللاهوت المطلق للخلق ليس إلا ظهوره سبحانه لهم بما يلائم حالهم هم لا أن اللاهوت هو الكاشف الحقيقي والتام عن الحقيقة؛ إنما هو مُعَرِّف بالحقيقة بما يلائم حال وفقر الخلق.

                    عن ابن سنان، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) : «هل كان الله عز وجل عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال: نعم، قلت: يراها ويسمعها؟ قال: ما كان محتاجاً إلى ذلك؛ لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها، هو نفسه ونفسه هو، قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه، ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها؛ لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فأول ما اختـار لنفسه: العلي العظيم لأنه أعلى الأشياء كلها، فمعناه الله واسمه العلي العظيم، هو أول أسمائه، علا على كل شيء»([210]).

                    وتقدم عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَاشْتِقَاقِهَا اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ، فَقَالَ (عليه السلام) : «يَا هِشَامُ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً، وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً، وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ، وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ»([211]).

                    وكلام الأئمة (عليهم السلام) واضح في الروايات فقط يحتاج الإنسان لتدبر قول الإمام الرضا (عليه السلام) : «قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه، ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها؛ لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف»، وقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «يَا هِشَامُ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً».

                    ولتتوضح الصورة أكثر لابد أن نعرف أن معرفته سبحانه وتعالى بصفاته معرفة حقيقية وتامة غير ممكنة لأمرين:

                    الأول: إن الصفات الإلهية جميعاً بل وجامعها وهو اللاهوت - الله - ما هو إلا وجه واجهنا به هو سبحانه وتعالى بما يناسب حالنا، فاللاهوت ليس الحقيقة بل هو طريق لمعرفة الحقيقة، فالوقوف عنده واعتبار معرفته هي المعرفة الحقيقية هو تماماً كالوقوف في منتصف الطريق المؤدي إلى الهدف وادعاء الوصول إلى الهدف.

                    ثانياً: إن الصفات عندما تنسب له سبحانه وتعالى تكون مطلقة، فكيف يمكن لغير المطلق أن يَعرِف المطلق معرفة تامة في حين أن المعرفة التامة تعني أن العارف بالشيء محيط به، ولا يحيط بالشيء إلا من هو فوقه أو مساوٍ له على أقل تقدير، وبالتالي فادعاء إمكان معرفة الصفات الإلهية معرفة تامة تكون بمثابة ادعاء تعدد اللاهوت المطلق وبمثابة جعل العارف - وهو مخلوق - لاهوتاً مطلقاً وهذا باطل. إذن، فما يمكن أن نعرفه من الصفات هو تجلياتها في الخلق، ومن المؤكد أن أقرب تجلياتها لها هم حجج الله على خلقه وخلفاؤه في أرضه ([212]).

                    فلو أخذنا الرحمة مثلاً وأردنا أن نعرف كل ما يمكن معرفته عن الرحمة فيمكننا معرفتها من علاقة الأنبياء والأوصياء مع بقية الخلق، ولنفرضها تتراوح بين (80 - 99) بالمئة، وكل منهم (عليهم السلام) بحسبه، ولكنها أبداً لا تكون في أحدهم مئة بالمئة؛ لأن من يتصف بها حينها سيكون كمال لا نقص فيه وغنى لا فقر معه، أي أنه نور لا ظلمة فيه وهذا هو سبحانه وليس خلقه، وبالتالي تبقى معرفتنا بالرحمة مهما بلغت غير تامة وغاية ما توصلنا إليه هو معرفة العجز عن معرفة الرحمة المطلقة.

                    وهذا يعني باختصار أنها معرفة تعتمد على نفي النقص ([213])، أي أنها معرفة تعتمد على التنزيه أو التسبيح، ولهذا قلت وقدمت بأن التوحيد في التسبيح لا في الوصف.

                    وأيضاً هي معرفة بالنسبة لعامة الخلق مرتبطة بخلفاء الله في أرضه، فبهم يعرف الله وبهم يكون التوحيد، فبرحمتهم تعرف رحمته المطلقة، وبربوبيتهم في الخلق تعرف ربوبيته المطلقة، وبلاهوتهم في الخلق يعرف لاهوته المطلق سبحانه، ومن دونهم لا معرفة ولا توحيد عند بقية الخلق.

                    فالتوحيد إذن مرتبط بخلفاء الله ارتباطاً وثيقاً، بل لو دققنا في الأمر لعلمنا مما تقدم أن المعرفة والتوحيد غير ممكنة لبقية الخلق لولا المخلوق الأول أو العقل الأول أو محمد (صلى الله عليه وآله) الذي عَرَّف الخلق به سبحانه وتعالى.

                    عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني، قال علي (عليه السلام) فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ؟ فقال: يا علي، إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا.

                    يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار، ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عز وجل خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده.

                    ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة إنا خلق مخلوقون، وأنه منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا، لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه، فقالوا: لا إله إلا الله، فلما شاهدوا كبر محلنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العز والقوة قلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا: الحمد لله لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته، فقالت الملائكة: الحمد لله، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.

                    ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون، وإنه لما عرج بي إلى السماء أذّن جبرئيل مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد، فقلت له: يا جبرئيل أتقدم عليك؟ فقال: نعم؛ لأن الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضّلك خاصة، فتقدمت فصليت بهم ولا فخر، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلف عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟ فقال: يا محمد، إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله. فزج بي في النور زجة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكه، فنوديت: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت، فنوديت: يا محمد أنت عبدي وأنا ربك فإياي فاعبد وعلي فتوكل، فإنك نوري في عبادي ورسولي إلى خلقي وحجتي على بريتي، لك ولمن اتبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.

                    فقلت: يا رب، ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد، أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي، فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثنى عشر نوراً، في كل نور سطر أخضر عليه اسم وصي من أوصيائي، أولهم: علي بن أبي طالب، وآخرهم مهدي أمتي، فقلت: يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي؟ فنوديت: يا محمد، هؤلاء أوليائي وأوصيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك، وعزتي وجلالي، لأظهرن بهم ديني ولأعلين بهم كلمتي ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأمكننه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرن له الرياح، ولأذللن له السحاب الصعاب، ولأرقينه في الأسباب، ولأنصرنه بجندي، ولأمدنه بملائكتي حتى تعلو دعوتي ويجتمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمن ملكه، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة»([214]) ] ([215]).
                    تقسيم صفات اللاهوت:

                    هو سبحانه تجلى للخلق باللاهوت المطلق أو الكمال المطلق (الله) ليعرفه الخلق، ولا نقص في ساحة اللاهوت المطلق (الله) سبحانه، ومن هنا فهو موصوف بكل كمال مطلق ومنزه عن كل نقص، فلا إشكال في تسمية صفات الكمال بالثبوتية، وتسمية تنزيهه عن النقص بالصفات السلبية، فهي مجرد مصطلحات لفظية تشير إلى معنى معين، والمهم هو المعنى المراد، ولكن فقط الإشكال في حصر بعضهم صفات الكمال بثلاث هي: العلم والقدرة والحياة أو بعدد معين، وكذا حصر التنزيه أو الصفات السلبية كما يسمونها بعدد معين، فالحق إن الله موصوف بكل كمال مطلق ومنزه عن كل نقص.

                    أما الصفات الفعلية فهم يضعون لضبط تقسيم الصفات إلى فعلية وذاتية أمرين:

                    الأول: إن الصفة التي يوصف بها وبضدها هي صفة فعلية؛ لأن الصفة الذاتية هي عين ذاته، فلا تنفك عنه ليمكن أن يوصف بضدها، ومثالها الإرادة فهو يوصف بأنه مريد ويوصف بأنه كاره أو غير مريد، أما الصفة التي يوصف بها ولا يوصف بضدها فهي صفة ذاتية كالعلم، فهو يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه جاهل.

                    الثاني: إن كل صفة تحتاج لانتزاعها فرض غير الذات فهي صفة فعلية، مثل صفة الخالق فهو لا يوصف بأنه خالق قبل أن يخلق، وكل صفة تنتزع من فرض الذات فقط فهي صفة ذاتية مثل صفة الحياة.

                    هذا هو مجمل ما يعتمدونه لهذا التقسيم، والحقيقة إنّ تسمية بعض الصفات بالفعلية عندهم باعتبار فهم معين لمعناها يجعلها مرتبطة بالفعل ووجودها مرتبط بوجود الفعل، وبالتالي تكون صفات حادثة بحدوث الفعل فلا يصح أنْ تكون ذاتية، فيقال إنها إضافية بالنسبة للذات وإنها صفات فعلية، وهذا لا إشكال فيه بناء على هذا الفهم لمعنى الصفات.
                    نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                    Comment

                    • ya howa
                      مشرف
                      • 08-05-2011
                      • 1106

                      #11
                      رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                      ولكن هناك معنى آخر وفهم آخر لهذه الصفات يمكن أنْ نقدمه، ويجعلها صفات غير حادثة وليست صفات فعل ولا إضافية بالنسبة للذات، وبالتالي تعود للصفات الذاتية وتتفرع عنها، فصفة الخالق مثلاً يمكن أنْ نفهم منها فعل خلق المخلوقات فتكون حادثة؛ لأنها مرتبطة بالحادث، ويوصف بضدها فنقول إنه غير خالق ونقصد قبل أنْ يخلق الخلق، وبهذا نجعلها صفة فعلية إضافية للذات. وأيضاً يمكن أنْ نفهمها على أنها القدرة على الخلق فتكون صفة ذاتية وليست حادثة ولا يمكن أنْ يوصف بضدها، فنقول إنه عاجز عن الخلق، أي أنّ صفة الخالق يمكن أنْ نقول عنها إنها صفة فعلية إذا نسبناها إلى الفعل، ويمكن أنْ نقول عنها إنها صفة ذاتية إذا نسبناها إلى الذات، ولا إشكال في كونها مرة صفة فعلية ومرة صفة ذاتية في مقامين مختلفين.
                      عينية صفات اللاهوت الذاتية:

                      الأسماء أو الصفات الذاتية متحدة وفانية في الذات الإلهية أو الله فناء أحدياً يجعلها والذات واحداً أحداً لا تركيب فيه، فجميع الأسماء والصفات الذاتية متحدة في الذات الإلهية أو "الله" وحدة حقيقية، أي أنّ الله واحد أحد وجميع الأسماء والصفات عين ذاته؛ وليست أعراضاً تتصف بها الذات، ولا جواهر تتركب منها، فهذه الأسماء والصفات الذاتية القديمة ليست آلهة منفصلة عن الله باعتبار أن ألوهيتها مطلقة في الجهات التي تمثلها بل هي غير منفكة عن الذات الإلهية، وبالتالي فهي عين الذات، فهو سبحانه قادر والقدرة ذاته وعالم والعلم ذاته و …… .

                      والتوحيد بالمرتبة الأولى يكون بمعرفة انطواء جميع هذه الأسماء في الذات الإلهية، أي أنّ الله رحمن رحيم والرحمة ذاته، وقادر والقدرة ذاته.

                      وفي كتاب التوحيد تفصيل الكلام في الذات اللاهوت والصفات الذاتية وكونها عين الذات، وكذا الكلام في مراتب التوحيد، وأرى من المناسب لمن أراد التفصيل في هذا الموضوع الرجوع إلى كتاب التوحيد.
                      صفة العلم والبداء:

                      بعد أن أثبتنا لاهوته المطلق، نقول: إنه لابد أنْ يتصف اللاهوت المطلق بالعلم المطلق، وإلا فلو جهل شيئاً لكان نوراً وظلمة - لأنّ سبب الجهل هو الظلمة أو النقص-، ولو كان كذلك انتفت ألوهيته المطلقة، كما أنه لو جهل لاحتاج إلى غيره وبطل لاهوته المطلق بحاجته وفقره.

                      ومن علمه ما أظهره في عوالم الخلق ليطلع عليه من خلقه من شاء أنْ يطلعه عليه، وهذا هو لوح المحو والإثبات، وفيه لكل حادث احتمالات يعتمد حدوث كل واحد منها على العبد وما يحيط به، فعندما يحين حينها يحدث أحدها، ولولا المحو والإثبات لبطل الدعاء ولم يكن له معنى إلا العبث، فمن يقول بعدم وجود المحو والإثبات يقول إن الأمر فرغ منه أو كما وصفهم تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾[المائدة: 64].
                      صفة الإرادة والجبر والتفويض:
                      صفة الإرادة:

                      وتعني أن الله مريد وغير مريد، فقد أوجد أشياء ولم يوجد غيرها، ومخصص إيجادها وعدمه هي إرادته سبحانه وتعالى، وهو سبحانه أمر ونهى، ومخصص الأمر والنهي هي إرادته سبحانه، فهو مريد لما أوجد وهو مريد لما أمر، وهو غير مريد لما نهى.

                      فإرادته سبحانه متعلقة بفعله هو من جهة وقوعه في الخارج، أما تعلقها بأفعال عباده فليس من جهة وقوعها في الخارج، بل من جهة أنه أمر بها أو نهى عنها، لأنها ليست أفعاله بل أفعال عباده، ومخصص وقوعها في الخارج هو إرادة فاعلها وهو العبد نفسه.
                      تعلق الإرادة الإلهية بالإنسان وأفعاله:

                      أولاً: الله مريد للإنسان، لهذا خلقه وأعطاه الحول والقوة.

                      ثانياً: الله مريد لبعض أفعال الإنسان التي مكنّه الله من فعلها لهذا أمره بها، وغير مريد لبعض أفعاله التي مكنّه الله من فعلها أيضاً لهذا نهاه عنها.

                      ثالثاً: وقوع أفعال العباد في الخارج لا تعني أنه سبحانه مريد لها، بل غاية ما في الأمر أنه أمضاها؛ لأن العباد يوقعونها في الخارج بحول وقوة خولّها الله لهم ولكن بإرادتهم هم وإنْ كانت بالضد من إرادة الله سبحانه؛ حيث إنهم مخيّرون وفي عالم امتحان.

                      فهو سبحانه يمضي (أو لا يمضي) ما يريد وما لا يريد من أفعال عباده وفق قانون وسنة إلهية كونية عامة. ولكن إمضاءه سبحانه لما لا يريد من أفعال العبد وفقاً لإرادة العبد لا يعني أنه قد فوّض الأمور للعبد؛ لأن الله سبحانه قد وضع قانوناً تكوينياً عاماً([216])، ويمكن أنْ يفعل الإنسان ما يريد من خير وشر ضمن هذا القانون دون أنْ يمنعه الله، إلا إنْ اقتضت الحكمة خرق هذا القانون ومنعه (كما في المعجزة).

                      وبهذا تُرَدُ شبهة أو مغالطة الجبر والتفويض، فالإنسان غير مجبر على أفعاله من خير أو شر، وإمضاء الله لها هو بإعطاء الإنسان الحول والقوة والاختيار ضمن حدود حدها الله سبحانه وتعالى، والإنسان يبقى دائماً بحاجة أنْ يمده الله بالوجود والحول والقوة في كل آن وفي حال اختياره للخير أو الشر وفي حال فعله للخير أو الشر، وبهذا فلا تفويض أيضاً.

                      أما شبهة أو مغالطة بعض السلفيين القائلين بأنّ كل ما وقع أو حدث في الخارج فهو سبحانه مريد له ومرضي عنده فهي باطلة؛ حيث إنهم لا يميزون بين أفعاله هو سبحانه وبين أفعال عباده، ويخلطون بينهما ولا يميزون بين ما هو مرضي وغير مرضي له من أفعال عباده، ويضعون الكل في سلة واحدة ويصنفون الجميع ضمن قائمة الإرادة التكوينية - التي يقولون بها - ويتوهمون أنها جميعاً مرضية له وهو مريد لها.

                      والحق إنهم إذا أرادوا تصنيف كل ما وقع في الخارج على أنه واقع ضمن مصطلح الإرادة التكوينية الذي يقولون به؛ عندها عليهم أنْ يفهموا أنّ هذه الإرادة التكوينية التي يقولون بها غير كاشفة عن أمره ونهيه وغير كاشفة عن رضاه، بل وعليهم أنْ يدركوا أنهم قد خلطوا فيها - أي الإرادة التكوينية - أفعاله بأفعال عباده، وبهذا فهي أمر عام يشمل كل ما يقع في الخارج، سواء تعلق من جهة وقوعه في الخارج بإرادة الله أو بإرادة العبد، أي أنّ الإرادة التكوينيةبحسب هذا التعريف ليست إرادة إلهية، بل هي خلطة من الإرادة الإلهية وإرادة العباد، ولا فائدة منها في تمييز صفة الفعل أو الحدث الحاصل في الخارج وكونه مرضي لله أو غير مرضي لله أو كون الله مريد له أو غير مريد له، ومن يستخدمها لتمييز صفة الفعل أو الحدث الواقع في الخارج فهو أحد اثنين: إما أنه لا يكاد يفقه شيئاً، أو أنه يعرف ولكنه يريد استخفاف بعض الناس الذين يتبعونه بجهل.

                      ولتبسيط الأمر أكثر أقول: إنّ أفعال العباد الواقعة في الخارج غير متعلقة بإرادة الله من جهة الوقوع؛ لأنها ليست أفعاله بل أفعال عباده، وبالتالي فهي متعلقة بإرادة العباد من هذه الجهة. نعم، هي متعلقة بإرادته سبحانه من جهة الأمر والنهي.

                      فسؤال بعض الجهلة من السلفيين: هل أن الملك - الذي لم يعيَّنه الله - حكم بإرادة الله أم رغماً عنه٬ أو السارق سرق بإرادة الله أم رغماً عنه؛ مبني على مغالطة وهي أنهم يفرضون أنّ فعل السرقة من جهة وقوعه بالخارج متعلق بإرادة الله سبحانه وتعالى في حين أنه متعلق بإرادة العبد لا بإرادة الله من هذه الجهة، وتعلقه بإرادة الله فقط من جهة الأمر والنهي، أي فقط هل أنّ الله أمر أم نهى أنْ يحكم هذا الملك، وفقط هل أنّ الله أمر أم نهى عن السرقة.

                      وأيضاً: لا يوجد شيء يحصل في الوجود إلا والله قادر على منعه، ولا يوجد شيء ممكن إلا والله قادر على إيجاده، ولكنه وضع قوانين لهذا العالم، فقد أعطى الإنسان الحول والقوة والاختيار، وفي الآخرة سيحاسبه على ما فعل وما اختار، ولكنه لا يقهره ولا يجبره في هذا العالم على طاعة خليفة الله في أرضه وتمكينه من الحكم، ولا يجبره ولا يقهره على الصلاة ولا على الصيام ولا على ترك السرقة... الخ، وإلا لكان الإنسان مقهوراً مجبراً على الفعل، ولا قيمة لفعله ولا معنى لعقابه أو إثابته على قيامه بفعل معين أو تركه.

                      إذن، فالله يعيِّن خليفته والناس ممتحنون بتمكين خليفة الله في أرضه، فإنْ مكنوه فازوا في الدنيا والآخرة، وإنْ خذلوه ومكنوا غيره أو أطاعوا غيره، فقد خسروا آخرتهم وضيعوا حظهم.
                      صفات خليفة الله في أرضه:

                      حجة الله: فبه يقيم الله الحجة على الناس ويقطع عذرهم، ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: 165].

                      الرسول: فهو جاء من مرسل برسالة.

                      النبي: لأنّ له مقام النبوة ويوحى له بالرؤيا والكشف، أما الإشكال على وصف خليفة الله بنبي مرسل بعد رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) لكون الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء المرسلين من الله، فهذا أمر قد بيّنته في كتاب "النبوة الخاتمة"، وباختصار هنا أقول: إن النبوة الرسالية التي ختمت هي النبوة الرسالية من الله وافتتحت النبوة الرسالية من محمد (صلى الله عليه وآله) خليفة الله الحقيقي المراد الوصول إليه من الخلق وبالوصول إليه تحققت الخلافة الحقيقية، وبالتالي يقوم الخليفة الحقيقي وهو محمد (صلى الله عليه وآله) بدور الخلافة كاملة، ومن هذا الدور أنه (صلى الله عليه وآله) يكون منبئاً لمن بعده ومرسلهم، فالأئمة من آل محمد (عليهم السلام) علمهم من رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، وهم رسل من محمد (صلى الله عليه وآله) بأمر الله سبحانه وتعالى.

                      وصي: باعتبار أنّ هناك حجة سابق قد أوصى باتباعه ونصرته، وأنه حجة من الله وخليفة لله في أرضه من بعده، وليس ضرورياً أنْ يكون الموصي مباشراً للوصي ليكون وصيه، فالباقر والصادق (عليهما السلام) مثلاً أوصياء لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)؛ لأنه نص عليهم بوصيته.

                      معصوم:

                      والعصمة: هي الاعتصام بالله عن محارم الله.

                      والمعصوم: هو المعتصم بالله عن محارم الله.

