إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • راية اليماني
    مشرف
    • 05-04-2013
    • 3021

    سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة



    السلام عليك
    يا سيد الصابرين
    يا أبا العُبّاد
    يا مكبّلاً بالحديد
    يا كاظم الغيظ
    يا صاحب الحِلم و العِلم
    يا أبا الحسن
    يا ابن جعفر
    يا أيها العبد الصالح




    سيرة الإمام المعذّب في قعر السجون الإمام الصابر موسى بن جعفر عليهما السلام

    بقلم
    د. حسين إبراهيم الحاج حسن

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أيها الإمام العظيم الذي بعثت روح الجهاد في الأجيال.

    أيها الإمام الكريم يا من تستحق كل الكلمات المخضبة بالخير والحق، والعابقة بأريج العطاء.

    آل النبي ذريعـتي وهـم إليه وسـيلتي


    أرجـو بهم أعطى غداً بيدي اليمـين صحيفتي

    الوليد المبارك


    عاش الإمام الصادق (عليه السلام) مع زوجته حميدة حياة بيتية هادئة حافلة بالمودّة والمسّرات. وفي فترات تلك المدة السعيدة عرض لها حمل وسافر الإمام أبو عبد الله إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فحمل زوجته معه للاطمئنان على صحتها في تلك الفترة. وبعد الانتهاء من مراسم الحج قفلوا راجعين إلى المدينة المنورة، فلما انتهوا إلى الأبواء أحست حميدة بالطلق، فأرسلت خلف الإمام (عليه السلام) تخبره بالأمر، وكان عند ذلك يتناول طعام الغذاء مع جماعة من أصحابه، فلما وافاه النبأ السعيد قام مبادراً إليها، فلم يلبث قليلاً حتى وضعت حميدة سيّداً من سادات المسلمين، وإماماً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

    إنه يوم سعيد، يوم مشرق أشرقت به الدنيا بهذا المولود المبارك فكان باراً بالناس، عاطفاً على الفقراء منهم، لكنه كان أكثرهم عناءً وأكثرهم محنة في سبيل الله.

    بادر الإمام الصادق (عليه السلام) فتناول وليده الذي يأمل به أملاً باسماً فأجرى عليه مراسم الولادة الشرعيّة، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وما زالت هذه الطريقة تُحتذى عند جميع المسلمين المؤمنين.

    لقد كانت أول كلمة طيّبة قرعت سمعه كلمة التوحيد التي تتضمن الإيمان بكل ما له من معنى.

    عاد الإمام الصادق إلى أصحابه والبسمة تعلو ثغره، فبادره أصحابه قائلين: (سرّك الله، وجعلنا فداك، يا سيدنا ما فعلت حميدة؟) فبشّرهم بمولوده المبارك قائلاً لهم: (لقد وهب الله لي غلاماً، وهو خير من برأ الله).

    أجل انه من أئمة أهل البيت المعصومين، وخير من برأ الله علماً وتقوى وصلاحاً في الدين، وهذا ما أحاط به الإمام الصادق أصحابه علماً بأنه الإمام الذي فرض الله طاعته على عباده قائلاً لهم:

    (فدونكم، فوالله هو صاحبكم).

    وكانت ولادته في الأبواء سنة 128هـ وقيل سنة 129هـ وذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.

    وقال الطبرسي رحمه الله: ولد أبو الحسن موسى (عليه السلام) بالأبواء، منزل بين مكة والمدينة لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة.

    تكريم الوليد

    بعد فترة وجيزة ارتحل أبو عبد الله عن الأبواء متجهاً إلى يثرب وفور وصوله مدّ المائدة، وأطعم الناس ثلاثة أيام تكريماً لوليده المبارك (الكاظم) وبدأت وفود من شيعته تتوافد عليه لتهنئته بمولوده، وتشاركه في فرحته الكبرى.

    طفولته زاكية مميّزة

    تدرّج الإمام موسى بن جعفر في طفولة زاكية مميزة، فتربّى في حجر الإسلام، ورضع من ثدي الإيمان، وتغذى من عطف أبيه الإمام الصادق، حيث أغدق عليه أشعة من روحه الطاهرة وأرشده إلى عادات الأئمة الشريفة وسلوكهم النيّر، فالتقت في سنّه المبكر جميع عناصر التربية الإسلامية السليمة، حتى أحرز في صغره جميع أنواع التهذيب والكمال والأخلاق الحميدة، ومن شبّ على شيء شاب عليه. هذه الطفولة المميزة استقبلها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو ناعم البال بحفاوة وتكريم خاص؛ فأبوه أغدق عليه عطفاً مستفيضاً، وحمل له من الحب ما لا يحمله لغيره، حيث قدّمه على بقية ولده، فاندفع قائلاً: (الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء) ونتيجة هذا الحب الأبوي المميز أخذت جماهير المسلمين تقابل الإمام موسى بالعناية والتكريم، وجماهير الشيعة بصورة خاصة، لأنّهم يعتقدون أن مقام الإمامة كمقام النبوة، بعيداً عن المحاباة، سوى ما يتصل بتأييد الفضيلة والإشادة بالإيمان، وعلى ضوء ذلك أعلن الإمام الصادق حبّه الكبير ومودته الوثيقة لولده الحبيب لأنه رأى فيه ملامح صادقة عنه، ومواهب مبكرة، وعبقرية خاصة، تؤهله لمنصب الإمامة على أمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله).


    أوصافه

    وصف رواة الأثر ملامح صورة الإمام موسى بن جعفر فقالوا: كان أسمر اللون، وقالوا: كان ربع القامة، كثّ اللحية، حسن الوجه، نحيف الجسم.

    أما عن صفاته الخلقية: فهو ابن الأوصياء، حاكي في هيبته ووقاره هيبة الأنبياء، فما رآه أحد إلا هابه وأكبره لجلالة قدره، وسموّ مكانته، وحسن سيرته، وكريم أخلاقه.

    ومرّة التقى به شاعر البلاط العباسي أبو نواس فانبهر بأنواره فانطلق يصوّر هيبته ووقاره بأبيات قال فيها:

    إذا أبصرتك العين من غير ريبة وعارض فيك الشـك أثبتك القلب

    ولو أن ركـباً أممـوك لقادهم نسيـمك حــتى يستدل بك الركب

    جعلتك حـسبي فـي أموري كلها وما خاب من أضـحى وأنت له حسب


    ولا يخفى أن هذه الأبيات كانت يقظة من يقظات الضمير، ونسمة علوية من نسيمات الروح، ذلك أن أبا نواس الذي كان يعيش على موائد بني العباس، والذي قضى معظم أيام حياته في اللهو المجون، قد انبرى إلى هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان يمدح أهل البيت ينال عقوبة كبرى قد تؤدي به إلى الموت! لكن مثالية الإمام وواقعيته التي لا ندّ لها في عصره، قد سيطرت على روح الشاعر العباسي وأنسته النتائج.

    كنيته وألقابه

    كان يكنّى بعدة أسماء أشهرها: أبو الحسن، قال الشيخ المفيد: كان يكنّى أبا إبراهيم، وأبا الحسن، وأبا علي، ويعرف بالعبد الصالح.. وقال ابن الصباغ المالكي: أما كنيته فأبو الحسن، وألقابه كثيرة أشهرها: الكاظم، ثم الصابر، والصالح، والأمين، وألقابه تدل على مظاهر شخصيته، ودلائل عظمته، وهي عديدة منها: الزاهر، لأنه زهر بأخلاقه الشريفة، وكرمه الموروث عن جدّه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).

    قال ابن شهر آشوب عند ذكره لألقابه: (... والزاهر وسمي بذلك لأنه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التام).

    والكاظم: لقب بذلك لما كظمه عما فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق... ويقول ابن الأثير (إنه عرف بهذا اللقب لصبره ودماثة خلقه، ومقابلته الشرّ بالإحسان).

    والصابر: لأنه صبر على الخطوب والآلام التي تلقـــاها من حكـــام الجـــور والطغـــاة، الذين قابلوه بجميع ألوان الإساءة والمكروه.

    والسيّد: لأنه من سادات المسلمين، وإمام من أئمتهم.

    والوفي: لأنه أوفى الإنسان في عصره، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته، وبارّاً حتى بأعدائه والحاقدين عليه.

    ذو النفس الزكية: لقّب بهذا اللقب اللطيف لصفاء ذاته، ونقاوة سريرته البعيدة كل البعد عن سفاسف المادة، ومآثم الحياة، نفس أبيّة زكيّة، طاهرة، كريمة، سمت وعلت حتى قلّ نظيرها.

    باب الحوائج: هذا اللقب كان من أشهر ألقابه ذكراً، وأكثره شيوعاً، انتشر بين العام والخاص، حتى أنه ما أصاب أحدهم مكروه إلا فرّج الله عنه بذكره الإمام الكاظم، وما استجار بضريحه أحد إلا قضيت حوائجه، ورجع مثلوج القلب، مستريح الضمير ممّا ألّم به من طوارق الزمن التي لابدّ منها.

    وقد آمن بذلك جمهور المسلمين على اختلاف مذاهبهم.

    يقول أبو علي الخلال شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي: (ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب).

    وقال الإمام الشافعي: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرّب).

    كان الإمام موسى الكاظم في حياته ملجأ لعموم المسلمين، كما كان كذلك بعد موته حصناً منيعاً لمن استجار به من عموم المسلمين، لأن الله سبحانه وتعالى عزّ اسمه منحه حوائج المسلمين المستجيرين بضريحه الطاهر في بغداد.

    وقد روى الخطيب البغدادي قضية كان فيها شاهد عيان، عندما شاهد امرأة مذهولة، مذعورة، فقدت رشدها لكثرة ما نزل بها من الهموم، لأنها أخبرت أن ولدها قد ارتكب جريمة، وألقت عليه السلطة القبض وأودعته في السجن ينتظر الحكم القاسي والظالم. فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام مستجيرة به، فرآها بعض الأوغاد، الذي لا يخلو الزمان منهم، فقال لها: إلى أين؟

    ـ إلى موسى بن جعفر، فإنّه قد حُبِس ابني.

    فقال لها بسخرية واستهزاء: (إنه قد مات في الحبس).

    فاندفعت تقول بحرارة بعد أن لوّع قلبها بقوله:

    (اللّهم بحق المقتول في الحبس أن تريني القدرة).

    فاستجاب الله دعاءها، وأطلق سراح ابنها، وأودع ابن المستهزئ بها في ظلمات السجن بجرم ذلك الشخص.

    فالله سبحانه وتعالى القادر العليم والقاهر العظيم قد أراها القدرة لها ولغيرها، كما أظهر كرامة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، فما خاب من دعاهم، وما فشل من استجار بهم. ثم يروي الخطيب البغدادي عن محنة ألّمت به فاستجار بالإمام موسى وكشف عنه الهمّ والغمّ. فيقول: (وأنا شخصيّاً قد ألّمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي، ففزعت إلى ضريح موسى بن جعفر بنيّة صادقة، ففرّج الله عنّي، وكشف ما ألّم بي.

    ولا يَشِكّ في هذه الظاهرة التي اختصّ بها الإمام إلا من ارتاب في دينه وإسلامه.

    لقد آمن جميع المسلمين الأبرار بالأئمة الأطهار منذ فجر التاريخ ولم يزالوا يعتقدون اعتقاداً راسخاً في أن أهل البيت (عليهم السلام) لهم المقام الكريم عند الله، وإنه يستدفع بهم البلاء، وتستمطر بهم السماء.

    روى الكليني عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: تقول ببغداد: (السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا حجة الله، السلام عليكَ يا نور الله في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا لله في شأنه، أتيتك عارفاً بحقك معادياً لأعدائك فاشفع لي عند ربّك) وادع الله وسلْ حاجتك، قال: وتسلّم بهذا على أبي جعفر (عليه السلام).

    ولا ننسى قصيدة الفرزدق العصماء التي ندرّسها لطلاّبنا في المدارس والجامعات التي مدح بها الإمام زين العابدين وقال فيها:

    من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتصم

    يستدفع السوء والبلوى بحبهم ويستزادُ به الإحسان والنعم


    فالله عزّ وجلّ منح أهل البيت جميل ألطافه، وخصّهم بالمزيد من كراماته، أحياءً وأمواتاً.

    ونذكر هنا كوكبة من الشعراء والأدباء قد أثقلت كواهلهم كوارث الدهر ففزعوا إلى ضريح الإمام متوسلين به إلى الله تعالى في رفع محنهم، وكشف ما ألّم بهم من المكروه، ففرّج الله عنهم ولو أردنا أن نذكر ما أثر عنهم في ذلك لبلغ مجلداً ضخماً.

    لكنا نذكر بعضاً منهم الحاج محمد جواد البغدادي الذي سعى إلى ضريح الإمام في حاجة يطلب قضاءها فقال:

    يا سميّ الكليم جئتك أسعى نحـو مغناك قاصداً من بلادي

    ليس تُقضى لنا الحـوائج إلا عند باب الرجاء جد الجواد


    فجاء عباس البغدادي وخمسها بقوله:

    لــــم تــــــزل لـــــلأنام تحــــسن صنعا وتجــــــــير الــــــــذي أتــــاك وترعى

    وإذا ضــــــاق الفــــــضا بــــــي ذرعـاً يا ســــــميّ الكــــــليم جئـــــتك أسعى

    والهــــــــوى مــــــــركبي وحبّك زادي

    أنـــــت غـــــيث للمجــــــدبين ولــــولا فــــــيض جــــــدواكم الوجود اضمحلا

    قــــــسمـــاً بـــــــالذي تـــــعالى وجــلا ليـــــس تُـــــقضى لـــنا الــــحوائج إلا

    عـــــــند بــــــاب الـــــرجاء جد الجواد


    وممن نظم في ذلك الشاعر المرحوم السيد عبد الباقي العمري فقال:

    لــــــذ واســــــتجر مــــــتــــوســــــــلاً إن ضـــــــاق أمـــــــرك أو تـعـــــــسّر

    بـــــأبي الــــــرضا جـــــــــد الجـــــــوا د مــــــحمد مــــوسى بــن جعفر

    نقش خاتمه

    يدل نقش خاتمه على مدى تعلّقه بالله عزّ وجلّ، ومدى انقطاعه إليه سبحانه وتعالى فكان: (الملك لله وحده).

    ويا ليت مجتمع عصره ومجتمع عصرنا اليوم يعقلون هذا الشعار، ويعملون به، لزال الطمع والجشع وحب التملك لهذه الدنيا الفانية، ولضعف وهج الأنانية، ووهنت جاذبيتها في نفوسهم.

    أبناؤه
    شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أنجب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ذرية طاهرة من نسل طيّب، فكانوا من خيرة أبناء المسلمين في عصره يتصفون بالتقوى والورع والخير والصلاح والابتعاد عن مآثم الحياة وأباطيلها.

    لقد أنشأهم الإمام نشأة دينية خالصة، ووجّههم وجهة صحيحة سليمة، وسكب في نفوسهم الإيمان بالله، والتفاني في سبيل العقيدة، والعمل على قول كلمة الحق، والقيام بها مهما كلّف الثمن. قال ابن الصباغ: (إن لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضلاً مشهوداً).

    اختلف النسابون في عدد أولاد الإمام موسى الكاظم اختلافاً كثيراً منهم من قال: ثلاثة وثلاثون، الذكور منهم 16 والإناث 17.

    ومنهم من قال: سبعة وثلاثون، الذكور 18 والإناث 19.

    ومنهم من قال: ثمانية وثلاثون، الذكور 20 والإناث 18.

    وقال الطبرسي: كان له سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى. علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم والعباس والقاسم من أمهات متعددة.

    وأحمد، ومحمد، وحمزة من أم واحدة.

    وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن من أم واحدة.

    وعبد الله، وإسحاق، وعبيد الله، وزيد، والحسن، والفضل، وسليمان من أمهات متعددة.

    وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، ومكية، وأم أبيها، ورقية الصغرى وكلثم، وأم جعفر، ولبانة، وزينب، وخديجة وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات متعددة.

    وكان أحمد بن موسى كريماً ورعاً وكان الإمام يحبّه فوهب له ضيعته المعروفة باليسيرية، ويقال أنه أعتق ألف مملوك.

    وكان محمد بن موسى (عليه السلام) شجاعاً كريماً، وتقلّد الإمرة على اليمن في عهد المأمون من قبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الذي بايعه أبو السرايا في الكوفة ومضى إليها ففتحها وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، وأخذ الأمان من المأمون.

    ولكل واحد من أبناء أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضل ومنقبة وكان الرضا مشهوراً بالتقدم ونباهة القدر، وعظم الشأن، وجلالة المقام بين الخاص والعام.

    إخوانه (عليهم السلام)

    لقد ذكرت عن إخوانه (عليه السلام) في كتاب (الإمام الصادق عطرة النبوة ومنهج حياة) في باب أولاد الإمام الصادق، ولكن سوف نورد باختصار عنهم حتى لا يخلو هذا الكتاب من ذكرهم العطر.

    1ـ إسماعيل بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر أولاده، وكان الإمام الصادق يحبّه حباً جمّاً. قال الشيخ المفيد: إنه مات في حياة أبيه بالعريض، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن بالبقيع؛ روي أن أبا عبد الله حزن عليه حزناً شديداً، وأمر بوضع سريره على الأرض عدة مرات قبل دفنه، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه، ويريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنهم في حياته.

    2ـ عبد الله بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر إخوانه بعد إسماعيل.

    3ـ علي بن جعفر (عليه السلام): هو المحدث المشهور صاحب المسائل، عن أخيه موسى (عليه السلام)، عاش دهراً طويلاً حتى أدرك الإمام الجواد (عليه السلام).

    قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رضوان الله عليه: علي بن جعفر أخو موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام)، جليل القدر، ثقة، له كتاب المناسك ومسائل لأخيه موسى الكاظم بن جعفر (عليهم السلام) سأله عنها.

    4ـ إسحاق بن جعفر (عليه السلام): الملقب بالمؤتمن، زوج السيّدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن السبط (عليه السلام) صاحبة الروضة المشهورة بالقاهرة المعروفة بالست نفيسة؛ سافر مع زوجته إلى مصر وأقام بالفسطاط.

    قال الشيخ المفيد: كان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد، قد روى عنه الناس الحديث والآثار وكان ابن كاسب يقول إذا حدث عنه: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام).

    5ـ عباس بن جعفر: قال الشيخ المفيد: كان العباس بن جعفر رحمه الله فاضلاً نبيلاً.

    6ـ محمد بن جعفر (عليه السلام): من الزهّاد والعبّاد، كان يسكن مكة ويروي بها الأحاديث، وفي أيام ظهور الفتنة بين الأمين والمأمون خرج في مكة وادعى الخلافة، أرسل إليه المأمون جيشاً بإمارة الجلودي، فلما وصل جيش المأمون مكة خلع نفسه وبايع المأمون. ثم سافر إلى خراسان وأقام بمرو، ولما وصل المأمون جرجان قتله بالسم وكان قبره معروفاً بجرجان في القرن الرابع الهجري.

    بوّابه
    هو محمد بن الفضل، وفي المناقب: المفضل بن عمر.

    شاعره

    السيد الحميري.

    ملوك عصره

    1ـ المنصور 754م - 775م.

    2ـ المهدي: 775م - 785م.

    3ـ الهادي: 785م - 786م.

    4ـ هارون الرشيد: 786م - 809م.


    مدة إمامته
    خمس وثلاثون سنة.

    النص عليه بالإمامة

    أجمعت الروايات بالنص عليه بالإمامة من الله تعالى، كخبر اللوح، وأن الإمام لا يكون إلا الأفضل في العلم والزهد والعمل، وأنه معصوم كعصمة الأنبياء (عليهم السلام).

    والنصوص المروية على إمامته عن أبيه أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قد رواها شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته، وثقاته الفقهاء الصالحون رضوان الله عليهم.

    قال محمد بن الوليد: سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لجماعة من خاصته، وأصحابه: استوصوا بابني موسى خيراً، فإنه أفضل ولدي، ومن أخلّفه من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي.

    وروى منصور بن حازم، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأبي أنت وأمي، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسي، وعبد الله بن جعفر جالس معنا).

    وقال سليمان بن خالد: دعا أبو عبد الله أبا الحسن يوماً، ونحن عنده، فقال لنا: عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي.

    ومن الغريب ما يدعيه غير الشيعة من أن النبي (صلّى الله عليه وآله) مات ولم يوص إلى أحد من بعده يقوم مقامه ويسد فراغه، فترك الأمة من بعده بلا إمام يدير أمرها، ويجمع شملها، ويرشد ضالها، ويقيم لها الحدود، ويقوّم الاعوجاج، ويوضح السنن. وقد أجمعت الأمة على أنه (صلّى الله عليه وآله) كان يستخلف على المدينة إذا أراد سفراً، ولا يرسل جيشاً حتى يعيّن له قائداً، وربما عيّن لجيوشه أكثر من قائد.

    ولو أنصف الناس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لاكتفوا بنص الغدير وحده ـ دون غيره من النصوص الكثيرة ـ فقد شهد جل المسلمين بيعة يوم الغدير، وشاهدوا بأم أعينهم المراسم التي أجراها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم، وما نزل من القرآن الكريم.

    ومن العجيب أيضاً أن تنسى الأمة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ذلك اليوم والعهد قريب، والرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد لما يقبر، والشهود حضور.

    وكيفما كان فالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده المنصوص عليه بالخلافة من قبل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وكذلك أولاده عليهم أزكى الصلاة وأفضل السلام.

    وقد التزم الأئمة (عليهم السلام) في نص بعضهم على بعض، السابق على اللاحق والوالد على ولده، إقامة للحجة، وإعذاراً للأمة.


    هارون الرشيد يعترف بإمامة الكاظم (عليه السلام)

    قال المأمون: كنت أجرأ ولد أبي عليه، وكان المأمون متعجباً من إكبار أبيه لموسى بن جعفر وتقديره له. قال: قلت: لأبي: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟

    قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

    فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم.
    Last edited by راية اليماني; 25-05-2014, 11:14.
  • راية اليماني
    مشرف
    • 05-04-2013
    • 3021

    #2
    رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

    مناقب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بحر زاخر لا يمكن حصره أو الخوض فيه إلى النهاية، لكننا سوف نذكر بعض هذه المناقب الكريمة على سبيل الذكر لا الحصر؛ من هنا كان قول محمد بن صلحة:

    (أما مناقبه فكثيرة، ولو لم يكن منها إلا العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة).


    1ـ العلم

    فقد روى عنه العلماء أكثر فنون العلم من علم الدين وغيره ممّا ملأ بطون الكتب، وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنهم بالأسانيد المتصلة.

    جاء في تحف العقول عن الحسن بن علي بن شعبة قال أبو حنيفة:

    حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز انتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت: يا غلام ممن المعصية؟ فقال: أن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث:

    أ. إما أن تكون من الله وليست منه فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب.

    ب. وإما أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف.

    ج. وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته.

    قال أبو حنيفة فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله، واستغنيت بما سمعت.

    قال الشيخ المفيد في الإرشاد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): أكثر الناس في الرواية عنه، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتاً بتلاوة القرآن.

    وقال علي بن شعبة الحراني في تحف العقول: سأل رجل موسى بن جعفر عن الجواد فقال: إن كنت تسأل عن المخلوقين فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه والبخيل من بخل بما افترض الله، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، أعطاك لأنه إن أعطاك ما ليس لك وإن منعك منعك ما ليس لك.


    2ـ الحلم

    جاء في مقاتل الطالبيين قال أبو الفرج بسنده عن يحيى بن الحسن: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين إلى المائة دينار. وكانت صرار موسى مثلاً شائعاً بين الناس.