                      والعصمة أمر باطني ليس هناك سبيل للقطع به في الخارج إلا بالنص من الله، أو من خليفة من خلفاء الله السابقين.

                      وخليفة الله المعصوم لا يُخرج الناس من هدى، ولا يدخلهم في باطل.

                      إمام([217]) : أي كونه مُنصب ليقود ويأم غيره في هذه الدنيا.

                      العالم:لأنّ الله يوحي له ويعلمه ما فيه إخراج الناس من الضلال وإدخالهم للهدى وتعريفهم بالحق، فهو فقط من يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم؛ لأنّ علمه من الله ومعرفته من الله، أما غيره فحتى لو عرفوا الحق والصراط المستقيم في آن فسيجهلونه في آن آخر؛ لأنّ علمهم ليس من الله ولا يوحى لهم، وبالتالي فلا يمكن وصف أحد من الناس بأنه يهدي إلى الحق وإلى الطريق أو الصراط المستقيم غير خليفة الله في أرضه.
                      علم خليفة الله في أرضه:

                      العلم الواجب توفره في خليفة الله في أرضه؛ هو معرفة ما فيه نجاة الناس في الآخرة من عقائد وتشريع، فلابد أنْ يوحى إليه ليكون عنده فصل الخطاب، ويبين الاعتقاد الحق والشريعة الحقة وما يستجد من تشريع، فالعلم ليس ما كان بل ما يكون، فمعرفة خليفة الله مثلاً بكتاب الخليفة السابق أو حفظه له أو حفظه للتشريع السابق ليس هو العلم الأهم والواجب توفره في خليفة الله في أرضه؛ لأنّ هذه أمور متوفرة بين أيدي الناس ويمكن أنْ يحصلها أي إنسان آخر، فلا يكون له فضل بها بل الفضل أنْ يعلم ما لا يعلم الناس، ولا يكون هذا إلا بالوحي في آناء الليل والنهار. فالكل يحتاجونه لينجوا بينما هو لا يحتاج أحداً من الناس في زمانه، تماماً كحال آدم والملائكة فعلم آدم كانت تجهله الملائكة مع حاجتهم له (أسمائهم)، وبهذا كان له الفضل عليهم ووجب عليهم التعلم منه وطاعته.

                      وهذا يبيّن أن لا إشكال أن يكون الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، ولا إشكال في كونه لم يكن يعلم نصوص التوراة والإنجيل أو يحفظها، وكل من يدعي بغير هذا فهو مغالي متكلف أمراً لا دليل عليه، إنما يحمل بعضهم على هذا القول الهوى لا غير. أما ما روي من أنّ الرسول قادر على القراءة والكتابة، فهذا أيضاً لا يعدو كونه في طور إثبات القدرة وليس التطبيق، أي أنّ الرسول لم يَثبُت أنه قرأ وكتب، بل ثبت العكس وهو احتياجه لمن يقرأ ويكتب له، كوجود كُتّاب الوحي وحاجته لعلي (عليه السلام) ليكتب له الصلح.

                      فما ثبت في الخارج لمن كانوا يواجهون الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله) أنه لا يقرأ ولا يكتب؛ لأنه لم يكن يمارس القراءة والكتابة، ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[العنكبوت: 48]. ولهذا فهم نقلوا هذا الأمر كونهم لم يروه يكتب ويقرأ أمامهم، وبهذا فحتى إثبات أنّ لديه القدرة على الكتابة والقراءة لا قيمة له في نفي جواز أن يكون الرسول - أي رسول أو خليفة لله في أرضه - لا يقرأ ولا يكتب بالفعل أي أمياً. والرسول محمد (صلى الله عليه وآله) احتاج لصحف من توراة موسى نقلت له ولم يتمكن هو وعلي (عليه السلام) من قراءتها؛ لأنها بلغة أخرى غير العربية. وهذا أيضاً ينفي أمراً مهماً يدّعيه بعضهم؛ وهو أنّ الحجة يعرف كل اللغات دائماً وفي كل حال.

                      ويجب دائماً الالتفات إلى أننا هنا نتكلم عن خليفة الله في أرضه في هذا العالم الجسماني، ولا نتكلم عن روحه وما أودع فيها، فهو في هذا العالم يجهل الكثير كغيره من الناس، ولا يعلم إلا ما يتعلمه كسباً أو ما يشاء الله أنْ يعلمه له وحياً وفق حكمة الله الحكيم المطلق لا وفق تخرصات الناس وطلباتهم،فيمكن أنْ يعرفه الله ما لابد له منه، فيكشف له الله بعض المعارف المودعة في صفحة وجوده، والتي حجبها عنه هذا الجسد وهذا العالم وكثافته. والنتيجة أنّ علم الحجة هو ما بيّنته، وهو وحي مستمر من الله له بكل ما تحتاجه الإنسانية للنجاة ومعرفة الحق ومعرفة ما يريده الله منهم، وليس من علم الحجة الواجب في شيء المعرفة بلغات الكتب السماوية أو باللغات الأخرى أو حفظ ألفاظ الكتب السماوية. نعم، لابد أنْ يكون هو الحافظ لكل المعاني الواردة في كل الكتب السماوية وللحقائق المشيرة لها ودون أنْ يحتاج لقراءتها أو توفرها بين يديه، فالكتب السماوية كلها مودعة في صفحة المعصوم كحقائق ومعان في مرتبتي الحقيقة والمعنى، ولكل حجة كتابه ومعرفته الخاصة به وبأهل زمانه وما يحتاجونه.

                      وليس من علم الحجة الواجب في شيء المعرفة بالعلوم المادية حتى الضروري منها لحياة الناس كالطب، وفي حادثة استدعاء الحسن والحسين (عليهما السلام) الطبيب لعلاج أمير المؤمنين (عليه السلام) كفاية لمن يطلب الحق.

                      وهذه بعض الأحاديث التي تشير إلى علم خليفة الله في أرضه:

                      ورد في كتاب الكافي للكليني: ج1، باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم.

                      «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) : إِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ وإِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ سُلَيْمَانَ وإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً وإِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ والزَّبُورِ وتِبْيَانَ مَا فِي الأَلْوَاحِ قَالَ قُلْتُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعِلْمُ قَالَ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَحْدُثُ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ وسَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ»([218]).

                      «أحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ شُعَيْبٍ الْحَدَّادِ عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) وعِنْدَه أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) : إِنَّ دَاوُدَ وَرِثَ عِلْمَ الأَنْبِيَاءِ وإِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ وإِنَّ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) وَرِثَ سُلَيْمَانَ وإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) وإِنَّ عِنْدَنَا صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ وأَلْوَاحَ مُوسَى فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعِلْمُ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ إِنَّمَا الْعِلْمُ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ يَوْماً بِيَوْمٍ وسَاعَةً بِسَاعَةٍ»([219]).

                      وورد في كتاب بصائر الدرجات للصفار: ص344، باب ما يلقى شيء بعد شيء يوماً بيوم وساعة بساعة مما يحدث.

                      «عن أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى عن شعيب عن ضريس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: إنما العلم ما حدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة».

                      «وعن أحمد بن محمد بن علي بن النعمان عن ابن مسكان عن ضريس قال: كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له أبو بصير: بما يعلم عالمكم جعلت فداك، قال: يا أبا محمد إن عالمنا لا يعلم الغيب ولو وكل الله عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم، ولكن يحدث إليه ساعة بعد ساعة».

                      «وعن أحمد بن محمد عن الحسين سعيد عن بعض أصحابنا عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك أي شيء هو العلم عندكم قال: ما يحدث بالليل والنهار والأمر بعد الأمر والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة».

                      «وعن أحمد بن محمد عن ابن سنان عن أبي بصير قال سمعته يقول: إن عندنا الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى، فقال له ضريس: أليست هي الألواح فقال: بلى، قال ضريس: إن هذا لهو العلم فقال: ليس هذا العلم إنما هذه الأثرة إن العلم ما يحدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة».

                      «وعن عبد الله بن محمد عن محمد بن الوليد أو عمن رواه عن محمد بن الوليد عن يونس بن يعقوب عن منصور بن حازم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عندنا صحيفة فيه أرش الخدش، قال قلت: هذا هو العلم، قال: إن هذا ليس بالعلم إنما هو إثرة، إنما العلم الذي يحدث في كل يوم وليلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)».

                      «وعن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن شعيب الحداد عن ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال أبو عبد الله: إن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال له أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال: ليس هذا العلم إنما هو الأثرة، قال: إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة».

                      «وعن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي الصباح قال: حدثني العلا بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنعلم ما في الليل والنهار».
                      خليفة الله والصفات المعجزة ([220]) :

                      بعضهم يعتقد أنّ من صفات المعصوم أنه لا ظل له، وأنه إذا مشى على الحجر يؤثر فيه ولا يؤثر في الأرض الرخوة، وأنه لا تأكل لحمه السباع أو لا تهاجمه السباع .... الخ.

                      والحق إنّ هذا اعتقاد باطل، ومن يعتقد أنّ المعصوم يتصف بالمعجز كصفة ملازمة له (عليه السلام) فهو منحرف العقيدة، وحاله أنه:

                      أولاً: مخالف للقرآن الذي يعتبر محمداً (صلى الله عليه وآله) - أفضل خلفاء الله - أنه بشر وله الصفات الجسمانية البشرية، وميزته روحية نتيجة لإخلاصه (صلى الله عليه وآله) وليست جسمانية، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾[فصلت: 6].

                      ثانياً: متهم لله بمخالفة العدل، وتفضيل بعض الخلق على بعض قبل امتحانهم وظهور فضل بعضهم على بعض بالعمل.

                      ثالثاً: متهم لله بمخالفة الحكمة؛ حيث رغم أنّ خلفاءه لهم صفات معجزة كما يدّعي منحرفو العقيدة، زودهم الله بمعجزات هي أقل ظهوراً في الإعجاز من تلك الصفات، فالتأثير في الحجر الذي يتصف به موسى (عليه السلام) - بحسب أصحاب العقيدة الفاسدة - أعظم من معجزة وقتية تأتي مع موسى (عليه السلام)، وهي تحول عصا إلى أفعى، فلما دخل موسى إلى قصر فرعون أكيد أنه هدم أرضية قصر فرعون بحسب دعوى هؤلاء السفهاء؛ حيث إنهم يعتقدون أنه يتصف بالتأثير في الحجر، وهذا أمر أثره باقٍ ولا يمكن أن يقال إنها سحر، فما حاجة موسى بعد كل هذا لعصا تتحول إلى أفعى، ويقول عنها فرعون إنها سحر.

                      رابعاً: بهذه العقائد المنحرفة كعقيدة أنّ الحيوانات المفترسة لا تأكل أو لا تهاجم المعصوم أو الإمام؛ يعطي هؤلاء تخويلاً لقتلة الحسين (عليه السلام) بقتله، بل ويعطون الحجة لمن لا يؤمن بالحسين (عليه السلام)؛ لأنه بحسب هذه العقيدة يثبت عندهم أنه (عليه السلام) ليس إماماً، لأنّ الخيل وهي حيوانات أليفة داست على صدره، فلو كانت الحيوانات المفترسة لا تؤذي الإمام الحق أو خليفة الله، فمن باب أولى أنّ الخيل الأليفة لا تدوس على صدره، وهكذا يعطي هؤلاء باعتقاداتهم الباطلة حجة للذين لا يؤمنون بآل محمد (عليهم السلام) أنْ يطعنوا بإمامة الأئمة (عليهم السلام).

                      والحقيقة إنّ ما روي هو عكس هذه العقيدة تماماً، فقد روي أنّ المفترسات تجرأت على جسد الحسين (عليه السلام) كما تجرأ البشر وكما تجرأت الخيول، روي أنّ الحسين (عليه السلام) لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال:

                      «الْحَمْدُ لِلّهِ وما شاءَ اللهُ، وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ، [وَصَلَّى اللهُ عَلى رَسُولِهِ]، خُطَّ الْمَوْتُ عَلى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلادَةِ عَلى جيدِ الْفَتاةِ، وَما أَوْلَهَني إِلى أَسْلافي اشْتِياقَ يَعْقُوبَ إِلى يُوسُفَ، وَخيرَ لي مَصْرَعٌ أَنَا لاقيهِ، كَأَنّي بِأَوْصالي تُقَطِّعُها عُسْلانُ الْفَلَواتِ بَيْنَ النَّواويسِ وَكَرْبَلاءَ، فَيَمْلأَنَّ مِنّي أَكْراشاً جَوفاً وَأَجْرِبَةً سُغْباً، لا مَحيصَ عَنْ يَوْم، خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضىَ اللهِ رِضانا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلى بَلائِهِ وَيُوَفّينا أُجُورَ الصّابِرينَ، لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لُحْمَتُهُ، وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ في حَظيرَةِ الْقُدْسِ، تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَيُنْجَزُ بِهِمْ وَعْدُهُ، مَنْ كانَ باذِلاً فينا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلى لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ مَعَنا فَإِنّي راحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شاءَ اللّهُ [تَعالى]» ([221]).

                      وقالت زينب بنت علي (عليها السلام) :

                      «.... أظننت يا يزيد انه حين اخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة وان هذا لعظيم خطرك ...... مع اني والله يا عدو الله وابن عدوه استصغر قدرك واستعظم تقريعك غير أن العيون عبرى والصدور حرى وما يجزي ذلك أو يغني عنا وقد قتل الحسين (عليه السلام) وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله فهذه الأيدي تنطف من دمائنا وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات فلئن اتخذتنا مغنما لتتخذن مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك...»([222]).

                      «.... ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد إلا ما قدمت وما ربك بظلام للعبيد...»([223]).

                      و"عسلان الفلوات": أي الحيوانات المفترسة البرية أو الذئاب منها بالخصوص، و"أمهات الفراعل": أي الضباع، وظاهر الكلام واضح.

                      «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن منى أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خط بالقلم».

                      «وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل».

                      وقد حاول بعضهم تأويل هذه الروايات بتأويلات ضعيفة لا تقوم أمام النقد العلمي. وفي الحقيقة إنه لا يصار إلى التأويل إلا عند الضرورة ولا ضرورة هنا للتأويل، فلا يوجد دليل عقلي أو نقلي قطعي الصدور والدلالة يدفع للاعتقاد بأنّ جسد خليفة الله لا يمكن أنْ تتجرأ عليه الحيوانات غير العاقلة، في حين ثبت قطعاً تجرأ الإنسان العاقل على جسده حتى وصل بهم إلى قطع إصبع الحسين (صلوات الله عليه)، وليتهم قطعوني إرباً دون إصبعه بأبي وأمي هو ([224]).

                      الحقيقة إنّ أقل ما يقال: إنّ جسد الإمام كجسد غيره من البشر، ومن يريد إضافة صفة خارقة لجسد الإمام أو خليفة الله في أرضه فعليه بالدليل وإلا فكلامه بلا قيمة علمية. أضف: أنّ المروي أعلاه عن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأخته العقيلة (صلوات الله عليها) واضح الدلالة، وعلى الأقل هذا ما يفهم من ظاهره، ولا يمكن طرح الظاهر أو ما يفهم منه بجلاء دون دليل قطعي يمنع الظاهر الجلي للمروي أعلاه.

                      أيضاً: في قصة يوسف (عليه السلام) قال تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾[يوسف: 13]، ويعقوب خليفة من خلفاء الله ويوسف كذلك، وظاهر قول يعقوب في القرآن حجة ودليل، فيعقوب إذن بحسب القرآن لا يعتقد بهذا الاعتقاد الفاسد، بل يعتقد أنّ يوسف ممكن أنْ يأكله الذئب، وبالتالي خاف عليه من الذئاب وحذّر أبناءه من أنْ يأكل الذئب أخوهم يوسف خليفة الله في أرضه، وأخوة يوسف فهموا واعتقدوا بأنّ الذئب ممكن أنْ يأكل يوسف (عليه السلام)، لهذا أجابوا يعقوب (عليه السلام) بقولهم: ﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾[يوسف: 14]. فيعقوب إذن هو الذي جعل أبناءه يعتقدون بعكس ما يعتقد أهل الضلال اليوم، وصرّح أمامهم بقول واضح بأنه يخاف أنْ يأكل الذئب خليفة الله، فهل خفي على نبي الله يعقوب أنّ خليفة الله (عليه السلام) لا يأكله الذئب، بينما لم يخفَ هذا الأمر على أصحاب هذه العقائد الباطلة؟!!

                      أما القول بأنّ يعقوب (عليه السلام) إنما أراد أمراً باطنياً، وقصد بالذئاب أخوة يوسف (عليه السلام)، فهذا الأمر لا يتعارض مع كون ظاهر قول يعقوب - وما يفهمه منه من يسمعه وما فهمه منه أبناؤه كما هو واضح من ردهم عليه - دال وبوضوح أنّ الذئب يمكن أنْ يأكل خليفة الله في أرضه يوسف (عليه السلام)، كما يمكن أنْ يأكل غيره من الناس.
                      خليفة الله في أرضه واللغات:

                      ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾[فصلت: 44].

                      بعضهم يعتقد أنّ معرفة كل اللغات صفة ملازمة لخليفة الله في أرضه، وهذه عقيدة باطلة لا دليل عليها.

                      فحجة الله في هذا العالم الجسماني كسواه من الناس في مسألة معرفة اللغات، فهو في هذا العالم الجسماني لا يمكن أنْ يعرف اللغات الأخرى جميعها إلا بالمعجزة، وهذا أمر آخر فنحن لا نتكلم هنا عن المعجزة التي قد تحصل وقد لا تحصل وفق حكمة إلهية، وإنما نتكلم عن صفة معجزة ملازمة، أي كون كل حجة يعرف كل اللغات في هذا العالم الجسماني في كل وقت، وهذا أمر قد يعتقد به بعض الجهلة والغلاة وهو غير صحيح، وإضافة إلى فقده للدليل فإنه مخالف للواقع التاريخي والعقل والقرآن، وبيانه في نقاط:

                      أولاً: لو كان الحجج يتكلمون كل لغة لاحتجوا بها على من واجهوهم لكي يؤمنوا بهم. ولم يثبت بدليل قطعي أنّ خلفاء الله احتجوا بمعرفة اللغات الإنسانية الأخرى على أقوامهم ليؤمنوا بهم. ثم ما حاجتهم للمعاجز الأخرى لو كانوا يعرفون كل اللغات الإنسانية، فماذا يفعل موسى بالعصا إذا كان يتكلم عدة لغات دون تعلم؟!!!

                      ثانياً: خليفة الله موسى (عليه السلام) لم يكن يجيد النطق بأي لغة بصورة صحيحة، كما هو واضح في القرآن قال تعالى: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾[القصص: 34]،﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾[الشعراء: 13]،﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[طه: 27- 28].

                      وفي التوراة - العهد القديم:

                      «فقال موسى للرب استمع أيها السيد. لست أنا صاحب كلام منذ امس ولا أول من امس ولا من حين كلمت عبدك. بل أنا ثقيل الفم واللسان. فقال له الرب من صنع للإنسان فما أو من يصنع اخرس أو أصمّ أو بصيرا أو اعمى. أما هو أنا الرب. فالآن اذهب وانا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به. فقال استمع أيها السيد. ارسل بيد من ترسل. فحمي غضب الرب على موسى وقال أليس هرون اللاوي أخاك. أنا اعلم انه هو يتكلم. وأيضا ها هو خارج لاستقبالك. فحينما يراك يفرح بقلبه. فتكلمه وتضع الكلمات في فمه. وانا أكون مع فمك ومع فمه وأعلمكما ماذا تصنعان. وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فما وأنت تكون له الها»([225]).
                      نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                      Comment

                      • ya howa
                        مشرف
                        • 08-05-2011
                        • 1106

                        #12
                        رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                        «فتكلم موسى أمام الرب قائلا هوذا بنو اسرائيل لم يسمعوا لي. فكيف يسمعني فرعون وانا اغلف الشفتين»([226]).

                        «فقال موسى أمام الرب ها أنا اغلف الشفتين. فكيف يسمع لي فرعون»([227]).

                        ولم تحل مشكلة لسان موسى في التوراة إلا ببعث أخيه هارون (عليه السلام)، فبعد أنْ قال موسى (عليه السلام) ما تقدم؛ أجيب بأنّ هارون سيكون مبعوثاً ليتكلم نيابة عن موسى (عليه السلام) فيما يريد قوله.

                        «فقال الرب لموسى انظر. أنا جعلتك الها لفرعون. وهرون أخوك يكون نبيّك. أنت تتكلم بكل ما آمرك. وهرون أخوك يكلم فرعون ليطلق بني اسرائيل من أرضه»([228]).