    وجاء في الإرشاد للشيخ المفيد: أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد عن جده عن غير واحد من أصحابه ومشايخه أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً. فقال له بعض أصحابه: دعنا نقتله. فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر. وسأل عن العمري فذكر له انه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا! فتوطأه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده، وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك؟ قال له: مائة دينار، قال الإمام: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: أنا لا اعلم الغيب. قال: إنما قلت لك كم ترجو إن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار فأعطاه الإمام (عليه السلام) ثلاثمائة دينار. وقال: هذا زرعك على حاله فقام العمري وقبل رأسه وانصرف. فراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته. فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قال كنت تقول خلاف هذا فخاصمهم وشاتمهم وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلما دخل وخرج، فقال أبو الحسن موسى لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار.


    3ـ التواضع ومكارم الأخلاق

    مر برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه، ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج؟ فقال (عليه السلام): عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه، ثم قال:

    نــــواصل مــــــن لا يســــتحق وصالنا مخــــــافة أن نــبقى بغير صديق


    وروي عن الحسن بن علي بن حمزة عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق.

    فقلت جعلت فداك، أين الرجال؟!

    قال: يا علي قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي.

    فقلت: ومن هو؟

    فقال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين.


    4ـ عبادته (عليه السلام)

    لقد شهدت له ألقابه على حسن عبادته، وشدة خوفه من الله تعالى، فمن زين المجتهدين، إلى العبد الصالح،والنفس الزكيّة، والصابر، إلى غير ذلك من الألقاب المشيرة إلى صفاته الموقرة، وعبادته المتواصلة؛ ولم يحدثنا التاريخ عن مسجون غير الإمام موسى بن جعفر كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرغ للعبادة بين جدران السجن، ويحسب ذلك نعمة، وجب بها عليه الشكر.

    قال ابن الصباغ المالكي: إن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن، رفع إلى عيسى بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه: (اللّهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد).

    وعن أبي حنيفة انه دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه.

    فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ادعوا لي موسى، فدعوه، فقال له في ذلك. فقال: نعم يا أبة، إن الذي كنت أصلّي إليه كان أقرب إليّ منهم، يقول الله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فضمه أبو عبد الله إلى نفسه ثم قال: بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار.

    وجاء في كشف الغمة: كان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع وكان إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته. ولكثرة سجوده كان له غلام يقص اللحم من جبينه، وعرنين أنفه، فقد نظم بعض الشعراء ذلك بقوله:

    طــــــالت لطــــــول سجـــود منه ثفنته فـــــقرحت جــــــبهة مــــــنه وعـرنينا

    رأى فــــــراغته فـــــي الســـجن منيته ونـــــعمة شـكر الباري بها حينا



    5ـ كرمه وصدقاته

    من أبرز خصائص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) البر والإحسان إلى الناس كافة، وبصورة خاصة الطبقة الضعيفة، فكانوا يخصّونهم بجزيل فضلهم، ونبل عطاياهم، حتى كان من منهجهم في الليالي المظلمة هو التطواف على بيوت الفقراء والمساكين بالأغذية والمال وهم لا يعرفونهم.

    قال ابن الصباغ المالكي: كان موسى الكاظم (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً وكان يتفقد فقراء المدينة ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلا بعد موته.

    وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى فشكوت إليه، فأتيته في ضيعته، فذكرت له قضيّتي، فدخل ولم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليّ، فقال لغلامه: إذهب، ثم مدّ يده إليّ فرفع إليّ صرة فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي وانصرفت.

    كما رووا عن عيسى بن محمد بن مغيث القرطبي قال: زرعت بطّيخاً وقثاءاً وقرعاً في موضع بالجوانية، على بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير، واستوى الزرع بغتني الجراد فأتى على الزرع كله، وكنت غرمت على الزرع وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمد، فسلّم ثم قال: أي شيء حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي.

    قال (عليه السلام) وكم غرمت فيه؟ فقلت: مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين.

    فقال (عليه السلام): يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً، فربحك ثلاثون ديناراً والجملان. فقلت يا مبارك ادخل وادع لي فيها بالبركة. فدخل ودعا وحدثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: تمسّكوا ببقايا المصائب، ثم علقت عليه الجملين وسقيت، فجعل الله فيها البركة وزكت، فبعث منها بعشرة آلاف.

    وقال علي بن عيسى الأربلي:

    (مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة تشهد أنه افترع قبة الشرف وعلاها، وسماها إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.

    طالت أصوله، فسمت إلى أعلى رتب الجلال، وسمت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال، يأتيه المجد من كل أطرافه، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.

    فكان كما قال الشاعر:

    أتــــــاه المـــــجـــد مـــــن هـــنا وهـنا وكـــــنا لــــــه كمــــــجتـــــمع السيول


    السحاب الماطر قطرة من كرمه، والعباب الزاخر نغبة من نغبه، واللباب الفاخر من عد من عبيده وخدمه، كأن الشعرى علّقت في يمينه ولا كرامة للشعرى العبور، وكأن الرياض أشبهت خلائقه ولا نعمى لعين الروضة الممطور.

    وهو (عليه السلام) غرّة في وجه الزمان وما الغرر والحجول، وهو أضوأ من الشمس والقمر، وهذا جهد من يقول: بل هو والله أعلى مكانة من الأوصاف وأسمى، وأشرف عرفاً من هذه النعوت وأنمى، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره، أو ترتقي همة البليغ إلى نعت فخاره، أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته؟

    كاظم الغيظ، وصائم القيظ، عنصره كريم، ومجده حادث وقديم، وهو بكل ما يوصف به زعيم، الآباء عظام، والأبناء كرام، والدين متين، والحق ظاهر مبين، والكاظم في أمر الله قوي أمين، وجوهر فضله غالٍ ثمين وواصفه لا يكذب ولا يمين، قد تلقى راية الإمامة باليمين، فسما (عليه السلام) إلى الخيرات منقطع القرين، وأنا أحلف على ذلك فيه وفي آبائه وأبنائه (عليهم السلام) باليمين.

    كم له من فضيلة جليلة، ومنقبة بعلو شأنه كفيلة، وهي وإن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة، ومهما عد من المزايا والمفاخر فهي فيهم صادقة، وفي غيرهم مستحيلة. إليهم ينسب العظماء، وعنهم يأخذ العلماء، ومنهم يتعلم الكرماء، وهم الهداة إلى الله فبهداهم اقتده وهم الأدلاء على الله فلا تحل عنهم ولا تنشده، وهم الأمناء على أسرار الغيب، وهم المطهرون من الرجس والعيب، وهم النجوم الزواهر في الظلام، وهم الشموس المشرقة في الأيام، وهم الذين أوضحوا شعائر الإسلام وعرفوا الحلال من الحرام، من تلق منهم تقل لاقيت سيداً، ومتى عددت منهم واحداً كان بكل الكمالات منفرداً، ومن قصدت منهم حمدت قصدك مقصدا، ورأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غداً، ومتى عدت إليه عاد كما بدا، المائدة والإنعام يشهدان بحالهم، والمائدة والإنعام يخبران بنوالهم، فلهم كرم الأبوة والنبوة، وهم معادن الفتوة والمروءة، والسماح في طبائعهم غريزة، والمكارم لهم شنشنة ونحيزة، والأقوال في مدحهم وإن طالت وجيزة، بحور علم لا تنزف، وأقمار عز لا تخسف وشموس مجد لا تكسف. مدح أحدهم يصدق على الجميع وهم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع. بذوا الأمثال طريفهم وتالدهم ولا مثيل، ونالوا النجوم بمفاخرهم ومحامدهم فانقطع دون شأوهم العديل ولا عديل. فمن الذي ينتهي في السير إلى أمدهم وقد سد دونه السبيل، أمن لهم يوم كيومهم أو غدٍ كغدهم، ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم صلى الله عليه وآله صلاة نامية الأمداد، باقية على الآباد مدخرة ليوم المعاد، إنه كريم جواد).

    كل ما صدر عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من وصايا ورسائل وخطب وشعر كان في سبيل الدعوة الإسلامية والحث على طاعة الله تعالى والدعوة إلى التحلّي بمكارم الأخلاق والتمسك بالفضائل. فكانوا (عليهم السلام) يعملون على تثقيف الأمة الإسلامية وتعليمها وتوعيتها، ويبذلون أقصى الجهود في تقويمها وهدايتها إلى الطريق السليم.

    وموضع الشعر كان ينشد عند عامة الناس في التشبيب واللهو والمجون، أما أهل البيت فكانوا ينظمونه في الدعوة إلى الخير والعقيدة الإسلامية، والأخلاق والتحلّي بالفضائل النبيلة. وهذه هي الفوارق التي تميزهم عن غيرهم من الشعراء الآخرين.

    جاء في البحار أنه دخل (عليه السلام) وهو طفل على أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) وبيده لوح فقال له أبوه يا بني اكتب ما سأمليه عليك:

    تنح عن القبيح ولا ترده.

    ثم قال: اجزه.

    فقال (عليه السلام): ومن أوليته حسناً فزده.

    فتابع الإمام الصادق القول:

    ستلقى من عدوك كل كيد.

    فقال الإمام الطفل (عليه السلام): إذا كان العدو فلا تكده.

    فقال: (ذرية بعضها من بعض).

    وقال (عليه السلام) أيضاً في أفعال العباد:

    لـــــم تــــــــخل أفـــــعالنا التي نذم بها إحـــــــدى ثــــــلاث حــــــين نــــبديها

    إمــــــا تــــــفرّد بــــــارينا بصـــــنعتها فيــــــسقط الـــــلوم عــــنا حين نأتيها

    أو كـــــــان يــــــشركنا فيـــــها فيلحقه ما كـــان يلــــــحقنا مـــــن لائم فـــيها

    أو لـــــم يـــــكن لآلـــــهي في جنايتها ذنــــب فما الذنب إلا ذنب جانيها


    وقال (عليه السلام) في اللجوء إلى الله:

    أنــــــت ربـــــــي إذ ظــمئت إلى الماء وقــــــوتي إذا أردت الــــطـــعاما


    والإمام الكاظم لم يكن شاعراً محترفاً بل كان نظمه للشعر قليلاً جداً. ذكر الشيخ المفيد أبياتاً له تلاها الإمام الرضا (عليه السلام) على المأمون ونسبها (عليه السلام) إلى أبيه:

    كـــــــن للــــــمكاره بــــــالعزاء مدافعاً فــــــــلعل يـــــــوماً لا تـــرى ما تكره

    فـــــــلربما اســـــتتر الفــــتى فتنافست فـــــــيه العـــــــيون وانـــــه لمـــــموه

    ولـــــــربما ابتــــسم الوقور من الأذى وضمـــــيره مـــــن حــــره يتأوّه


    كان (عليه السلام) يعلم كل شيء يدور حوله ولكن عيون المراقبين تترصده دائماً فلم يكن له إلا أن يموه ما يقول حذراً فيبتسم من الأذى المحدق به وضميره من حره يتأوه في صدره. وذكر ذو النون المصري أنه اجتاز أثناء سياحته على قرية تسمى بتدصر فرأى جداراً قد كتبت عليه هذه الأبيات:

    أنـــــا ابــــن مــنى والمشعرين وزمزم ومـــكة والبـــــيت العتـــــيق المعــــظم

    وجــــدّي النبي المصـــطفى وأبي الذي ولايـــــــته فــــرض عـــلى كــل مسلم

    وأمـــــي البــــتول المســتضاء بنورها إذا ما عـــــددناهـــا عـــــديلة مـــــريم

    وسبــــــطا رســــول الله عمي ووالدي وأولاده الأطــــــهـــــار تســـــعة أنجم

    متــــــى تــــــتعلق منـــــهم بحبل ولاية تـــــفز يـوم يجزى الفـــــائزون وتنعم

    أئــــــمة هـــــذا الخـــــلق بعـــد نبــيهم فـــــإن كنــــت لم تــــعلم بــذلك فاعلم

    أنـــــا الـــــعلوي الفاطمي الذي ارتمى بــــه الخـــوف والأيام بالمــرء ترتمي

    فــــــالمحت بــــــالدار الــــتي أنا كاتب علـــيها بشـــعري فاقران شئت والمم

    وســـــلم لأمــــــر الله فــــي كــل حالة فلـــــيس أخـــو الإســـلام من لم يسلم


    قال ذو النون فعلمت أنه علوي قد تخفى عن السلطة في خلافة هارون، واحتمل المجلسي أن تكون هذه الأبيات للإمام الكاظم (عليه السلام) ذهب إلى ذلك المكان وكتبها لإتمام الحجة على أعدائه.

    وما نراه أن الإمام (عليه السلام) لم يتخف ولم يتهرّب من السلطة في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيماً ينكر على هارون وعلى غيره من ملوك عصره بكل جرأة وإقدام، وهذا الذي أوصل به إلى السجن.


    ما قاله العلماء والعظماء في فضائله

    أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على أفضلية أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأعلميتهم، ورفعة منزلتهم، وسموّ مقامهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كما تنافسوا في ذكر الكتابة عنهم وبيان سيرهم، وذكر أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيهم.

    ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن الكريم ـ كما في حديث الثقلين ـ ووصفهم بسفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى... إلى كثير من الأحاديث التي له (صلّى الله عليه وآله) في بيان فضلهم، والتنويه بسموّ مقامهم.

    1ـ قال هارون الرشيد لابنه المأمون: (هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده).

    2ـ وقال احمد بن يوسف الدمشقي القرماني:

    هو الإمام الكبير القدر، الأوحد، الحجة، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين (كاظماً) وهو المعروف عند أهل العراق بـ(باب الحوائج) لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط... له كرامات ظاهرة، ومناقب باهرة، انتزع قمة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها....

    3ـ وقال عبد الله بن أسعد اليانعي:

    الإمام موسى كان صالحاً عابداً، جواداً حليماً، كبير القدر، وهو أحد الأئمة الإثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية، وكان يدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده، وكان سخياً كريماً، كان يبلغه عن الرجل ما يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار.

    4ـ وقال خير الدين الزركلي:

    موسى بن جعفر الصادق بن الباقر، أبو الحسن، سابع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، كان من سادات بني هاشم، ومن أعبد أهل زمانه وأحد كبار العلماء الأجواد...).

    5ـ وقال محمد بن علي بن شهر اشوب:

    (وكان الإمام أجلّ الناس شأناً، وأعلاهم في الدين مكاناً، وأسخاهم بناناً، وأفصحهم لساناً، وأشجعهم جناناً، قد خصّ بشرف الولاية، وحاز إرث النبوة، وتبوأ محل الخلافة، سليل النبوة، وعقدي الخلافة).

    6ـ وقال احمد بن حجر الهيثمي:

    وموسى الكاظم، هو وارث أبيه علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً سمّي الكاظم لكثرة تجاوز وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم.

    7ـ وقال الدكتور محمد يوسف موسى:

    (ونستطيع أن نذكر أن أوّل من كتب في الفقه هو الإمام موسى الكاظم الذي مات سجيناً عام 183هـ وكان ما كتبه إجابة عن مسائل وجّهت إليه تحت اسم (الحلال والحرام).

    8ـ وقال علي بن عيسى الأربلي:

    مناقب الكاظم (عليه السلام) وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة، ومخاتله تشهد أنه افترع قمة الشرف وعلاها وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها:

    تــــــــركـــت والحــــــسن تـــــــأخـــذه تصـــــــطفي مـــــــــنه وتنـــــــتجــــب

    فانتـــــــقــت منـــــه أحــــــاســــــنـــــه واســـــتزادت فضـــــــل ما تهب


    9ـ وقال الشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان:

    (موسى الكاظم هو وارث أبيه جعفر بن محمد، علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان عند أهل العراق معروفاً بباب قضاء الحوائج، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم).

    10ـ وقال النسابة احمد بن علي:

    (كان موسى الكاظم عظيم الفضل، رابط الجأش، واسع العطاء، لقّب بالكاظم لكظمه الغيظ، وحلمه، وكان يخرج في الليل وفي كمه صرر من الدراهم فيعطي من لقيه ومن أراد برّه، وكان يضرب المثل بصرّة موسى وكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا القلّة).

    هذه بعض الآراء الموجزة التي دوّنها كبار العلماء والتي تحمل طابع الإكبار والتقدير للإمام، وهذه الصفات التي اتّصف بها هي السرّ في عظمته، والسرّ في إجماع العلماء على إكباره، وإجماع المسلمين على محبّته. وسوف نوجزها بما يلي:

    1ـ أحلم الناس وأكظمهم للغيظ، يقابل الجاني عليه بالإحسان إليه.

    2ـ أعلم أهل زمانه، وأفقههم، يحل مشاكلهم ويساعدهم في قضاء حاجاتهم.

    3ـ أعبد أهل زمانه اجتهد في العبادة إلى حد لا يجاريه أحد.

    4ـ كان من أجود الناس وأسخاهم وأنداهم كفّاً، يعطي بيمينه ولا تعرف به شماله، حتى أصبح يضرب به المثل فقالوا: (مثل صرر موسى).

    5ـ أنه من أفصح الناس وأبلغهم، ورث الفصاحة من آبائه وأجداده.

    6ـ هو باب الحوائج عند الله، قد خصّه تعالى بهذه الكرامة ومنحه بهذا اللطف، فضمن لمن توسّل به أن يقضي حاجته ولا يرجع من عنده إلا وهو مثلوج الفؤاد ناعم البال.

    7ـ أوصل الناس لأهله ورحمه.

    8ـ حافل بالتواضع والورع والزهد ودماثة الخلق.

    9ـ إمام معصوم من أئمة المسلمين ومن حجج الله على خلقه.

    هكذا كان الإمام الكاظم الإمام السابع من الأئمة الإثني عشر المعصومين يعالج بروحه الفوّاحة بالإيمان والتقوى النفوس المريضة التي اترعت بالآفات الاجتماعية والأنانية.

    Comment

    • راية اليماني
      مشرف
      • 05-04-2013
      • 3021

      #3
      رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع)

      أدعيته (عليه السلام)

      الإمام الكاظم انقطع إلى الله فكان في جميع أوقاته يلهج بذكر الله تعالى ويدعوه دعاء المنيبين.

      فائدة الدعاء

      أما عن فائدة الدعاء فقد تحدث عنها بقوله: (عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجلّ وسئل صرف البلاء).

      ثم قال في موضع آخر:

      (ما من بلاء يقع على عبد مؤمن فيلهمه الله عز وجل الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً، وما من بلاء يقع على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً، فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء والتضرّع إلى الله عزّ وجلّ).

      بعض أدعيته (عليه السلام):


      من دعاء له (عليه السلام) في القنوت

      (يا مفزع الفازع، ويا مأمن الهالع، ومطمع الطامع، وملجأ الضارع، يا غوث اللهفان، ومأوى الحيوان، ومروي الظمآن، ومشبع الجوعان، وكاسي العريان، وحاضر كل مكان، بلا درك ولا عيان، ولا صفة ولا بطان، عجزت الأفهام، وضلّت الأوهام عن موافقة صفة دابة من الهوام، فضلاً عن الأجرام العظام، ممّا أنشأت حجاباً لعظمتك، وأنّي يتغلغل إلى ما وراء ذلك بما لا يرام.

      تقدّست يا قدّوس عن الظنون والحدوس، وأنت الملك القدوس بارئ الأجسام والنفوس، ومنخر العظام ومميت الأنام، ومعيدها بعد الفناء والتطميس، أسألك يا ذا القدرة والعلاء، والعز والثناء، أن تصلي على محمد وآله أولي النهى، والمحل الأوفى، والمقام الأعلى، وأن تعجل ما قد تأجل، وتقدم ما تأخر، وتأتي بما قد أوجبت إثباته، وتقرّب ما قد تأخر في النفوس الحصرة أوانه، وتكشف البأس وسوء البأس، وعوارض الوسواس الخناس في صدور الناس، وتكفينا ما قد رهقنا، وتصرف عنا ما قد ركبنا، وتبادر اصطلام الظالمين، ونصر المؤمنين والادالة من المعاندين، آمين رب العالمين).

      ومن دعاء له (عليه السلام)

      (بسم الله الرحمن الرحيم. اللّهم اعطني الهدى وثبّتني عليه، واحشرني عليه آمناً أمن من لا خوف عليه ولا حزن ولا جزع إنك أهل التقوى وأهل المغفرة).


      ومن دعاء له (عليه السلام) لوفاء الدين

      (اللّهم اردد على جميع خلقك مظالمهم التي قِبَلِي صغيرها وكبيرها في يسر منك وعافية، وما لم تبلغه قوتي، ولم تسعه ذات يدي، ولم يقوَ عليه بدني ويقيني ونفسي فأدّه عنّي من جزيل ما عندك من فضلك، ثم لا تخلف عليّ منه شيئاً تقضيه من حسناتي يا أرحم الراحمين، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله).

      ومن دعاء له (عليه السلام)

      (يا سابق كل فوت، يا سامعاً لكل صوت قوي أو خفي، يا محيي النفوس بعد الموت، لا تغشاك الظلمات الحندسية، ولا تشابه عليك اللغات المختلفة، ولا يشغلك شيء عن شيء، يا من لا يشغله دعوة داع دعاه من السماء، يا من له عند كل شيء من خلقه سمع سامع، وبصر نافذ، يا من لا تغلظه كثرة المسائل ولا يبره إلحاح الملحّين، يا حيّ حين لا حيّ في ديمومة ملكه وبقائه، يا من سكن العلى، واحتجب عن خلقه بنوره، يا من أشرقت لنوره دجا الظلم، أسألك باسمك الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي هو من جميع أركانك، صلّ على محمد وأهل بيته) ثم يسأل حاجته.

      ومن دعاء له (عليه السلام)

      (توكّلت على الحيّ الذي لا يموت، وتحصّنت بذي العزة والجبروت، واستعنت بذي الكبرياء والملكوت. مولاي استسلمت إليك فلا تسلمني، وتوكّلت عليك فلا تخذلني، ولجأت إلى ظلّك البسيط فلا تطرحني، أنت المطلب، واليك المهرب، تعلم ما أخفي وما أعلن وتعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فامسك عنّي اللَّهمَّ أيدي الظالمين من الجنّ والإنس أجمعين، واشفني يا ارحم الراحمين).

      ومن دعاء له عند الحاجة

      (يا الله، أسألك بحق من حقّه عليك عظيم أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترزقني العمل بما علّمتني من معرفة حقك، وأن تبسط عليّ ما حظرت من رزقك).
      ومن أدعيته دعاء على ظالم له

      وهذا دعاء طويل نقدم نصه الكامل ليتضح منه ما قاساه الإمام (عليه السلام) من طواغيت زمانه، وقد دعاه في قنوته على بعض ظالميه من ملوك بني العباس المعاصرين له الذين جرّعوه أنواع الغصص والآلام قال (عليه السلام):

      اللّهمّ، إني وفلان ابن فلان، عبدان من عبيدك، نواصينا بيدك تعلم مستقرنا ومستودعنا ومنقلبنا، ومثوانا، وسرّنا، وعلانيتنا، تطلع على نياتنا، وتحيط بضمائرنا، علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه ومعرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نعلنه، ولا ينطوي عندك شيء من أمورنا، ولا ينسرّ دونك حال من أحوالنا، ولا لنا منك معقل يحصننا ولا حرز يحرزنا، ولا مهرب لنا نفوتك به، ولا تمنع الظالم منك حصونه، ولا يجاهدك عنه جنوده، ولا يغالبك مغالب يمنعه، أنت مدركه أينما سلك، وقادر عليه أينما لجأ، فمعاذ المظلوم منّا بك وتوكّل المقهور منّا عليك، ورجوعه إليك، يستغيث بك إذا خذله المغيث، ويستصرخك إذا قعد عنه النصير، ويلوذ بك إذا نفته الأقنية، ويطرق بابك إذا أغلقت عنه الأبواب المرتجة ويصل إليك إذا احتجبت عنه الملوك الغفلة، تعلم ما حلّ به من قبل أن يشكوه إليك، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له، فلك الحمد بصيراً عليماً لطيفاً.

      اللَّهُمَّ، وإنه قد كان في سابق علمك، ومحكم قضائك، وجاري قدرك، ونافذ أمرك، وماضي مشيئتك في خلقك أجمعين، شقيّهم وسعيدهم، وبرّهم وفاجرهم، إن جعلت (لفلان ابن فلان) عليّ قدرة فظلمني بها وبغى عليّ بمكانها، واستطال وتعزز بسلطانه الذي خوّلته إيّاه، وتجبّر وافتخر بعلوّ حاله الذي نولته، وغرّه املاؤك، وأطغاه حلمك عنه، فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه، وتعمّدني بشرّ ضعفت عن احتماله ولم أقدر على الاستنصاف منه لضعفي، ولا على الانتصار لقلّتي فوكلت أمره إليك، وتوكّلت في شأنه عليك، وتوعّدته بعقوبتك، وحذّرته ببطشك، وخوّفته بنقمتك، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف، وحسب أن إملاءك له من عجز، ولم تنهه واحدة عن أخرى ولا انزجر عن ثانية بأولى، لكنّه تمادى في غيّه، وتتابع في ظلمه، ولجّ في عدوانه، واستشرى في طغيانه، جرأة عليك يا سيدي ومولاي، وتعرّضاً لسخطك الذي لا تحبسه عن الباغين، فها أنا يا سيدي مستضام تحت سلطانه مستذل بفنائه، مبغيّ عليّ، وجلّ خائف، مروع مقهور قد قلّ صبري، وضاقت حيلتي، وتغلّقت عليّ المذاهب إلا إليك، وانسدّت عنّي الجهات إلا جهتك، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه، وخذلني من استنصرته من خلقك، وأسلمني من تعلّقت به من عبادك فاستشرت نصحي فأشار عليّ بالرغبة إليك، واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلا إليك، فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً عالماً أنه لا فرج لي إلا عندك، ولا خلاص لي إلا بك انتجز وعدك في نصرتي وإجابة دعائي، لأن قولك الحق الذي لا يردّ ولا يبدّل، وقد قلت تباركت وتعاليت، (ومن بغي عليه لينصرنّه الله) وقلت جل ثناؤك، وتقدّست أسماؤك: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فأنا فاعل ما أمرتني به لا منّا عليك، وكيف أمنّ به وأنت دللتني عليه، فاستجب لي كما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد، وإني لأعلم يا سيدي إن لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم، وأتيقن أن لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب لأنه لا يسبقك معاند، ولا يخرج من قبضتك منابذ، ولا تخاف فوت فائت، ولكن جزعي وهلعي لا يبلغان الصبر على أناتك، وانتظار حلمك، فقدرتك يا سيدي فوق كل قدرة، وسلطانك غالب كل سلطان، ومعادِ كلّ أحد إليك وإن أمهلته، ورجوع كل ظالم إليك وأن انظرته، وقد أضرني ـ يا سيدي ـ حلمك عن (فلان) وطول أناتك له، وإمهالك إيّاه، ويكاد القنوط أن يستولي عليّ لو لا الثقة بك، واليقين بوعدك، فإن كان في قضائك النافذ، وقدرتك الماضية أنه ينيب، أو يتوب، أو يرجع عن ظلمي، ويكفّ عن مكروهي، وينتقل عن عظيم ما ركب منّي، فصلّ على محمد وآله، وأوقع ذلك فيقلبه قبل إزالة نعمتك التي أنعمت بها عليه، وتكدير معروفك الذي صنعته إليه، وإن كان علمك به غير ذلك من مقامه على ظلمي، فإنّي أسالك يا ناصر المظلومين المبغي عليهم اجابة دعوتي، فصلّ على محمد وآله وخذه من مأمنه أخذ عزيزٍ مقتدر، وأفجأه في غفلته مفاجأة مليك منتصر، واسلبه نعمته وسلطانه، وافضض عنه جموعه وأعوانه، ومزّق ملكه كل مزّق، وفرّق أنصاره كل مفرق، واعزله من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر والإحسان، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان، واقصمه يا قاصم الجبابرة، وأهلكه يا مهلك القرون الخالية، وابره يا مبير الأمم الظالمة، واخذله يا خاذل الفرق الباغية، وابتر عمره، وابتز ملكه، واعف أثره، واقطع خبره، واطف ناره، واظلم دياره، وكوّر شمسه، وازهق نفسه، واهشم سوقه، وجب سنامه، وارغم أنفه، وعجل حتفه، ولا تدع له جنة إلا هلكتها، ولا دعامة إلا قصمتها، ولا كلمة مجتمعة إلا فرّقتها، ولا قائمة علو إلا وضعتها ولا ركناً إلا وهنته، ولا سبباً إلا قطعته، وأرنا أنصاره وجنوده عبيداً بعد العزّة، واجعلهم متفرّقين بعد اجتماع الكلمة ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمة، واشف بزوال أمره القلوب الوجلة، والأفئدة اللهيفة، والأمّة المتحيّرة، والبريّة الضابعة، واظهر بزواله الحدود المعطّلة، والسنن الداثرة، والأحكام المهملة والمعالم المتغيّرة، والآيات المحرّفة، والمدارس المهجورة، والمحاريب المجفوّة، والمشاهد المهدومة، واشبع به الخماص السابغة، واروا به اللهوات اللاغبة، والأكباد الضامية، وأرح به الأقدام المتعبة واطرقه ببليّة لا أخت لها، وبساعة لا مثوى فيها، وبنكبة لا انتعاش معها، وبعثرة لا إقالة منها، وأبح حريمه، ونغّص نعيمه، وأره بطشتك الكبرى، ونقمتك المثلى، وقدرتك التي هي فوق قدرته، وسلطانك الذي هو أعز من سلطانه، وأغلبه لي بقوّتك القوية، ومحالك الشديد، وامنعني منه بمنعك، وابتله بفقر لا يجبره، وبسوء لا يستره، وكله إلى نفسه فيما تريد، انك فعال لما تريد، وابره من حولك وقوتك، وكله إلى حوله وقوّته، وأزل مكره بمكرك، وادفع مشيئته بمشيئتك، واسقم جسده، وايتم ولده، ونقّص أجله، وخيّب أمله، وأزل دولته، وأطل عولته، واجعل شغله في بدنه، ولا تفكّه من حزنه وصيّر كيده في ضلال، وأمره إلى زوال ونعمته إلى انتقال وجده في سفال، وسلطانه في اضمحلال، وعاقبته إلى شر مآل، وأمته بغيظه إن أمتّه، وابقه بحسرته أن ابقيته، وقني شره وهمزه ولمزه وسطوته وعداوته، والمحه لمحة تدمر بها عليه، فإنّك أشد بأساً وأشد تنكيلا..).

      استجابة دعاء الإمام الكاظم (عليه السلام)

      عاش أهل البيت (عليهم السلام) مظلومين مضطهدين طيلة الحكم الأموي الغاشم ولما انتقل الحكم إلى العباسيين باسم العلويين حسب الناس أن الحكم العباسي سوف يخفف عنهم الوطأة، ويرفع عنهم الحيف.

      ولما جاءت رايات أبي مسلم الخراساني بانتصار العلويين، وللأخذ بثأرهم وظلامتهم، أصبح الأمر معكوساً، فإذا بالعباسيين يظلمون وينكّلون بأئمة أهل البيت، ويتتبعونهم قتلاً وسجناً وتشريداً حتى كانت مدة ملكهم أشد قسوة من بني أمية. فقال أحد الشعراء:

      تــــــالله مـــــا فـــــعلت عـــــلوج أمية معــــــشار مـــــــا فـــعلت بنو العباس


      وقال آخر:

      يــــــا لـــــيت ظـــــلم بـني أمية دام لنا وليــــــت عـــدل بني العباس في النار


      ولم يلجأ أئمة أهل البيت إلى الدعاء على ظالميهم إلا عندما يبلغ الظلم منتهاه، والجور غايته، ويطفح الكيل...

      وجاء في كتاب عيسى بن جعفر للرشيد: (لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طوال هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه، فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا بسوء وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة..).

      إذا عرفنا هذا منه صلوات الله وسلامه عليه، نقدر شدة الظروف التي مرّت عليه فاضطرته للدعاء على ظالميه.

      وسوف نذكر بعض ما ورد من استجابة دعائه (عليه السلام):

      1ـ قال عبد الله بن صالح: حدثنا صاحب الفضل بن الربيع قال: كنت ذات ليلة في فراشي، مع بعض جواريي، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة، فراعني ذلك، فقالت الجارية: لعلّ هذا من الهواء، فلم يمض إلا يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ، فقال: أجب الرشيد، ولم يسلّم عليّ، فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور، ويدخل بلا إذن ولم يسلّم، ما هو إلا القتل؛ فقالت الجارية لما رأت تحيّري: ثق بالله عزّ وجلّ وانهض، فنهضت ولبست ثيابي، وخرجت معه حتى أتيت الدار، فسلمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده، فرد علي السلام فسقطت.

      فقال: تداخلك رعب!

      قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

      فتركني ساعة حتى سكنت ثم قال: صر إلى حبسنا فاخرج موسى بن جعفر بن محمد، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله على ثلاثة مراكب، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أي بلاد أحب.

      فقلت له: يا أمير المؤمنين! تأمر بإطلاق موسى بن جعفر؟!

      قال: نعم. فكررت ثلاث مرات.

      فقال: نعم، ويلك! أتريد أن أنكث العهد؟!

      فقلت: يا أمير المؤمنين! وما العهد؟!

      قال: بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسد، ما رأيت من الأسود أعظم منه، فقعد على صدري وقبض على حلقي، وقال لي: حبست موسى بن جعفر ظالماً له.

      فقلت: وأنا أطلقه، وأهب له، وأخلع عليه، فأخذ عليّ عهد الله عزّ وجلّ وميثاقه وقام عن صدري وقد كادت نفسي أن تخرج فقال: فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في حبسه، فرأيته قائماً يصلّي، فجلست حتى سلّم، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وإني قد أحضرت ما وصله به.

      فقال: إن كنت أمرت بشيء غير هذا فأفعله.

      فقلت: لا وحق جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أمرت إلا بهذا.

      فقال: لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذا كانت فيه حقوق الأمة.

      فقلت: ناشدتك الله أن لا تردّه فيغتاظ.

      فقال: اعمل به ما أحببت.

      وأخذت بيده (عليه السلام) وأخرجته من السجن، ثم قلت له: يا ابن رسول الله أخبرني ما السبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل فقد وجب حقّي عليك لبشارتي إيّاك، ولما أجراه الله تعالى من هذا الأمر؟

      فقال (عليه السلام): رأيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي: يا موسى أنت محبوس مظلوم.

      فقلت: نعم يا رسول الله محبوس مظلوم.

      فكرّر علي ثلاثاً، ثم قال: (لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).

      أصبح غداً صائماً، واتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار فصل اثنتي عشرة ركعة، تقرأ في كل ركعة: الحمد واثنتي عشرة قل هو الله أحد. فإذا صليت منها أربع ركعات فاسجد، ثم قال: (يا سابق الفوت، يا سامع كل صوت ويا محي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وعلى أهل بيته الطاهرين وأن تعجل لي الفرج ممّا أنا فيه). ففعلت فكان الذي رأيت.

      2ـ ونقل صاحب كتاب نثر الدرر: أن موسى بن جعفر الكاظم ذكر له، أن الهادي قد هم بك، قال لأهل بيته ومن يليه: ما تشيرون به عليّ من الرأي؟

      فقالوا: نرى أن تتباعد عنه، وأن تغيب شخصك عنه، فإنّه لا يؤمن عليك من شره. فتبسم ثم قال:

      زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب.

      ثم رفع يده إلى السماء فقال:

      (الهي كم من عدو شحذ لي ظبة مديته، وأرهف لي شبا حدّه، وداف لي قواتل سمومه، ولم تنم عني عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن ملمّات الحوائج، صرفت ذلك عني بحولك وقوتك لا بحلوي وقوتي، وألقيته في الحفيرة التي احتفرها لي خائباً ممّا أمله في دنياه، متباعداً عما يرجوه في أخراه فلك الحمد على قدر ما عممتني فيه نعمك، وما توليتني من جودك وكرمك. اللّهم فخذه بقوتك، وافلل حده عني بقدرتك، واجعل له شغلاً فيما يليه، وعجزاً به عما ينويه. اللَّهُمَّ واعدني عليه عدوة حاضرة تكون من غيظي شفاءً، ومن حنقي عليه وفاءً، وصل اللّهم دعائي بالإجابة، وانظم شايتي بالتغيير، وعرفه عما قليل ما وعدت به من الإجابة لعبيدك المضطرين إنك ذو الفضل العظيم، والمن الجسيم).

      ثم إن أهل بيته انصرفوا عنه، فلما كان بعد مدة يسيرة اجتمعوا لقراءة الكتاب الوارد على موسى الكاظم بموت الهادي، وفي ذلك يقول بعضهم:

      وســـــارية لـــم تسر في الأرض تبغي محـــــلاً ولــم يقطع بـها الأرض قاطع

      3ـ وروى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير قال: حدثني أبو جعفر الشامي قال: حدثني رجل بالشام يقال له هلقام. قال: أتيت أبا إبراهيم (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك علمني دعاء جامعاً للدنيا والآخرة وأوجز، فقال: قل في دبر الفجر إلى أن تطلع الشمس: (سبحان الله العظيم وبحمده استغفر الله وأسأله من فضله).

      قال هلقام: لقد كنت من أسوء أهل بيتي حالاً فما علمت حتى أتاني ميراث من قبل رجل ما ظننت أن بيني وبينه قرابة وإني اليوم من أيسر أهل بيتي وما ذلك إلا بما علمني مولاي العبد الصالح (عليه السلام)).

      4ـ ومن دعائه (عليه السلام) عندما كان محبوساً يقلب خديه على التراب:

      (يا مذل كل جبار ومعزّ كل ذليل وحقك بلغ مجهودي، فصلّ على محمد وآل محمد وفرّج عني).

      5ـ وقال داود بن زربي:

      سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول:اللّهم إني أسالك العافية، وأسألك جميل العافية، وأسألك شكر العافية، وأسألك شكر شكر العافية.

      وكان النـــبي (صلّى الله عليه وآله) يدعـــو ويقول: أسألك تمام العافيـــة ثم قال: تمام العافـــية الفوز بالجنة، والنجاة من النار).

      ولا ريب أن الدعاء من قلب العبد الصالح المؤمن، التقي، الورع يستجاب من الله العزيز القدير. وجاء ذلك في القرآن الكريم:

      (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).


      أدعية الأسبوع

      روى الشيخ الطوسي، قدس الله سره، بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام):

      دعاء يوم الجمعة

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين أكتبا:

      بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن الإسلام كما وصف، والدين كما شرع، وأن الكتاب كما أنزل، والقول كما حدث، وإن الله هو الحق المبين، وصلوات الله وبركاته وشرايف تحياته وسلامه على محمد وآله؛أصبحت في أمان الله الذي لا يستباح، وفي ذمة الله التي لا تخفر وفي جوار الله الذي لا يُضام، وكنفه الذي لا يرام، وجار الله آمن محفوظ، ما شاء الله، كل نعمة فمن اللهالله، ما شاء الله، لا يأتي الخير إلا الله ما شاءالله، نعم القادر الله ما شاء الله، توكّلت على الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللّهم اغفر لي كل ذنب يحبس رزقي، ويحجب مسألتي، أو يقصر بي عن بلوغ مسألتي، أو يصد بوجهك الكريم عني.

      اللّهم اغفر لي، وارزقني، وارحمني، واجبرني، وعافني، واعف عنّي وارفعني، واهدني، وانصرني، والق قلبي الصبر والنصر يا مالك الملك، فإنه لا يملك ذلك غيرك. اللّهم وما كتبت عليّ من خير فوفّقني واهدني له، ومُنَّ عليّ به، وأعني وثبّتني عليه، واجعله أحب إليّ من غيره، وأثر عندي ممّا سواه، وزدني من فضلك. اللّهم إني أسألك رضوانك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، وأسألك النصيب الأوفر في جنّات النعيم.

      اللّهم طهّر لساني من الكذب، وقلبي من النفاق، وعملي من الرياء وبصري من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور اللّهم إن كنت عندك محروماً مقتراً عليّ رزقي فامح حرماني وتقتير رزقي، واكتبني عندك مرزوقاً موفّقاً للخيرات، فإنك قلت تباركت وتعاليت (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) صلى الله على محمد وآله إنك حميد مجيد.

      دعاء يوم السبت

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين؛ اكتبا بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وإن الدين كما شرع، وإن الكتاب كما أنزل، والقول كما حدث، وإن الله هو الحق المبين، وصلوات الله وسلامه على محمد وآله أصبحت.

      اللّهم في أمانك اسلمت إليك نفسي، ووجهت إليك وجهي، وفوضت إليك أمري، وألجأت إليك ظهري، رهبة منك، ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ورسولك الذي أرسلت.

      اللّهم إني فقير إليك فارزقني بغير حساب، إنّك ترزق من تشاء بغير حساب.

      اللّهم إني أسألك الطيّبات من الرزق، وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تتوب عليّ.

      اللّهم إني أسألك بكرامتك التي أنت أهلها أن تتجاوز عن سوء ما عندي بحسن ما عندك يا الله، وأن تعطيني من جزيل عطائك أفضل ما أعطيته أحداً من عبادك. اللّهم إني أعوذ بك من مال يكون عليّ فتنة، ومن ولد يكون لي عدواً.

      اللّهم قد ترى مكاني، وتسمع ندائي وكلامي، وتعلم حاجتي، اسالك بجميع أسمائك أن تقضي لي كل حاجة من حوائج الدنيا والآخرة.

      اللّهم إني أدعوك دعاء عبد ضعفت قوّته، واشتدت فاقته، وعظم جرمه وقلّ عدده، وضعف عمله، دعاء من لا يجد لفاقته ساداً غيرك، ولا لضعفه عوناً سواك، أسألك جوامع الخير وخواتمه وسوابقه وفوائده وجميع ذلك بدوام فضلك وإحسانك، ويمنك ورحمتك، فارحمني واعتقني من النار. يا من كبس الأرض على الماء، يا من سمك السماء في الهواء، ويا واحداً قبل كل أحد، ويا واحداً بعد كل شيء، ويا من لا يعلم ولا يدري كيف هو إلا هو، ويا من لا يقدّر قدرته إلا هو، ويا من كل يوم هو في شأن، يا من لا يشغله شأن عن شأن، ويا غوث المستغيثين، ويا صريخ المكروبين، يا مجيب دعوة المضطرين، ويا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.

      رب ارحمني رحمة لا تضلّني لا تشقني بعدها أبداً، أنت حميد مجيد وصلى الله على محمد وآله وسلم.

      دعاء يوم الأحد

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: باسم الله، اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن الإسلام كما وصف، والدين كما شرع، وأن الكتاب كما أنزل، والقول كما حدث وأن الله هو الحق المبين حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه كما هو أهله وعلى آله، أصبحت وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر والليل والنهار وما يكون فيهما لله وحده لا شريك له.

      اللهم اجعل أوّل هذا النهار صلاحاً، وأوسطه نجاحاً وآخره فلاحاً وأسألك خير الدنيا والآخرة.

      اللّهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا غائباً إلا حفظته، وأديته، ولا مريضاً إلا شفيته، وعافيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضى ولي فيها صلاح إلا قضيتها.

      اللّهم تمّ نورك فهديت، وعظم حلمك فعفوت، وبسطت يدك فأعطيت، فلك الحمد، وجهك خير الوجوه، وعطيّتك أنفع العطيّة، فلك الحمد تطاع ربنا فتشكر، وتعصى ربنا فتغفر، تجيب المضطر وتكشف الضر، وتشفي السقم، وتنجي من الكرب العظيم؛ لا تجزي بآلائك، ولا يحصي نعمائك أحدٌ، رحمتك وسعت كل شيء فارحمني، ومن الخيرات فارزقني.

      تقبل صلاتي، واسمع دعائي، ولا تعرض عني يا مولاي حين أدعوك، ولا تحرمني الهي حين أسألك من أجل خطاياي؛ الهي لا تحرمني لقاءك، واجعل محبّتي وإرادتي محبتك وإرادتك، واكفني هول المطلع.

      اللّهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، ومرافقة محمد (صلّى الله عليه وآله) في أعلى جنة الخلد.

      اللّهم وأسألك العفاف والتقى، والعمل بما تحب وترضى، والرضا بالقضاء والنظر إلى وجهك.

      اللّهم لقّني حجّتي عند الممات، ولا ترني عملي حسرات.

      اللّهم اكفني طلب ما لم تقدر لي من الرزق، وما قسمت لي فاتني به يا الله في يسر منك وعافية.

      اللّهم إني أسألك توبة نصوحاً تقبلها مني، تبقي عليّ بركتها وتغفر بها ما مضى من ذنوبي وتعصمني بها فيما مضى من عمري يا أهل التقوى والمغفرة، وصلّى الله على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد.

      دعاء يوم الاثنين

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأن الدين كما شرع، وأن القول كما حدث، وأن الكتاب كما أنزل، وأن الله هو الحق المبين، حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله. اللّهم ما أصبحت فيه من عافية في ديني ودنياي فأنت الذي أعطيتني ورزقتني ووفقتني له وسترتني، ولا حمد لي يا الهي في ما كان مني من خير، ولا عذر لي منه.

      اللهم إنّه لا حول ولا قوّة لي على جميع ذلك إلا بك، يا من بلغ أهل الخير وأعانهم عليه بلغني الخير وأعني عليه.

      اللّهم أحسن عاقبتي في الأمور كلها، وأجرني من مواقف الخزي في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.

      اللّهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، وأسألك الغنيمة من كل برّ والسلامة من كل إثم، وأسألك الفوز بالجنّة، والنجاة من النار.

      اللّهم رضّني بقضائك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجّلت عليّ.

      اللّهم اعطني ما أحببت واجعله خيراً لي.

      اللّهم ما انسيتني فلا تنسني ذكرك وما أحببت فلا أحب معصيتك.

      اللّهم امكر لي ولا تمكر عليّ، واعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، واهدني ويسر لي الهدى، واعني على من ظلمني حتى أبلغ فيه ثأري.

      اللّهم اجعلني لك شاكراً ذاكراً لك، محبّاً لك، راهباً، واختم لي منك بخير.

      اللّهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أن تحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وإن تتوفاني إذا كانت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في السر والعلانية، والعدل في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن تحبب إليّ لقاءك في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنةٍ مضلّة، واختم لي بما ختمت به لعبادك الصالحين إنك حميد مجيد.

      دعاء يوم الثلاثاء

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأن الدين كما شرع، وأن القول كما حدث، وأن الكتاب كما أنزل، وأن الله هو الحق المبين، حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله؛ وأصبحت أسألك يا الله والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي وولدي.

      اللّهم استر عوراتي وأجب دعواتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي. اللّهم إن رفعتني فمن ذا الذي يضعني، وإن تضعني فمن ذا الذي يرفعني.

      اللّهم لا تجعلني للبلاء عرضاً، ولا للفتنة نصباً، ولا تتبعني ببلاء على اثر بلاء، فقد ترى ضعفي وقلّة حيلتي وتضرّعي، أعوذ بك من جميع غضبك فأعذني، واستجير بك فأعنّي، وأتوكّل عليك فاكفني، واستهديك فاهدني، واستعصمك فاعصمني، واستغفرك فاغفر لي، واسترحمك فارحمني، واسترزقك فارزقني؛ سبحانك من ذا يعلم ما أنت ولا يخافك، ومن يعرف قدرتك ولا يهابك، سبحانك ربّنا.

      اللّهم إنّي أسألك إيماناً دائماً، وقلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً ويقيناً صادقاً، وأسألك ديناً قيّماً، وأسألك رزقاً واسعاً.