                        فهذا موسى (عليه السلام) خليفة من خلفاء الله في أرضه، ومن أولي العزم من الرسل، وبصريح القرآن والتوراة واتفاقهما أنّ هناك عقدة في لسانه، تمنعه عن الإفصاح بألفاظ واضحة تعبر عن المعنى الذي يريده بصورة واضحة ومفهومة للمتلقي، ومع هذا أرسله الله سبحانه وتعالى ولم يحلل عقدة لسانه كلياً، بل جعل حل هذه المشكلة - التي تعيق تبليغ الرسالة الإلهية للمتلقي - بإرسال مساعد لموسى (عليه السلام) وهو هارون أخاه، وبهذا أجيب دعاء موسى (عليه السلام) وحلت مشكلة عقدة لسانه، ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾[طه: 25 - 36]. وهذا القرآن ينقل لنا بوضوح بقاء ثقل لسان موسى (عليه السلام) حتى بعد إرساله بفترة من الزمن في قول فرعون وانتقاده لثقل لسان موسى وعدم تمكنه من الإفصاح عن المعنى بصورة واضحة للمتلقي: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ﴾[الزخرف: 51 - 56].

                        مع الأسف استخف قومه بأتفه الإشكالات التي تتكرر دائماً، ومرّرها عليهم ليكفروا بموسى (عليه السلام)، إشكالات فرعون على موسى (عليه السلام) - أنّ موسى (عليه السلام) غير فصيح ولم يأتي بمعجزة واضحة لا لبس فيها - ﴿لَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾، إشكالان لو تصفحت كل الرسالات ستجدهما، ولو تصفحت كل الجاحدين للرسالات ستجدهم يشكلون بهما، فسبحان من قال تشابهت قلوبهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[البقرة: 118]، إشكالات يكررها أئمة الضلال وفقهاء السوء دائماً، ويستخفون بها أقوامهم فيوردونهم الهلاك. فإذا كان موسى في لسانه ثقل وأشكل عليه فرعون فهل نجا محمد (صلى الله عليه وآله) الذي لم يكن في لسانه ثقل، وهل نجا القرآن الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) من هذا الإشكال الذي لا يفارق أئمة الضلال ولا يفارقونه، لا والله فها هم المسيحيون وغيرهم إلى اليوم يشكلون على القرآن وأنه مخالف لقواعد اللغة العربية في النحو والبلاغة .....

                        ثالثاً: لو كان خلفاء الله يعرفون كل اللغات لأنزل الله عليهم الكتب السماوية بكل اللغات، فهو قادر والأمر موافق للحكمة، فيبقى أنْ يكون المانع في قدرة القابل، وهو أنّ الرسل لم يكونوا يعرفون غير لغة قومهم، فلو كان محمد يعرف عدة لغات كان المفروض أنْ ينزل القرآن عليه بعدة لغات، فهو كان بحاجة لقرآن بلغات الملوك الذين وجه لهم رسائل ودعاهم للإيمان به، على الأقل ليطلعوا على شيء من الوحي الذي أوحي لمحمد (صلى الله عليه وآله)، كما اطلع العرب في حينها، بل لا خلاف أنّ هذا أفضل بكثير من الترجمة التي جاءت متأخرة وأقوى للحجة وأعظم للفائدة، فترجمة غير المعصومين فيها مشاكل كثيرة جداً، كونها تنقل المعاني كما يفهمها القارئ والمترجم لا بحسب إرادة المتكلم سبحانه.

                        فالآن مثلاً توجد تراجم كثيرة للقرآن إلى اللغة الإنكليزية، وهي مختلفة اختلافات كثيرة في الألفاظ والمعاني فيما بينها، فالعقل يقول طالما أنّ الحال هذه فتفويت فرصة انزال القرآن بالإنكليزية على محمد - الذي يعرف الإنكليزية - مخالفة للحكمة، والله لا يفعل ما يخالف الحكمة، إذن لا يبقى إلا أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) كان يعرف العربية بلهجة قومه، ولا يعرف الإنكليزية ولا غيرها من اللغات، لهذا نزل القرآن بلهجة محمد (صلى الله عليه وآله) وقومه قريش، ولم ينزل حتى بلهجات العرب الأخرى التي كانت موجودة في زمن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله).

                        رابعاً: محمد (صلى الله عليه وآله) أرسل رسائله إلى ملوك العالم بالعربية، فلو كان محمد يعرف غير العربية لأرسل رسائله إلى ملوك العالم بلغاتهم، فهذا أبلغ في نفوسهم ولإقامة الحجة عليهم، خصوصاً مع قلة المترجمين في ذلك الزمان، فمعرفته (صلى الله عليه وآله) للغات ستكون معجزة واضحة له وبيّنة للملوك.

                        خامساً: لو كان الأئمة يعرفون اللغات، كان عليهم أنْ يترجموا بعض آيات القرآن على أقل تقدير إنْ لم نقل كان المفروض أنْ يترجموا القرآن كله لكل اللغات. فهم خلفاء الله وأعرف الخلق بمراد المتكلم سبحانه وتعالى، فلو كان الإمام الصادق (عليه السلام) عارفاً بالفارسية وقد كان عنده آلاف الشيعة المؤمنين بالحق من الفرس، فما كان يمنعه أنْ يترجم لهم بعض آيات القرآن للفارسية على الأقل، إنْ لم نقل كان المفروض أنْ يترجم لهم القرآن كله لحاجتهم له؟!!

                        لا يوجد جواب غير أنه لم يكن يعرف الفارسية، وإلا لكان تخلفه عن ترجمة القرآن للفارسية مع معرفته للغة الفارسية مخالفاً للحكمة، فهو (صلوات الله عليه) أعرف الناس بمراد المتكلم سبحانه.

                        نعم، يمكن القول إنّ أرواحهم تعرف كل اللغات، وتعرف منطق كل حيوان وطير، ولكن ليس هذا هو حالهم في هذا العالم الذي نعيش فيه، وهم محجوبون بهذا العالم الجسماني بالأجساد، فهم في هذا العالم لا يعرفون لغة أخرى غير لغة أقوامهم التي اكتسبوها، لهذا لم يرسلهم الله بغيرها، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[إبراهيم: 4]، فهم يعرفون أي لغة بالتعلم وهذا أمر طبيعي، أو بالمعجزة وعندها لن تكون عبثية بل ستكون معجزة لحكمة وفائدة معينة، كمعرفة لغة الجن لأنهم مكلفون، أو معرفة لغة ما للاحتجاج بها على المخالفين ليؤمنوا، كما فعل سليمان لما عرَّفه الله بمنطق الطير فاحتج بمعرفته على مخالفيه ليؤمنوا به، ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾[النمل: 16].

                        فالنتيجة مما تقدم: إنّ من يعتقد أنّ خليفة الله لابد أنْ يتصف بمعرفة كل اللغات الإنسانية في هذا العالم الجسماني في كل وقت؛ يحتاج إلى الدليل القطعي على هذا الاعتقاد وهو غير موجود، فغاية ما يستندون عليه ظنون وتخرصات إنْ لم نقل أوهام مصدرها روايات غلاة في كثير من الأحيان، ويعارضها الدليل القرآني والعقل والحكمة والواقع، فالدليل ضدها كما تبيّن وليس مع إثباتها.

                        وهذه بعض الروايات التي يستفاد منها عكس ما يعتقد هؤلاء:

                        «حدثنا محمد بن الحسين عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم عن صباح المزني عن الحرث بن حصيرة عن حبة بن جوين العرني قال: سمعت أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) يقول: «إن يوشع بن نون كان وصي موسى بن عمران وكانت ألواح موسى عن زمرد أخضر فلما غضب موسى أخذ الألواح من يده فمنها ما تكسر ومنها ما بقي ومنها ما ارتفع فلما ذهب عن موسى الغضب قال يوشع بن نون أ عندك تبيان ما في الألواح قال نعم فلم يزل يتوارثها رهط من بعد رهط حتى وقعت في أيدي أربعة رهط من اليمن وبعث الله محمداً (صلى الله عليه وآله) بتهامة وبلغهم الخبر فقالوا: ما يقول هذا النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قيل ينهى عن الخمر والزناء ويأمر بمحاسن الأخلاق وكرم الجوار. فقالوا: هذا أولى بما في أيدينا منا. فاتفقوا أن يأتوه في شهر كذا وكذا فأوحى الله إلى جبرئيل أن ائت النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبره فأتاه فقال إن فلانا وفلانا وفلانا وفلانا ورثوا ألواح موسى وهم يأتوك في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا فسهر لهم تلك الليل فجاء الركب فدقوا عليه الباب وهم يقولون: يا محمد. قال: نعم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أين الكتاب الذي توارثتموه من يوشع بن نون وصي موسى بن عمران؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله ما علم به أحد قط منذ وقع عندنا قبلك. قال: فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله) فإذا هو كتاب بالعبرانية دقيق فدفعه إلي ووضعته عند رأسي فأصبحت بالكتاب وهو كتاب بالعربية جليل فيه علم ما خلق الله منذ قامت السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة فعلمت ذلك»([229]).

                        «حدثنا أبو محمد عن عمران بن موسى عن موسى بن جعفر البغدادي عن علي بن أسباط عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن في الجفر أن الله تبارك و تعالى لما أنزل ألواح موسى (عليه السلام) أنزلها عليه و فيها تبيان كل شي‏ء وهو كائن إلى أن تقوم الساعة فلما انقضت أيام موسى أوحى الله إليه أن استودع الألواح وهي زبرجدة من الجنة الجبل فأتى موسى الجبل فانشق له الجبل فجعل فيه الألواح ملفوفة فلما جعلها فيه انطبق الجبل عليها فلم تزل في الجبل حتى بعث الله نبيه محمداً فأقبل ركب من اليمن يريدون النبي فلما انتهوا إلى الجبل انفرج الجبل وخرجت الألواح ملفوفة كما وضعها موسى فأخذها القوم فلما وقعت في أيديهم ألقي في قلوبهم أن لا ينظروا إليها وهابوها حتى يأتوا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنزل الله جبرئيل على نبيه فأخبره بأمر القوم وبالذي أصابوا فلما قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله) ابتدأهم النبي فسألهم عما وجدوا فقالوا وما علمك بما وجدنا فقال أخبرني به ربي وهي الألواح قالوا نشهد أنك رسول الله فأخرجوها ودفعوها إليه فنظر إليها وقرأها وكتابها بالعبراني ثم دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال دونك هذه ففيها علم الأولين وعلم الآخرين وهي ألواح موسى وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك قال يا رسول الله لست أحسن قراءتها قال إن جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه فإنك تصبح وقد علمت قراءتها قال فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شي‏ء فيها فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينسخها فنسخها في جلد شاة وهو الجفر وفيه علم الأولين والآخرين وهو عندنا والألواح وعصا موسى عندنا ونحن ورثنا النبي (صلى الله عليه وآله)»([230]).

                        «عن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «في الجفر إن الله تبارك وتعالى لما أنزل الله الألواح على موسى (عليه السلام) أنزلها عليه وفيها تبيان كل شي‏ء كان أو هو كائن إلى أن تقوم الساعة فلما انقضت أيام موسى أوحى الله إليه أن استودع الألواح وهي زبرجدة من الجنة جبلا يقال له زينة، فأتى موسى الجبل فانشق له الجبل، فجعل فيه الألواح ملفوفة فلما جعلها فيه انطبق الجبل عليها، فلم تزل في الجبل حتى بعث الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله)، فأقبل ركب من اليمن يريدون الرسول (صلى الله عليه وآله) فلما انتهوا إلى الجبل انفرج الجبل وخرجت الألواح ملفوفة كما وضعها موسى، فأخذها القوم، فلما وقعت في أيديهم ألقى الله في قلوبهم [الرعب] أن لا ينظروا إليها و هابوها حتى يأتوا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنزل الله جبرئيل على نبيه فأخبره بأمر القوم، وبالذي أصابوه، فلما قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله) ابتدأهم فسألهم عما وجدوا فقالوا وما علمك بما وجدنا قال أخبرني به ربي وهو الألواح قالوا نشهد إنك لرسول الله، فأخرجوها فوضعوها إليه فنظر إليها وقرأها وكانت بالعبراني ثم دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال دونك هذه ففيها علم الأولين وعلم الآخرين، وهي ألواح موسى وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك فقال يا رسول الله لست أحسن قراءتها، قال إن جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك كتابك هذه الليلة فإنك تصبح وقد علمت قراءتها، قال فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شي‏ء فيها، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنسخها فنسخها في جلد شاة وهو الجفر، وفيه علم الأولين والآخرين وهو عندنا والألواح عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثنا النبيين صلى الله عليهم أجمعين، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : تلك الصخرة التي حفظت ألواح موسى تحت شجرة في واد يعرف بكذا»([231]).
                        سهو ونسيان المعصوم:
                        ما هو السهو وما هو النسيان؟:

                        السهو: هو عدم التذكر الذي يؤدي إلى فعل أو ترك الشيء عن غفلة وبغير علم.

                        والنسيان: بالأصل هو عدم التذكر الذي يؤدي إلى ترك شيء ([232])عن غير علم، ويستخدم أيضاً لفظ النسيان في وصف ترك وإهمال الشيء عن علم وعمد، ولكن هذا المعنى يحتاج قرينة تصرف اللفظ إليه؛ لأنّ الأصل في النسيان هو الترك عن غفلة وليس الترك عن علم وإهمال، وهذا المعنى الأخير هو المنسوب إلى الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾[الأعراف: 51].

                        نَنسَاهُمْ: أي نتركهم ونهملهم.

                        ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[التوبة: 67].

                        فَنَسِيَهُمْ: أي أن الله تركهم وأهملهم.

                        فهذا النسيان المنسوب إلى الله هنا ليس تركاً فقط كما يتوهم بعضهم، وإلا لقال الله (نتركهم، وفتركهم) بل المراد هو ترك مع الإهمال وعدم الاهتمام عن علم.

                        فالخلاصة هناك معنيان للنسيان؛ الأول: هو الترك مع الغفلة، وهذا هو النسيان الذي نعرفه ويتبادر معناه إلى ذهن المتلقي العربي مباشرة عندما يسمع لفظ نسي، وهناك معنى ثانٍ يحتاج قرينة تصرف المعنى إليه وهو الترك مع العلم وتَقَصُّد الإهمال.

                        ولا يصرف عادة لفظ النسيان لمعنى الترك المجرد، بل هذا المعنى له لفظ يستعمل له وهو لفظ ترك. وما نناقشه في هذا الموضوع هو النسيان من النوع الأول، أي الترك مع الغفلة.
                        السهو والنسيان:

                        مسألة السهو والنسيان عند الإنسان عموماً، مرتبطة من جهة بالنفس الإنسانية، ومن جهة أخرى بالدماغ الذي هو آلة بايلوجية في جسم أي إنسان مكتمل. وهذه الآلة البايلوجية لديها قدرات محدودة، مثل قدرة الدماغ على التركيز، فالدماغ له قدرة محدودة على التركيز والتذكر، وطبيعي جداً أنْ لا يتمكن الدماغ من التركيز ومتابعة عدة أمور في آن واحد بدقة متناهية، فالنسيان والسهو - وخصوصاً في الأفعال المركبة أو المتراكبة أو المتتالية - حالة طبيعية لا يخلو منها إنسان؛ لأنه لازمة تلازم دماغنا المادي لا يمكن التخلص منها، ولهذا تجد كثيراً من الناس يحاولون أنْ يعصموا أنفسهم من النسيان والسهو بتسجيل ملاحظات في أوراق حول مواعيدهم والأعمال التي يجب أنْ يقوموا بها، بل تجد من لديهم أعمال مهمة يضعون أشخاصاً آخرين لتسجيل مواعيدهم وأعمالهم ومتابعتها وتذكيرهم بها، وتجد مصنعي بعض المعدات التي يستعملها الإنسان يضعون منبهات ضوئية أو صورية؛ لأنّ فيها أكثر من جهة تحتاج مراقبة، وهم يعلمون بالتجربة أنّ الإنسان ينسى ويسهو بمراقبة بعضها عن بعضها الآخر.

                        الإنسان يذهب لجلب شيء يخصه، ثم عندما يصل للمكان يجد نفسه قد نسي سبب مجيئه لهذا المكان؛ لأنه مرَّ بطريقه بأشياء شغلت دماغه عن التركيز على الأمر الأول الذي جاء بطلبه. الإنسان يتكلم في أمر معين ثم ينتقل إلى فكرة أخرى يركز عليها قليلاً ثم يريد العودة إلى صلب الموضوع الذي كان يتحدث فيه، فيجد نفسه قد نسي عن ماذا كان يتكلم، ويطلب من الذين معه تذكيره في ماذا كان يتكلم. أو أنه يريد التحدث في موضوع فيبادره الشخص المقابل بالحديث بموضوع آخر، فيجد نفسه قد نسي الموضوع الذي أراد طرحه. والنسيان في كل تلك الحالات سببه أنّ قدرة الدماغ الإنساني على التركيز على عدة أمور في وقت معين محدودة، فهو ينشغل بالتركيز على موضوع معين عن الآخر، وهذه مسألة طبيعية في الجسم الإنساني، ولا تتعلق بروحه أو بنفسه حتى يكون لارتقائه وعلو شأنه الروحي دخل فيها، فكون طبيعة الإنسان أنه ينسى ويسهو مسألة تجريبية، الكل يراها ويستطيع أنْ يلمسها بمراقبة حاله وحال بقية الناس وهي مثبتة علمياً، والمعصوم إنسان فالسهو حالة طبيعية تعرض له كغيره من البشر، وبالتالي فافتراض عصمته من السهو سواء مطلقاً أم في العبادة يحتاج إلى دليل قطعي، وهو آية محكمة أو رواية قطعية الصدور وقطعية الدلالة أو دليل عقلي تام، وهذه كلها مفقودة لدى القوم الذين يدّعون الاعتقاد بعصمة المعصوم من السهو والنسيان مطلقاً أو في العبادة.

                        وتجد إنّ متكلمي ([233]) الشيعة وفقهاءهم أنفسهم لم يتفقوا ([234]) على قول في مسألة نسيان وسهو المعصوم، فضلاً عن أنْ يتفق عليها متكلمو وفقهاء الإسلام جميعاً، وإنْ شاء الله سيخرج المؤمن وطالب الحق من هذا الموضوع بحقيقة ونتيجة واضحة لا لبس فيها بالنسبة لمسألة السهو والنسيان؛ حقيقة لا تخالف محكم وصريح القرآن الذي نص على أنّ موسى ويوشع (عليه السلام) نسيا حوتهما: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾[الكهف: 61]، أي تركا حوتهما؛ لأنهما لم يتذكراه وغفلا عنه، وأيضاً تحفظ مقام خليفة الله كقدوة ومبلغ عن الله سبحانه، فلابد أنْ يعصم بمذكر خارجي في بعض الأمور.

                        وفي البدء أنقل ما كتبته في كتاب "رحلة موسى (عليه السلام)" في النسيان؛ لأنه مقدمة نافعة قبل الكلام في هذا الموضوع:

                        [النسـيان:

                        لابد أن نعرف كيف تكون الذاكرة والمعلومات عند الإنسان لكي نعرف ما يترتب عليها وهو النسيان أو الغفلة عما فيها أو بعضه.

                        فمعلومات الإنسان يأتي بعضها من هذا العالم الجسماني عن طريق البصر والسمع مثلاً، ويأتي بعضها من الملكوت الأعلى، ومثال ما يأتي من الأعلى هو الوحي للأنبياء (عليهم السلام) والرؤيا الصادقة.

                        وهذه المعلومات تنطبع في صفحة الإنسان أو يمكنك تسميته موضع الذاكرة أو المعلومات، وهو في النفس الإنسانية (الروح) وليس في الجسد كما يتوهم كثير من الناس أنه في الدماغ، بل الدماغ هو تماماً كجهاز الفاكس أو التلفون، فهو ليس موضع حفظ المعلومات الدائم، بل هو جهاز يوصل المعلومات من وإلى وجود الإنسان في هذا العالم الجسماني.

                        وهذه المعلومات ما دام الإنسان في هذا العالم فهي في زيادة مستمرة، فمثلاً ما تراه بعينك وتدركه وما تستمعه بأذنك وما تقرأه هي معلومات متراكمة في النفس الإنسانية، والتذكر هو استخراج هذه المعلومات وحضورها عند الإنسان في هذا العالم عند إرادته ذلك.

                        أما ما يؤثر في هذا التذكر أو تحصيل المعلومة واستخراجها من الذاكرة فهي عدة أمور؛ منها:

                        أولاً: كم المعلومات، وأثر كم المعلومات على التذكر بيّن من خلال الواقع الذي نعيشه، فقدرة الطفل مثلاً على الحفظ أكبر بكثير من الكبار، والحفظ ما هو إلا تذكر للمعلومة، وسبب قدرة الطفل الفائقة على التذكر هو فراغ ذاكرته من المعلومات تقريباً عند بدء التذكر عنده، وبالتالي فكم المعلومات المتراكم عنده مع مرور الوقت في البداية سيكون تحت السيطرة حيث يكون من السهل فرزه والوصول إلى المعلومة بعكس الكبير الذي تراكم عنده كم هائل من المعلومات يصعب السيطرة عليه. ولتتوضح مسألة الكم أكثر أقول: لو كان عندك شيء تبحث عنه فإن وصولك إليه سيكون أسهل لو بحثت عنه بين عشرة أشياء مما لو بحثت عنه بين مائة.

                        ثانياً: الكيف أو نوع المعلومات، حيث إنّ المعلومة البسيطة ليست كالمعلومة المركبة والمعقدة، فالأخيرة ربما توضع في الذاكرة بصورة غير منظمة وعشوائية نتيجة عدم الإدراك الكلي والتام لها، وبالتالي يصعب تذكرها أو إخراجها بصورة صحيحة أو بكل جزئياتها ولوازمها بل حتى مع إدراكها ووضعها بشكل منظم ودقيق فإن تذكرها يكون أكثر صعوبة من المعلومة البسيطة؛ لأن تذكرها يحتاج إلى تذكر كل أجزائها.

                        ثالثاً: الجسد، وهو حجاب يؤثر على تذكر الإنسان ويكون بمثابة غطاء على المعلومات يزداد سماكة كلما زاد الانشغال به لجلب الملائمات له ودفع المنافيات عنه، ويخف كغطاء على المعلومات كلما غُفل عنه لحساب التركيز على المعلومة، ولكنه مهما أُغفل يبقى حجاباً وله أثر حيث إنّ هناك ما لابد منه كالأكل للقوة.

                        رابعاً: النور والظلمة في نفس الإنسان، فكلما زاد النور زادت القدرة على التذكر، وأيضاً كلما قل النور وزادت الظلمة قلّت القدرة على التذكر، ولهذا فيوشع (عليه السلام) النبي الطاهر (عليه السلام) ماذا نتوقع منه غير أن يتهم نفسه بالقصور والتقصير ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ أي الظلمة.

                        خامساً: الدماغ باعتباره جهاز النقل إلى هذا العالم ومنه، فهو يؤثر تأثيراً كبيراً على مسألة التذكر فحركة الدم الصحيحة فيه ووصول الغذاء الملائم له مثلاً تجعله أكثر كفاءة، وحدوث خلل فيه أو مرض قد يؤدي إلى فقدان القدرة على التذكر كلياً أو جزئياً، مؤقتاً أو دائماً.

                        وهناك أمر أيضاً لابد من الالتفات له وهو أن تكون المعلومة مُحَصَّلَة فعلاً أي أن الإنسان قصد تحصيلها لا أنها مرت على أذنه مثلاً دون أن يستمعها، بل هو سمعها دون التفات منه إليها، كما لو أنه مر بمكان ورآه ولكنه لم يهتم لإدراك تفاصيل ما يرى، فهذه غير واقعة ضمن مسألة التذكر؛ لأنها أصلاً ليست معلومات مُحَصَّلَة ليتم تذكرها أو يوصف من غفل عنها بأنه نسيها.

                        هذه الأمور التي ذكرتها لها علاقة مباشرة بالتذكر سلباً أو إيجاباً، ولكن عادة - عند إنسان معين - لا تؤثر جميعها بنفس القدر والاتجاه:

                        فمثلاً يمكن أن يجتمع في إنسان واحد: الانشغال بالجسد الذي يؤثر سلباً على قدرة الإنسان على تحصيل المعلومة من الملكوت فضلاً عن تذكرها فيما بعد، مع زيادة النور في صفحة وجود الإنسان الذي يوثر إيجاباً على قدرة الإنسان على تحصيل المعلومة فضلاً عن تذكرها، وأيضاً قدر هذا الانشغال وقدر هذا النور داخل في معادلة التذكر ([235]).

                        ولهذا فمسألة التذكر عبارة عن معادلة وفيها عدد من المتغيرات ومنها الخمسة المذكورة أعلاه، ومن الصعب جداً بل هو مستحيل عادة أن نعرف ناتج هذه المعادلة من خلال معرفة القيمة الحقيقية أو التقريبية لواحد أو اثنين من هذه المتغيرات، بل لابد من معرفة قيمة كل متغير منها لتحصيل النتيجة النهائية، أي أننا لا يمكن أن نحكم على مؤمن صالح فقط لمعرفتنا أنه مؤمن صالح بأنّ درجة تذكره عالية أو أن نحكم على غير مؤمن طالح فقط لأنه غير مؤمن بأنّ درجة تذكره واطئة، فيمكن أن يكون إنسان غير مؤمن وقيمة المتغير المتعلق بالنور له خمسة بالمائة مثلاً ولكن المتغيرات الأخرى قيمتها عنده عالية لصالح التذكر، وبهذا يكون هذا الإنسان غير المؤمن قد حقق قيمة عالية في معادلة التذكر، ويكون صاحب قدرة فائقة على التذكر رغم كونه غير مؤمن.

                        والأمر المهم الذي لابد أن نلتفت إليه ونعيه بشكل دقيق أنه لا يمكن لمخلوق أن يحقق ويحصل من هذه المعادلة قيمة كاملة وتامة ليوصف بأن درجة تذكره هي مائة بالمائة، والسبب أنه لا يمكن لمخلوق أن يحقق قيمة مائة بالمائة في كل المتغيرات، وعلى سبيل المثال: متغير النور فإنّ فرض تحقيق مائة بالمائة فيه يعني أن هذا المخلوق نور لا ظلمة فيه، وهذا محال لأن النور الذي لا ظلمة فيه هو الله سبحانه وتعالى ([236]).

                        وبهذا يظهر ويتبين أنه لا يوجد مخلوق يحقق في معادلة التذكر مائة بالمائة ليمكن أن يوصف تذكره بأنه تام وكامل، وبالتالي يكون نسيانه وغفلته مساوية للصفر أي أنه لا ينسى ولا يغفل، والله سبحانه لا يمكن أن يخلق مخلوقاً تذكره مائة بالمائة ونسيانه وغفلته صفر، ليس لأن الله غير قادر ولا يتعلق الأمر بالقدرة، بل لأن هذا أمر محال ومعناه تعدد اللاهوت المطلق، تعالى الله علواً كبيراً] ([237]).
                        خليفة الله والتذكر والسهو والنسيان:

                        في العلاقة بين خليفة الله والتذكر والنسيان والسهو هناك فروض، وهي:

                        الفرض الأول: إنّ خليفة الله يتذكر بذاته دائماً - دون الحاجة لمذكر - ولا يغفل عن شيء أبداً، وهذا ظاهر البطلان لكون المعصوم له جسد ودماغ بايلوجي مركب من مواد كيميائية وهو محدود القدرة، وبالتالي يجعله يسهو كغيره. إضافة إلى ذلك، فإنه يلزم من هذا الفرض أن المعصوم نور لا ظلمة فيه وكمال مطلق لا نقص فيه، وبالتالي نسبته إلى اللاهوت المطلق، وهذا غلو واضح البطلان يلزم منه تعدد اللاهوت المطلق.

                        الفرض الثاني: إنّ خليفة الله يتذكر بذاته أحياناً ويغفل أحياناً أخرى، وهذا أمر يشترك فيه كل الخلق، فإذا أردنا والحال هذه أنْ نقول إنّ خليفة الله لا يسهو ولا ينسى في كل شيء مطلقاً أو في موضوع ما، فعندها لابد من وجود مذكر خارجي له (وحي من الله مباشر يذكره، أو ملك يتوسط يذكره، أو أي سبيل يشاؤه الله لتذكيره)، وهذا المذكر الخارجي يحتمل فرضين؛ فأما أنْ يمنع عنه كل سهو ونسيان مطلقاً، وأما أنْ يمنع عنه بعض السهو والنسيان وفق حكمة.

                        فينتج لدينا مما تقدم أربعة احتمالات هي:

                        - إنّ خليفة الله لا ينسى ولا يسهو مطلقاً بذاته.

                        - إنّ خليفة الله لا ينسى ولا يسهو مطلقاً لوجود مذكر خارجي ([238]).

                        - إنّ خليفة الله ينسى ويسهو كأي إنسان آخر.

                        - إنّ خليفة الله يمكن أنْ ينسى ويسهو في موارد كأي إنسان آخر، ويُعصم ولا يمكن أنْ ينسى أو يسهو في موارد أخرى لحكمةٍ ما.
                        القول الأول:

                        وهو أنّ خليفة الله لا ينسى ولا يسهو مطلقاً بذاته، وهذا باطل وغلو؛ حيث يلزم منه أنّ خليفة الله في أرضه نور لا ظلمة فيه (كمال مطلق)، وهذا القول باطل لأنّ النور الذي لا ظلمة فيه إنما هو اللاهوت المطلق سبحانه لا غير، كما أنّ القول بالعصمة الذاتية من السهو والنسيان لا يمكن أنْ يشمل جهة دون أخرى؛ فنقول إنه معصوم ذاتياً عن السهو في تبليغ الدين وغير معصوم عن السهو في العبادة أو أمور الدنيا، حيث إنّ معناها أنّ ذاته عاصمة، فلو انتقضت هذه العصمة من السهو والنسيان من جهة لانتقض كون أنّ ذاته عاصمة، وبالتالي انتقضت أي عصمة ذاتية له من السهو والنسيان، ولهذا لابد من الالتفات إلى أنّ كلمات بعضهم في كون انتقاض العصمة من السهو من جهة يعني انتقاضها من كل جهة؛ لا يصح إلا إنْ كان مبنياً على أنّ عصمة المعصوم ذاتية، وهو أمر باطل؛ لأنّ المعصوم عصمةً مطلقةً بذاته هو كامل مطلق بذاته وهو الله سبحانه لا غير.
                        القول الثاني:

                        وهو أنّ خليفة الله لا ينسى ولا يسهو مطلقاً لوجود مذكر له يعصمه من السهو والنسيان مطلقاً. ومع أنّ منكري السهو والنسيان لم أجدهم عادة يفرِّقون بين القول الأول والثاني الذين بينتهما هنا، ولكن سأحمل قولهم على الثاني حتى لا نضعهم في دائرة الاتهام بالغلو، فأقول: بالنتيجة هو قول عقائدي وبالتالي يحتاج لإقامة الدليل القطعي اليقيني، في حين أنّ أقوالهم لا نجد فيها دليلاً عقلياً أو نقلياً ([239]) تاماً يمكن الاعتماد عليه في العقائد، وكل ما نجده أنهم يستشكلون على قول المخالف لهم لإثبات عقيدتهم هذه، فيقومون عادة باستعراض جملة إشكالات على الآيات التي ذكرت نسيان بعض الأنبياء (عليه السلام)، وإشكالات على الروايات التي ذكرت سهو النبي (صلى الله عليه وآله)، ويردفونها ببعض الإشكالات العقلية على مسألة سهو المعصوم في العبادة. وستاتي مناقشة هذه الإشكالات والتعرف على عدم أهليتها لإثبات عقيدتهم.
                        القول الثالث:

                        إنّ خليفة الله ينسى ويسهو كأي إنسان آخر، ومعناه أنه يمكن أنْ ينسى أو يسهو عن تبليغ بعض الدين الإلهي، أو أنْ ينسى ويسهو فيقوم بتبليغ شيء على أنه من الدين وهو ليس منه، أو يطلب تبليغ شيء على أنه من الدين الإلهي وهو ساهٍ دون أنْ يكون هناك مذكر له (وحي مباشر من الله، أو بتوسط ملائكة، أو ما يشاء الله توسطه لنقل الوحي). وهذا القول مناقض للقرآن؛ حيث صرَّح الله في القرآن بوضوح بوجود المذكر الإلهي الذي يضمن وصول الرسالة الإلهية صحيحة وكاملة إلى المكلفين، ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾[الجن: 27 - 28].

                        وهذه العقيدة الفاسدة هي عقيدة بعض الوهابية السلفية، اتخذوها بالخصوص للدفاع عن عمر ومن تابعه في اتهام رسول الله بالهجر، فهم أرادوا التعلل لعمر بالحجة وإنْ كان بمخالفة صريح القرآن، وإنْ كان بالطعن في الدين الإسلامي، وإنْ كان بالطعن في الرسول محمد (صلى الله عليه وآله). فقالوا لا إشكال أن يهجر محمد (صلى الله عليه وآله) أو لا يدري ما يقول، حتى وهو يقول إنه (صلى الله عليه وآله) يريد تبليغ الأمة بوصيته التي تمنع عنها الضلال إلى يوم القيامة؛ لأنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) عندهم يجوز عليه السهو والنسيان في كل شيء حتى في تبليغ دين الله، فيمكن أنْ يقول وهو على فراش الموت ائتوني بكتاب لأكتب لكم وصيتي التي تعصمكم من الضلال إلى يوم القيامة، ومع هذا يكون ساهياً ولا يدري ما يقول ويخرف ويهجر وغلب عليه الوجع كما قال عمر وجماعته.

                        عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله يهجر» ([240]).
                        القول الرابع:

                        إنّ خليفة الله يمكن أنْ ينسى ويسهو في موارد كأي إنسان آخر، ولا يمكن أنْ ينسى أو يسهو في موارد أخرى مطلقاً لوجود مذكّر خارجي ولحكمةٍ ما.

                        وهذا القول الرابع هو عقيدة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولكن هناك من أضاف أموراً اعتبرها مما لا يصح أنْ يسهو فيه المعصوم؛ كالسهو في بعض تفاصيل العبادة كعدد الركعات الذي وردت فيه روايات عن طريق السنة والشيعة تذكر سهو النبي فيه.

                        وممّن لهم تصريح بجواز سهو النبي في العبادة أو عدم وجود دليل على نفيه:
                        نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                        Comment

                        • ya howa
                          مشرف
                          • 08-05-2011
                          • 1106

                          #13
                          رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                          الشيخ الصدوق وشيخه محمد بن الحسن رحمهما الله:

                          «قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: إن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي (صلى الله عليه وآله) ويقولون: لو جاز أن يسهو (عليه السلام) في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ لان الصلاة عليه فريضة كما أن التبليغ عليه فريضة.

                          وهذا لا يلزمنا، وذلك لان جميع الأحوال المشتركة يقع على النبي (صلى الله عليه وآله) فيها ما يقع على غيره، وهو متعبد بالصلاة كغيره ممن ليس بنبي، وليس كل من سواه بنبي كهو، فالحالة التي اختص بها هي النبوة والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة لأنها عبادة مخصوصة والصلاة عبادة مشتركة، وبها تثبت له العبودية وبإثبات النوم له عن خدمة ربه عز وجل من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبية عنه، لان الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحي القيوم، وليس سهو النبي (صلى الله عليه وآله) كسهونا لان سهوه من الله عز وجل وإنما أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ ربا معبودا دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (صلوات الله عليهم) سلطان "إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وعلى من تبعه من الغاوين، ويقول الدافعون لسهو النبي (صلى الله عليه وآله) : إنه لم يكن في الصحابة من يقال له: ذو اليدين، وإنه لا أصل للرجل ولا للخبر وكذبوا لان الرجل معروف وهو أبو محمد بن عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين وقد نقل عن المخالف والمؤالف، وقد أخرجت عنه أخبار في كتاب وصف القتال القاسطين بصفين.

                          وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله)، ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار وفي ردها إبطال الدين والشريعة. وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي (صلى الله عليه وآله) والرد على منكريه إن شاء الله تعالى»([241]).

                          والشيخ الطوسي رحمه الله:

                          قال الشيخ الطوسي في معرض تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأنعام: 68]:

                          «.... واستدل الجبائي أيضا بالآية على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان قال بخلاف ما يقوله الرافضة بزعمهم من أنه لا يجوز عليهم شئ من ذلك. وهذا ليس بصحيح أيضا لأنا نقول إنما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله، فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤد ذلك إلى الاخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم، والنوم سهو وينسون كثيرا من متصرفاتهم أيضا وما جرى لهم فيما مضى من الزمان، والذي ظنه فاسد»([242]).

                          ومحمد بن الحسن ابن الشهيد الثاني رحمه الله:

                          حيث قال في معرض كلامه عن أحد الأحاديث في مبحث الزيادة في الصلاة، قال:

                          «وأمّا الخامس: فالذي أظن أنّ علامات الوضع فيه لائحة، لا من حيث تضمنه سهو النبي (صلى الله عليه وآله) فإنّ نفي ذلك محل كلام بعد ورود معتبر الأخبار ....»([243]).

                          والسيد الخوئي رحمه الله حيث صرح بعدم وجود دليل يفيد القطع واليقين بنفي السهو عن المعصوم في الموضوعات الخارجية (كأفعال الصلاة والحج)، أي كعدد الركعات المذكور في الروايات أو عدد أشواط الطواف:

                          «سؤال 1294: ما هي حقيقة الحال في مسألة إسهاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الصبح، وهل يلزم أن يسهي الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعلم أنه ليس بإله، والله تعالى يقول: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)ـ الفرقان ـ 25 ـ 7 إلى آيات أخرى تدل على أنه بشر علاوة على ولادته ووفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم هل يلزم أن يسهي الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكون رحمة للامة لكي لا يعير أحد أحدا إذا نام عن صلاته، وقد أجرى الله سبحانه كثيرا من أحكامه على أناس آخرين لا على الرسول نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا إذا لا حظنا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد (أنيم) وليس (نام) والفرق واضح بين الحالتين؟

                          وهل صحيح أن ذا اليدين الذي تدور عليه روايات الاسهاء أو السهو لا أصل له وأنه رجل مختلق كما يذهب إلى ذلك الشيخ الحر العاملي قدس سره في رسالته التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو النسيان؟

                          الخوئي: القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية، والله العالم»([244]).

                          ولا شك أنّ الاعتقاد يحتاج لليقين بالمسألة المراد الاعتقاد بها، فتصريح السيد الخوئي بفقدان اليقين في مسألة نفي السهو عن المعصوم في الموضوعات الخارجية، معناه أنّ السيد الخوئي لا يعتقد بهذه العقيدة الباطلة التي يعتقدها غيره. فالسيد الخوئي يقول هنا إنّ نفي السهو عن المعصوم في الموضوعات الخارجية غير متيقن، أي لا يوجد عليه دليل يفيد اليقين.

                          ويوجد غير هؤلاء من علماء الشيعة ممن لا يعتقدون بعصمة النبي من السهو بالعبادة ولكن فيمن ذكرت كفاية ([245]).
                          هل السهو والنسيان ممتنع بالنسبة للمعصوم ؟

                          والكلام هنا سواء مع من يعتقدون باستحالة السهو والنسيان على المعصوم في كل أحواله، أم الذين يمنعون السهو في العبادة أو ينفون ما رواه السنة والشيعة من سهو النبي في الصلاة أو ما رواه الشيعة في سهو الأئمة، وسأضع ما وجدت من إشكالات واستحسانات لنفي السهو والنسيان عن خليفة الله - حيث لا يوجد لديهم دليل -، وسنعرض هذه الأقوال أو الإشكالات على الميزان العلمي لنرى إنْ كان لها وزناً علمياً، أم هي مجرد إشكالات مبنية على مغالطات أو مجرد استحسانات، هذا مع أنهم يحتاجون للدليل القطعي لإثبات عقيدتهم في نفي السهو عن المعصوم، سواء مطلقاً أم في العبادة بالخصوص، وهذا مفقود فهم ليس لديهم دليل عقلي تام أو روايات قطعية الصدور والمعنى ولا آية قرآنية قطعية المعنى، بل الموجود عكس ما يعتقدون، فعقلاً المعصوم بشر ولا يخرج عن حدود البشرية إلا بدليل قطعي، والروايات كثيرة وصحيحة في سهو المعصوم، والآيات كذلك بيّنت سهو المعصوم. وسنناقش المطروح قرآنيا وروائياً وعقلياً.
                          أولاً: الآيات القرآنية

                          سنناقش النسيان المنسوب لبعض خلفاء الله في بعض الآيات القرآنية، ونبيّن أنه نسيان وترك عن غفلة، ونتعرض أيضاً لمحاولة حرف المعنى عن السهو والنسيان ونبيّن ركاكتها.
                          لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ:

                          ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً﴾[الكهف: 61 - 63].

                          والناسيان هنا هما خليفتان من خلفاء الله في أرضه، أحدهما موسى بن عمران والآخر يوشع بن نون وصيه، ولا يصح قول بعضهم: إن معنى نسيا حوتهما أي تركاه عن علم ومعرفة؛ حيث لو كان الأمر كذلك لكان الكلام بعدها والسؤال عن الحوت سفه لا معنى له، أو أنه سيكون نفس سبب السؤال عن الحوت نسيان وسهو لما فعلاه سابقاً عن عمد وهو ترك الحوت عند الصخرة. أيضاً: في الآية الأخرى أكد النسيان يوشع بن نون وأنه نسيان وترك عن غفلة وليس تركاً عن علم؛ حيث إنه بيّن أنّ سبب نسيانه الحوت هو الشيطان أي الظلمة أو النقص التي في صفحة وجوده، فهو ليس كمالاً مطلقاً ولهذا فهو ينسى ويترك الحوت عن غفلة وعدم علم بما فعل في وقتها.