      اللّهم لا تقطع رجاءنا، ولا تخيّب دعاءنا، ولا تجهد بلاءنا، وأسألك العافية والشكر على العافية، وأسألك الغنى عن الناس أجمعين يا ارحم الراحمين، ويا منتهى همّة الراغبين والمفرّج عن المغمومين، ويا من إذا أراد شيئاً فحسبه أن يقول له كن فيكون.

      اللّهم إنّ كل شيء لك، وكل شيء بيدك، وكل شيء إليك يصير، وأنت على كل شيء قدير؛ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ميسّر لما عسّرت، ولا معقّب لما حكمت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدّ، ولا قوّة إلا بك، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن.

      اللّهم فما قصر عنه عملي (رأيي)، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحداً من خلقك، وخير أنت معطيه أحداً من خلقك، فإنّي أسألك وأرغب إليك فيه يا أرحم الراحمين.

      اللّهم صل على محمد وآله إنك حميد مجيد.

      دعاء يوم الأربعاء

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، والدين كما شرع، وأن الكتاب كما أنزل، وأن القول كما حدث، وأن الله هو الحق المبين، حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله.

      اللّهم اجعلني من أفضل عبادك نصيباً في كل خير تقسمه في هذا اليوم، من نور تهدي به، أو رزق تبسطه، أو ضرّ تكشفه، أو بلاء تصرفه، أو شرّ تدفعه، أو رحمة تنشرها، أو معصية تصرفها.

      اللّهم اغفر لي ما قد سلف من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني عملاً ترضى به عنّي.

      اللّهم إني أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في شيء من كتبك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علّمته أحداً من خلقك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وشفاء صدري، ونور بصري، وذهاب همي وحزني إنه لا حول ولا قوّة إلا بك.

      اللّهم رب الأرواح الفانية، ورب الأجساد البالية، أسألك بطاعة الأرواح البالغة إلى عروجها، وبطاعة القبور المشتقة عن أهلها، وبدعوتك الصادقة فيهم، وأخذك الحق بينهم وبين الخلائق مثلاً ينطقون من مخافتك، يرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك النور في بصري، واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي، وذكرك على لساني أبداً ما أبقيتني.

      اللّهم ما فتحت لي من باب طاعة فلا تغلقه عنّي أبداً، وما أغلقت عنّي من باب معصية فلا تفتحه عليّ أبداً.

      اللّهم ارزقني حلاوة الإيمان، وطعم المغفرة، ولذّة الإسلام، وبرد العيش بعد الموت، إنّه لا يملك ذلك غيرك.

      اللّهم إنّي أعوذ بك أن أضل أو أذل أو أظلم أو آمر أو أجهل أو يجهل عليّ، أو أجور أو يجار عليّ، أخرجني من الدنيا مغفوراً لي ذنبي، ومقبولاً عملي، واعطني كتابي بيميني، واحشرني في زمرة النبي محمد وآله.

      دعاء يوم الخميس

      مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأن الدين كما شرع، والقول كما حدث، والكتاب كما أنزل، وإنّ الله هو الحق المبين؛ حيا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله.

      أصبحت أعوذ بوجه الله الكريم، واسمه العظيم، وكلماته التامة، من شر السامة، والهامة، والعين اللامة، ومن شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل دابة ربّي أخذ بناصيتها، إنّ ربّي على صراط مستقيم.

      اللّهم إني أعوذ بك من جميع خلقك، وأتوكّل عليك في جميع أموري، فاحفظني من بين يدي ومن خلفي ومن فوقي ومن تحتي ولا تكلني في حوائجي إلى عبد من عبادك فيخذلني، أنت مولاي وسيّدي فلا تخيّبني من رحمتك.

      اللّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحويل عافيتك، استعنت بحول الله وقوّته من حول خلقه وقوّتهم، وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق، حسبي الله ونعم الوكيل.

      اللّهم أعزّني بطاعتك، وأذلّ أعدائي بمعصيتك، واقصمهم يا قاصم كل جبار عنيد، يا من لا يخيب من دعاه ويا من إذا توكل العبد عليه كفاه، اكفني كل مهم من أمر الدنيا والآخرة.

      اللّهم إنّي أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين وخشوع العابدين، وعبادة المتقين، وإخبات المؤمنين، وإنابة المخبين، وتوكل الموقنين، ويسر المتوكلين، وألحقنا بالأحياء المرزوقين، وأدخلنا الجنة، واعتقنا من النار، واصلح لنا شأننا كله.

      اللّهم إني أسألك إيماناً صادقاً يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، إنك بكل خير عليم غير معلم أن تقضي لي حوائجي، وأن تغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله إنك حميد مجيد.

      و يقول الإمام الكاظم: (... يا رحيماً بكل مسترحم، ويا رؤوفاً بكل مسكين، ويا أقرب من دعي وأسرعه إجابة، ويا مفرّجاً عن كل ملهوف، ويا خير من طلب منه الخير وأسرعه عطاءً ونجاحاً، وأحسنه عطفاً وتفضّلاً) والدعاء هو الفناء في اللهجل وعلا حيث تعقبه حياة أبدية، والرحيل إليه بشوق يبعث حرارة الشعور وصدق العاطفة، ونبل الأحاسيس، وشفافية الروح إلى من إليه ترجع الأمور.

      و يقول الإمام الكاظم (ع):
      (السرعندك علانية، والغيب عندك شهادة، تعلم وهم القلوب، ورجم الغيوب، ورجع الألسن، وخائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنت رجاؤنا عند كل شدة، وغياثنا عند كل محل، وسيّدنا في كل كريهة، وناصرنا عند كل ظلم، وقوّتنا عند كل ضعف، وبلاغنا في كل عجز؛ كم من كريهة وشدة ضعفت فيها القوة، وقلّت فيها الحيلة، أسلمنا فيها الرفيق وخذلنا فيها الشفيق، أنزلتها بك يا رب ولم نرج غيرك، ففرّجتها وخففت ثقلها، وكشفت غمرتها، وكفيتنا إيّاها عمن سواك).

      Comment

      • راية اليماني
        مشرف
        • 05-04-2013
        • 3021

        #4
        رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

        عصر الإمام الكاظم (عليه السلام)

        اتسم عصر الإمام الكاظم بموجات رهيبة من الاتجاهات العقائدية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما تميز بالنزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية، الإسلام بريء منها كل البراءة.

        وقد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعاً بعيد المدى أحدث هزاتاً اجتماعية خطيرة. والسبب في ذلك كما يرى علماء الاجتماع يعود إلى الفتح الإسلامي الذي نقل ثقافات الأمم مع سائر علومها وعاداتها وتقاليدها إلى العالم إسلامي، بالإضافة إلى أن الإسلام قد دعا المسلمين في الوقت نفسه إلى الاستزادة من العلوم والمعارف في شتى الحقول. وهذا ما أحدث انقلاباً فكرياً في المجتمع الإسلامي فتلقحت الأفكار وتبلورت بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيراً في العصور السالفة. وقد حدث ما لابدّ منه حيث تسربت تلك الطاقات العلمية إلى الجانب العقائدي من واقع الحياة، فحدثت المذاهب الإسلامية، والفرق الدينية، ممّا جعل الأمة تتشعب إلى طوائف وقع فيما بينها الكثير من المناظرات والمخاصمات والجدل، فكانت النوادي التي حفلت بالمعارك الكلامية والصراع العنيف وبصورة خاصة: خلق القرآن، وصفات الخالق الإيجابية والسلبية والقضاء والقدر.. وكان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة علماء الكلام، والفلاسفة، علماء الحديث.

        من هنا نرى العديد من الكتب التي تناولت هذه المواضيع وهي حافلة بصور كثيرة من تلك الخصومات والمشاجرات والمناظرات.

        وكان من أخطر الدعوات المحمومة التي اندلعت في ذلك العصر هي (الإلحاد) قام به دخلاء حملوا في قرارة نفوسهم الحقد على الإسلام والكره للمسلمين، وقد ثقل عليهم امتداد الحكم الإسلامي وانتشار سلطانه في الأرض، وتثبيت شريعته الإنسانية السمحاء.

        فرأوا أن لا حول لهم ولا طول إلى محاربته بالقوة، فأخذوا عن طريق الخداع والحيل يبثون سمومهم في نفس الناشئة الإسلامية، وما زالوا حتى اليوم يلقون الشبه والأوهام في النفوس حتى أننا وجدنا من استجاب لهم من المسلمين المخدوعين والمغرورين، وكان لهم بالمرصاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وكبار رجال الفكر والقادة من أصحابه وطلابه فتصدوا لتلك الأفكار الوافدة بالأدلة العلمية القاطعة وبيّنوا فسادها وبعدها عن المنطق والعقل. فكانت تحمل احتجاجاتهم طابع الجهاد في سبيل الحق والحرص على مصالح الأمة الإسلامية.

        بسبب ذلك قام علماء الشيعة الجهابذة فحاضروا وناقشوا وحاوروا الملحدين والخارجين على الدين حتى دان لهم عدد غفير وعادوا إلى حظيرة الإسلام مقتنعين راضين. لكن هذا الأمر لم يرق للحكام العباسيين فتصدوا لقاعدة الحركة العلمية من الشيعة واضطهدوهم ونكّلوا بهم ومنعوهم في أغلب الأحيان من الكلام في مجالات العقيدة خوفاً على مناصبهم عندما يظهر الحق الصريح، حتى اضطر الإمام الكاظم (عليه السلام) في أيام المهدي أن بعث إلى هشام أن يكف عن الكلام نظراً لخطورة الموقف، فكفّ هشام عن ذلك حتى مات المهدي.


        سياسة الحكم العباسي


        قام الحكم العباسي في أكثر أدواره على الظلم والجور نهج فيه العباسيون منهجاً فردياً خاصاً بعيداً عن العدل السياسي والعدل الاجتماعي، تسلموا جميع السلطات الإدارية والقضائية، ولم يكن عندهم ثمة مجلس إداري أو استشاري تعالج فيه أمور الرعيّة ومصالحها ووسائل تطورها وتقدمها. فالخليفة يحكم بحسب رأيه وهواه وكأنّه ظل الله على الأرض ـ كما يقولون ـ فالطابع الاستبدادي للحكم العباسي واضح لا لبس فيه. استبداد ونهب أموال، ومصادرة الحريات، وظلم، وإرغام الناس على ما يكرهون.

        والواقع أن الحكم العباسي لا يختلف في مادته وصورته عن الحكم الأموي فالنظام الإداري العباسي هو نفسه في جوهره نظام الأمويين.

        الدوائر الرسمية في العصر العباسي أجحفت كثيراً بحقوق العامة في الوقت نفسه كانت تصانع ذوي النفوذ والوجوه المعروفة فتمارس الظلم والجور على الأهالي المساكين الذين يدفعون الضرائب ويلبون الدعوة للجهاد، بينما كان الحكام ينفقون أموال الشعوب الإسلامية على شهواتهم وحواشيهم، ولا نغالي إذا قلنا أن التاريخ يعيد نفسه في أكثر العصور.

        جاء في تاريخ الإسلام أن العتابي سُئل: لماذا لا تتقرّب بأدبك إلى السلطان؟

        فقال: (إني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون!!) ولما قتل المأمون ووزيره الفضل بن سهل، عرض الوزارة على أحمد بن أبي خالد فأبى أن يقبلها وقال:

        (لم أر أحداً تعرض للوزارة وسلمت حاله) والسبب واضح في ذلك أن الحكم العباسي لم يكن جارياً على قانون معروف أو دستور مكتوب، بل كان يجري حسب نزعات الحاكم ويمول الخليفة، فهو الذي كان يوزع الموت أو الحياة على من كره أو على من أحب.

        فالأحكام بالإعدام كانت تصدر من البلاط بمجرد وشاية من غير أن يطمئن أو يوثق بقول المخبر، مرة تصدر بالمفرد ومرة تصدر بالجملة.

        ونعطي مثلاً نموذجاً على ذلك: فقد وشي برجل يقال له: (الفضيل بن عمران) إلى أبي جعفر المنصور، وكان كاتباً لابنه جعفر وولياً لأمره، فقد وشي به أنه يعبث بجعفر، فبعث المنصور برجلين أو جلادين، وأمرهما يقتل الفضيل حيث وجداه، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به وقال للرجلين: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. فلما انتهيا إليه ضربا عنقه، وكان الفضيل عفيفاً صالحاً، فقيل للمنصور: إنه أبرأ الناس ممّا رمي به، وقد عجلت عليه، فندم على ذلك، ووجه رسولاً، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول فوجده جثة هامدة، فاستنكر جعفر ذلك وقال لمولاه:

        (ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل، مسلم، عفيف، دين، بلا جرم ولا جناية؟!) فأجابة مولاه سويد:

        (هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، وهو أعلم بما يصنع).

        هكذا كان يعتقد أصحاب العقول البسيطة الساذجة، وهكذا كانت أرواح الناس يتصرفون بها حسب ما يشاءون، وما العجب فالملك في نظرهم يفعل ما يحلو له، فهو ظل الله على الأرض، لا يسأل عن ذنب ولا عن جرم. فمن يحاسبه؟ ليس هناك من سلطة قضائية معروفة، وليس عنده من ضمير يردعه عن المحرمات. ومع ذلك يعد نفسه خليفة المسلمين. أين هم وأين الإسلام؟! هوة ساحقة تفصل بينما هم أشبه بالقياصرة والأكاسرة!! والحقيقة أن البلاد الإسلامية أيام الحكم العباسي كانت ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم والجور والتعسّف، حيث كان حكام بني العباس ينفذون خططهم بالعنف والقتل على الظن. ولأوّل مرة في تاريخ الإسلام نجد النطع إلى جانب كرسي الخلافة، كما نجد الجلاد أداة للوصول إلى العرش على حد قول المؤرخ المعروف فليب حتي.

        على هذه الحال كان الحكم العباسي في اكثر أدواره وعهوده، وكان خاضعاً للأهواء الشخصية والعواطف القبلية. فالغلمان والنساء والندماء والعابثون كان لهم الضلع الكبير في إدارة شؤون الحكم وتوزيع الهبات والجوائز على المغنين والمغنيات.

        فالحكم عندهم لم يخضع لمنطق الحق والعدل اللذين أمر بهما الإسلام.

        هذا الوضع غير السليم جعل العصر يحفل بقيام فرق إسلامية عديدة ومذاهب وطوائف اختلفت فيما بينها في أصول الدين وفروعه.


        الفرق الإسلامية
        أهم ما حصل من أحداث في العصر العباسي الأول قيام المذاهب الإسلامية وحدوث نزاع بين المسلمين فانقسموا إلى عدة طوائف، وفرق اختلفت فيما بينها في اكثر أمور الدين.

        والطريق أن الحكم العباسي هو الذي شجع على أحداث المذاهب الإسلامية، فغذاها ونمّاها، وحمل الناس بالقوّة والقهر على اعتناقها. وما نرجح في ذلك:

        إبعاد المسلمين عن أئمة أهل البيت الذين يمثلون واقع الدين الإسلامي الصحيح واتجاهاته الثورية في القضاء على الظلم والغبن، وإنقاذ الناس المقهورين من الجور السياسي والاستبداد الظالم، وإذا ما رجعنا قليلاً إلى الوراء نجد:

        العلويين قد اندفعوا في العصر الأموي إلى ساحات الجهاد المقدس لحفظ الدين وصيانة المجتمع من ظلم الأمويين وبطشهم، لقد حاولوا بتكليف شرعي إعادة المبادئ الكريمة التي ينشدها الإسلام، ويؤمن بضرورة توفيرها على جميع المواطنين، وهي تتلخص على الإيمان الكامل بحق الفرد، ونشر الاستقرار في الربوع الإسلامية، وبسط العدالة والحرية والمساواة والأخوة بين المسلمين، وتوفير كل أسباب المعيشة الهانئة والرزق الكريم والأمن على كافة الأراضي الإسلامية.

        هذه المبادئ اعتبرها العلويون القاعدة الأساسية لتقدم المجتمع وتطويره لينطلق في ميدان الحياة الحضارية الحرة الكريمة.

        وفي العصر العباسي أكمل العلويون جهادهم من أجل هذه المبادئ العليا فهبّوا إلى ميادين النضال لأن السكوت على الظالم مساعدة له على ظلمه. لذلك واجهوا صعوبات كثيرة ومشاكل معقدة، فسجنوا في السجون، ودس لهم السم، وأريقت دماؤهم، وارتفعت أجسادهم على أعواد المشانق، ولم يتخلوا عن مبادئهم المقدسة ونضالهم الشرعي في مقاومة الظلم من سلطة أي كان، داخلي أم خارجي. فالتف حولهم العدد الغفير من جماهير المؤمنين لأن العلويين حماة هذه الأمة وقادتها الشرعيين وولاة أمرها، وإنه لا يمكن بأي حال أن تتوفر للمجتمع في ذلك العصر أسباب معيشته ورخائه إلا في ظل حكمهم العادل، فالتف حولهم الثوار والمتظاهرون وهتفوا بأعلى أصواتهم (الدعوة إلى الرضا من آل محمد).

        وكان لابدّ من قيام ثورة عارمة اندلعت في جميع أنحاء البلاد على الحكم الأموي فأطاحت به ودكت أركانه، وقامت الدولة العباسية بمؤازرة العلويين الذين كان لهم اليد الطولى في مناصرتها وتثبيت أركانها، ولما استتب لهم الأمر وتملّكوا زمام الحكم، عملوا جاهدين على التنكيل بالعلويين وإبادتهم بأبشع الطرق والأساليب.

        وكان المخطط الرهيب الذي أتبعه الحكام العباسيون من السفاح إلى المنصور إلى هارون إلى المأمون إلى الهادي... كلهم عملوا على القضاء على الشيعة ومن ناصرهم من القوى المعارضة، والقوى المؤمنة التي تعرف الحق وأهله.

        هذا المخطّط العباسي اعتمد على عدة أمور خلاصتها: أشغال المسلمين بالقضايا العقائدية وتفرقتهم وإبعادهم عن الشؤون السياسية، من هنا وجدنا النوادي في بغداد ويثرب والبصرة وسائر أنحاء العالم الإسلامي تعج بالمناظرات الكلامية، والجدل الفلسفي واحتجاج كل فريق على الفريق الآخر لتثبيت نظريته ودحض نظرية الآخرين، وكل هذه الفرق كانت تدور وتجول حول الإطار العقائدي في الإسلام. وقد وجهت الحياة العلمية في العصور العباسية إلى أحداث المذاهب الإسلامية بعيداً عن الحياة السياسية التي يعيشها عامة المسلمين.

        ونقطة هامة أخرى اعتمدها المخطط العباسي هي:

        عزل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن الحياة السياسية، والرقابة المشددة عليهم، ومنع الاتصال بهم، وابعاد الناس عن الأخذ منهم فيما يعود إلى الأمور العقائدية ومعالم الدين الإسلامي.

        لذلك وجدنا المنصور الدوانيقي يعهد إلى الإمام مالك، أحد رؤساء المذاهب الأربعة وضع كتاب في الفقه يحمل الناس على العمل به قهراً، فامتنع مالك أوّل الأمر، وهو تلميذ الإمام جعفر الصادق، ثم رضخ لأوامر المنصور بعد الترهيب والترغيب فوضع كتابه المعروف بالموطأ.

        منذ ذلك الوقت بدأت الحكومات العباسية تساند أئمة المذاهب الأربعة، وتنشر فقههم، حتى أنها حملت الناس على العمل بهذه المذاهب بعد أن أغدقت عليهم الأموال الطائلة، وكرمتهم تكريماً عظيماً لإبعاد الناس عن المذهب الجعفري، مذهب الإمام الصادق ومذهب أئمة أهل البيت المتخذ برمته عن جدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، المتخذ عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الذي هو أول من وضع بذرة التشيع، هذه البذرة الطيبة المباركة، ونماها وتعاهدها بالسقي والعناية.

        وأول من شجع على انتشار مذهب مالك الرشيد حيث أمر عامله على المدينة بان لا يقطع أمراً دون أن يأخذ رأي مالك، كما كان يجلس على الأرض لاستماع حديثه تكريماً لمالك وتعظيماً لمذهبه.

        ثم أصدر أوامره بأن لا يهتف أيام الحج إلا مالك، فأخذ الناس يزدحمون عليه وتوافدت إليه الوفود من سائر الأقاليم لاستماع حديثه وأخذ الأحكام الشرعية منه. وكان لا يدنو إليه أحد لما أحيط به من التقدير الرسمي. فقد اجتمع به غلمان من السود غلاظ شداد يأتمرون بأمره، وينكلون بمن شاء أن ينكل به.

        لقد علا شأن مالك بما أعطي من السلطة من مكانة مرموقة وعناية بالغة أولتها له الحكومة العباسية كما أولت غيره من أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى. والغرض من ذلك واضح كل الوضوح وهو إضعاف كيان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والقضاء على الشيعة الذين كانوا من أقوى الجبهات المعادية للحكم العباسي الظالم. لكنهم فشلوا وبقي الشيعة يجاهدون وما زالوا في إعلاء كلمة الحق وصيانة الدين الإسلامي من الانحراف والتزوير. قال تعالى:

        (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

        ولا يخفى على أحد من المؤرخين وعلماء الحديث والصحابة المؤمنين أن الطائفة الشيعية حملت لواء الإصلاح وثارت في وجه الطغاة والظالمين المستبدين، وحفل تاريخها بالمآثر الطيّبة والمفاخر الحميدة وخدمة الإسلام مهما كلف الثمن. لقد جاهدوا ضد الظالمين لأن السكوت عن الظلم خيانة شرعية، والسكوت عن الظالم يعني مساعدته على ظلمه فلابد إذن من المقاومة الشرعية.

        وأول المقاومين للظلم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد كلفه ذلك جهاداً مريراً وحروباً دامية ضد المنحرفين عن الدين القويم أمثال معاوية بن أبي سفيان وأعوانه. ثم استلم راية الجهاد في سبيلالله ابنه الإمام الحسين (عليه السلام) ضد يزيد الفاجر العاهر وأعوانه الذين اشتروا الضلالة بالهدى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واشتروا الكفر بالإيمان.

        أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج من أجل الإصلاح في أمة جده التي ظللها معاوية وتابع بعده ابنه يزيد في الانحراف والظلم والضلال، فكان لابدّ للإمام المعصوم إلا أن يقوم بالمسؤولية الإلهية فقال (عليه السلام): (عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) وهكذا تابع الأئمة (عليهم السلام) الجهاد في سبيل الله في جميع العصور.

        Comment

        • راية اليماني
          مشرف
          • 05-04-2013
          • 3021

          #5
          رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

          التنكيل بالعلويين مع المنصور:

          أصاب العلويون ألواناً من شتى المحن في العهدين الأموي والعباسي ومحنتهم في عهد المنصور كانت من أقسى المحن وأفجعها، فقد أذاقهم جميع أنواع العنف والجور والعذاب، فحاو عدة مرات إبادة شبابهم وشيوخهم، وكان ما حل بهم من التنكيل مع الحكام العباسيين وخاصة المنصور، أضعاف ما واجهوه أيام الحكم الأموي حتى قيل في ذلك:

          يــــا لــــــيت جـــــور بني أمية دام لنا وليــــــت عــــدل بني العباس في النار


          لقد واجهوا عنف الخطوب وأقسى الرزايا من أجل تحرير المجتمع الإسلامي وإنقاذه من الجور والظلم والاستبداد.

          لم يضعفوا أمام هذا الطاغية وأمام غيره من الحكام الظالمين، بل اندفعوا بكل فخر واعتزاز إلى ساحات الجهاد، وناضلوا في سبيل إعلاء كلمة الله حتى استشهدوا أحراراً كراماً مشجعين الأحرار والمناضلين في عصرهم وفي كل عصر على متابعة طريق النضال، فاتحين لهم أبواب الكفاح، راسمين لهم طريق الخلاص من حكم الذل والعبودية.