                          وبنفس المعنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.

                          فالشيطان هنا هو الظلمة والنقص، فالنور الذي لا ظلمة فيه والكامل المطلق هو الله سبحانه وتعالى لا غير.

                          ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾[الكهف: 67 - 73].

                          في الآيات طلب العبد ([246])﴿عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا﴾ من نبي الله موسى (عليه السلام) أن لا يسأله عن شيء حتى يبادر هو بإخباره عنه، وموسى تعهد أن يكون صابراً أي لا يسأل العبد عن الأمور التي سيلاقونها في طريقهم، ولكن الذي حصل عكس ذلك فموسى لم يصبر كما وعد هو بذلك، وفي أول حادثة بادر بسؤال العبد بل والاعتراض عليه وعلى فعله رغم أن موسى قال إنه سيكون مطيعاً للعبد ولا يعصيه ﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾.

                          وهنا يتبادر أمران، وهما:

                          الأول: إنّ موسى ترك تنفيذ وعده للعبد عن علم وانتباه تام، وهذا يعني أنّ موسى وقع بالمحذور وأخلف - عن عمد - وعده وتعهده للعبد، وخالف الله الذي وجهه للتعلم من العبد الذي وصفه بـ ﴿عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا﴾ وليس الاعتراض عليه ومجادلته ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ [الكهف: 65 - 66]، وفي نهاية القصة صرّح العبد بكل وضوح: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾، فموسى يعلم جيداً أنّ علم العبد من الله، وهو طلب منه أنْ يتبعه ليعلمه ممّا علمه الله.

                          أي أنّ موسى (عليه السلام) - بحسب هذا الفرض - كان يسأل ويعترض على العبد، وهو يعلم أنه يسأل ويعترض على الله، وأيضاً وهو يعلم أنه يخالف وعده وتعهده.

                          في الحقيقة هذه هي النتيجة التي يصل لها من يحاولون تنزيه موسى (عليه السلام) أو المعصومين عموماً من السهو والنسيان كما يدّعون، فقد اتهموا موسى (عليه السلام) - وهو إمام ونبي من أولي العزم - بتهم عظيمة لا يمكن اتهام موسى (عليه السلام) بها بأي حال من الأحوال.

                          الثاني: إنّ موسى ترك وعده وتعهده عن غفلة، أي أنه نسي أو غفل عن وعده وتعهده للعبد، وبالتالي فهو معذور ولم يقع بالمحذور، وهذا هو ما صرح به موسى (عليه السلام) بكل وضوح: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾.

                          وموسى كان في عبادة كالصلاة والصيام والحج، فمرافقة موسى للعبد كانت بأمر تعبدي إلهي، وأيضاً الإيفاء بالتعهد والوعد عبادة بالنسبة لموسى (عليه السلام) في هذا الموقف.
                          سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى:

                          ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ [الأعلى: 6 - 7].

                          وردت رواية في مختصر بصائر الدرجات في تفسير هذه الآية:

                          «وعنه ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب وغيرهما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن هشام بن سالم عن سعد بن طريف الخفاف قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ما تقول فيمن اخذ عنكم علما فنسيه، قال: لا حجة عليه إنما الحجة على من سمع منا حديثا فأنكره أو بلغه فلم يؤمن به وكفر، فأما النسيان فهو موضوع عنكم ان أول سورة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) "سبح اسم ربك الأعلى" فنسيها فلا يلزمه حجة في نسيانها ولكن الله تعالى أمضى له ذلك ثم قال: سنقرئك فلا تنسى»([247]).

                          أيضاً وردت رواية في تفسير الإمام الحسن العسكري في هذه الآية:

                          «قال الإمام (عليه السلام) : قال محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) : (ما ننسخ من آية) بأن نرفع حكمها (أو ننسها) بأن نرفع رسمها، ونزيل عن القلوب حفظها وعن قلبك يا محمد كما قال الله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) أن ينسيك فرفع ذكره عن قلبك»([248]).

                          يفسر بعضهم الآية في أنّ المعصوم لا يسهو في أي شيء مطلقاً، مع أنّ الآية لا تدل على ما ذهبوا إليه، فالآية واضحة: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، أي لا تنسى ما نقرؤك، فمن يعدّيها - لغير ما نقرؤك أو الوحي الإلهي - يحتاج دليلاً على ما يقول، فما نقرؤك تشمل القرآن والوحي الإلهي، وبهذا فالآية لا تدل على أكثر من امتناع سهو المعصوم في التبليغ أو في حفظ ما يقرؤه الله سبحانه وتعالى بعد نزول هذه الآية، وهذا لا يشمل العبادة ولا غيرها، وعدم سهو المعصوم في التبليغ عن الله ليس موضع الخلاف.

                          بل قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ﴾ وهو استثناء؛ يدل بلا شك على أنّ المعصوم كغيره من البشر مبتلى بالسهو والنسيان، وإنما يعصمه الله من السهو والنسيان في مواضع للضرورة والحاجة لذلك، فيكون المعنى إلا ما شاء الله أنْ تنساه من أمور أخرى لا توجد حاجة وضرورة ليعصمك الله عن النسيان والسهو فيها، كغيرك من البشر الذين يعرض لهم السهو والنسيان، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾.
                          ثانياً: الروايات

                          الإشكالات على الروايات التي ذكرت السهو والنسيان بلا قيمة؛ لأنها لا تتعدى الإشكال على بعض الأسانيد، أو التعذر بالتقية في محاولة يائسة لرد الروايات الكثيرة في هذا الباب والتي لا يوجد ما يعارضها، ورغم أنّ الأمر كما تبيّن محسوم قرآنياً ونحن لن نتطرق لتلك الإشكالات هنا بغير أنها لو تمت - وهي غير تامة - فغاية ما يستفاد هو منع الاعتماد على تلك الروايات مستقلة لإثبات عقيدة، وهذا الأمر لن يثبت عقيدتهم بحال؛ لأنهم بالنتيجة يحتاجون الدليل لإثبات عقيدة عدم سهو خليفة الله سواء عموماً أم في العبادة كما يعتقدون، فالأصل في هذا الأمر أنّ المعصوم أو خليفة الله بشر مثل غيره ولا يخرج عنهم بحد إلا بدليل.

                          هذا مع العلم أنه لا توجد لديهم روايات تقول بمنع سهو المعصوم في العبادة سوى رواية واحدة يتأولونها في ذلك، وسنبين أنّ دلالتها غير تامة ولا قطعية على المعنى الذي يذهبون إليه، بل ولا يمكن أنْ ترجح كفتها عند معارضتها مع عدد كبير من الروايات الصحيحة التي سنأتي على ذكرها.
                          روايات تقول بسهو ونسيان المعصوم:

                          روايات ذكرت سهو النبي (صلى الله عليه وآله) :

                          تهذيب الأحكام: «الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن جميل قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) : عن رجل صلى ركعتين ثم قام قال: يستقبل، قلت: فما يروي الناس؟ فذكر له حديث ذي الشمالين فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يبرح»([249]).

                          تهذيب الأحكام: «عن فضالة عن الحسين بن عثمان عن سماعة عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) : عن رجل صلى ركعتين ثم قام فذهب في حاجته قال: يستقبل الصلاة، فقلت: ما بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستقبل حين صلى ركعتين؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينفتل من موضعه»([250]).

                          تهذيب الأحكام: «وروى سعد عن محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن الحرث بن المغيرة النصرى قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنا صلينا المغرب فسها الإمام فسلم في الركعتين فأعدنا الصلاة فقال: ولم أعدتم؟! أليس قد انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ركعتين فأتم بركعتين ألا أتممتم؟!!»([251]).

                          تهذيب الأحكام: «ما رواه سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن الحسين عن فضالة عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: صليت بأصحابي المغرب فلما أن صليت ركعتين سلمت فقال: بعضهم إنما صليت ركعتين فأعدت فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: لعلك أعدت فقلت: نعم فضحك ثم قال: إنما كان يجزيك أن تقوم وتركع ركعة إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سها فسلم في ركعتين ثم ذكر حديث ذي الشمالين فقال: ثم قام فأضاف إليها ركعتين»([252]).

                          تهذيب الأحكام: «سعد عن أبي الجوزاء عن الحسين بن علوان عن عمرو ابن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الظهر خمس ركعات ثم انفتل فقال له بعض القوم: يا رسول الله هل زيد في الصلاة شئ؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت بنا خمس ركعات قال: فاستقبل القبلة وكبر وهو جالس ثم سجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع ثم سلم وكان يقول: هما المرغمتان»([253]).

                          تهذيب الأحكام: «أحمد بن محمد عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي جميلة عن زيد الشحام أبي أسامة قال: سألته عن الرجل صلى العصر ست ركعات أو خمس ركعات قال: إن استيقن انه صلى خمسا أو ستا فليعد، وإن كان لا يدري أزاد أم نقص فليكبر وهو جالس ثم ليركع ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب في آخر صلاته ثم يتشهد، وإن هو استيقن انه صلى ركعتين أو ثلاثا ثم انصرف فتكلم فلم يعلم أنه لم يتم الصلاة قائما عليه أن يتم الصلاة ما بقي منها، فان نبي الله (صلى الله عليه وآله) صلى بالناس ركعتين ثم نسي حتى انصرف فقال له ذو الشمالين: يا رسول الله أحدث في الصلاة شئ؟ فقال: أيها الناس أصدق ذو الشمالين؟ فقالوا: نعم لم تصل إلا ركعتين، فقام فأتم ما بقي من صلاته»([254]).

                          الكافي: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : «مَنْ حَفِظَ سَهْوَهُ فَأَتَمَّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) صَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَهَا فَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَ نَزَلَ فِي الصَّلَاةِ شَيْ‏ءٌ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ إِنَّمَا صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَتَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ قَالُوا نَعَمْ فَقَامَ (صلى الله عليه وآله) فَأَتَمَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَالَ قُلْتُ أَرَأَيْتَ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَظَنَّ أَنَّهُمَا أَرْبَعٌ فَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ أَنَّهُ إِنَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَالَ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا قَالَ قُلْتُ فَمَا بَالُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَسْتَقْبِلِ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا أَتَمَّ بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَجْلِسِهِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَجْلِسِهِ فَلْيُتِمَّ مَا نَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ إِذَا كَانَ قَدْ حَفِظَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلَتَيْنِ»([255]).

                          الكافي: «عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ (عليه السلام) أسَلَّمَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله) فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأَوَّلَتَيْنِ فَقَالَ نَعَمْ قُلْتُ وحَالُه حَالُه قَالَ إِنَّمَا أَرَادَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَنْ يُفَقِّهَهُمْ»([256]).

                          الكافي: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدٍ الأَعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام)يَقُولُ صَلَّى رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله)ثُمَّ سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَسَأَلَه مَنْ خَلْفَه يَا رَسُولَ اللَّه أحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ قَالَ ومَا ذَلِكَ قَالُوا إِنَّمَا صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ أكَذَلِكَ يَا ذَا الْيَدَيْنِ وكَانَ يُدْعَى ذَا الشِّمَالَيْنِ فَقَالَ نَعَمْ فَبَنَى عَلَى صَلَاتِه فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعاً وقَالَ إِنَّ اللَّه هُوَ الَّذِي أَنْسَاه رَحْمَةً لِلأُمَّةِ ألَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلاً صَنَعَ هَذَا لَعُيِّرَ وقِيلَ مَا تُقْبَلُ صَلَاتُكَ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْه الْيَوْمَ ذَاكَ قَالَ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله)وصَارَتْ أُسْوَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ لِمَكَانِ الْكَلَامِ»([257]).

                          عيون أخبار الرضا (عليه السلام) :«حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي قال: حدثني أبي عن أحمد بن علي الأنصاري عن أبي الصلت الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام) يا بن رسول الله إن في سواد الكوفة قوما يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا لعنهم الله أن الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو....»([258]).

                          المحاسن: «عنه، عن جعفر بن محمد الأشعث، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: صلى النبي (صلى الله عليه وآله) صلاة وجهر فيها بالقراءة، فلما انصرف قال لأصحابه: هل أسقطت شيئا في القراءة؟ - (قال فسكت القوم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : أفيكم أبي بن كعب؟ - فقالوا: نعم، فقال: هل أسقطت فيها بشئ؟ - قال: نعم يا رسول الله. إنه كان كذا وكذا، فغضب (صلى الله عليه وآله) ثم قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يتلى عليهم منه ولا ما يترك! هكذا هلكت بنو إسرائيل، حضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله صلاة عبد لا يحضر قلبه مع بدنه»([259]).

                          من لا يحضره الفقيه: «وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ عَنِ الرِّبَاطِيِّ عَنْ سَعِيدٍ الْأَعْرَجِ ([260])قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَامَ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وآله) عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَامَ فَبَدَأَ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ وَأَسْهَاهُ فِي صَلَاتِهِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ وَصَفَ مَا قَالَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ رَحْمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِئَلَّا يُعَيَّرَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ إِذَا هُوَ نَامَ عَنْ صَلَاتِهِ أَوْ سَهَا فِيهَا فَيُقَالُ: قَدْ أَصَابَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)»([261]).

                          روايات ذكرت سهو الأئمة (عليهم السلام) :

                          هناك روايات ذكرت سهو الأئمة (صلوات الله عليهم) في العبادة، ونذكر هنا مجموعة منها مع ذكر من صححها:

                          الاستبصار: «موسى بن القاسم عن عبد الرحمن عن حماد عن حريز عن زرارة ([262]) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن علياً (عليه السلام) طاف طواف الفريضة ثمانية فترك سبعة وبنى على واحد وأضاف إليه ستة ثم صلى الركعتين خلف المقام ثم خرج إلى الصفا والمروة فلما فرغ من السعي بينهما رجع فصلى الركعتين اللتين ترك في المقام الأول»([263]).

                          تهذيب الأحكام: «موسى بن القاسم عن عبد الرحمن عن معاوية بن وهب([264])عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن علياً (عليه السلام) طاف ثمانية فزاد ستة ثم ركع أربع ركعات»([265]).

                          وسائل الشيعة: «محمد بن إدريس في آخر (السرائر) نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل ([266]) قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) السهو فقال: وينفلت من ذلك أحد؟ ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ علي صلاتي»([267]).

                          تهذيب الأحكام: «سعد بن عبد الله عن أبي جعفر عن أبيه عن محمد ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان عن عبيد الله الحلبي ([268]) قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) : يقول: في سجدتي السهو (بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وعلى آل محمد) قال: وسمعته مرة أخرى يقول فيهما (بسم الله وبالله والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)»([269]).

                          أيضاً: هناك رواية في "عيون أخبار الرضا" للصدوق ذكرت أن الإمام ينسى ويسهو دون تفصيل:

                          روى الصدوق عن الرضا (عليه السلام) : «إن الإمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلما احتاج إليه لدلالة اطلع عليه ويبسطه فيعلم ويقبض عنه فلا يعلم، والإمام يولد ويلد ويصح ويمرض ويأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينكح وينام وينسى ويسهو ويفرح ويحزن ويضحك ويبكي ويحيى ويموت ويقبر ويزار ويحشر ويوقف ويعرض ويسأل ويثاب ويكرم ويشفع ودلالته في خصلتين في العلم واستجابة الدعوة، وكل ما أخبر به من الحوادث التي تحدث قبل كونها فذلك بعهد معهود إليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) توارثه وعن آبائه عنه (عليه السلام) ويكون ذلك مما عهد إليه جبرائيل (عليه السلام) من علام الغيوب عز وجل....»([270]).

                          وهناك رواية أيضاً يمكن حسابها على سهو أو نسيان خليفة الله أو المعصوم واستدراكه بعد ذلك، وظاهر الرواية واضح لا يحتاج شرحاً:

                          «عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن السفياني يملك بعد ظهوره على الكور الخمس حمل امرأة.

                          ثم قال (عليه السلام) : أستغفر الله حمل جمل، وهو من الأمر المحتوم الذي لابد منه ([271])»([272]).

                          هل توجد روايات تنفي السهو والنسيان؟

                          لا توجد روايات تنفي السهو والنسيان عن خليفة الله أو المعصوم لا مطلقاً ولا في العبادة حتى يتم مناقشة هل أنها تفيد اليقين والاعتقاد أم لا، فالأمر أصلاً معدوم. نعم، هناك رواية واحدة تنفي كون رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) سجد سجدتي السهو، ونفيهما لا يلزم بالضرورة نفي السهو في العبادة.

                          «عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن عبد الله ابن بكير عن زرارة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) : هل سجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) سجدتي السهو قط؟ فقال: لا ولا يسجدهما فقيه»([273]).

                          ولا شك أنّ كلامنا ليس في هل أنّ رسول الله لم يسجد سجدتي السهو، فلا إشكال إنْ كان رسول الله لم يسجد سجدتي السهو في أمر معيّن مثل السهو في عدد الركعات، فليس كل سهو في الصلاة أو في عدد الركعات يتطلب سجدتي السهو دائماً حتى يقال إن هناك ملازمة بين نفي سجدتي السهو عن النبي في أمرٍ ما وبين نفي السهو عن النبي في العبادة، ونفس الرواية أعلاه تنفي سجدتي السهو عن الفقيه في الدين، وهي كلمة عامة تشمل أي شخص متفقه في دينه وليس رسول الله والأئمة فقط، وهذا يعني أن سجدتي السهو المنفيتان تتعلقان بفعل يمكن أن يعالجه المتفقه في دينه دون حاجة لفعل آخر يوجب سجدتي السهو، وكمثال: (من شك بين الاثنين والأربع بنى على الأربع، وتشهد وسلم، ثم أتى بركعتين من قيام)، فلا حاجة هنا لسجدتي السهو.

                          أضف أيضاً: إنّ هذه الرواية الواحدة غير كافية لإفادة اليقين اللازم للاعتقاد، فهي رواية آحاد ومن يستدلون بها يستدلون بفهمهم المغلوط لها، وهذا ربما حتى غير كافٍ لإثبات جزئية في الأحكام الفقهية، فما بالك والأمر عقائدي ويحتاج إلى دليل قطعي وهو مفقود عندهم، فليس لديهم دليل عقلي تام، ولا روايات متواترة أو مقطوع بصحتها، ولا دليل قرأني محكم، بل الموجود بالضد من هذا الاعتقاد؟!

                          ولم أجد رواية غير هذه الرواية لها علاقة بالموضوع المطروح هنا، أي نفي السهو عن المعصوم في العبادة، لكن هناك من يريد أن يثبتها "عنزة ولو طارت"، فذهب لروايات بعيدة عن موضوع نفي السهو عن خليفة الله أو المعصوم في العبادة، ومع أني لم أجد شيئاً ذي قيمة علمية لأرد عليه، وإنما فقط تخبط عشوائي وتحميل الكلام أكثر مما يحمل من معنى. وحقيقة من المخجل أن يصل الأمر بالإنسان في إثبات الاعتقاد إلى هذا المستوى المتدني، فيجعل عصمة روح القدس من السهو دليلاً على عصمة المعصوم من السهو في العبادة لأنّ المعصوم مؤيد بروح القدس. في الحقيقة هذا إسفاف؛ لأنّ المسألة ليست كلاماً في عصمة روح الإمام المجردة أو روح القدس المجردة من السهو، وإنما الكلام في حال الإمام في هذه الحياة الدنيا، والإمام في هذه الحياة الدنيا لديه جسد كثيف ودماغ محدود القدرة - كغيره من البشر -، وهذا الجسد يحجبه عن العوالم الأخرى، وهذا الجسد هو السبب الرئيس لسهو ونسيان أي إنسان، وبالتالي فعصمة الروح المجردة من السهو لأنها غير مشغولة بالشواغل المادية مثلاً، لا يعني بحال عصمة الإنسان المركب من الروح والجسد في هذا العالم المادي.
                          ثالثاً: إشكالات عقلية
                          أولاً: إشكالات الشيخ المفيد رحمه الله

                          قال الشيخ رحمه الله:

                          «ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الأنبياء (عليهم السلام) في أوقات الصلوات حتى تخرج، فيقضوها بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص، لأنه ليس ينفك بشر من غلبة النوم، ولأن النائم لا عيب عليه وليس كذلك السهو، لأنه نقص عن الكمال في الإنسان، وهو عيب يختص به من اعتراه. وقد يكون من فعل الساهي تارة، كما يكون من فعل غيره، والنوم لا يكون إلا من فعل الله تعالى، وليس من مقدور العباد على حال، ولو كان من مقدورهم لم يتعلق به نقص وعيب لصاحبه لعمومه جميع البشر، وليس كذلك السهو، لأنه يمكن التحرز منه. ولأنا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم وأسرارهم ذوى السهو والنسيان، ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبه النوم أحيانا، كما لا يمتنعون من إيداعه من يعتريه الأمراض والأسقام. ووجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذو والسهو من الحديث، إلا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي التيقظ، والفطنة، والذكاء، والحصافة. فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه. ولو جاز أن يسهو النبي (عليه السلام) في صلاته وهو قدوة فيها حتى يسلم قبل تمامها وينصرف عنها قبل كمالها، ويشهد الناس ذلك فيه ويحيطوا به علما من جهته، لجاز أن يسهو في الصيام حتى يأكل ويشرب نهارا في
                          نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                          Comment

                          • ya howa
                            مشرف
                            • 08-05-2011
                            • 1106

                            #14
                            رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                            رمضان بين أصحابه وهم يشاهدونه ويستدركون عليه الغلط، وينبهونه عليه، بالتوقيف على ما جناه ولجاز أن يجامع النساء في شهر رمضان نهارا ولم يؤمن عليه السهو في مثل ذلك حتى يطأ المحرمات عليه من النساء وهو ساه في ذلك ظان انهم أزواجه ويتعدى من ذلك إلى وطي ذوات المحارم ساهيا. ويسهو في الزكاة فيؤخرها عن وقتها ويؤديها إلى غير أهلها ساهيا، ويخرج منها بعض المستحق عليه ناسيا. ويسهو في الحج حتى يجامع في الإحرام، ويسعى قبل الطواف ولا يحيط علما بكيفية رمي الجمار، ويتعدى من ذلك إلى السهو في كل أعمال الشريعة حتى يقلبها عن حدودها، ويضيعها في أوقاتها، ويأتي بها على غير حقائقها، ولم ينكر أن يسهو عن تحريم الخمر فيشربها ناسيا أو يظنها شرابا حلالا، ثم يتيقظ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها... الخ» ([274]).