          وسوف نذكر حادثة أليمة من حوادث جسام كثيرة فعلها المنصور مع العلويين. لقد زجهم في سجن مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار، حتى باتوا لا يعرفون وقت الصلاة فجزأوا القرآن الكريم خمسة أجزاء فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كل واحد منهم لجزئه أمر الطاغية بإحضار محمد بن إبراهيم وكان أية في بهاء وجهه وجماله ولما حضر عند المنصور التفت إليه قائلاً:

          أنت المسمى بالديباج الأصفر؟ فقال: نعم.

          أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً من أهل بيتك.

          ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت، وأدخل فيها، فبنيت عليه وهو حي وبقي العلويون في سجن المنصور وهم يعانون أهوالاً من الخطوب والمصائب، حتى مرضوا ومات أكثرهم، ثم أمر الطاغية بهدم السجن على من بقي منهم، فهدم عليهم، ومات أكثرهم وفيهم عبد الله بن الحسن.

          حفلت هذه المأساة الغريبة والعجيبة بأنواع الرزايا والخطوب، فقد انتهكت فيها حرمة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في ذريته وأبنائه، ولم يراقب المنصور الله فيهم ولم يرع أي حرمة لهم.

          لقد وهبت تلك النفوس الزكية أرواحها لله لتنقذ من شر تلك الطغمة الحاكمة عباد الله، حكام ظالمون همهم الدنيا والسلطان والجاه والمال، وفي سبيل ذلك كفروا بجميع القيم الإنسانية، وتنكّروا لجميع المبادئ الإسلامية.

          هذه المأساة الكبرى أثارت موجات من السخط على بني العباس فتجمهر الأحرار حول أهل البيت متمسكين بعد لهم ومبادئهم بغية إنقاذهم من هذا الوضع المتردي الأليم. وقد اندفع الشعراء بعد أحقاب من السنين المريرة بهجاء الحكام العباسيين على جرائمهم النكراء وخاصة الجريمة الأخيرة التي ذهب ضحيتها عبد الله بن الحسن.

          من هؤلاء الشعراء نذكر أبا فراس الحمداني الشاعر العربي الأصيل، استنكر الجريمة النكراء واندفع قائلاً في قصيدة طويلة بلغت ما يقارب الستين بيتاً نذكر منها:

          الـــــدين مخــــــترم، والحــق مهتضم؛ وفـــــيء آل رســــــول الله مقــــــتسم

          يــــا لــــلرجـــــال! أمــــا لله مــنتصف مــــــن الطــــــغاة؟ أمـا للدين منتقم؟!

          بــــنو عــــليّ رعــــايا فـــــي ديـارهم والأمـــــر تــــملكه النـسوان والخدم!

          للمتقـــــين، مـــــن الـــدنـــيا، عواقبها وإن تـــــعجل منـــــها الـــظالم الأثــــم

          لا يطـــــغينّ بــــــني العـــباس ملكهم! بـــــنو عـــــلي مـــواليهم وإن زعـموا

          أتــــــفخـــــرون عــــــليهم؟ لا أبـــالكم حـــــتى كــــــأنّ رســـــول الله جـــدكم

          ومـــــا تـــــوازن، يــــوماً بينكم شرف ولا تـــــساوت بـــكم، فـي موطن، قدم

          ولا لـــــكم مثــــلهم، في المجد، متصل ولا لجـــــدكم مــــــسعاة جــــــدهــــــم

          ولا لعــــرقكم مــــــن عـــــرقــهم شبه ولا نـــفـــــيلـــــتكم من أمــــــهم أمـــم

          قـــــام النـــــبي بـها، يـوم الغدير، لهم والله يــــــشــهد، والأمـــــلاك والأمـــم

          حتـــــى إذا أصبـحت في غير موضعها لكـــــنهم ســــتروا وجـــه الذي علموا

          ثـــــم ادعاها بــــــنو العـــــباس إرثهم وما لـــــهم قـَــــدَم، فــــيها، ولا قِـــدَم

          بئـــــس الجزاء جزيتم فـــي بني حسن أبـــــوهم العـــــــلم الهــــادي وأمـــهم

          لا بـــــيعة ردعـــــــتكم عــــن دمــائهم ولا يمــــــين، ولا قـــــربى، ولا ذمــم

          هــــلا صفحتم عــــن الأسرى بلا سبب للصـــــافحيـــن بـــــبدر عـن أسيركم؟

          هـــلا كفــــفتم عــن الديـــــباج السنكم وعــــــن بــــــنات رسـول الله شتمكم؟

          مــــا نـــــزهت لـــــرسول الله مهــجته عن الســــــياط! فـــــهلا نــزّه الحرم؟

          مـــا نــال منهم بنو حرب، وإن عظمت تــــــلك الجــــــرائر، إلا دون نيـــــلكم

          كــــم غــــــدرة لكم في الدين واضحة! وكــــــم دم لــــــرسول الله عـــــندكم!

          أأنتــــــم آله فــــيما تـــــرون، وفـــــي أظــــــفاركم، مـــن بنيه الطاهرين دم؟

          هيــــــهات لا قــــربت قــربى ولا رحم يومـــــاً، إذا أقـــصت الأخلاق والشيم!

          كـــــانت مـــــــودة ســـــلمان لـه رحم ولـــم يكـن بين نوح وابنه رحم!

          ليـــس الرشيد كموسى في القياس ولا مأمـــونكم كـــالرضا إن أنـصف الحكم

          الركــــن والبـــــيت والأســـتار منزلهم وزمـــــزم، والصــفا، والحجر والحرم

          صـــــلى الإله علــــــيهم، أيـنما ذكروا لأنــــــهم للـــورى كهــــــف، ومعتصم

          يبدو واضحاً من هذا الشعر الأسى العميق على ما أصاب العلويين من النكبات والرزايا في عهد المنصور وسائر ملوك بني العباس الذين تنكروا للاحسان الذي أسداه إليهم الرسول الأعظم وعلى جدهم العباس فقد قابلوا الإحسان بالاساءة، والعفو بالعقاب المرير لذرية النبي الشريفة، وعترته الطاهرة.

          مصادرة أموال العلويين

          لما اعتقل المنصور العلويين، وأودعهم في السجون المظلمة، عهد إلى عامله بمصادرة جميع أموالهم وبيع رقيقهم.

          كما صادر اموال الإمام الصادق (عليه السلام)، ولما هلك المنصور يروى أن المهدي أرجعها إلى ابنه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).

          وضعهم في الاسطوانات

          بدأ المنصور يفتش على من بقي من العلويين فمن ظفر به جعله في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر، حتى ظفر بغلام من ولد الحسن وكان حسن الوجه فسلمه إلى البناء وأمره أن يجعله في جوف اسطوانة ويبني عليه، فدخلت البناء رقة على هذا الولد الوسيم فترك له في الاسطوانة منفذاً يدخل منها الهواء، وقال للغلام: لا بأس عليك فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة عندما يرخى الليل سدوله.

          ولما جن الليل جاء البناء فأخرج العلوي المظلوم، وقال له: اتق الله في دمي ودم العملة الذين معي، وغيّب شخصك، فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة لأني خفت أن يكون جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم القيامة خصمي بين يدي الله، وأكد عليه بأن يواري نفسه فطلب منه الغلام أن يخبر أمه لتطيب نفسها، ويقل جزعها، فهرب الغلام ولا يدري بأي أرض أقام، وجاء البناء إلى دار أم الغلام ليعلمها بخلاص ابنها من قبضة ذلك الطاغية فسمع دوياً كدوي النحل قبل أن يدخل من البكاء فعرف أنها أمه فأسرها بخبر ولدها، وانصرف عنها.

          هلاك المنصور

          عهد المنصور بأمره إلى ولده المهدي، ونصبه ملكاً من بعده وأوصاه بهذه الوصية: (إني تركت بعض المسيئين من الناس على ثلاثة أصناف، فقيراً لا يرجو إلا غناك، وخائفاً لا يرجو إلا أمنك، ومسجوناً لا يرجو الفرج إلا منك، فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية، لا تمدد لهم كل المد.. وقد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها..).

          هلك الطاغية الجبار الذي أذاق جميع الناس صنوف الظلم والجور والفقر سنة (158هـ) وانطوت بذلك صفحة سوداء من حياة الأمة الإسلامية مملوؤة بالاثم والموبقات وكان عمر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) آنذاك ثلاثين سنة، مضى خلالها زهرة شبابه في عهد هذا الطاغية مكلوم القلب، حزين النفس، كاظم الغيظ حزناً على المسلمين عامة، وعلى ما لاقاه العلويون خاصة من التنكيل البشع، والعذاب الأليم. وسوف نرى صفحة أخرى مع ولده المهدي.

          في عهد المهدي

          كان المهدي ألين جانباً من أبيه فقد عرف بالسخاء، وبسط الكف، وعدم القسوة على الناس عموماً، لذلك استقبله العالم الإسلامي بمزيد من الفرح والبهجة لما لاقاه من العنف والجور في حكم أبيه المنصور. وحينما استقل بالحكم أصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عن جميع المساجين والمعتقلين السياسيين، سوى من كان في عنقه دم أو كان ذا فساد في الأرض؛ كما رد جميع الأموال المنقولة والثابتة التي صادرها أبوه من أهلها ظلماً وعدواناً، ومن هؤلاء كان الإمام موسى (عليه السلام) رد عليه كل ما صادره أبوه المنصور من الإمام الصادق (عليه السلام).

          يقول المؤرخون عن سبب ذلك أنه يعود إلى الوضع العام في البلاد حيث أصبح الملك على جانب عظيم من الطمأنينة والاستقرار.

          وسبب آخر هو ما ظفر به من الثراء العريض ممّا جمعه أبوه المنصور الذي يعده الجاحظ، من أصحاب الجمع والمنع ومن أبخل البخلاء.

          لكن ممّا يؤسف له أن هذا المال الذي جمعه أبوه بالتقتير والظلم قد أنفقه المهدي على اللهو والمجون والهبات الكبيرة للماجنين والمغنين والعملاء، دون أن يهتم بالطبقة الضعيفة الفقيرة فكان كل همه إشباع شهواته الشخصية، والبذخ والترف والمجون. أمّا ما ورثه من أبيه وبقي على الخط نفسه: عداؤه للعلويين وشيعتهم، فقد كان يكرههم كرهاً شديداً، ورث ذلك من أبيه المنصور الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم وفيما يلي نعرض بعض نزعاته الحاقدة وأعماله الجائرة وما لاقاه الإمام موسى (عليه السلام) في عهده من ظلم وجور وسجن.

          شاع الله و في عهد المهدي، وساد المجون، وانتشر التحلل بين الناس، فقد ذاع شعر بشار بن برد وتغزله بالنساء حتى ضجّ منه الأشراف والغيارى على الدين. دخل على المهدي يزيد بن منصور وطلب منه أن يوقف بشاراً عند حده، فضيق عليه في بادئ الأمر ثم أطلق سراحه، وانجرف هو بتيار مكشوف من المجون والدعارة، ويعد بنظر الجاحظ المؤسس الأول للهو في دولة بني العباس.

          يقول الجاحظ:

          (إنه احتجب بادئ ذي بدء عن المغنين ثم قال: إنما اللذة في مشاهدة السرور في الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها؟) وبلغه حسن صوت إبراهيم الموصلي وجودة غنائه فقرّبه إليه، وأعلى من شأنه وكان مولعاً بشرب الخمر حتى نهاه عن ذلك وزيره يعقوب بن داود قائلاً له: (أبعد الصلاة في المسجد تفعل هذا؟!).

          فلم يلتفت لنصحه وقد سمع نصيحة بعض الشعراء الماجنين الذين حبذ له الاستمرار في شربها وعدم الاعتناء بقول وزيره قائلاً:

          فـــــدع عنـــــك يعـقوب بن داود جانباً وأقـــبل على صهباء طيبة النشر

          الرشوة والظلم


          انشغل المهدي بلهوه وملذاته عن الرعيّة، فأخذ عماله الذئاب ينهبون الأموال ويستلبون الثروات، وانتشرت الرشوة انتشاراً هائلاً عند جميع القائمين على شؤون الدولة. كما عمد إلى ظلم الناس والاجحاف بحقوقهم، فأمر بجباية أسواق بغداد، وجعل الأجرة عليها.

          كما شدد في الخراج إلى حد لا يطاق، وإذا ما اشتكى أحد من رعيته المظلومين مستغيثاً يكون مصيره السجن أو القبر.

          اهتمامه بالوضاعين

          قرّب المهدي منه طائفة من علماء السوء الذين باعوا ضمائرهم بثمن رخيص، وفتكوا بالإسلام، وشوهوا معالمه، فأخذوا ينمّقون الأباطيل ويلفّقون الأكاذيب في مدح المهدي والثناء عليه، أمثال:

          أبي جعفر السندي، وغياث بن إبراهيم الذي عرف هوى المهدي في الحمام فحدثه عن أبي هريرة أنه قال: (لا سبق إلا في حافراً ونصل، وزاد فيه أو جناح..) فأمر له المهدي على حديثه الكاذب بعشرة آلاف درهم، ولما ولّى عنه جلساؤه قال: (أشهد أنه كذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما قال رسول الله ذلك، ولكنه أراد أن يتقرّب إليّ..). ومع علمه بكذبه فقد أوصله وأعطاه وبذلك شجع حركة وضع الحديث وهي من أعظم الكوارث التي مني بها الإسلام.

          عداؤه للعلويين

          كان المهدي يكن في أعماق نفسه البغض للعلويين وشيعتهم، وقد ورث هذه البغضاء والكراهية عن أبيه المنصور، ويعود السبب في ذلك إلى الحق في تولي الحكم؛ فالثورة على الحكم الأموي قامت على أكتاف العلويين حماة العدل والحق في الإسلام؛ وكانت تحمل طابع التشيع وواقعه الذي اتخذه الثوار شعاراً لهم، فناضلوا من أجله وانضم العباسيون إلى الدعوة على هذا الأساس.

          روى الطبري قال: دخل المهدي على أبي عون عائداً له، وطلب منه المهدي أن يعرض عليه حوائجه ليقوم بقضائها لأنه كان من أعز أصحابه وآثارهم عنده. فقال له أبو عون:

          ـ حاجتي أن ترضى عن ولدي عبد الله، فقد طالت موجدتك عليه.

          فقال المهدي: ـ يا أبا عبد الله أنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك، إنه يسيء القول في الشيخين.

          فقال أبو عون: ـ هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم) فالثورة على الحكم الأموي كما يتضح إنما كانت شيعية بجميع أبعادها، فالمهدي متأكد من ذلك وعموم العباسيين يجزمون أن الثورة قامت من أجل التشيع.

          وشاهد آخر يدل أن الحق في تسلّم الحكم للعلويين وأن العباسيين اختلسوا الحكم من أجل أطماعهم وهو: أن القاسم بن مجاشع بعث بوصيته إلى المهدي ليشهد فيها يقول بالرسالة الوصيّة:

          (شهد الله أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام يشهد بذلك،ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووارث الإمامة من بعده).

          فلما قرأ المهدي الفقرات الأخيرة من الوصية رماها من يده ولم ينظر في باقيها).

          لقد آمن بذلك خواص العباسيين لكن طمع العباسيين في تولي السلطة وانحرافهم من أجل أطماعهم أحدث في نفوس حكامهم الطامعين هذا البغض للعلويين.

          المهدي والإمام موسى (عليه السلام)

          في بداية حكمه لم يتعرض المهدي إلى الإمام بمكروه، وقد اكتفى بوضعه تحت الرقابة المشددة. ولما شاع ذكره في الأوساط الإسلامية عامة، والشيعية خاصة، ثار غضب المهدي، وعمد إلى التضييق عليه، ثم إلى اعتقاله، لكنه سرعان ما أطلق سراحه لأنه رأى برهاناً إلهياً منعه عن ذلك. وذاك البرهان:

          إطلاق سراح الإمام (عليه السلام)

          سئم الإمام (عليه السلام) من السجن، وضاق صدره من طول المدة، فلجأ إلى الله تعالى في أن يخلصه من هذه المحنة. قام في غلس الليل فجدد طهوره وصلّى لربه أربع ركعات واخذ يناجي الله ويدعوه، فاستجاب الله جلّ جلاله دعاء الإمام (عليه السلام)، فأخرج من السجن.

          عودة اعتقال المهدي للإمام (عليه السلام)

          لما انتشر ذكر الإمام وذاع صيته في جميع الآفاق الإسلامية، خاف المهدي على كرسيه ولم يتمالك حقده وغيظه، واعتقد أن ملكه لا يستقر إلا باعتقال الإمام، فكتب إلى عامله على المدينة يأمره بارسال الإمام إليه فوراً، ولما وصلت الرسالة وبلغ الإمام الخبر، تجهز للسفر من وقته، فسار (عليه السلام) حتى انتهى إلى (زبالة) فاستقبله أبو خالد بحزن، نظر إليه الإمام نظرة رأفة ورحمة وقال له:

          ـ ما لي أراك منقبضاً؟!!

          ـ كيف لا أنقبض وأنت سائر إلى هذا الطاغية ولا آمن عليك. هدأ الإمام من روعه وأخبره أنه لا ضير عليه في سفره هذا.

          ثم انصرف الإمام متوجهاً إلى بغداد. فلما وصل إليها أمر المهدي باعتقاله وإيداعه السجن، ونام المهدي تلك الليلة فرأى في منامه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فخاطبه:

          يا محمد (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ).

          فنهض المهدي من نومه مذعوراً واستدعى حاجبه الربيع فوراً فلما مثل بين يديه سمع المهدي يردد هذه الآية المباركة، وأمره بإحضار الإمام موسى، فلما أقبل إليه عانقه وأجلسه إلى جانبه ثم قال له بعطف غير مألوف منه:

          (يا أبا الحسن، إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقرأ عليّ الآية المذكورة، أفتؤمنني أن لا تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟

          ـ والله ما فعلت ذلك ولا هو من شأني.

          ـ صدقت، يا ربيع، أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة، فقام الربيع فشايعه وأحكم أمره وسرحه في الليل.

          وسارت قافلة الإمام (عليه السلام) تطوي البيداء حتى انتهت إلى (زبالة) وكان اليوم الذي عينه لأبي خالد الذي يترقب قدومه بفارغ الصبر. فلما قدم (عليه السلام) عليه بادر يلثم يديه والفرح باد عليه فأدرك الإمام سروره وقال له: (إن لهم إليّ عودة لا أتخلص منها). وأشار إلى ما يصنعه له هارون من اعتقاله في سجونه.

          الإمام الكاظم (عليه السلام) في عهد الهادي

          تولى الهادي الخلافة في أيام شبابها الغض، وفي إبان قوتها الكاملة، وثروتها الموفورة، وقد بويع له وهو في غضارة العمر وريعان الشباب، فدفعه ذلك إلى التمادي في الغرور والطيش، ومن مظاهر ذلك أنه كان إذا مشى مشت الشرطة بين يديه بالسيوف المشهورة، والأعمدة والقسي الموتورة ليظهر بذلك أبهة السلطة، اتصف بنزعات شريرة ظهرت في سلوكه وفي أعماله.

          ومن هواياته الخاصة اللهو والغناء، أحب صوت إبراهيم الموصلي وغناه فأطربه، فوهب إليه ثلاثين ألف دينار، وهو القائل: لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب.

          وقد بالغ هذا الطاغية المغرور في عدائه للعلويين والتنكيل بهم، فقطع ما أجراه لهم المهدي من الأرزاق والأعطيات، وكتب إلى جميع الآفاق في طلبهم، وحملهم إلى بغداد.

          ومن الكوارث الفظيعة التي حلّت بعترة النبي (صلّى الله عليه وآله) وذريته كارثة (فخ) التي تحدث عنها الإمام الجواد بقوله:

          (لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ).

          لقد اقترف العباسيون في هذه الجريمة أضعاف ما اقترفه الأمويون في مأساة كربلاء، فرفعوا رؤوس العلويين على الرماح ومعها الأسرى يطاف بها في الأقطار، وتركوا الجثث الطاهرة ملقاة على الأرض مبالغة منهم في التشفي والانتقام من أهل البيت (عليهم السلام).

          أرسلت رؤوس الأبرار الطاهرين إلى الطاغية الهادي ومعها الأسرى مقيدون بالسلاسل، وفي أيديهم وأرجلهم الحديد.

          أمر الطاغية بقتل الأسرى فقتلوا وصلبوا على باب الحبس.


          تهديد الهادي للإمام موسى (عليه السلام)

          بعد أن أتم الهادي نكبته بالعلويين أخذ يتوعّد الأحياء منهم بالقتل والدمار وعلى رأسهم عميدهم وسيدهم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال: (والله ما خرج حسين إلا عن أمره، ولا اتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت قتلني الله إن أبقيت عليه).

          وأضاف يقول في تهديده: (ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر الصادق (عليه السلام) من الفضل المبرز على أهله في دينه، وعمله وفضله، وما بلغني من السفاح فيه من تعريضه وتفضيله، لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً).


          قول الإمام (ع) له

          بعد التهديد خف أهل بيت الإمام وأصحابه إليه وأشاروا مجمعين عليه أن يختفي من شرّ هذا الطاغية لينقذ نفسه من ويلاته، فلم يهتم للأمر لأنه قد استشف من وراء الغيب هلاك هذا الباغي قريباً وتمثل بقول كعب بن مالك:

          زعـــــمت سخــــينة أن ستـــغلب ربها وليــــــغــلبن مـــــغالب الغـــلاب


          وكان ما أراد الإمام بإذن الله سبحانه الذي قصم ظهره قبل أن ينال الإمام بسوء.

          دعاء الإمام (عليه السلام) على الهادي

          توجه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) نحو القبلة، وأخذ يتضرع إلى الله لينجيه من شرّ هذا الطاغية الحقود. ودعا بهذا الدعاء الجليل:

          («إلهي، كم من عدوّ انتضى عليّ سيف عداوته، وشحذ لي ظبة مديته، وأرهب لي شبا حدّه، وداف لي قواتل سمومه، وسدد نحوي صوائب سهامه، ولم تنم عني عين حراسته، وأضمر أن يسومني المكروه، ويجرّعني زعاف مرارته، فنظرت إلى ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن الانتصار ممن قصدني بمحاربته، ووحدتي في كثير من ناواني، وارصادهم لي فيما لم أعمل فيه فكري في الارصاد لهم بمثله...»).

          وبعد فراغ الإمام (عليه السلام) من دعائه الشريف التفت إلى أصحابه يهدئ روعهم، ويفيض عليهم قبساً من علمه المستمد من علم جده الرسول (صلّى الله عليه وآله) قائلاً: (,حرمة هذا القبر وأشار إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) قد مات الهادي من يومه هذا، والله إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون..).

          هلاك الطاغية الهادي

          استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء وليه العبد الصالح فأهلك عدوه الطاغية الجبار، وأراح العباد والبلاد من شره، وروت أكثر المصادر عن سبب وفاته فقالوا: إن أمه الخيزران غضبت عليه لأنه قطع نفوذها لقصة مشهورة، وأنها خافت على ولدها هارون من شرّه، فأوعزت إلى جواريها بخنقه، فعمدت الجواري إلى قتله وهو نائم.

          وبذلك انطوت صفحة هذا الطاغية، ولم تطل خلافته فقد كانت سنة وبضعة أشهر؛ لكنها كانت ثقيلة على المسلمين الذين لاقوا خلالها أصعب المحن، وهل آلم من مشهد رؤوس أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله) يطاف بها في الأقطار، وأسراهم يقتلون ويصلبون، لم ترع فيهم لا حرمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولا حرمة الإسلام، دين المحبة والعدل والتسامح!! كل هذه الأحداث الجسام من المهدي إلى المنصور إلى الهادي إلى الرشيد رآها كلها الإمام موسى بن جعفر بعينه، وشاهدها بنفسه، وذاق ويلاتها، ورافق مآسيها؛ لقد رأى الحق مضاعاً، والعدل مجافى والظلم مسيطراً، والأحرار في القبور وفي غياهب السجون.