                            بيان إشكال الشيخ المفيد الأول:

                            إنّ السهو نقص عن الكمال في الإنسان ،وهو عيب يختص به من اعتراه؛ لأنه يمكن التحرز منه. ومعنى الإشكال: أنّ خليفة الله المفروض أنه أول من يتحرز عن العيوب التي يمكن الإنسان التحرز عنها، فكيف يمكن أنْ ننسب إلى خليفة الله صدور ما يمكن أي إنسان التحرز منه وهو السهو.

                            رد الإشكال: كلام الشيخ غير صحيح، فالإنسان لا يمكنه التحرز عن السهو مطلقاً، لعلة الدماغ البايلوجي وقدرته المحدودة على التركيز والحفظ، والتي تنخفض كلما زاد عدد الأمور التي يحتاج التركيز عليها، وبالنسبة للصلاة فقد يتسبب التركيز على ذكر الله والخشوع في الصلاة بنسيان عدد الركعات، وبهذا فقد يكون من نسى عدد الركعات التي صلاها أفضل ممّن ضبط عدد ركعات صلاته دون ذكر وخشوع. إذن، فلا يمكن الحكم بأن نسيان عدد الركعات عيب يختص به من اعتراه لأنه يمكن التحرز منه.

                            وأيضاً: عقلاً لا يمكن للإنسان التحرز من السهو والنسيان مطلقاً، وإلا لكان نوراً لا ظلمة فيه (أي كامل مطلق)، ولكان لاهوتاً مطلقاً تعالى الله علواً كبيراً، ولتعدد اللاهوت المطلق، وبالتالي فكل ما بناه على أن السهو أمر يمكن التحرز منه غير صحيح. أما تمثيله بأنّ ذوي السهو لا يعتد بحديثهم ولا يودعهم الحكماء الأمانات؛ فهو كلام مبني على من خرج عن الحد الطبيعي للسهو والنسيان، وهذا خلط وخبط عشواء، فالكلام ليس فيه إنما في وقوع السهو والنسيان ولو مرة أو مرتين، وهذا أمر يقع من كثير من الناس ويعتمد غيرهم على حديثهم ويودعونهم الأمانات، ولا يعتبر العقلاء أنّ من سهى في صلاته أو سهى في طوافه فدخل في الشوط الثامن أو نسى شيئاً خبأه ثم وجده؛ أنه ليس أهلاً للأمانة أو لا يعتمد على حديثه.

                            بيان إشكال المفيد الثاني:

                            إنّ خليفة الله قدوة يقتدي به المؤمنون، فلو جاز أنْ يسهو خليفة الله في الصلاة أو العبادة لانتفى كونه قدوة، أي: لو جاز على خليفة الله السهو والنسيان لما صح أنْ يأمر الله الناس الاقتداء به في جميع أحواله.

                            رد الإشكال:هذا الإشكال غير دقيق؛ لأنّ الله لم يأمر الناس الاقتداء بأفعال خليفته دون معرفة عللها، فهو قد يترك الواجب وإنْ حان وقته لعلةٍ ما، كتركه الصلاة الواجبة التي حان وقتها لمروره في أرض نزل بها عذاب من الله فيما مضى، وقد يفعل ما لا يجوز لغيره فعله (محرم في الشريعة) لاختصاصه به كإبقاء رسول الله لأكثر من أربع زوجات في ذمته، وقد يفطر لمرض لا يراه غيره كالقرحة أو التسمم أو أي مرض طارئ مثلاً، فهل على بقية المؤمنين الإفطار بحجة أنّ المعصوم قد أفطر وهو قدوة، أم على المعصوم أنْ يضع لافتة يكتب عليها أنا مريض اليوم واضطررت للإفطار.

                            النتيجة: المعصوم ليس قدوة مطلقاً في جميع أفعاله وأحواله، دون فهم تلك الأحوال أو سؤاله عن فعله، خصوصاً إذا كان مشتبهاً على المشاهد.

                            وبالنسبة للسهو والنسيان بالخصوص؛ فلابد أنْ يعرف المكلفون أنّ فعل المعصوم هذا نتيجة سهو أو نسيان لكي يفترضوا عدم جواز الاقتداء به في هذا الفعل، والأصل في أفعال الناس أنها صحيحة وليست سهواً ولا نسياناً حتى يتبين العكس، وإلا لما صح محاسبة أحد من الناس على فعله.

                            إذن، لا يحمل أي فعل من أفعال خليفة الله على أنه سهو أو نسيان حتى يتبين بالدليل أنه سهو أو نسيان.

                            وعقيدتنا في متابعة المعصوم؛ أنّ متابعته يقين ينجي صاحبه، فلو أنّ رسول الله محمد )صلى الله عليه وآله( صلى الصبح أربع ركعات أو الظهر ركعتين، فمتابعته أصح وأقرب للهدى والرشاد، والاعتراض عليه سفه وضعف في اليقين ممّن فعل، فإنما الصلاة ركعة وسجدة يذكر الله فيهما.

                            بيان إشكال الشيخ المفيد الثالث:

                            إنه لو جاز أنْ يسهو خليفة الله في صلاته لجاز أنْ يسهو في كل طاعة وأنْ يفعل كل محرم سهواً.

                            الرد:ومع أنّ هذا الإشكال مبني على مغالطة؛ حيث إنه مع السهو والنسيان لا يوجد شيء اسمه معصية أو حرام، فالعصيان وارتكاب المحرمات ليتحقق؛ يلزم توفر القصد والتعمد، وهي غير متوفرة في حال السهو والنسيان، وإضافة إلى ذلك فإنّ هذا الإشكال غير صحيح؛ لأنه مبني على أساس أنّ خليفة الله ينسى ويسهو كأي إنسان آخر وغير معصوم من المعاصي، وهذا لا يقول به أحد من أتباع محمد وآل محمد )عليهم السلام(.

                            أو أنّ المستشكلين يعتقدون بالعصمة الذاتية المطلقة للحجة من السهو والنسيان، وبالتالي يعتبرون ذهاب بعضها يكون في كل الاتجاهات ويشمل كل الأشياء، والقول بالعصمة الذاتية بيَّنا بطلانه؛ حيث يلزم منه تعدد اللاهوت المطلق.

                            إذن:

                            العصمة من السهو ليست ذاتية، بل هي عصمة بعاصم خارجي ومذكر خارجي، وهي ليست عبثية بل وفق حكمة إلهية، فلا حاجة أنْ يعصم خليفة الله من السهو إلا فيما يتعلق بتبليغ دين الله سبحانه وتعالى، أما بقية الأمور فلا يعصم بها خارجياً، بل تبقى عصمته العامة الذاتية من السهو هي المانعة من وقوع السهو، وقد بيَّنت على أي الأمور تعتمد هذه العصمة العامة الذاتية من السهو، وبيَّنت أنها ليست تامة بذاتها ([275])، أي أنه مثلاً يكون معصوماً ذاتياً من السهو بنسبة سبعين في المئة أو ثمانين في المئة أو تسعين في المئة، وهذه العصمة العامة الذاتية وإنْ كانت بنسبة معينة، ولكنها قد تكون كافية في أمور معينة لتمنع وقوع السهو فيها، أي لا يحتاج معها - مع أنها غير تامة - إلى عاصم خارجي من السهو لتحقق العصمة التامة من السهو في ذلك المورد، وسبب ذلك يرجع إلى درجة ظهور الأمر بالنسبة للإنسان، ولبيان هذا الأمر الأخير أكثر لننظر إلى موضوع عدد الركعات في الصلاة - الذي هو موضع النزاع بينهم -، فهو في الحقيقة مدسوس بين أفعال الصلاة وهي الأذان، الإقامة، التكبير، القراءة، الركوع، الذكر فيه، السجود، الذكر فيه، القنوت، التشهد، وهذه الأفعال كثيرة وبالتالي فظهور عدد الركعات بينها ليس كظهور الامتناع عن الطعام والشراب بين أفعال الصيام التي لا يتعدى المبتلى به عموماً هذا الفعل وربما فعلاً آخر، لهذا فعند عامة الناس يقع السهو في الصلاة كثيراً، ولكن نادراً أنْ يقع السهو فيأكل أو يشرب الصائم وهو ساهٍ.

                            بل في الصلاة حتى طول الانشغال بفعل من أفعال الصلاة، يؤثر على ظهور الفعل الآخر للمصلي، فطول السجود أو الخشوع في الذكر عند شخص قد يؤدي إلى عدم تذكره لعدد الركعات التي صلاها؛ لأن دماغه انشغل بالخشوع والتفكير بالله عن التركيز على حساب عدد الركعات، فالخشوع والانشغال بذكر الله يرفع من نسبة احتمالية نسيان عدد الركعات التي صلاها المصلي، وأكيد أن الأفضل الانشغال بالذكر والخشوع حتى وإنْ أدى إلى ارتفاع احتمالية حدوث نسيان عدد الركعات، وأكيد أنه لا خير في صلاة لا خشوع فيها، حتى وإنْ ضبط المصلي عدد ركعاتها.

                            أيضاً: في الطواف مثلاً شخص خاشع ومنشغل بذكر الله وبالبكاء، أو يطوف ببطء شديد يمكن أنْ يغطي خشوعه وانشغاله بذكر الله، أو المدة الزمنية التي يقضيها في الطواف على تذكره عدد الأشواط التي طافها، فيسهو عن التوقف عند الشوط السابع فيدخل في الثامن ([276]).

                            إلى هنا أعتقد اتضح تماماً أنّ مسألة السهو متشعبة ومرتبطة بعدة متغيرات، فلا يمكن أنْ نحكم بأنّ السهو يدل دائماً على تقصير الساهي في تحصيل كمال ممكن للإنسان، ولا يمكن مقارنة سهو معين بآخر، أو القول إنّ من يسهو هنا لابد أنْ يسهو هناك، ولا يمكن القول إنّ شخصاً لم يسهو في أمر معين أفضل من آخر لأنه سهى فيه، ولو أردنا تصور مدى تعقيد المسألة فلنحسب عدد المتغيرات التي بيّنتها حتى الآن في مسألة السهو والنسيان، فكيف إذن يمكن أنْ نقبل - عقلاً - من شخص أنْ يشكل على مسألة السهو دون أنْ تكون العلاقات بين هذه المتغيرات وحلها حاضرة عنده؟!!!! والحق إنّ حال المشكلين هو هذا، فلو أنهم يعون وجود كل هذه العوامل المتغيرة في المسألة لما ذهبوا للإشكال.
                            إشكالات عقلية أخرى:

                            الإشكال الأول: إنه لو جاز السهو والنسيان على خليفة الله؛ لجاز أنْ ينسى ويسهو في تبليغ الشرع، وبهذا نقض للغرض من بعثه.

                            الرد:الحقيقة لا ملازمة بين الأمرين هنا، فالمسألة: إنّ المعصوم يعصم عن السهو والنسيان في أمور ولا يعصم في أخرى؛ لأننا قد بيَّنا أنه يعصم بمذكر خارجي. نعم، الملازمة تكون لو كان خليفة الله لا يسهو ولا ينسى بذاته لا بعاصم خارجي، في حين أننا قد بيَّنا بطلان القول بالعصمة الذاتية من السهو والنسيان، وأنها توافق قول الغلاة، وأنها تعني بالنتيجة تعدد اللاهوت المطلق وهذا باطل.

                            الإشكال الثاني: إنه لو جاز على خليفة الله السهو والنسيان لنفرت الناس عنه وفي هذا نقض للغرض من بعثه وهو هداية الناس.

                            الرد: لا يصح أنْ يستدل مسلم فضلاً عمن يدّعي أنه عالم بنفور الناس لجهلهم ويعتبره نقضاً للغرض؛ لأنه بحسب هذه القاعدة العبثية يمكن أنْ ينقض الإسلام، وكمثال على ذلك فالله أمر الرسول قبل الهجرة وهو في مكة أنْ تكون قبلة المسلمين بيت المقدس في الشام، وهذا فيه تنفير للأحناف؛ حيث إنّ قبلتهم الكعبة، فكيف يأتيهم محمد )صلى الله عليه وآله( ويقول لهم اتركوا قبلتكم التي تسجدون وتحجون لها، وتوجهوا في صلاتكم إلى قبلة اليهود؟ أليس في هذا تنفير واضح؟ وعلى حسب القاعدة التي وضعوها أنّ تنفير الناس عن دين الله ينقض الغرض، فيكون الله قد نقض الغرض أو يكون الإسلام ليس ديناً إلهياً. بل الأمر لم يتوقف هنا حيث لما هاجر محمد إلى المدينة وحيث اليهود وقبلتهم بيت المقدس بدلت قبلة الإسلام وأصبحت الكعبة، ليكون هذا أيضاً منفراً لليهود عن دخول دين جديد يتخذ قبلة أخرى غير قبلتهم. وعلى القاعدة المتقدمة أيضاً يكون الله هنا قد نفر الناس وصدهم عن الإيمان ونقض الغرض من بعث محمد (صلى الله عليه وآله)، بينما الحقيقة إنّ نفور الناس من الحق بسبب جهلهم به ليس نقضاً للغرض بحال، وهذا بغض النظر عن أن نفس مسألة اتخاذ قبلتين وتبديل القبلة يمكن أنْ يعتبرها بعضهم أيضاً منفرة، بل وحتى يطعن برسالة الرسول ويعتبره متردداً ويجهل القبلة الصحيحة... وهكذا يمكن أنْ يذهب باستنتاجات واستحسانات ويدّعي نقض رسالة الرسول.

                            الإشكال الثالث: إنه لو جاز على خليفة الله السهو والنسيان في الصلاة كما روي أنّ رسول الله سهى في صلاته فنقص وزاد في الركعات؛ لكان غير خاشع في صلاته، وهذا أمر قبيح لا يصدر عن خليفة الله في أرضه.

                            الرد:وهذا الإشكال يفترض أنّ من يغفل عن عدد الركعات غير خاشع في صلاته وغير متوجه إلى الله سبحانه وتعالى لا غير، وهذا غير صحيح على إطلاقه؛ حيث إنّ العبد لو توجه إلى الله بخشوع وانقطاع يمكن أنْ يغفل بالله وبالخشوع بين يدي الله عن حساب عدد ركعات صلاته، فكما أنه يمكن أنْ يغفل بالتفكير بأمور الدنيا عن عدد ركعات صلاته، كذلك يمكن للبكاء بين يدي الله أنْ يجعله يغفل عن حساب عدد ركعات صلاته، فالأمر إذن لا يمكن حصره بعدم الخشوع وعدم التوجه إلى الله، ليكون السهو والنسيان في الصلاة دليل عدم الخشوع، وبالتالي ينفى السهو عن خليفة الله بهذه الحجة الواهية.

                            الخلاصة: تقدّمت آيات دلت على سهو المعصوم في مسيرته في الحياة، وأحاديث وروايات كثيرة نصت على سهو المعصوم في العبادات، والأصل أن المعصوم أو خليفة الله إنسان ولا يستثنى مما يعرض للإنسان الطبيعي إلا بدليل قطعي، ومن الصفات الإنسانية السهو والنسيان، إذن فالأصل إمكان سهو المعصوم ونسيانه كأي إنسان إلا ما خرج بدليل؛ كامتناع نسيانه وسهوه في التبليغ عن الله حيث يلزم منه نقض الغرض، فلابد أنْ يذكّره الله في هذا الموضع ويعصمه عن النسيان والسهو فيه حتى يبلغ رسالة الله سبحانه، ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾[الجن: 27 - 28].

                            ومرَّ أيضاً أنه لا توجد آية تدل على عدم سهو المعصوم، ولا توجد روايات كذلك، ولا يوجد دليل عقلي تام، سوى إشكالات واستحسانات يمكن ردها ببساطة، فإذن الخلاصة التي يمكن أنْ يتوصل لها أي عاقل أنه إذا لم تكن كل تلك الأدلة كافية للاستدلال على إمكان سهو المعصوم في الأمور الحياتية والعبادة؛ فإنّ عدم دلالة اللاشيء الذي يتوهمونه على عدم سهو المعصوم مطلقاً أو في العبادة أوجب، فهم يعتقدون هذه العقيدة بلا دليل من آية محكمة ولا رواية قطعية الصدور والدلالة ولا دليل عقلي تام.

                            وهذا هو ما توصل له كثير من علماء العقائد ومنهم السيد الخوئي رحمه الله بقوله المتقدم: «القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية».
                            الرجعة:

                            الرجعة عالم امتحان آخر، كما أنّ عالم الأجسام الذي نعيش فيه الآن أيضاً عالم امتحان لا زلنا فيه ونمتحن فيه.

                            فالرجعة عالم يعيد الله فيه بعض الخلق مرة أخرى ويمتحنهم، ويكونون في عالم الرجعة غافلين عن العوالم التي سبق وأنْ امتحنهم الله بها؛ لأنهم يحجبون بذلك العالم عمّا سواه، كما أنّ الناس في هذا العالم الجسماني حجبوا بالأجسام وأنساهم الله امتحانهم السابق في عالم الذر.

                            ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ﴾[الواقعة: 60 - 62].

                            ﴿وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ﴾: أي نخلقكم في عالم آخر لا تعلمونه، فأنتم قد عشتم في النشأة الأولى في عالم الذر وعلمتموه ونسيتموه ولا تتذكرون حالكم فيه الآن بعد أنْ خلقناكم في النشأة الثانية أو العالم المادي الجسماني الذي أنتم فيه.

                            والذين يخلقون في الرجعة هم بعض الخلق وليس جميعهم، وهم من وصلوا لدرجات عليا في الإيمان، ومن انحدروا في وادٍ سحيق من الكفر والجحود بالله وبأوليائه المعرفين به في هذه الدنيا.
                            لماذا الرجعة ؟

                            قبل أنْ نعرف لماذا الرجعة لابد أنْ نفهم أننا هنا في العالم الجسماني في الامتحان الثاني، والرجعة هي الامتحان الثالث. فالسؤال نفسه موجه لهذا الامتحان الذي نحن فيه؛ لماذا الحياة الجسمانية لماذا هذا الامتحان الثاني ونحن قد امتحنا في الذر وانتهى الأمر ؟

                            وجواب هذا السؤال هو ما قاله الإمام جعفر بن محمد الصادق )عليه السلام(:

                            علل الشرائع: «حدثنا علي بن أحمد عن محمد بن أبي عبد الله عن محمد بن إسماعيل البرمكي قال حدثنا جعفر بن سليمان بن أيوب الخزاز قال حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي قال قلت لأبي عبد الله )عليه السلام) :لأي علة جعل الله عز وجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل ؟

                            فقال (عليه السلام) : إن الله تبارك و تعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عز وجل فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدر لها في ابتداء التقدير نظراً لها ورحمة بها وأحوج بعضها إلى بعض وعلق بعضها على بعض ورفع بعضها على بعض في الدنيا ورفع بعضها فوق بعض درجات في الآخرة وكفى بعضها ببعض وبعث إليهم رسله واتخذ عليهم حججه مبشرين ومنذرين يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبدهم بها ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل ليرغبهم بذلك في الخير ويزيدهم في الشر وليدلهم بطلب المعاش والمكاسب فيعلموا بذلك أنهم بها مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم الأبد وجنة الخلد ويأمنوا من الفزع إلى ما ليس لهم بحق. ثم قال (عليه السلام) : يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى أحسن نظراً لعباده منهم لأنفسهم أ لا ترى أنك لا ترى فيهم إلا محباً للعلو على غيره حتى يكون منهم لمن قد نزع إلى دعوى الربوبية ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها ومنهم من قد نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها وذلك مع ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام والمناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجمعهم يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون»([277]).