          عاش في غضون صباه وفي ريعان عمره محنة المجتمع الإسلامي وشقاءه فرأى الأدوار الرهيبة التي مرّت به فلم ينتقل من جور الأمويين وظلمهم حتى وقع تحت وطأة الحكم العباسي، فأخذ يعاني التعسف والجور والاستبداد، وأخذت السلطة العباسية تمعن في نهب ثروات المسلمين وإفقارهم وصرفها على المجون والدعارة كما كان الحال أيام الحكم الأموي. ومن الطبيعي أن يكون لكل ذلك اثر كبير في حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) المشحونة بالأسى والحزن.

          وقد أُلام لأنني استرسلت في الحديث عن عصر الإمام (عليه السلام) والسبب في ذلك يعود لما لهذه الأحداث الكبيرة والمؤلمة من أثر في حياة الإمام (عليه السلام) لكنه لم يلن له جانب، ولا تهاون مرّة واحدة، ولم يضعف أمام هول كل هذه الجرائم، بل دافع بكل ما أعطاه الله من قوة، وكظم غيظه، وجاهد صابراً مثابراً مطالباً بحق المسلمين المحرومين، ومناصراً للحق من أجل صيانة الدين والمحافظة على حقوق الأمة الإسلامية.

          الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وهارون

          لابدّ لنا من الحديث عن الأسباب التي دعت هارون الرشيد لسجن الإمام موسى (عليه السلام) وأظن أن القراء يهمهم الاطلاع على هذه الأسباب، والتعرّف على دور محنته الكبرى أيام اضطهاده في سجن الطاغية هارون.

          1ـ حقد هارون الموروث

          كان الحقد من الصفات الرئيسية التي تميّز بها هارون، فهو لم يرق له أن يسمع الناس أن يتحدثوا عن أي شخصية تتمتع بمكانة عليا في مجتمعه، محاولاً تزهيد الناس واحتكار الذكر الحسن لنفسه، وهذا يدل على منتهى الأنانية الحاقدة، ومنتهى الضعف في الشخصية القلقة.

          حسد الرشيد البرامكة وحقد عليهم لما ذاع صيتهم، وتحدّث الناس عن مكارمهم حتى أنزل بهم أشد العقاب وأزال وجودهم.

          وحقد على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لما يتحلى به من شخصية فذّة لامعة بعد أن ذاع صيته العطر بين الناس، وتناقلوا فضائله، وتحدّثوا عن علمه الغزير، ومواهبه العالية. وذهب جمهور غفير من المسلمين إلى الاعتقاد بإمامته وأنه أحق بالخلافة من أي شخص آخر في عصره. وكان يذهب إلى فكرة الإمامة كبار المسؤولين في دولة هارون مثل: علي بن يقطين، وابن الأشعث، وهند بن الحجاج وأبو يوسف محمد بن الحسن وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي. والرشيد نفسه يؤمن بأن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو أولى منه بهذا المنصب الهام في الأمة الإسلامية كما أدلى بذلك لابنه المأمون.

          لم يرقَ لهارون أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه، وأن الجماهير وسائر الأوساط الشعبية والخاصة تؤمن أيضا هو أولى بالخلافة منه، وإن الإمام يفوقه علماً وفضلاً وحكمة وثقة، وإن المسلمين قد أجمعوا على تعظيمه، فتناقلوا فضائله وعلومه، وتدفقوا على بابه من أجل الاستفتاء في الأمور الدينية. لذلك كله حقد على الإمام وارتكب تلك الجريمة المروعة حيث أودعه في ظلمات السجون، وغيّبه عن جماهيره وشيعته، وحرم الأمة الإسلامية من الاستفادة من غزير علومه، ونبل نصائحه، وجميل توجيهاته.

          2ـ حرص هارون على المُلك

          كان هارون يضحي في سبيل ملكه جميع القيم والمقدسات، وقد عبر عن مدى حرصه على سلطته بكلمته المعروفة التي تناقلتها الأجيال وهي: (لو نازعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأخذت الذي فيه عيناه).

          أجل! فكيف يخلي عن سراح الإمام، وكيف تطيب نفسه وقد رأى الناس أجمعوا على حب الإمام وتقديره واحترامه؟

          كان هارون يخرج متنكراً إلى العامة ليقف على اتجاهاتهم ورغباتهم فلا يسمع إلا الذكر العاطر والثناء الجميل على الإمام، وحب الناس له، ورغبتهم في أن يتولّى شؤونهم، ممّا دفع به على ارتكاب جريمته وقتله.


          3ـ الوشاية بالإمام (عليه السلام)

          من الذين بلي بهم الإسلام جماعة من الأوغاد والمتزلفين، باعوا ضمائرهم فعمدوا إلى السعي بالإمام (عليه السلام) والوشاية به عند الطاغية هارون ليتزلّفوا إليه بذلك. وقد بقي منهم نماذج في جميع مراحل التاريخ.

          ـ من هؤلاء من أبلغ هارون بأن الإمام تجبى له الأموال الطائلة من شتّى الأقطار الإسلامية، واشترى ضيعة تسمى (اليسرية) بثلاثين ألف دينار، فأثار ذلك كوامن الحقد عند هارون.

          وسياسته كانت تجاه العلويين تقضي بفقرهم، ووضع الحصار الاقتصادي عليهم. وهذه الوشاية كانت من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الإمام (عليه السلام).

          ـ وفريق آخر من هؤلاء الأشرار سعوا بالإمام إلى هارون فقالوا له: إن الإمام يطالب بالخلافة، ويكتب إلى سائر الأقطار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه، ويحفّزهم ضد الدولة العباسية وكان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيى البرمكي. هؤلاء أثاروا كوامن الحقد على الإمام.

          ـ ومن الأسباب التي زادت في حقد هارون على الإمام وسببت في اعتقاله احتجاجه (عليه السلام) عليه بأنه أولى بالنبي العظيم (صلّى الله عليه وآله) من جميع المسلمين، فهو أحد أسباطه ووريثه، وإنه أحق بالخلافة من غيره وقد جرى احتجاجه (عليه السلام) معه في مرقد النبي (صلّى الله عليه وآله).

          أقبل هارون بوجهه على الضريح المقدّس وسلّم على النبي قائلاً: (السلام عليك يا ابن العم) وقد اعتز بك على من سواه، وافتخر على غيره برحمه الماسّة من النبي (صلّى الله عليه وآله)، وإنما نال الخلافة لقربه من الرسول (صلّى اللهعليه وآله). وكان الإمام عند ذلك حاضراً فسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً:

          (السلام عليك يا أبتِ). ففقد الرشيد صوابه، واستولت عليه موجات من الاستياء، فاندفع هارون قائلاً بنبرات تقطر غضباً: (لما قلت إنك أقرب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّا؟؟).

          فأجابه (عليه السلام) بجواب سديد لم يتمكن الرشيد من الرد عليه. سأله الإمام: (لو بعث الرسول (صلّى الله عليه وآله) حياً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟.

          فقال هارون: سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.

          فقال الإمام (عليه السلام) مبيناً له الوجه في قربه من النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً: (لكنه لا يخطب مني ولا أزوجه لأنه ولدنا ولم يلدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم) ثم زاد قائلاً (عليه السلام):

          (هل يجوز للرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يدخل على حرمك وهنّ مكشفات؟؟).

          فقال هارون: لا.

          قال الإمام (عليه السلام) لكن له أن يدخل على حرمي ويجوز له ذلك ولذلك نحن أقرب إليه منكم).

          وعندها ظهر عجز هارون فقال له: (لله درّك إن العلم شجرة نبتت في صدوركم فكان لكم ثمرها، ولغيركم الأوراق).

          واندفع هارون بعدما أعياه الدليل إلى المنطق وأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن.


          4 ـ صلابة موقف الإمام (عليه السلام)

          كان موقف الإمام (عليه السلام) من الطاغية هارون موقفاً واضحاً كل الوضوح، تمثلت فيه صلابة العدل، وقوة الحق، والدفع عن المظلومين، والوقوف إلى جانبهم في كل شؤونهم وشجونهم، فقد أعلن لشيعته أن التعاون مع السلطة الحاكمة حرام ولا يجوز بأي وجه من الوجوه. وشاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام بحرمة الولاية من قبل هارون، وحرمة التعاون مع الحكام الظالمين فأوغر ذلك قلب هارون وحقد على الإمام حقداً بعيد الحدود.

          والإمام (عليه السلام) كما يعلم الجميع لا يعرف المصانعة والتسامح مع الحق، ولا يداري فيما يعود الإساءة إلى مصالح الأمة الإسلامية. فموقفه واضحاً صريحاً. لا لبس فيه.

          يروى أنه دخل على هارون في بعض قصوره الأنيقة الفخمة التي لم يرَ مثلها في بغداد، فسأله هارون بعد أن أسكرته نشوة الحكم قائلاً: ما هذه الدار؟

          فأجابه الإمام (عليه السلام) غير مهتم بسلطانه وجبروته:

          هذه الدار دار الفاسقين. قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَـــرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الــــرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخـــِذُوهُ سَبِـــيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُــوا عَنْهَا غَافِلِــينَ).

          لما سمع هارون هذا الكلام الثقيل على روحه أصابته رعدة عارمة واستولت عليه موجة من الاستياء. فقال للإمام:

          ـ دار مَن هي؟

          ـ هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة.

          ـ ما بال صاحب الدار لا يأخذها؟

          ـ أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة.

          ـ أين شيعتك؟

          ـ فتلا عليه الإمام (عليه السلام) قولـــه تعالى: (لَمْ يَكُـــنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَــــهُمُ الْبَــيِّنَةُ).

          فطفح إناء الغضب عند هارون وصاح غاضباً:

          ـ أنحن كفار؟!! فقال الإمام: لا، ولكن كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).

          فغضب هارون وأغلظ في كلامه على الإمام.

          هكذا كان موقف الإمام (عليه السلام) مع هارون كموقف أبيه وجده (عليهم السلام) لا لين فيه ولا هوادة أمام الحق. فالغاصب لمنصب الخلافة هو مختلس للسلطة والحكم، ويجب أن يحاسب ويطالب بحقوق الأمة الإسلامية وكما قال سيد الشهداء: (ما خرجت أشراً ولا بطراً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي).

          Comment

          • راية اليماني
            مشرف
            • 05-04-2013
            • 3021

            #6
            رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

            الإمام الكاظم دائرة المعارف

            رسالته في العقل

            قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) مخاطباً هشام بن الحكم:

            يا هشام: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة فقال سبحانه: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
            إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه العزيز فقال سبحانه: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ .

            ثم تابع (عليه السلام) القول لهشام (يا هشام، قد وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال عزّ وجلّ: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ .

            يا هشام: ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزّ وجلّ:

            ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

            ﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ .

            يا هشـــام: ﴿ وَإِذَا قِـــيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مــــَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بــــَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ .

            وقال سبحانه: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ .

            ثم تابع في سرد الآيات الشبيهة بهذه وكلها تذم الذين لا يعقلون استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على ذم من لا يعقل

            ثم قال (عليه السلام): (يا هشام: لقد ذم
            الله الكثرة فقال: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَخْرُصُونَ . وقال سبحانه أيضاً:

            ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .

            ثم مدح القلّة فقال:

            (يا هشام: قال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ .

            وقال: ﴿ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَ قَلِيلٌ .

            وقال: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .

            وقال: ﴿ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ .

            (يا هشام: ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وأفضل الصفات فقال: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ .

            وقال: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ .

            وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ .

            وقال (عليه السلام): (يا هشام، إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز:

            ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ )

            وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ
            (يا هشام: إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.

            يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العِلم، وسكّانها الصبر).

            يا هشام: ما بعث الله أنبياءه رسوله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة).

            (يا هشام: لو كان في يدك جوزة وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنها جوزة ما ضرّك وأن تعلم أنها لؤلؤة).

            (يا هشام: إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة فاطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليه السلام). وأما الباطنة فالعقول)

            ثم تابع (عليه السلام):
            (يا هشام: إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره).

            (يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعلن هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

            (نُسِبَ الحق لطاعة
            الله، ولا نجــــاة إلا بالطاعـــة، والطاعــــة بالعــــلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل).

            (يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود).

            (يا هشام: إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، أنّهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة.

            فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته).

            (يا هشام: إن
            الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .

            (يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عُبد الله بشيء افضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى:

            (يا هشام: من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه ومن حسن برّه بإخوانه وأهله مدّ في عمره).

            (يا هشام: لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها لتظلموهم).

            (يا هشام: لا دين لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذين لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما أن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها).

            وقال (عليه السلام): (أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها) ونقل صاحب الوافي عن أستاذه إيضاحاً لمقالة الإمام ما نصه:

            (إن الأبدان في التناقص يوماً فيوماً وذلك لتوجه النفس منها إلى عالم آخر فإن كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا وانقطاع حياته البدنية إلى الله سبحانه وإلى نعيم الجنان، لكونه على منهج الهداية والاستقامة، فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع الله تعالى، ولهذا خلقه الله عزّ وجلّ.

            وإن كانت شقيّة كانت غاية سعيه وانقطاع أجله وعمره إلى مقارنة الشيطان وعذاب النيران، لكونه على طريق الضلالة، فكأنّه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية، واللذات الحيوانية التي ستصير نيراناً محرقة، وهي اليوم كامنة مستورة عن حواس أهل الدنيا، وستبرز يوم القيامة (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى) معاملة مع الشيطان (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ).

            قال (عليه السلام): (يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاثة خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيءٌ فهو أحمق).

            وقال الحسن بن علي (عليهما السلام): (إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، فقيل له: يابن رسول الله ومن أهلها؟

            ـ الذين خصهم الله في كتابـــه وذكــــرهم، فقـــال: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَــــا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مـــِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ قال: أولوا العقول.

            وقال علي زين العابدين (عليه السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً. ثم زاد (عليه السلام): (يا هشام، إن العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يَعِدُ ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه).

            وقال (عليه السلام): (يا هشام الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).

            ثم انتقل (عليه السلام) إلى فصل آخر يركز فيه على اقتران القول بالعمل.

            قال (عليه السلام): (طوبى للعلماء بالفعل، وويل للعلماء بالقول. يا عبيد السوء اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم. واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى. ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات، وإن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا.

            يا عبيد السوء لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة ولا الذئاب الغادرة ولا بالأسد العاتية كما تفعل بالفراس. كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون، وفريقاً تغدرون بهم.

            وبحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة.

            لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة. كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم.

            يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.

            يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جُثواً على الركب، فإن الله يحي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل المطر).

            وهذه بعض الوصايا التي زادها الحسن بن علي الحراني فقال:

            (يا هشام أصلح يومك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو، وأعد له الجواب، فإنك موقوف ومسؤول. وخذ موعظتك من الدهر وأهله، وانظر في تصرف الدهر وأحواله، فإن ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها، فاعتبر بها، وقال علي بن الحسين (عليه السلام):

            (إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها، وسهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفئ الظلال، ثم قال (عليه السلام):

            (حر يدع هذه اللماظة (الدنيا) لأهلها فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس).

            (يا هشام: إن كل الناس يبصرون النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك (انتم تدرسون) الحكمة، لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها).

            وقال (عليه السلام): (يا هشام: مكتوب في الإنجيل: (طوبى للمتراحمين، أولئك هم المرحومون يوم القيامة. طوبى للمطهّرة قلوبهم، أولئك هم المتقون يوم القيامة. طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة).

            ثم قال (عليه السلام) منوهاً بقيمة الكلام وأنواع المتكلمين.

            (يا هشام: المتكمون ثلاثة: فرابح، وسالم، وشاجب.

            فأما الرابح فالذاكر لله، وأما السالم فالساكت، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل، إن الله حرم الجنة على كل فاحش بذئ الكلام قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، وكان أبو ذر رضوان الله عليه يقول: (يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك).

            و قال (عليه السلام): (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).

            ثم قال (عليه السلام) واصفاً الدنيا على لسان السيد المسيح (ع):

            (يا هشام: تمثّلت الدنيا للمسيح (عليه السلام) في صورة امرأة زرقاء فقال لها: كم تزوّجت؟ فقالت: كثيراً، قال: فكلاًّ طلقك؟ فقالت: بل كلاّ قتلت.

            قال المسيح فويح لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين!!

            قال (عليه السلام): (يا هشام: لا خير في العيش إلا لرجلين: لمستمع واع، وعالم ناطق).

            و قال (عليه السلام): (يا هشام: أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي. أولئك قطّاع الطريق من عبادي، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبّتي ومناجاتي من قلوبهم).

            (يا هشام: إيّاك والكبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك فيمقتك الله فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكن في الدنيا كساكن دار ليست له إنما ينتظر الرحيل).

            (يا هشام: إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ الله تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجبه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه).

            (وأحذر ردّ المتكبرين، فإن العلم يُذل على أن يملي على من لا يفيق)، فقال هشام:

            فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها؟ فقال (عليه السلام): فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم من فتنة القول وعظيم فتنة الرد، واعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده. ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ولكن آمنهم بقدر كرمه وجوده؛ ولم يفرح المحزونين بقدر حزنهم ولكن بقدر رأفته ورحمته، فما ظنّك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه، فكيف بمن يؤذي فيه؟ وما ظنّك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضّاه، ويختار عداوة الخلق فيه.

            (يا هشام: من أكرمه الله بثلاث فقد لطف له؛ عقل يكفيه مؤونة هواه، وعلم يكفيه مؤونة جهله، وغنى يكفيه مخافة الفقر.

            (يا هشام أحذر هذه الدنيا وأحذر أهلها، فإن الناس فيها على أربعة اصناف:


            ـ رجل متردي معانق هواه، ومتعلم مقري كلما ازداد علماً ازداد كبراً، يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه.

            ـ وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته، يحب أن يعظَّم ويوقَّر.

            ـ وذي بصيرة عالم عارف بطريق الحق، يحب القيام به ولكنه عاجز أو مغلوب فلا يقدر على القيام بما يعرفه، فهو محزون مغموم بذلك وهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلاً).

            Comment

            • راية اليماني
              مشرف
              • 05-04-2013
              • 3021

              #7
              رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

              الفقه الديني عند الإمام (عليه السلام)

              عمل الإمام (عليه السلام) بوصية جده وأبيه وحث المسلمين على التفقه في الدين، ومعرفة الأحكام الشرعية فقال لهم:

              (تفقّهوا في دين الله، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملاً..).

              سأله بعض أصحابه عما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية قائلاً: (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟

              فقال (عليه السلام): (إن الناس لا يسعهم أن يتركوا ما يحتاجون إليه في أمور دينهم). وهذا بلا ريب أمر طبيعي وواقعي فالعلماء واجبهم الشرعي إرشاد الناس ونصحهم ليتفهموا أمور دينهم لأن المسلم الذي يموت ولم يتخذ مرجعاً دينياً يهتدي برسالته يموت موتة جاهلية. لذلك كان على المسلمين مجالسة العلماء.

              مجالسة العلماء

              من هنا وجدنا الإمام (عليه السلام) يأمر أصحابه بمجالسة العلماء الأفاضل للاستفادة من علومهم وآدابهم والاقتداء بسلوكهم فقال (عليه السلام): (محادثة العالم على الموابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي).

              وبعد أن أشاد بفضل العلماء الذين هم أعلام الدين وورثة الأنبياء في حمل كتاب الله، عاد فحذر أصحابه منهم إذا استهوتهم الدنيا، واتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فالحذر منهم واجب على الدين.

              علمه و عمله (عليه السلام)

              وأهل البيت (عليهم السلام) كانوا يزاولون العمل بأنفسهم ليقتدي بهم سائر المسلمين. فالإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان يعمل في بعض بساتينه حدث أبو عمر الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ والعرق يتصبب منه، فقلت له:

              (جعلت فداك أعطني أكفك) فقال (عليه السلام): (إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة).

              وقد سار الإمام الكاظم مسيرة أبيه (عليه السلام) فكان يعمل بنفسه لإعاشة عائلته، روى الحسن بن علي بن أبي حمزة قال: رأيت أبا الحسن موسى بن جعفر يعمل في ارض له، وقداستنقعت قدماه في العرق فقلت له: (جعلت فداك، أين الرجال؟) فقال (عليه السلام):

              (عمل باليد من هو خير مني ومن أبي في أرضه، فبهر الحسن وانطلق يقول: من هو؟ فقال (عليه السلام):

              رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وآبائي كلهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين والمرسلين والصالحين).

              وبذلك أعطى الإمام (عليه السلام) درساً مفيداً عن الإسلام فهو دين العمل والجد ولا علاقة بين العمل والمنزلة الاجتماعية للفرد مهما علت منزلته فهو مأمور بالعمل من أجل نفسه ومن أجل عائلته. وتقديراً لحقوق العامل قال أمير المؤمنين (ادفعوا اجر العامل قبل أن يجف عرقه).

              هذه قبسات و اضاءة من أحاديث الإمام (عليه السلام) من العقيدة.


              معنى الله

              روى الكليني عن عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله فقال: استولى على ما دق وجلّ.

              وفي رسالة وجهها إليه الفتح بن عبد الله يسأله عن توحيد الله عزّ وجلّ فأجابه (عليه السلام) بعد البسملة: (الحمد لله الملهم عباده حمده، وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، المستشهد بآياته على قدرته).

              أراد (عليه السلام) أن الله استشهد على قدرته الباهرة بآياته العظيمة، كخلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ويعبر عنها بالآيات الأفقية وبخلق الأرواح والعقول والنفوس وإدراكاتها وتسمى بالآيات النفسية وهي تدل على عظيم قدرته تعالى.

              صفات الله


              وتابع (عليه السلام): (الممتنعة من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته).

              أشار (عليه السلام) إلى أن صفات الله عين ذاته تعالى، وليست عارضة عليه كعروضها على الممكن، وقد أقيمت الأدلة الوافرة في علم الكلام على ذلك. وإن الأبصار تمتنع عن رؤيته تعالى وفيه إيماء لطيف على عدم امتناع إدراك البصائر والقلوب من رؤيته، ولكنها تراه بنور المعرفة وحقيقة الإيمان كما قال (عليه السلام): (ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان).

              (ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه).

              أراد (عليه السلام) أن الله يحيط بما سواه فكيف يحيط به شيء من الأوهام التي لا تتعلق إلا بالمعاني الجزئية المحدودة.

              وإنه تعالى فوق الآجال والأزمنة فلا أمد له، فإن الزمان مخلوق له، وإن بقاءه تعالى قائم بذاته وليس بصفة عارضة.

              النهي عن التشبيه

              وعن الحسن بن عبد الرحمن الحماني قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): إن فلاناً زعم أن الله جسم ليس كمثله شيء، عالم، سميع، بصير، قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شيء منها مخلوقاً.

              فقال (عليه السلام): قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان. إن الله لا يشبهه شيء.

              النهي عن الحركة

              روى محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال:

              (لا أقول: إنه قائم فأزيله عن مكانه، ولا أحدّه بمكان يكون فيه، ولا أحدّه أن يتحرّك في شيء من الأركان والجوارح، ولا أحدّه بلفظ شق فم، ولكن كما قال الله تبارك وتعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) بمشيئته من غير تردد في نفس، حمداً فرداً، لم يحتج إلى شريك يذكر له ملكه ولا يفتح له أبواب علمه).