                            الإمام الصادق (عليه السلام( بيَّن لماذا تكرار الامتحان في هذا العالم الجسماني.

                            أما لماذا تكرار الامتحان في عالم الرجعة على من محض الإيمان ومحض الكفر بالخصوص؟ فلأن كلا هذين الفريقين هو فريق استثنائي، فمن محض الإيمان كان عطاؤهم عظيماً وسيكون جزاؤهم أعظم، وبالتالي يكرر الامتحان عليهم ليعيدوا نفس النتيجة لكي يعلم بقية الخلق أن هؤلاء مستحقون لهذا الفضل العظيم الذي فضلهم الله به على بقية الخلق.

                            وأما من محض الكفر فكذا أن عذابهم عظيم، بحيث إنّ أهل النار يستجيرون من عذاب هؤلاء، ولذا كان الامتحان الثالث في الرجعة وليكرروا نفس النتيجة السلبية، ليعلم الخلق أنّ هؤلاء مستحقون لهذا العذاب العظيم.

                            وهنا قد يوجه إشكال بهذه الصورة: لماذا هذه الامتحانات، ما دامت نتيجة الذر ستتكرر وكل واحد سيكرر نتيجته، أين الحكمة من هكذا امتحان نتيجته معروفة مسبقاً؟!

                            والجواب: إنّ إعطاء الفرصة حقيقي وليس وهمياً، فالله سبحانه قد أعطى للخلق فرصة حقيقية لتغيير النتيجة إنْ كانت سيئة في الذر، ولكن لأن حقائقهم منكرة وخبيثة تكرر نفس النتيجة، أي أنّ الحكمة هي أنّ الله كريم رؤف رحيم، وهذه الفرصة الأخرى هي ظهور لفضله ولكرمه ورحمته سبحانه، إضافة إلى ما بيّنه الإمام الصادق )عليه السلام( في أن انزال الأرواح في هذا العالم الجسماني الضيق هو ليظهر لها ضعفها من خلال ضيقه وقيوده، وإضافة إلى ما بيّنته من علة الرجعة، وأيضاً هناك علة بيّنها الله سبحانه وتعالى هي أيضاً متعلقة برحمته وكرمه، وهي أنه يعلم أنهم سيطلبون فرصة ثانية وبالتالي قدّم لهم هذه الفرصة قبل أنْ يطلبوها، فمع هذا التكرار وهذا الكرم منه سبحانه تجدهم يطلبون في الآخرة أنْ يعاد امتحانهم، ويطلبون فرصة أخرى غير الفرص التي منحت لهم سابقاً: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[غافر: 11].
                            كيف تكون الرجعة ؟

                            هناك أمور لابد من معرفتها لنفهم كيف تكون الرجعة:

                            أولاً: الإحساس بالتحوّل أو التغير مسألة نسبية، فالحقيقة إننا نحس بتغير الأشياء حولنا عندما نتعرض نحن وهي لتغيرات مختلفة سواء مكانية أم زمانية، لكن عندما نكون نحن والأشياء من حولنا متعرضين معاً لحركة خارج حدود الزمان والمكان، أي بأبعاد أخرى غير هذه الأربعة التي نعرفها ونحسها، فإننا لن نحس بشكل ملموس بأي تغيير من حولنا، ولن نستطيع قياسه مهما كان كبيراً وسريعاً رغم وجوده، والسبب أن هذا التغيير يشملنا نحن وهي جميعاً بنفس القدر.

                            وليكون الأمر أقرب للفهم: لنتصور أننا نعيش في وسط متحرك بنا، فإننا لن نحس بحركة الأشياء من حولنا وسنعتبرها ساكنة طالما بقيت حركتنا وحركتها الوحيدة هي حركة الوسط بنا جميعاً، كما أننا لن نحس بأي تغيير في الوسط وفي الأشياء الموجودة فيه طالما كان هذا التغيير يشمل كل شيء في الوسط - أي حتى نحن - وبنفس النسبة.

                            تصور أنّ طولك (1.7m)، وهناك أداة قياس تقيس بها طولك، فلو أنك وأداة القياس تمددتما حتى تضاعف طولكما، فأنت عندما تقيس طولك بأداة القياس نفسها؛ ستجد أن طولك الجديد أيضاً هو (1.7m)، ولن تعلم بزيادة طولك، في حين أن طولك الجديد الحقيقي هو (3.4m).

                            إذا فهمنا ما تقدم نستطيع أن نفهم أننا والكون الذي نعيش فيه؛ ممكن أن ندخل جميعاً إلى عالم الرجعة أو السماء الأولى دون أن نحس بالتغيير الكبير الذي حصل لأجسامنا أو للأجسام التي حولنا أو حتى للكون الذي نعيش فيه، بل ويمكن أن نفهم أننا وكل الكون الذي نعيش فيه في تغير مستمر، وربما كان هذا التغير كبيراً ولكننا لا نحس هذا التغيير؛ لأنه يحصل لكل شيء بنفس النسبة.

                            ثانياً: نحن كنّا في الذر أي في السماء الأولى، ونحن ذاهبون إلى الرجعة التي هي أيضاً في السماء الأولى، أي أن هناك حركة ([278])للفلك الأعظم الذي يشمل الأكوان والعوالم التي نعيش في أحدها، ويجب أن نلتفت إلى أن هذه الحركة هي خارج حدود الزمان والمكان وفي أبعاد أخرى قد لا نحسها ولكنها حقيقية وموجودة، وأثر هذه الحركة كبير جداً في الأكوان وما فيها، ولا يمكن أن نعلم مدى هذا الأثر طالما أننا جزء من هذه الأكوان. فالطريقة الوحيدة التي نعلم بها بهذه التغيرات هي أن نكون نحن خارج هذه الأكوان، عندها سنرى الحقيقة التي ستكون مختلفة تماماً عن الواقع الذي نحسه ونحن في داخل هذه الأكوان.

                            ثالثاً: أوصاف عالم الرجعة في روايات المعصومين لا تتناسب مع هذا العالم المادي الذي نعيش فيه، فلا مناص عن قبول أن عالم الرجعة هو عالم مغاير، وله قوانين مختلفة عن العالم المادي الذي نعيش فيه.

                            مختصر بصائر الدرجات: «محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ويعقوب بن يزيد عن أحمد بن الحسين الميثمي عن محمد بن الحسين عن أبان بن عثمان عن موسى الحناط قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم (عليه السلام)، ويوم الكرة، ويوم القيامة»([279]).

                            مختصر بصائر الدرجات: «عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي المغري حميد بن المثنى عن داود بن راشد عن حمران بن أعين قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) لنا: ولسوف يرجع جاركم الحسين بن علي (عليهما السلام) ألفاً فيملك حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر»([280]).

                            مختصر بصائر الدرجات: «محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم الحضرمي عن عبد الكريم بن عمر والخثعمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ... ويملك أمير المؤمنين (عليه السلام) أربعاً وأربعين ألف سنة حتى يلد الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ألف ولد من صلبه ذكراً، وعند ذلك تظهر الجنتان المدهامتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء الله»([281]).

                            مختصر بصائر الدرجات: «ورويت عنه أيضاً بطريقه إلى أسد بن إسماعيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال حين سأل عن اليوم الذي ذكر الله مقداره في القرآن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: وهي كرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكون ملكه في كرته خمسين الف سنة، ويملك أمير المؤمنين (عليه السلام) في كرته أربعاً وأربعين ألف سنة»([282]).

                            بحار الأنوار: «عن أحمد بن محمد السياري، عن محمد بن خالد، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن نجيح اليماني، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون). قال: "مرة في الكرة، وأخرى في القيامة"»([283]).

                            مختصر بصائر الدرجات: «حدثني الشيخ أبو عبد الله محمد بن مكي بإسناده عن علي بن إبراهيم ابن هاشم من تفسير القران العزيز قال:

                            وأما الرد على من أنكر الرجعة فقوله عز وجل ويوم نحشر من كل أمة فوجا قال علي بن إبراهيم وحدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يقول الناس في هذه الآية ويوم نحشر من كل أمة فوجاً؟ قلت: يقولون إنها في القيامة. قال: ليس كما يقولون إن ذلك الرجعة أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين إنما آية القيامة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا»([284]).
                            القرآن:

                            القرآن الذي بين أيدينا في هذا العالم الجسماني؛ هو ظهور وتجلي للقرآن الذي في العوالم العلوية بالألفاظ التي تناسب هذا العالم، فالقرآن في العوالم العلوية ليس بلفظي؛ لأن الألفاظ من لوازم هذا العالم الجسماني، وظهور القرآن في هذا العالم بقدر مُظهِره أي محمد )صلى الله عليه وآله(، وبقدر ما يسع هذا العالم الجسماني أيضاً.

                            ومحمد (صلى الله عليه وآله) هو خير خلق الله، فيكون المعنى الذي ظهر بصورة القرآن اللفظية التي أظهرها محمد (صلى الله عليه وآله) في العالم الجسماني، هو أعظم معنى بصورة لفظية للقرآن ممكن أن يظهر في هذا العالم الجسماني.

                            والتوراة والإنجيل التي نزلت على موسى وعيسى (عليهما السلام) ليست شيئاً آخر غير القرآن، بل هي أيضاً تجل وظهور للقرآن في هذا العالم الجسماني، والفرق بينها هو مقام القابل الذي أظهر القرآن في هذا العالم أي محمد وعيسى وموسى )عليهم السلام(، فبما أن محمداً (صلى الله عليه وآله) أعظم إخلاصاً وأعلى مقاماً؛ يكون ما أظهره أعظم وأعلى شأناً وأتم وأكمل مما يظهره موسى أو عيسى، وبهذا تكون التوراة والإنجيل عبارة عن أجزاء من القرآن، ويكون القرآن مهيمناً عليها ومحتويها، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[المائدة: 48].

                            وهذا مثال لتوضيح الأمر: افرض أن أمامك حديقة فيها أشجار متنوعة مثمرة، وأن هناك عدة آلات تصوير تريد نقل حقيقة هذه الحديقة.

                            وأحدها بعيدة بحيث إن صورها تظهر الحديقة والأشجار، ولكن لا يمكن أن تميز أنواع الأشجار وثمارها.

                            والثانية قريبة وأيضاً أكثر دقة وصورها تظهر الحديقة والأشجار ويمكن أن تميز بعض أنواع الأشجار وبعض الثمار خصوصاً الثمار الكبيرة والمتميزة.

                            الثالثة موجودة في قلب الحديقة وأدق الجميع، بحيث إن صورها تظهر الأشجار وثمارها بوضوح، ويمكن تمييز أي شجرة أو ثمرة في الصور، بل وتمييز حالها ونضجها.

                            هكذا هو الحال فمحمد (صلى الله عليه وآله) لعلو مقامه، ولأن القرآن الإلهي في قلبه وهو في قلب القرآن الإلهي، فقد أظهر أعظم حقيقة ممكن أن تظهر من القرآن في هذا العالم الجسماني. أما عيسى وموسى (عليهما السلام) فقد أظهرا من القرآن الإلهي بقدر ما سمح لهما حال كل منهما في القرب والبعد عن القرآن الإلهي، وكذا الأمر بالنسبة لإبراهيم (عليه السلام) ونوح وبقية الأنبياء (عليهم السلام).

                            فالذي أنزل قبل القرآن أيضاً قرآن، ولكنه بعض القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله)، فالتوراة والإنجيل قرآن أيضاً، ولكن القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) أشمل وأتم وأعظم ومهيمن عليها، ولهذا فالذين كانوا يعرفون التوراة والإنجيل أو يعرفون بعض ما فيها؛ بمجرد أن سمعوا القرآن عرفوا أنه توراة وإنجيل، بل وأعظم منهما ومصدره ومصدرهما واحد. قال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾[الإسراء: 107 - 109].

                            وقد أنزل بعض القرآن (التوراة) على موسى، وأنزل بعضه (الإنجيل) على عيسى، وأنزل كل القرآن أي بصورة أتم وأكمل على محمد؛ لأن القابل أعظم وأقدر، أي أننا نستطيع القول إن انزال القرآن الأتم والأكمل على غير محمد (صلى الله عليه وآله) أمر غير ممكن، تماماً كمحاولة وضع متر مكعب من الماء في إناء سعته لتر واحد، ولهذا لم يكن انزال القرآن إلا في الوعاء المهيأ والقادر على استقباله، والتوراة والإنجيل هي قرآن أو بعضه، مع أنها مختلفة في محتواها وألفاظها؛ لأنها توصل نفس الحقيقة، وإيصال الحقيقة يمكن أن يتم بألفاظ مختلفة، بل وحتى من خلال معان مختلفة أيضاً، فالمطلوب الأهم هو هذه الحقيقة وليس اللفظ بل ولا حتى المعنى.

                            والحقيقة القرآنية متجلية بمحمد (صلى الله عليه وآله) قبل أن تنزل عليه لفظياً بالقرآن المقروء، بل ومتجلية حتى بأوصيائه (عليهم السلام) وإن كانت بمستوى أدنى، ولهذا فلا إشكال أن يعرف محمد (صلى الله عليه وآله) ما سيقوله جبرائيل )صلوات الله عليه) قبل أن يكمله، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾[القيامة: 16 - 18]، وهذا هو المعنى الحقيقي لحفظهم للقرآن
                            نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                            Comment

                            • ya howa
                              مشرف
                              • 08-05-2011
                              • 1106

                              #15
                              رد: كتاب عقائد الاسلام ويسألونك عن الروح للسيد احمد الحسن ع

                              والتوراة والإنجيل وكل الكتب السماوية، وهو لا يتعارض مع عدم معرفتهم بألفاظها المكتوبة بها في هذا العالم، ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[العنكبوت: 48]، فرسول الله وعلي (صلوات الله عليهما) انتفعا من صحف من التوراة وصلتهما، ولم يكونا يعرفان لفظها بل ولا حتى لغتها، لأن التوراة نزلت بلغة غير العربية، وقد مرّت الروايات في هذا:

                              «.... فأخرجوها ودفعوها إليه فنظر إليها وقرأها وكتابها بالعبراني ثم دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال دونك هذه ففيها علم الأولين وعلم الآخرين وهي ألواح موسى وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك قال يا رسول الله لست أحسن قراءتها قال إن جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه فإنك تصبح وقد علمت قراءتها قال فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شي‏ء فيها فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينسخها فنسخها في جلد شاة وهو الجفر وفيه علم الأولين والآخرين وهو عندنا والألواح وعصا موسى عندنا ونحن ورثنا النبي )صلى الله عليه وآله(»([285]).




                              يسألونك عن الروح





                              يسألونك عن الروح

                              ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾[الإسراء: 85].

                              هذا اللفظ (روح) يطلق على كل مخلوق حي في غير هذا العالم الجسماني. فأنفس الإنس والجن أرواح والملائكة كلها تسمى أرواحاً، وكما أنّ الريح في هذا العالم تحرك الأشياء؛ كذا الأرواح تحرك ما ولجت فيه واندمجت معه.

                              ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[لأعراف: 57].

                              وأول ما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ﴾[الرحمن: 1 - 3]، ثم خلق الخلق من الإنسان الأول، وهذا الإنسان الأول هو تجلي اللاهوت في الخلق وهو العقل الأول والروح الأول المخلوق وهو روح الله ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى: 52].

                              «عَنِ الْأَحْوَلِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الرُّوحِ الَّتِي فِي آدَمَ (عليه السلام) قَوْلُهُ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قَالَ هَذِهِ رُوحٌ مَخْلُوقَةٌ وَالرُّوحُ الَّتِي فِي عِيسَى مَخْلُوقَةٌ» ([286]).

                              «عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَجَّالِ عَنْ ثَعْلَبَةَ عَنْ حُمْرَانَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُوحٌ مِنْهُ قَالَ هِيَ رُوحُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي آدَمَ وَعِيسَى» ([287]).

                              فروح الله أو الروح التي سجد لها الملائكة لما نفخت في طينة آدم المرفوعة وتجلت في صلبه هو الروح الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر: 29]، [صّ: 72]. فالسجود في الآية "فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" إنما هو للروح الأعظم أو محمد (صلى الله عليه وآله)، فهو القبلة الأولى لمعرفة الله سبحانه وتعالى، فلم يكن سجود الملائكة لآدم (عليه السلام) إلا بعد أن نفخ في آدم من الروح الأول محمد (صلى الله عليه وآله)، فالروح الذي يسألون عنه كان يواجههم ويواجهونه في هذا العالم بجسد محمد (صلى الله عليه وآله) ولم يكونوا يعلمون، ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾.

                              «عن جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) : يَا جَابِرُ إِنَّ اللَّهَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ خَلَقَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) وَعِتْرَتَهُ الْهُدَاةَ الْمُهْتَدِينَ فَكَانُوا أَشْبَاحَ نُورٍ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ قُلْتُ وَمَا الْأَشْبَاحُ قَالَ ظِلُّ النُّورِ ([288]) أَبْدَانٌ نُورَانِيَّةٌ بِلَا أَرْوَاحٍ وَكَانَ مُؤَيَّداً بِرُوحٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ فَبِهِ ([289]) كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَعِتْرَتَهُ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ حُلَمَاءَ عُلَمَاءَ بَرَرَةً أَصْفِيَاءَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَيُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ وَيَحُجُّونَ وَيَصُومُونَ» ([290]).
                              خلق النفس الإنسانية:

                              ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾[السجدة: 7].

                              رُفعت طينة آدم من الأرض إلى السماء الأولى ([291]) (عالم الذر)، ثم بث روح الإيمان فيها فتكونت النفس الإنسانية الأولى، ثم بثت روح القدس فيه وأمر الملائكة بالسجود له، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر: 29]، [صّ: 72].

                              وهكذا تكونت النفس الإنسانية الأولى من طينة آدم المرفوعة والروح التي بثت فيها، ثم أخذت من هذه النفس الإنسانية الأولى نفس أخرى شقت منها بقدرة الله سبحانه، وهذه هي النفس الإنسانية الثانية أو نفس حواء )عليها السلام( زوج آدم )عليه السلام( قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء: 1]([292]).

                              وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الأعراف: 189].

                              ثم أُخرجت أنفس الذرية من أنفس آدم وذريته وامتحنهم الله في ذلك العالم، وكان هذا هو الامتحان الأول الذي سبق الامتحان في هذا العالم الجسماني: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف: 172].

                              وبهذا أصبحت كل أنفس بني آدم مركبة من الطينة المرفوعة وتجلي لروح الإيمان وروح القدس أو قل صورة لروح الإيمان وروح القدس، وبهذا فيكون كل إنسان مفطور على أن يصل إلى أعلى المراتب، ومفطور أن يكون مع الملأ الأعلى، ومفطور على معرفة الله، بل ولديه الآلة التي يرتقي بها وهي صورة روح الإيمان وروح القدس، فالمفروض أنه من الصورة المودعة فيه يعرف حقيقته ويصير إليها، ولكن للأسف بعض بني آدم بدل أن ينتفع من هذه الصورة المنعكسة في مرآته؛ يقوم بطمسها ويزري بنفسه إلى أن لا يبقى فيه غير بهيمة الجسم التي يشاركه فيها البهائم والقردة والخنازير، قال تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾[الفرقان: 44].

                              وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾[المائدة: 60].
                              خلق الإنسان وبث النفس في الجسم:

                              الله سبحانه وتعالى بدأ خلق آدم في السماء الأولى (سماء الأنفس)، ولكن لكي يكون آدم وذريته مؤهّلين للنزول إلى الأرض والاتصال بالأجساد، فلابد من رفع الطينة للسماء الأولى وخلق نفس آدم (عليه السلام) وبقية الناس منها، فهذا أمر ضروري؛ حيث إن الروح بثت في هذه الطينة المرفوعة وأصبحت هذه الطينة المرفوعة هي آلة اتصال الروح بالجسد، فالروح لا يمكن أن تمس الجسد لأنهما في - ومن - عالمين مختلفين وبينهما عوالم، فكان لابد من وجود آلة لها وجود في كل مراتب التدرج والعوالم بين السماء الجسمانية والسماء الأولى وعندما يرفع الجسم يكون له هذه المراتب فله أن يتحرك ضمن حدودها. وهكذا، فالطينة التي رفعت (وهي تمثل كل ما في الأرض) أصبح لها هذا المجال في الحركة بين عالمي الأجسام والأرواح، أو لنقل: بين عالم الأجسام عند بداية السماء الأولى وصولاً للتماس بالسماء الثانية، أو لنقل: عالم الأرواح عند بداية السماء الثانية (سماء الروح، والجنة الملكوتية).