              الإرادة والتقدير والمشيئة

              روى علي بن محمد بن عبد الله، عن احمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: لا يكون الشيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدر الشيء من طوله وعرضه، قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مردّ له

              ـ روى أبو جعفر الطوسي عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) أخبرني عن الإرادة من الله عزّ وجلّ ومن الخلق؟ فقال: الإرادة من الله تعالى أحداثه الفعل لا غير ذلك، لأنه جلّ اسمه لا يهم ولا تفكر

              علم الله تبارك وتعالى

              سئل الإمام (عليه السلام) عن علم الله تعالى بسؤال جاء فيه: هل أن الله كان يعلم الأشياء، قبل أن خلق الأشياء وكوّنها، أو أنه لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها، فعلم ما خلق عندما خلق وما كوّن عندما كوّن؟ فأجاب (عليه السلام) موقعاً بخطه: (لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء).

              وكتب إليه محمد بن حمزة رسالة يسأله فيها عن علم الله وهذا نصها:

              (إن مواليك اختلفوا في العلم، فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء، وقال بعضهم: لم يزل الله عالماً لأن معنى يعلم يفعل فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه).

              فكتب (عليه السلام) إليه: (لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره).

              وكما نرى كان جوابه (عليه السلام) عن هذه المسألة مجملاً نظراً لقصر فهم السائل عن إدراك الجواب. لأن هذه المسألة من أشكل المسائل الفلسفية وقد وقع الاختلاف فيها بين أعاظم الفلاسفة القدامى.

              فالمشائيون تبعاً لمعلمهم أرسطوطاليس ذهبوا إلى أن علمه تعالى بالأشياء متقدم عليها. والإشراقيون تبعاً لمعلمهم أفلاطون ذهبوا إلى أن علم الله عزّ وجلّ بالأشياء مقارن لإيجاد الشيء. وقد استدل الفريقان بأدلة كثيرة فيها لون من الغموض والإبهام، لسنا الآن في صددها.

              وروى الصدوق عن الكاهلي قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: (الحمد لله منتهى علمه) فكتب إليّ: لا تقولن منتهى علمه، ولكن قل منتهى رضاه

              وعنه بإسناده عن الحسن بن يزيد بن عبد الأعلى، عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله ولا يبان الله منه، وليس بين الله وبين علمه حدّ.

              جوامع التوحيد

              قال الصدوق: حدثنا أبي عن علي بن محمد بن قتيبة عن الفضل بن شاذان عن محمد بن أبي عمير، قال: دخلت على سيدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله علمني التوحيد. فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك.

              واعلم أن الله تعالى واحد أحد، صمد، لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً، وإنه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغنى الذي لا يفقر، والعزيز الذي لا يذل. والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وإنه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا. وهو الأول الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً.

              العدل

              قال الصدوق: حدثنا محمد بن احمد الشيباني.. عن الإمام علي بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه الرضا علي بن موسى (عليهم السلام) قال: خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق (عليه السلام)، فاستقبله موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقال له: يا غلام ممن المعصية؟

              قال: لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عزّ وجلّ، وليست منه فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لا يكتسبه، وإما أن تكون من الله عزّ وجلّ ومن العبد، وليس كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه وجوده.

              هل الله تعالى شيء؟

              قال الصدوق: حدّثنا جعفر بن محمد بن مسرور، قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن بطة، قال: عن محمد بن عيسى بن عبيد، قال:

              قال لي أبو الحسن (عليه السلام): ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عزّ وجلّ شيء أم لا؟ قال فقلت له: قد أثبت الله عزّ وجلّ نفسه شيئاً يقول: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فأقول: إنه شيء لا كالأشياء، إذ في نفي الشيئية عن إبطاله ونفيه، قال لي: صدقت وأصبت، ثم قال لي الرضا (عليه السلام) للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.

              ليس كمثله شيء

              قال الصدوق: أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا: حدثنا محمد بن يحيى العطار؛ وأحمد بن إدريس عن بعض أصحابنا، عن طاهر بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إلى الطيب يعني أبا الحسن موسى (عليه السلام): ما الذي لا تجزئ معرفة الخالق بدونه فكتب:

              ليس كمثله شيء ولم يزل سميعاً وعليماً وبصيراً، وهو الفعال لما يريد.


              نفي الزمان والمكان

              قال الصدوق: حدثنا علي بن الحسين بن الصلت، قال: حدثنا محمد بن احمد بن علي بن الصلت عن عمه أبي طالب عبد الله بن الصلت، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) لأي علة عرج اللهبنبيه (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان.

              فقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرّمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقول المشبّهون، سبحان الله وتعالى عما يشركون إن الله تبارك وتعالى كان ولم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان، لا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان، ولا يحل في مكان وليس بينه وبين خلقه حجاب.

              الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية

              قال الإمام الكاظم (عليه السلام): إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم. ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى.
              وأمر إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى.

              وهنا يتوضع دور الإمام موسى (عليه السلام) في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وإبطال حجج الملحدين وأفكارهم المزيفة وتفنيده لشبههم.

              ولا يخفى ما ظهر في عصر الإمام من موجات إلحادية فجّرها المعادون للإسلام عندما وجدوا أن لا وسيلة لهم لمقاومته إلا بإشاعة ترهاتهم الباطلة ليضعفوا الجانب العقائدي بين المسلمين. ولكن لم تلبث هذه الأفكار، وقبرت تلك الأضاليل والبدع بواسطة المساعي الحميدة والهمم العالية التي بذلها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل صيانة الإسلام وحمايته من شبهة الملحدين ومكايد المضللين.

              إن تلك الموجات الإلحادية التي انتشرت في ذلك العصر تدل على أن المجتمع كان يعيش عيشة متحللة يسودها الشك في العقيدة الإسلامية والخلاف المذهبي. ومما لا شك فيه أن لاحتجاجات الأئمة (عليهم السلام) الأثر الفعال في إرجاع المسلمين إلى طريق الحق والصواب ومقاومتهم للغزو العقائدي الذي مني به العصر العباسي. فقد كان في أغلب أدواره عصر لهو ومجون قد أقبل الناس فيه إلى الاستمتاع بجميع أنواع المحرمات فاندفعوا على الطرب والغناء وشرب الخمر والميسر ومنادمة الجواري والغلمان وغيرها من المحرمات.

              وقد شجعهم على ذلك الحكام الذين غرقوا في المحرمات والآثام، وسار الناس على مسراهم حيث لا حسيب ولا رقيب.

              وإذا أردنا مثلاً دالاً على تسيّب الأخلاق في ذلك العصر فلنا شعراء العصر العباسي فقد كانوا يمثلون المجتمع في جميع اتجاهاته وميوله تمثيلاً صحيحاً. فقد كان شعرهم يصف القيان والخمر، واللذة والشهوات وأكثر ما أثر عنهم في هذا المجال وصمة عار في تاريخ الأدب العربي فأبو نواس كرّس كل مجهوده الفكري على وصف: الكؤوس والأكواب والسقاة والدنان، والخمارين والندمان. ولم يفته أن يذكر أصناف الخمور، وطريقة صنعها وطعمها ولونها ورائحتها ممّا جعله يلتفت إلى كل ما يتصل بها ويحس بها بما لم يحس بها غيره. فقال:

              لــــي نشـــــوتان وللـــــندمان واحــدة شـــيء خصــصت به من بينهم وحدي


              وقد وصل به حُبِّه للخمر إلى درجة العبادة والتقديس.

              وقد تحوّلت بغداد الرشيد والمنصور والهادي.. إلى دور للهو والعبث والمجون. فانساب الناس وراء الشهوات ونبذوا القيم الإسلامية السامية وأدى ذلك إلى انحطاط في الأخلاق وانغماس في الإثم والمنكر. ومما لا شك فيه أن سياسة الحكم العباسي هي المسؤولة عن هذه الموجة من التحلل واللهو وإشاعة المنكر والفساد.

              لذلك كله عمد أهل البيت (عليهم السلام) إلى الوقوف في وجه هذا التيّار الفاسد وبدأوا بإرشاداتهم ونصحهم وتوضيحهم أمور الدين الحنيف ورد الشبهات والانحرافات. ومن هذه الأدوار الإصلاحية الهامة دور الإمام الكاظم الذي أكمل مسيرة آبائه وأجداده الكرام فأجاب على كل الأسئلة والشبهات وكان لنا من مناظراته واحتجاجاته.

              Comment

              • راية اليماني
                مشرف
                • 05-04-2013
                • 3021

                #8
                رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

                حكم الامام موسى الكاظم (ع) و اخلاقه و وصاياه

                لقد أوصى الإمام الكاظم أصحابه بالاقتصاد في حياتهم المعيشية ونهاهم عن التبذير والإسراف، لأن بهما زوال النعمة.


                وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (من اقتصد وقنع بقيت عليه النعمة، ومن بذّر وأسرف زالت عنه النعمة).

                وقال (عليه السلام): (ما عال امرؤ اقتصد).

                و قال الإمام علي (عليه السلام): (ما جُمع مال إلا من شحّ أو حرام)

                التحذير من الكسل

                نهى الإسلام عن الكسل لأنه يجمد الطاقات الإنسانية ويفسد الحياة الاجتماعية، ويشلّ الحركة الاقتصادية. وقد ورد في الأدعية المأثورة عن أئمة الهدى بالتعوذ من الكسل، فجاء عنهم:

                (اللّهم إني أعوذ بك من الكسل والضـــجر فإنهما مفـــتاح كل سوء.. إنه من كـــسل لم يـــؤد حقاً، ومن ضجر لم يصبر على حق).

                والإمام موسى الكاظم (عليه السلام) قد أوصى بعض ولده بالحذر من الكسل والعمل الجاد فقال (عليه السلام):

                (إياك والكسل والضجر فإنهما يمنعاك من حظك في الدنيا والآخرة) لقد كان الإمام (عليه السلام) يكره الكسل والبطالة، ويمقت صاحبها لأنها تؤدي إلى الفقر والفشل في الحياة، كما يؤدي أيضاً إلى ذهاب المروءة عند الرجل، والكسول العاطل عن العمل يكون بحكم الأموات حيث لا تفكير ولا تدبير ولا إحساس بالمسؤولية. قال أبو الطيّب المتنبّي لمثل هؤلاء الكسالى:

                مــــــن يــــــهن يـــسهل الهـوان عليه مــــــــا لجــــــرح بـــــميّـــــت إيــــلام

                وعن بشير الدهان قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: (إن الله جل وعز يبغض العبد النوّام الفارغ).

                الإخلاص في العمل

                الإخـــلاص في العمل هو تجريد النيّة من الشوائـــب والمفاســــد. قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ).

                وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال ليس يعني الكمية وإنما يعني النوعية، الإصابة خشية الله والنية الصادقة.

                وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) إن الإخلاص في العمل مراتب متفاوتة:

                1ـ مرتبة الشاكرين، وهم الذين يعبدون الله تعالى شكراً على نعمائه التي لا تحصى.

                2ـ عبادة المقربين، وهم الذين يعبدون الله تقرباً إليه والقرب والبعد معنويان.

                3ـ عبادة المستحيين، وهم قوم يبعثهم على الأعمال والطاعات والحياء من الله تعالى لأنهم علموا أنه مطلع على ضمائرهم وعالم بما في خواطرهم.

                4ـ عبادة المتلذذين، وهم الذين يتلذذون بعبادة ربهم بأعظم ممّا يلتذ به أهل الدنيا من نعيم الدنيا.

                5ـ عبادة المحبين، وهم الذين وصلوا بطاعتهم وعبادتهم إلى أعلى درجات الكمال من حب الله.

                6ـ عبادة العارفين، وهم الذين بعثهم على العبادة كمال معبودهم وانه أهل للعبادة.

                7ـ عبادة الله لنيل ثوابه أو الخلاص من عقابه.

                الإصلاح بين الناس

                أمرالله المؤمنين بالسعي للإصلاح بين إخوانهم. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (4).

                والإمام الكاظم (عليه السلام) حثّ أصحابه على الإصلاح بين الناس كما شجّعهم على الإحسان لمن أساء إليهم؛ وبيّن لهم عاقبة المحسنين والمصلحين وما لهم من الأجر عند الله. فقال (عليه السلام):

                (ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا من عفا وأصلح).

                حسن الجوار

                والإمام الكاظم (عليه السلام) أوصى أصحابه بالإحسان إلى الجار والصبر على تحمّل الأذى والمكروه منه قال (عليه السلام):

                (ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى) اللّهم اعطنا القدرة على تحمّل أذى جيراننا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت السميع العليم.

                إغاثة المستجير

                (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

                والإمام الكاظم (عليه السلام): حث أصحابه على إغاثة المستجير، وقضاء حاجة المحتاجين فقال: (من قصد رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يجره ويقدر عليه فقد قطع ولاية الله عزّ وجلّ).

                وقد أمرهم بقضاء حاجة الناس فقال (عليه السلام): (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو موصول بولاية الله، وإن ردّه على حاجته وهو يقدر على قضائها سلط الله عليه شجاعاً ينهشه في قبره إلى يوم القيامة).

                وقال (عليه السلام) في فضل من يقضي حاجة أخيه المؤمن:

                (إن لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة، ومن أدخل على مؤمن سروراً فرح الله قلبه يوم القيامة)

                التراحم والتعاطف

                قال تعالى لنبيه موسى (عليه السلام): (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).

                وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الخلق كلهم عباد الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله)

                والإمام الكاظم (عليه السلام): أمر أصحابه بالتوادد والتآلف وزيارة بعضهم بعضاً لأنها توجب شيوع المودة بينهم، مضافاً لما لها من الأجر العظيم عند
                الله. قال (عليه السلام): (من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره يطلب به ثواب الله، وكّل اللهبه سبعين ألف ملك من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه ينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنة، تبوأت من الجنة منزلاً..).

                وفي حديث لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يتغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة، بمكانهم من الله تعالى قالوا: يا رسول الله تحيرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا اموالٍ يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وأنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

                وروى الكليني بإسناده عن محمد بن سليمان، عن محمد بن محفوظ قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض، قال: وإن المؤمنين يلتقيان فيذكران الله ثم يذكران فضلنا أهل البيت فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلا تخدّد حتى أن روحه لتستغيث من شدة ما يجد من الألم فتحس ملائكة السماء وخزان الجنان فيلعنونه حتى لا يبقى ملك مقرب إلا لعنه، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً).

                السخاء وحسن الخلق

                والإمام الكاظم (عليه السلام) حث أصحابه على التحلي بالسخاء وحسن الخلق قال (عليه السلام):

                (السخي الحسن الخلق في كنف الله، لا يتخلى الله عنه، حتى يدخله الجنة، وما بعث الله نبياً إلا سخياً، وما زال أبي يوصيني بالسخاء وحسن الخلق..).

                وقد عمل (عليه السلام) بوصية أبيه (عليه السلام) ثم بوصية جده (صلّى الله عليه وآله) الرسول الأكرم الذي قال: (ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون...).

                مكارم الأخلاق

                سأل رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن حسن الخلق، فتلا قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ثم قال (صلّى الله عليه وآله): (وهو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك).

                وقال (صلّى الله عليه وآله): إن الخلق الحسن ليميت الخطيئة كما تميث الشمس الجليد).

                وجاء في الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).

                وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما يتقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس خلقه).

                والإمام الكاظم (عليه السلام) عني بهذه الظاهرة فكان دوماً يوصي أصحابه بالتحلي بالصفات الكريمة ليكونوا بسلوكهم وهديهم قدوة صالحة لهم وللمجتمع، حتى يستطيعوا على نشر مفاهيم الخير والصلاح بين الناس.

                الصبر وفضله

                الإمام الكاظم (عليه السلام) سار على نهج أبيه وجده فأوصى أصحابه بالتمسك بالصبر إن نزلت بهم كارثة أو حل بهم خطب، فإن الجزع يذهب بالأجر الذي أعده
                الله للصابرين فقال (عليه السلام) بما مضمونه:

                (المصيبة لا تكون مصيبة يستوجب صاحبها أجرها إلا بالصبر والاسترجاع عند الصدمة).

                وقال (عليه السلام) عقب البلاء الذي أصابه من الحكام العباسيين:

                (إن الصبر على البلاء أفضل من العافية عند الرخاء).

                وقال (عليه السلام): (المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان).

                أما الذين صبروا على البلاء مثل الإمام الكاظم وأبيه وأجداده فقال الله سبحانه وتعالى عنهم: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا).

                الإمام الكاظم (عليه السلام) حثّ أصحابه على محاسبة أنفسهم والنظر في أعمالهم فإن كانت حسنة استزادوا منها، وإن كانت سيئة طلبوا من الله المغفرة والرضوان. قال (عليه السلام):

                (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد منه، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه)

                قال الإمام الكاظم (عليه السلام) مخاطباً هشام:

                (يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك، وقال لقمان (عليه السلام): (إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل...).

                قال الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أن أمر أصحابه بقول الحق وإظهاره، والتجنب عن الباطل: (إتق الله، وقل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك، أي فلان اتق الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك).

                قال الإمام الكاظم (عليه السلام) للفضل بن يونس:

                (أبلغ خيراً وقل خيراً، ولا تكن إمّعة)

                وقال (عليه السلام) في استغلال الوقت لصالح الفرد وحثه على تحمل المسؤولية في هذه الحياة الدنيا: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه أشرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة على نفسه فهو في النقصان، ومن كان إلى النقصان أكثر فالموت خير له من الحياة)

                جاء في غرر الحكم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (من طلب عيباً وجده).

                وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (يا هشام إن العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له به، وأكثر الصواب في خلاف الهوى، ومن طال أمله ساء عمله).

                وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) أيضاً: (من تعظم في نفسه لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض، ومن تكبّر على إخوانه واستطال عليهم فقد ضاد الله ومن ادعى ما ليس له فهو أغنى لغير رشده).

                وعن الإمام أبي جفعر (عليه السلام) قال: (لا يغرنك الناس من نفسك فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك، وأحسن فإني لم أر شيئاً أحسن دركاً ولا أسرع طلباً من حسنة محدثة لذنب قديم)

                وروى الكليني أيضاً عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: (لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف وسارعوا إلى طاعة اللهوأصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم، فإنما ذلك عليكم)

                وقال (عليه السلام) أيضاً: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)

                قال (صلّى الله عليه وآله): (إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله وإن المتواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا إنماءً، فتصدقوا يزدكم الله).

                وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (إياك والكبر فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، الكبر رداء الله فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار على وجهه).

                قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (إن قلوب المؤمنين مطوية).

                روى الكليني عن علي بن جعفر عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان فإذا أراد استنارة ما فيها نضحها بالحكمة، وزرعها بالعلم، وزارعها والقيم عليها رب العالمين)

                Comment

                • راية اليماني
                  مشرف
                  • 05-04-2013
                  • 3021

                  #9
                  رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

                  مناظراته (ع)

                  للإمام الكاظم (عليه السلام) مناظرات واحتجاجات هامة وبليغة مع خصومه المناوئين له، كما جرت له مناظرات أخرى مع علماء النصارى واليهود. وقد برع فيها جميعها وأفلج الجميع بما أقامه من الأدلة الدامغة على صحة ما يقول: وبطلان ما ذهبوا إليه. وقد اعترفوا كلهم بالعجز والفشل معجبين بغزارة علم الإمام وتفوقه عليهم.


                  1ـ مع هارون الرشيد

                  دخل إليه وقد عمد على القبض عليه، لأشياء كذبت عليه عنده، فأعطاه طوماراً طويلاً فيه مذاهب وشنعة نسبها إلى شيعته فقرأه (عليه السلام) ثم قال له: يا أمير المؤمنين نحن أهل بيت منينا بالتقول علينا، وربنا غفور ستور، أبي أن يكشف أسرار عباده إلا في وقت محاسبته: ﴿ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ

                  ثم قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلوات الله عليهم:

                  الرحم إذا مست اضطربت ثم سكنت، فإن رأى أمير المؤمنين أن تمس رحمي رحمه ويصافحني فعل. فتحول عند ذلك عن سريره ومد يمينه إلى موسى (عليه السلام) فأخذ بيمينه ثم ضمه إلى صدره، فاعتنقه وأقعده عن يمينه وقال: أشهد أنك صادق وجدك صادق ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) صادق ولقد دخلت وأنا أشد الناس حنقاً وغيظاً لما رقي إليّ فيك فلما تكلمت بما تكلمت وصافحتني سرّي عني وتحول غضبي عليك رضى.

                  وسكت ساعة ثم قال له: أريد أن أسألك عن العباس وعلي بما صار عليّ أولى بميراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من العباس، والعباس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه؟

                  فقال له الإمام (عليه السلام): أعفني. قال: والله لا أعفيتك، فأجبني.

                  قال: فإن لم تعفني فآمني. قال: آمنتك، قال موسى بن جعفر (عليه السلام): إن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يورث من قدر على الهجرة فلم يهاجر، إن أباك العباس آمن ولم يهاجر، وإن علياً آمن وهاجر، وقال الله: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا فتغيّر لون هارون.

                  ثم تابع الرشيد فقال: ما لكم لا تنسبون إلى عليّ وهو أبوكم وتنسبون إلى رسول الله وهو جدكم؟ فقال الكاظم (عليه السلام):

                  إن الله نسب المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) إلى خليله إبراهيم (عليه السلام) بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسها بشر في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فنسبه لأمه وحدها إلى خليله إبراهيم (عليه السلام). كما نسب داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون (عليه السلام) بآبائهم وأمهاتهم، فضيلة لعيسى (عليه السلام) ومنزلة رفيعة بأمه وحدها. وذلك قوله في قصة مريم (عليها السلام): ﴿ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ

                  بالمسيح من غير بشر. وكذلك اصطفى ربنا فاطمة (عليها السلام) وطهرها وفضلها على نساء العالمين بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة فقال له هارون ـ وقد اضطرب وساءه ما سمع ـ:

                  من أين قلتم الإنسان يدخل الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء لحال الخمس الذي لم يدفع إلى أهله، فقال الإمام الكاظم (عليه السلام): هذه مسألة ما سئل عنها أحد من السلاطين غيرك، ولا تيم ولا عدي ولا بنو أمية ولا سئل عنها أحد من آبائي فلا تكشفني عنها. قال الرشيد: فإن بلغني عنك كشف هذا رجعت عما آمنتك. فقال موسى (عليه السلام): لك ذلك. قال (عليه السلام): فإن الزندقة قد كثرت في الإسلام وهؤلاء الزنادقة الذين يرفعون إلينا في الأخبار، هم المنسوبون إليكم.

                  فقال هارون: فما الزنديق عندكم أهل البيت؟ فقال (عليه السلام): الزنديق هو الراد على الله وعلى رسوله وهم الذين يحادّون الله ورسوله. قال تعالى: ﴿ لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .

                  وهم الملحدون، عدلوا عن التوحيد إلى الإلحاد.

                  فقال هارون: أخبرني عن أول من ألحد وتزندق؟ فقال (عليه السلام): أول من ألحد وتزندق في السماء إبليس اللعين، فاستكبر وافتخر على صفي الله ونجيبه آدم (عليه السلام) فقال اللعين: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). فعتا عن أمر ربه وألحد فتوارث الإلحاد ذريته إلى أن تقوم الساعة فقال هارون: ولإبليس ذرية؟ فقال (عليه السلام):

                  نعم ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: ﴿ إِلاَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً )فهل عرف الرشيد من أي فريق هو؟!

                  ثم قال له الرشيد: بحق آبائك لما اختصرت كلمات جامعة لما تجاريناه فقال (عليه السلام): نعم. وأوتي بدواة وقرطاس فكتب:

                  بسم الله الرحمن الرحيم، جميع أمور الأديان أربعة:

                  ـ أمر لا اختلاف فيه وهو إجماع الأمة على الضرورة التي يضطرون إليها، الأخبار المجمع عليها وهي الغاية المعروض عليها كل شبهة والمستنبط منها كل حادثة وهو إجماع الأمة.