                              أيضاً: كانت بداية خلق آدم من طين الأرض ومائها؛ لتحمل نفسه التي ستخلق في السماء الأولى ما في الأرض من قوة وشهوة تؤهله للتكاثر وللعيش في كل بقعة على الأرض وتؤهله ليهيمن على الأرض، فأخذت الملائكة بأمر من الله سبحانه شيئاً من تراب وماء الأرض ورفع إلى السماء الأولى وصب منه جسم آدم اللطيف في السماء الأولى ووضع في الجنة الدنيوية، أي في نهاية السماء الأولى أي في باب السماء الملكوتية (السماء الثانية)، وهي أولى الجنان الملكوتية تمر عليه الملائكة.

                              عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «كانت الملائكة تمر بآدم (عليه السلام) أي بصورته وهو ملقى في الجنة من طين فتقول: لأمر ما خلقت» ([293]).

                              أي ملقى في الجنة الموجودة في السماء الأولى.

                              قال الباقر (عليه السلام) :«فخلق الله آدم فبقي مصوراً يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت» ([294]).

                              ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117].

                              ثم لما تهيأت الأرض لاستقبال آدم (عليه السلام) خليفة الله، نفخ الله روح الإيمان في جسد آدم المثالي الموجود في السماء الأولى، فتكونت النفس الإنسانية الأولى كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ......﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ وهي في مرتبة عالم الأنفس أو السماء الأولى. ثم نفخ في آدم روح القدس كما في قوله تعالى: ﴿..... وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ أي صورناكم على صورة الله كما في التوراة:

                              «26 وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» ([295])، «27 فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم» ([296]).

                              وفي الرواية:

                              عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَمَّا يَرْوُونَ أَنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه فَقَالَ: هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ واصْطَفَاهَا اللَّه واخْتَارَهَا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فَأَضَافَهَا إِلَى نَفْسِه كَمَا أَضَافَ الْكَعْبَةَ إِلَى نَفْسِه والرُّوحَ إِلَى نَفْسِه فَقَالَ: "بَيْتِيَ" "ونَفَخْتُ فِيه مِنْ رُوحِي"»([297]).

                              فأمر الله الملائكة بالسجود له كما في قوله تعالى: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾، فسجد من سجد وتكبر من تكبر فطرد.

                              ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29].

                              ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: 11].

                              ومن ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق نفس حواء (عليها السلام) من نفس آدم (عليه السلام) ([298])، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1]([299])،

                              عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «إن الله تعالى خلق آدم من الطين وخلق حواء من آدم»([300])،

                              ومن ثم أخرج ذريتهما وامتحنهم جميعاً الامتحان الأول في عالم الذر (عالم الأنفس)، وكان الامتحان بسؤال واحد: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]، والآية واضحة ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ أي أنه كان عالم أنفس، فالمتقدم في الامتحان والفائز في السباق هو من يرى ويسمع أولاً ويجيب أولاً.

                              ولما انتهى هذا الامتحان، شاء الله أن يتم ما كان في علمه من انزال آدم (عليه السلام) إلى الأرض وامتحانه فيها، فحصل امتحان آدم (عليه السلام) في السماء الأولى (الجنة الدنيوية) وفشل في الامتحان كما كان مقدّراً له، ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]، فأنزل إلى الأرض هو وأمنا حواء (صلوات الله عليهما) ورزقنا الله شفاعتهما في الدنيا والآخرة.

                              والنص القرآني واضح أن آدم وحواء خلقا وعاشا ابتداءً في الجنة الموجودة في السماء الأولى، وهي جنة دنيوية ولكنها ليست في الأرض بل في السماء الأولى أو عالم الأنفس:

                              قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35].

                              وقال تعالى: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 19].

                              وقال تعالى: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 117 - 121].

                              فالآيات واضحة أن آدم (عليه السلام) لم يكن أرضياً، ولم يخلق في الأرض ابتداءً بل في الجنة في السماء الأولى، وهي غير جنة الخلد ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾، وهذه الجنة ليست كالأرض التي يمكن أن يجوع فيها الإنسان ويعرى ويعطش ويضحى وتؤذيه الشمس والظروف الجوية إذا لم يعمل ويجمع الثمار أو يزرع ويصيد أو يربي الحيوانات ويتخذ احتياطاته لدفع الضرر، إذن هي شيء آخر غير أرضي.

                              ثم لننظر إلى حال آدم المميز في هذه الآيات، وهل يتناسب مع حال الأرض والأجسام فيها، فجسم الإنسان الأرضي إذا لم يغطَ جزءاً منه باللباس سيكون مكشوفاً وأكيداً يراه صاحبه ويراه غيره، ولو كان آدم يلبس لباساً أرضياً فإن هذا اللباس الأرضي لا يصبح معدوماً عندما يعصي الإنسان الله، فلو كان آدم وحواء في الأرض وكانا عاريين من البداية لانتبها إلى حالهما منذ البداية وليس عند المعصية، ولو كانا في الأرض ويلبسان ملابس فلا تختفي عنهما بمجرد المعصية.

                              إذن، فالأمر ليس أرضياً والقصة ليست أرضية، فالأمر كما يذكره الله في القرآن لا يتناسب مع حال الأرض ومن فيها أبداً، بينما لو كان آدم وحواء عند المعصية في الجنة الدنيوية في السماء الأولى فمن الطبيعي أن تبدو لهما سوءاتهما عندما يعصيان وليس قبل ذلك؛ لأن اللباس الذي يستر العورة هناك هو لباس التقوى وهو لباس تلبسه النفس كنتيجة طبيعية لطاعة الله ومخالفة الهوى والشيطان، ولباس التقوى أهم وأفضل من لباس الجسد؛ لأن الله ينظر لنفس وروح الإنسان وما تلبس وليس إلى جسد الإنسان وما يغطيه ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26].

                              وعند المعصية ينزع هذا اللباس وتنكشف عورة الإنسان أمام ربه ([301])، أي إن آدم وحواء (عليهما السلام) كانا يلبسان لباساً منذ البداية في الجنة، كانا يلبسان لباس التقوى ثم نزع عنهما؛ فهما لم يكونا عاريين في البداية وانكشف لهما حالهما الأولي، بل الذي انكشف لهما هو حالهما بعد المعصية ونزع لباس التقوى، ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27].

                              فالآية واضحة أنّ لباس آدم نزع عنه بسبب معصيته؛ ﴿لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا﴾، وهذا اللباس عاد بالاستغفار ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾.

                              والآيات واضحة أن هبوط آدم (عليه السلام) وحواء من الجنة الدنيوية في السماء الأولى إلى الأرض لا يمكن أن يقال إنه هبوط من جنة في هذه الأرض إلى الأرض، ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، فهو هبوط من السماء الأولى إلى السماء الجسمانية وإلى الأرض بالخصوص، والإمام الصادق (عليه السلام) بيّن أنّ آدم طلب الرجوع إلى الجنة التي كان فيها وقد أجابه الله، وهذا يبين بوضوح أنها جنة سيدخلها بعد انفصال نفسه - بالموت - عن هذا الجسد مرة أخرى ويعود كما كان سابقاً.

                              «عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما طاف آدم (عليه السلام) بالبيت مائة عام ما ينظر إلى حواء، ولقد بكى على الجنة حتى صار على خديه مثل النهرين العجاجين العظيمين من الدموع، ثم أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: حياك الله وبياك، فلما أن قال: "حياك الله" تبلج وجهه فرحاً وعلم أن الله قد رضي عنه، ولما قال: "وبياك" ضحك ومعنى بياك أضحكك، قال: ولقد قام على باب الكعبة وثيابه جلود الإبل والبقر، فقال: اللهم أقلني عثرتي واغفر لي ذنبي وأعدني إلى الدار التي أخرجتني منها، فقال الله جل ثناؤه: قد أقلتك عثرتك وغفرت لك ذنبك وسأعيدك إلى الدار التي أخرجتك منها»([302]).

                              هذه قصة خلق آدم (عليه السلام) من الطين المرفوع إلى السماء الأولى ونفخ الروح فيه، فآدم خلق في الجنة الدنيوية الموجودة في السماء الأولى ([303])، فنحن سماويون وقد خلقت أنفسنا من الروح المنفوخ في الطين المرفوع لكي يتم امتحاننا في هذه الأرض، وتتمكن الأنفس من التواصل مع الأجسام الأرضية التي ستكون حيّز امتحانها في هذا العالم الجسماني المادي.
                              النفس والروح والعقل:

                              قد تبيّن أنّ النفس خلقت من تركيب طينة مرفوعة وروح، وبهذا فهي تختلف عن الروح ولكن من جهة التسمية قد تسمى النفس بعض الأحيان روحاً؛ لأنها خلقت من الروح، ولأنها تعكس صورة روح الإيمان وروح القدس. وأيضاً قد تسمى بعض الأحيان الروح نفساً، فالإنسان مركب من الجسد ومحرك الجسد الغائب عن الأبصار، فهذا المحرك من حيث إنه متصل بالجسد قد يسمى نفساً وإن كان مرتقياً وله روح قدس، ومن حيث إنه محرك للجسد ومن حيث إنه تجلي من الملكوت الأعلى (أي من الروح الحقيقي) قد يسمى روحاً، وإنْ كان غير مرتقي وليس له روح إيمان ولا روح قدس.

                              والحق إنه ليكون للإنسان روح حقيقي لابد أنْ يكون له حظ ووجود في السماء الملكوتية الثانية على الأقل؛ لأنها أول الجنات الملكوتية.

                              وأيضاً: نفس هذا المحرك من حيث إنه تجلي العقل (السماء السابعة) يسمى عقلاً، والحق إنه ليكون للإنسان عقل حقيقي لابد أنْ يكون له حظ ووجود في السماء السابعة.
                              النفس:

                              البداية كانت أن روح قدس وروح إيمان جمعت مع طينة مرفوعة فخلقت النفس الإنسانية الأولى، ثم جاءت الأنفس الإنسانية الأخرى من هذه النفس الأولى، فالأنفس الأخرى عبارة عن صورة للنفس الإنسانية الأولى، فيظهر فيها الطين وما فيه من شهوات وقوى مادية، ويظهر فيها روح الإيمان وروح القدس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[الشمس: 7 - 10].

                              فلكل إنسان نفس وهذه النفس في هذا العالم المادي عبارة عن مرآة تنعكس فيها روح الإيمان وروح القدس، ولهذه النفس ثلاثة أرواح هي: (روح الحياة والقوة والشهوة)، وكل من هذه الأرواح هي النفس الإنسانية من حيث إنها متوجهة بهذا الاتجاه وعاملة لهذا العمل، فلو صورنا النفس على أنها معمل لكانت كل روح من هذه الأرواح شيئاً في هذا المعمل ويكمل بعضها بعضاً وبجميعها ينتج المعمل. فمثلاً تكون روح الحياة هي الطاقة الكهربائية في المعمل، وروح القوة هي المحركات التي تدار بواسطة الطاقة الكهربائية أو روح الحياة، أما روح الشهوة فتكون الآلات التي تدار بواسطة المحركات.

                              والنفس بحد ذاتها لا تعني أنّ للإنسان روحاً حقيقياً، فالروح الحقيقي يبدأ من السماء الثانية أي لابد أنْ تكون النفس مرتقية إلى السماء الثانية حتى يكون لها روح حقيقي. نعم، هي يمكن أنْ تسمى روحاً حتى في السماء الأولى؛ باعتبار تجليها من الملكوت الأعلى أو الروح الحقيقي، وباعتبار أنها وبأرواحها الثلاثة (روح الحياة والقوة والشهوة) محرك الجسد، كما أنَّ ارتقاء الإنسان وعلو مقامه مهما كان لا يسلب محرك الجسد هذا الاسم - أي النفس -، فحتى لو كان للإنسان حظ في السموات الملكوتية بل وفي السابعة الكلية (سماء العقل) كالأنبياء والأوصياء والأولياء (عليهم السلام)؛ يمكن أنْ نقول عن المحرك بأنه نفس الإنسان؛ لأنّ هذا الاسم باعتبار حاله وأنه خلق من الطين المرفوع والروح.

                              والنفس الإنسانية النازلة بمثابة مرآة منعكسة فيها روح الإيمان وروح القدس أو الحقيقة التي على الإنسان أنْ يصير إليها، وهذه هي الفطرة الإنسانية التي تحثه إلى أنْ يرتقي ليصل إلى أعلى مقام إنساني، فإنْ تعثر في طريقه وهو يطلب الارتقاء بإخلاص فهو يصل إلى المقام الذي يوفقه الله له فيعرف ربه بحسب حاله، فالمطلوب من الإنسان أنْ يرتقي بنفسه لمقام الروح الحقيقي والعقل، فمن لم يرتقِ إلى السماء الثانية فما عنده إنما هو ظل الروح، وكذا الأمر بالنسبة للعقل؛ فما دام الإنسان لم يرتقِ إلى السماء السابعة الكلية فما عنده هو ظل العقل وليس عقلاً، أما تسميتها أحياناً )روح وعقل( فباعتبار أنها تعكس الروح والعقل الحقيقي.

                              «عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ )عليه السلام يَا جَابِرُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فَالسَّابِقُونَ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ (عليهم السلام) وَخَاصَّةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ جَعَلَ فِيهِمْ ([304]) خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ أَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَبِهِ عَرَفُوا الْأَشْيَاءَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْإِيمَانِ فَبِهِ خَافُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُوَّةِ فَبِهِ قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الشَّهْوَةِ فَبِهِ اشْتَهَوْا طَاعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَرِهُوا مَعْصِيَتَهُ وَجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِهِ يَذْهَبُ النَّاسُ وَيَجِيئُونَ وَجَعَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ رُوحَ الْإِيمَانِ فَبِهِ خَافُوا اللَّهَ وَجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْقُوَّةِ فَبِهِ قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِهِ اشْتَهَوْا طَاعَةَ اللَّهِ وَجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِهِ يَذْهَبُ النَّاسُ وَيَجِيئُونَ» ([305]).

                              و«عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) :قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ عِلْمِ الْعَالِمِ فَقَالَ لِي يَا جَابِرُ إِنَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ رُوحَ الْقُدُسِ وَرُوحَ الْإِيمَانِ وَرُوحَ الْحَيَاةِ وَرُوحَ الْقُوَّةِ وَرُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِرُوحِ الْقُدُسِ يَا جَابِرُ عَرَفُوا مَا تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ إِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَرْوَاحٌ يُصِيبُهَا الْحَدَثَانُ إِلَّا رُوحَ الْقُدُسِ فَإِنَّهَا لَا تَلْهُو وَلَا تَلْعَبُ» ([306]).

                              و«عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ عِلْمِ الْإِمَامِ بِمَا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ مُرْخًى عَلَيْهِ سِتْرُهُ فَقَالَ يَا مُفَضَّلُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ فِي النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ رُوحَ الْحَيَاةِ فَبِهِ دَبَّ وَدَرَجَ وَرُوحَ الْقُوَّةِ فَبِهِ نَهَضَ وَجَاهَدَ وَرُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِهِ أَكَلَ وَشَرِبَ وَأَتَى النِّسَاءَ مِنَ الْحَلَالِ وَرُوحَ الْإِيمَانِ فَبِهِ آمَنَ وَعَدَلَ وَرُوحَ الْقُدُسِ فَبِهِ حَمَلَ النُّبُوَّةَ فَإِذَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) انْتَقَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَصَارَ إِلَى الْإِمَامِ وَرُوحُ الْقُدُسِ لَا يَنَامُ وَلَا يَغْفُلُ وَلَا يَلْهُو وَلَا يَزْهُو وَالْأَرْبَعَةُ الْأَرْوَاحِ تَنَامُ وَتَغْفُلُ وَتَزْهُو وَتَلْهُو وَرُوحُ الْقُدُسِ كَانَ يَرَى بِهِ» ([307]).
                              الروح:

                              إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الناس أول ما خلقهم في عالم الذر )السماء الأولى أو سماء الأنفس)، وفي هذه السماء كانت هذه الأنفس الإنسانية وبها هذه الأرواح الثلاثة (روح الحياة وروح القوة وروح الشهوة) أو المحركات الثلاثة، والحق إنها حيثيات للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا إلى النفس الإنسانية سنجدها هي نفسها روح الحياة وروح القوة وروح الشهوة.

                              أو بصورة أكثر وضوحاً؛ إنّ هذه الأسماء هي للنفس الإنسانية باعتبار أنها تتصف بصفة هذه الأسماء، وهذه الأرواح الثلاثة هي للنفس الإنسانية بغض النظر عما إذا كانت مؤمنة أم لا.

                              أما روح الإيمان وروح القدس فهي متعلقة بالإيمان والرقي (مستوى الإيمان). وفي عالم الذر؛ الذين قالوا )بلى) والذين لم يقولوا كلهم لهم الأرواح الثلاثة. والذين قالوا )بلا( عن إيمان قلبي حقيقي فهم بحسب مقاماتهم وسرعة إجابتهم يتدرجون، فمنهم من له روح الإيمان فقط ومنهم من له روح القدس، والذين لهم روح القدس هم أيضاً يتدرجون بحسب سبقهم في الإجابة، وكل منهم له روح قدس تناسب مقامه فروح القدس المقترن بعيسى (عليه السلام) غير المقترن بيونس (عليه السلام) وهكذا....

                              ويختص محمد وآل محمد (عليهم السلام) باقترانهم بروح القدس الأعظم، ولكن أيضاً روح القدس الأعظم ليس مرتبة واحدة، فكل منهم بحسب مقامه يكون روح قدسه الأعظم.
                              روح الإيمان وروح القدس:

                              السماء الدنيا تشمل:

                              السماء الجسمانية (وقد تسمى الأرض مقارنة بالسماوات الأخرى).

                              والسماء الأولى وهي ملكوت السماء الجسمانية المرتبط بها ارتباطاً مباشراً وهو ارتباط تدبير وتسيير.

                              وفي السماء الأولى مراتب كثيرة، ونفس أي إنسان موجودة فيها بحسب مقامها ومرتبتها، فالنفس المقتصر وجودها على أدنى مراتب هذه السماء حظها هو ادراك ظاهر ما في هذا العالم الجسماني في هذه الحياة الدنيا، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[الروم: 7].

                              والنفس التي ترتقي إلى أعلى مرتبة في هذه السماء؛ تكون قد تهيأت لترتقي إلى السماء الملكوتية الثانية، وهي أول الجنان الملكوتية، ومن كان له حظ فيها يكون من أهل الجنة في الآخرة.

                              والنفس الإنسانية إذا ارتقت إلى أدنى مرتبة في السماء الملكوتية الثانية؛ يقترن بها ويكون فيها روح الإيمان أي أنّ حقيقة هذه النفس تتبدل وتتغير بتجلي نور الإيمان فيها، وهكذا نفس يكون فيها أربع أرواح هي: (روح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح الإيمان).

                              وروح الإيمان مراتب كثيرة تمتد من أول السماء الثانية حتى نهاية السماء السادسة، وكل إنسان مؤمن بحسب عمله وإخلاصه يكون مقامه في هذه السماوات ويكون روح إيمانه.

                              ثم إنّ النفس إذا ارتقت إلى أدنى مرتبة في السماء السابعة؛ يقترن بها ويكون فيها روح القدس، وكلما ارتقت النفس أكثر كان روح القدس المقترن بها أعظم. وهذه السماء السابعة هي سماء العقل، فكلما كان روح القدس في النفس المرتقية إلى هذه السماء أعظم كان العقل أفضل وأكبر، وكما بيّنت فيما مضى في "المتشابهات"؛ أنّ أدنى مراتب العقل تبدأ من هذه السماء السابعة الكلية، أما ما دونها وحتى في السماء السادسة الملكوتية فهو ظل العقل وليس بعقل.

                              وهكذا مع ارتقاء النفس تتغير وتتبدل حقيقتها، فمع دخولها السماء الملكوتية الثانية يقترن بها روح الإيمان ويبدأ ظل العقل يتوجه إلى نور العقل.

                              ومع دخولها السماء السابعة يقترن بها روح القدس والعقل، ولا يبعث نبي من الأنبياء (عليهم السلام) حتى يكون له مقام في السماء السابعة الكلية، وبهذا يكون قد استكمل العقل الذي هو سبب للعصمة، وأيضاً اقترن بنفسه روح القدس.

                              «قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله) : مَا قَسَمَ اللَّه لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ وإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ ولَا بَعَثَ اللَّه نَبِيّاً ولَا رَسُولاً حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ ويَكُونَ عَقْلُه أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِه ومَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فِي نَفْسِه أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ ومَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللَّه حَتَّى عَقَلَ عَنْه ولَا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ والْعُقَلَاءُ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: "ومَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ"» ([308]).
                              نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقـُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا...

                              Comment

                              Working...
                              X
                              😀
                              🥰
                              🤢
                              😎
                              😡
                              👍
                              👎