                  ـ وأمر يحتمل الشك والإنكار، فسبيله استيضاح أهله لمنتحليه بحجة من كتاب الله مجمع على تأويلها، وسنّة مجمع عليها لا اختلاف فيها أو قياس تعرف العقول عدله ولا يسع خاصة الأمة وعامتها الشك فيه والإنكار له. وهذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه وأرش الخدش فما فوقه. فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين فما ثبت لك برهانه اصطفيته، وما غمض عليك صوابه نفيته. فمن أورد واحدة من هذه الثلاث فهي الحجة البالغة التي بيّنها الله في قوله لنبيه (صلّى الله عليه وآله):

                  ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ .

                  يبلغ الحجّة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، لأن الله عدل لا يجور، يحتج على خلقه بما يعملون، ويدعوهم إلى ما يعرفون لا إلى ما يجهلون وينكرون.

                  فأجازه الرشيد وأحسن لقاءه. وانصرف الإمام (عليه السلام) وقد دلّ خصمه ـ المسمى بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين ـ على أمور الدين كما أوضح له منزلة أهل البيت (عليهم السلام) وصحة أقوالهم ودعم ما ذهب إليه بأوثق الأدلة والبراهين ولا غرو فهذا الغصن الطيّب هو من تلك الشجرة الطيّبة التي غرسها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتعهّد سقايتها ورعايتها.


                  2ـ مع الفضل بن الربيع

                  زار هارون الرشيد قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) فاجتمع به الإمام (عليه السلام) وبعد انتهاء المقابلة، خرج (عليه السلام) فاجتاز على الأمين ابن الرشيد، فالتفت الأمين إلى الفضل بن الربيع قائلاً له: عاتب هذا، فقام الفضل إلى الإمام فقال له: كيف لقيت أمير المؤمنين على هذه الدابة التي إن طُلبت عليها لم تسبق وإن طَلبت عليها تلحق؟

                  ـ قال الإمام (عليه السلام): لست أحتاج أن أطلب، ولا أن أُطلب، ولكنها دابة تنحط عن خيلاء الخيل، وترتفع عن ذلة البعير، وخير الأمور أوسطها) فتركه الإمام (عليه السلام) وانصرف وبدا على الفضل الارتباك والعجز.


                  3ـ مع أبي يوسف

                  أمر هارون الرشيد أبا يوسف أن يسأل الإمام (عليه السلام) بحضرته لعله أين يبدي عليه العجز فيتخذ من ذلك وسيلة للحطّ من كرامته، ولما اجتمع (عليه السلام) بهم وجه إليه أبو يوسف السؤال التالي:

                  ـ ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال الإمام: لا يصح.

                  ـ فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟ قال الإمام: نعم.

                  ـ فما الفرق بين الموضعين؟

                  ـ ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ قال أبو يوسف: لا.

                  ـ أتقضي الصوم؟ نعم. ولمَ؟ هكذا جاء هذا.

                  فسكت أبو يوسف ولم يطق جواباً وبدا عليه الخجل والعجز فقال هارون:

                  ـ ما أراك صنعت شيئاً.

                  ـ رماني بحجر دامغ.

                  وتركهما الإمام (عليه السلام) وانصرف بعد أن خيّم عليهما الحزن والشقاء. ولا عجب فالإمام (عليه السلام) هو ابن الإمام جعفر الصادق الذي أسس الجامعة الإسلامية ووضع مناهجها العلمية الأصيلة، وهو سرّ أبيه (عليه السلام).


                  4ـ مع أبي حنيفة


                  دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له:

                  رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه، فلم ينههم عن ذلك؟‍‍

                  فأمر أبو عبد الله (عليه السلام) بإحضار ولده فلما مثل بين يديه قال له:

                  (يا بني، إن أبا حنيفة يذكر إنك كنت تصلي والناس يمرون بين يديك؟)

                  فقال (عليه السلام): (نعم، يا أبتِ وإن الذي كنت أصلي له أقرب إليّ منهم، يقول الله عزّ وجلّ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

                  عندها فرح الإمام الصادق (عليه السلام) وسرّ سروراً بالغاً لما أدلى به ولده من المنطق الرائع، فقام إليه وضمه إلى صدره وقال مبتهجاً:

                  (بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار).


                  5ـ مع علماء اليهود

                  قصد وفد من علماء اليهود الإمام الصادق (عليه السلام) ليحاججوه في الإسلام فلمّا مثلوا بين يديه انبروا إليه يطلبون منه الحجة والدليل على نبوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلين:

                  ـ أي معجز يدل على نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله)؟ أجابهم (عليه السلام):

                  كتابه المهمين، الباهر لعقول الناظرين، مع ما أعطي من الحلال والحرام وغيرهما ممّا لو ذكرناه لطال شرحه.

                  ـ كيف لنا أن نعلم هذا كما وصفت؟

                  فانطلق الإمام الكاظم (عليه السلام) وكان آنذاك صبياً قائلاً لهم:

                  ـ وكيف لنا بأن نعلم ما تذكرون من آيات الله لموسى على ما تصفون؟

                  ـ علمنا ذلك بنقل الصادقين.

                  ـ فاعلموا صدق ما أنبأتكم به بخبر طفل لقنه الله تعالى من غير تعليم ولا معرفة عن الناقلين.

                  فبهروا وآمنوا بقول الإمام الكاظم الصبي (عليه السلام)، الذي هو المعجز بحق، وهتفوا معلنين إسلامهم قائلين: نشهد أن لا اله إلا الله وإن محمداً رسول الله، وإنكم الأئمة الهادون والحجج من عند الله على خلقه. ولما أدلى الإمام (عليه السلام) بهذه الحجة وأسلم القوم على يده، وثب إليه والده أبو عبد الله فقبّل ما بين عينيه. وقال له: أنت القائم من بعدي ثم أمره بكسوة لهم وأوصلهم فانصرفوا وهم شاكرون.


                  6ـ مع علماء النصارى

                  جاء قطب من أقطاب النصارى ومن علمائها النابهين يدعى (بريهة) كان يطلب الحق ويبغي الهداية. اتصل بجميع الفرق الإسلامية وأخذ يحاججهم فلم يقتنع ولم يصل إلى الهدف الذي يريده، حتى وصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم، فقصده ومعه نخبة كبيرة من علماء النصارى، فلما استقر به المجلس سأل بريهة هشام بن الحكم عن أهم المسائل الكلامية والعقائدية فأجابه عنها هشام ثم ارتحلوا جميعاً إلى التشرف بمقابلة الإمام الصادق (عليه السلام) وقبل الالتقاء به اجتمعوا بالإمام الكاظم فقصّ عليه هشام مناظراته وحديثه مع العالم النصراني (بريهة). فالتفت (عليه السلام) إلى بريهة قائلاً له:

                  ـ يا بريهة كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم.

                  ـ كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي به!!

                  فأخذ (عليه السلام) يقرأ عليه الإنجيل ويرتّل عليه فصوله فلما سمع ذلك بريهة آمن بأن دين الإسلام حق وإن الإمام من شجرة النبوة فانبرى إليه قائلاً: إيّاك كنت أطلب منذ خمسين سنة، أو مثلك!!

                  ثم إنه أسلم وأسلمت معه زوجته وقصدوا جميعاً والده الإمام الصادق (عليه السلام) فحكى له هشام الحديث وإسلام بريهة على يد ولده الكاظم فسرّ (عليه السلام) بذلك والتفت قائلاً له: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

                  وانبرى بريهة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً:

                  ـ جعلت فداك، أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟!!

                  ـ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرأوها، ونقولها كما قالوها: إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول: لا أدري.

                  وبعدها لزم بريهة الإمام الصادق (عليه السلام) وصار من أخلص أصحابه، ولما انتقل الإمام إلى دار الخلود اتصل بالإمام الكاظم (عليه السلام) حتى توفي في عهده ولا عجب فالإمام المعصوم هو الحجة.

                  قال أبو الحسن (عليه السلام): (إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة)


                  7ـ مع راهب نصراني

                  كان في الشام راهب معروف تقدسه النصارى وتعظمه، وتسمع منه، وكان يخرج لهم في كل يوم يوماً يعظهم. التقى به الإمام في ذلك اليوم الذي يعظ به وقد طافت به الرهبان وعلية القوم، فلما استقر المجلس بالإمام التفت إليه الراهب قائلاً:

                  ـ يا هذا، أنت غريب؟ قال (عليه السلام): نعم.

                  ـ منّا أو علينا؟ قال (عليه السلام): لست منكم.

                  ـ أنت من الأمة المرحومة؟ قال (عليه السلام): نعم.

                  ـ أمن علمائها أمن جهالها؟ قال (عليه السلام): لست من جهالها.

                  فاضطرب الراهب، وتقدم إلى الإمام يسأله عن أعقد المسائل عنده قائلاً: كيف طوبى أصلها في دار عيسى عندنا، وعندكم في دار محمد (صلّى الله عليه وآله) وأغصانها في كل دار؟

                  قال (عليه السلام): إنها كالشمس يصل ضوؤها إلى كل مكان وموضع وهي في السماء.

                  ـ قال الراهب: إن الجنة كيف لا ينفذ طعامها وإن أكلوا منه، وكيف لا ينقص شيء منه؟

                  ـ قال الإمام (عليه السلام) أنه كالسراج في الدنيا ولا ينقص منه شيء.

                  ـ قال الراهب: إن في الجنة ظلاً ممدوداً، ما هو؟

                  ـ قال الإمام (عليه السلام): الوقت الذي قبل طلوع الشمس، هو الظل الممدود، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً

                  ـ قال الراهب: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون كيف لا يكون لهم غائط ولا بول؟

                  ـ قال الإمام (عليه السلام): إنهم كالجنين في بطن أمه.

                  ـ قال الراهب: إن لأهل الجنة خدماً يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟

                  ـ قال الإمام (عليه السلام): إن الإنسان إذا احتاج إلى شيء عرفت أعضاؤه ذلك فتعرفه الخدم فيحققون مراده من غير أمر.

                  ـ قال الراهب: مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟

                  ـ قال الإمام (عليه السلام): مفاتيح الجنة قول العبد: لا اله إلا الله.

                  ـ قال الراهب: صدقت. ثم أسلم هو وقومه.


                  8ـ مع نفيع (وهو رجل من الأنصار)

                  قدم مع الرشيد رجل من الأنصار يقال له (نفيع) وكان عارفاً، فحضر يوماً باب الرشيد وتبعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وحضر موسى بن جعفر (عليه السلام) على حمار له، فتلقاه الحاجب بالإكرام، وأعظمه من كان هناك، وعجل له الإذن.

                  فقال نفيع لعبد العزيز: من هذا الشيخ؟

                  فقال له: أو ما تعرفه؟ هذا شيخ آل أبي طالب، هذا موسى بن جعفر (عليهما السلام).

                  فقال نفيع: ما رأيت أعجب من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل لو يقدر على زوالهم عن السرير لفعل، أما إن خرج لأسوءنّه.

                  فقال له عبد العزيز: لا تفعل، فإن هؤلاء أهل بيت قلما تعرض لهم أحد بخطاب إلا وسموه في الجواب وسمة يبقى عارها أبد الدهر.

                  وخرج الإمام الكاظم (عليه السلام) فقال إليه نفيع وأخذ بلجام حماره ثم قال له: من أنت؟ قال (عليه السلام): يا هذا إن كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.

                  وإن كنت تريد البلد، فهو الذي فرض الله عزّ وجلّ عليك وعلى المسلمين إن كنت منهم، الحج إليه، وإن كنت تريد المفاخرة، فوالله ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفا لهم حتى قالوا: يا محمد اخرج لنا أكفاءنا من قريش. خل عن الحمار.

                  فخلى عنه ويده ترجف وانصرف بخزي. فقال له عبد العزيز: ألم أقل لك؟


                  9ـ مع المهدي في الحج

                  حج المهدي، ولما صار في (فتق العبادي) ضجّ الناس من العطش، فأمر أن يحفر بئراً، ولما بلغوا قريباً من القرار، هبّت عليهم ريح من البئر فوقعت الدلاء ومنعت العمل، فخرجت الفعلة خوفاً على أنفسهم. فأعطى علي بن يقطين لرجلين عطاءاً كثيراً ليحفرا، فنزلا فأبطئا، ثم خرجا مرعوبين قد ذهبت ألوانهما فسألهما عن الخبر. فقالا: إنا رأينا آثاراً وأثاثاً، ورأينا رجالاً ونساءً، فكلما أومأنا إلى شيء منهم صار هباء، فصار المهدي يسأل عن ذلك ولا يعلمون.

                  فقال الإمام الكاظم (عليه السلام): هؤلاء أصحاب الأحقاف، غضب الله عليهم فساخت بهم ديارهم.


                  10ـ المهدي العبّاسي

                  قال علي بن يقطين: سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ، فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم؟ فقال له أبو الحسن:

                  بل هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ يا أمير المؤمنين. قال المهدي:

                  في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ يا أبا الحسن؟

                  فقال (عليه السلام): قول الله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ .

                  فأما قوله (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية.

                  وأما قوله عزّ وجلّ: (وَمَا بَطَنَ) يعني ما نكح الآباء، لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلّى الله عليه وآله) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه الأكبر من بعده إذا لم تكن أمه، فحرّم الله عزّ وجلّ ذلك.

                  وأما (الإثم) فإنها الخمرة بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر:

                  ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ .

                  فأما الإثم في كتاب الله فهو الخمر والميسر، فإثمهما كبير كما قال عزّ وجل.

                  فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية.

                  قال: فقلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت.

                  قال: فوالله ما صبر المهدي أن قال لي: صدقت يا رافضي.


                  11ـ مع أبي أحمد الخراساني

                  سأله أبو أحمد الخراساني: الكفر أقدم أم الشرك؟

                  فقال (عليه السلام) ما لك ولهذا، ما عهدي بك تكلّم الناس؟

                  قال: أمرني هشام بن الحكم أن أسألك.

                  فقال (عليه السلام): قل له الكفر أقدم، أول من كفر إبليس ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ولا يخفى أن الكفر شيء واحد، والشرك يثبت واحداً ويشرك معه غيره.


                  12ـ مع عبد الغفار

                  جاءه رجل يقال له عبد الغفار فسأله عن قوله تعالى:

                  ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى .

                  قال أرى هنا خروجاً من حجب وتدلياً إلى الأرض، وأرى محمداً رأى ربه بقلبه ونسب إلى بصره فكيف هذا؟

                  فقال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): دنا فتدلى فإنه لم يزل عن موضع ولم يتدلّ ببدن. فقال عبد الغفار: أصفه بما وصف به نفسه حيث قال: دنا فتدلى، فلما يتدلى عن مجلسه إلا وقد زال عنه ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه.

                  فقال الإمام (عليه السلام): إن هذه لغة في قريش إذا أراد رجل منهم أن يقول قد سمعت، يقول: قد تدليت وإنما التدلي هو الفهم.

                  ـ وسئل (عليه السلام) عن رجل قال:

                  والله لأتصدقن بمال كثير فما يتصدق؟

                  فقال (عليه السلام): إن كان الذي حلف من أرباب شياه، فليتصدق بأربع وثمانين شاة، وإن كان من أصحاب النعم، فليتصدق بأربع وثمانين بعيراً، وإن كان من أرباب الدراهم، فليتصدق بأربع وثمانين درهماً والدليل عليه قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ . فعدد مواطن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل نزول تلك الآية فكانت أربعة وثمانين موطناً.

                  ـ سئل (عليه السلام) عن رجل نبش قبر ميت، وقطع رأس الميت، وأخذ الكفن.

                  فقال (عليه السلام): يقطع يد السارق لأخذ الكفن من وراء الحرز.

                  ويلزم مائة دينار لقطع رأس الميت، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح.


                  13ـ مع المهدي العباسي أيضاً

                  أمر المهدي بتوسعة المسجد الحرام مع الجامع النبوي، فسأل فقهاء العصر عن جواز إجبارهم على ذلك، فأشار عليه علي بن يقطين أن يرفع استفتاءً في المسألة إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) فاستصوب رأيه فردّ الإمام على سؤاله وكتب له: بعد البسملة: إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس، فالناس أولى ببنائها وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

                  ولما انتهى الجواب إلى المهدي أمر بهدم الدور وأضافها إلى ساحة المسجدين ففزع أصحابها إلى الإمام (عليه السلام) والتمسوا منه أن يكتب لهم رسالة إلى المهدي ليعوضهم عن ثمن دورهم، فأجابهم وكتب إلى المهدي رسالة في ذلك فلما وصلت إليه أوصلهم وأرضاهم.

                  ولم يكن ذلك من الاستملاك الذي يعبر عنه في الوقت الحاضر بالاستملاك للمصلحة العامة كما فهمه بعض المعاصرين بل إن هذا حكم شرعي يتبع أدلته الخاصة التي نصت على أن للجامع فناءً وإن من نزل به لا حرمة لما يقيمه فيه من بناء.

                  وعن داود بن قبيصة: قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: سئل أبي (عليه السلام): هل منع الله ما أمر به، وهل نهى عما أراد، وهل أعان على ما لم يرد؟

                  فقال (عليه السلام): أما ما سألت: هل منع الله عما أمر به؟ فلا يجوز ذلك، ولو جاز لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم، ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه.

                  وأما ما سألت هل نهى عما أراد؟ فلا يجوز ذلك، ولو جاز لكان حيث نهى آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها، ولو أراد منه أكلها لما نادى صبيان الكتاتيب: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) والله تعالى لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره.

                  وأما ما سالت عنه من قولك: هل أعان على ما لم يرد؟

                  ولا يجوز ذلك، وجلّ الله تعالى عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكذيبهم وقتل الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) والفضلاء من ولده، وكيف يعين على ما لم يرد؟ وقد أعد جهنم لمخالفيه، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته، وارتكابهم لمخالفته، ولو جاز أن يعين على ما لم يرد لكان أعان فرعون على كفره وادعائه أنه رب العالمين، أفترى أراد الله من فرعون أن يدّعي الربوبية؟ يستتاب هذا القول فإن تاب من كذبه على الله وإلا ضربت عنقه

                  Comment

                  • راية اليماني
                    مشرف
                    • 05-04-2013
                    • 3021

                    #10
                    رد: سيرة الامام موسى بن حعفر الكاظم (ع)

                    درر من حكمه الخالدة


                    قال (عليه السلام) عند قبر حضره: إن هذا شيئاً آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن شيئاً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره.

                    ـ اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات.

                    ـ إياك أن تمنع في طاعة الله، فتنفق مثليه في معصية الله.

                    ـ اشتدت مؤونة الدنيا والدين، فأما مؤونة الدنيا فإنّك لا تمد يدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه، وأما مؤونة الآخرة فإنّك لا تجد أعواناً يعينوك عليه.

                    ـ أولى العلم بك ما لا يصلح لك العلم إلا به، وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك، وأظهر لك فساده، وأحدّ العلم عاقبة ما زاد في علمك العاجل، فلا تشغلن بعلم ما لا يضرك جهله، ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه.

                    ـ أداء الأمانة والصدق يجلبان الرزق، والخيانة والكذب يجلبان الفقر والنفاق.

                    وسأله رجل يدعى عبيد الله بن إسحاق المدائني: إن الرجل يراني فيحلف بالله أنه يحبني، أفأحلف بالله أنه لصادق؟ فقال (عليه السلام): امتحن قلبك فإن تحبه فاحلف وإلا فلا.

                    ـ أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج.

                    ـ إن صلاحكم من صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم، وأكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم.

                    ـ إذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيراً حتى يعرف ذلك منه.

                    ـ أخذ أبي بيدي، قال يا بني: إن أبي محمد بن علي أخذ بيدي، وقال: إن أبي علي بن الحسين أخذ بيدي، وقال: يا بني: افعل الخير إلى كل من طلبه منك فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن له بأهل كنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل عن يسارك واعتذر إليك فاقبل منه.

                    ـ سأله رجل عن الجواد: فقال (عليه السلام): إن لكلامك وجهين. فإن كنت تسأل عن المخلوقين، فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه. والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك وإن منعك منعك ما ليس لك.

                    ـ إن قوماً يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفاً هم الآمنون يوم القيامة.

                    ـ إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابوا، وأدوا الأمانة، وعملوا بالحق.

                    ـ إنّ الأنبياء وأولاد الأنبياء وأتباع الأنبياء خصّوا بثلاث خصال: السقم في الأبدان، وخوف السلطان، والفقر.

                    ـ إن الله عزّ وجلّ يقول: إني لم أغن الغني لكرامة له عليّ، ولم أفقر الفقير لهوان به عليّ، وهو ممّا ابتليت الأغنياء بالفقراء، ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنّة.

                    ـ إذا لم تستح فاعمل ما شئت.

                    ـ أحسن من الصدق قائله، وخير من الخير فاعله.

                    ـ قال علي بن جعفر: سألت أخي موسى بن جعفر فقلت له: أصلحك الله، أيكون المؤمن بخيلاً؟

                    قال: نعم.

                    فقلت: أيكون خائناً؟

                    قال: لا ولا يكون كاذباً ثم قال: إن أبي حدّثني عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: كل خلة يطوي المؤمن عليها ليس الكذب والخيانة.

                    ـ قال (عليه السلام): جاء رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله ما حق ابني علي؟

                    فقال (صلّى الله عليه وآله): أن تحسن اسمه وأدبه.

                    وقال (عليه السلام): التحدث بنعم الله شكر، وترك ذلك كفر، فارتبطوا نعم ربكم بالشكر، وحصّنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا البلاء بالدعاء، فإن الدعاء منجية، ترد البلاء وقد أبرم إبراماً.

                    وقال (عليه السلام): التودد إلى الناس نصف العقل.

                    وقال (عليه السلام): تعجّب الجاهل من العاقل أكثر من تعجّب العاقل من الجاهل.

                    وقال (عليه السلام): رأس السخاء أداء الأمانة.

                    وقال (عليه السلام): السخي الحسن الخلق في كنف الله، لا يتخلى الله عنه حتى يدخل الجنة، وما بعث الله نبياً إلا سخياً، وما زال أبي يوصيني بالسخاء وحسن الخلق حتى مضى.

                    وقال (عليه السلام): الصنيعة لا تكون صنيعة إلا عند ذي دين أو حسب، والله ينزل المعونة على قدر المؤونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة.

                    قال علي بن سويد: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الضعفاء ـ أي ضعفاء العقيدة ـ فكتب (عليه السلام) لي: الضعيف من لم ترفع له حجّة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف.

                    وقال (عليه السلام): العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربّه فيتمنّ على الله عزّ وجلّ، ولله المنّة عليه فيه.

                    وقال (عليه السلام): العجلة هي الخرق.

                    وقال (عليه السلام): عونك للضعيف من أفضل الصدقة.

                    وقال (عليه السلام): عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء لله والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدر وقضى ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عزّ وجلّ وسئل صرف البلاء.

                    وقال (عليه السلام): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف عابد.

                    وقال (عليه السلام): فضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب.

                    وقال (عليه السلام): قلة الشكر تزهد في اصطناع المعروف.

                    وقال (عليه السلام): قلة الوفاء عيب بالمروءة.

                    وقال (عليه السلام): قلة العيال أحد اليسارين.

                    وقال (عليه السلام) لعلي بن يقطين: كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان.

                    وقال (عليه السلام): كثرة الهم تورث الهرم.

                    وقال (عليه السلام): كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدّون.

                    وقال (عليه السلام) ردّاً على سؤال موسى بن بكر عن الكفر:

                    (الكفر أقدم من الشرك وهو الجحود قال عزّ وجلّ: (إِلاَ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)

                    قال (عليه السلام): لا تكن إمعة فتقول: أنا مع الناس، إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: إنما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير.

                    وقال (عليه السلام): لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك وابق منها، فإن ذهابها ذهاب الحياء.

                    وقال (عليه السلام): لو ظهرت الآجال، افتضحت الآمال.

                    وقال (عليه السلام): لا تصلح المسألة إلا في ثلاث: في دم منقطع، أو غرم مثقل، أو حاجة مدفعة.

                    وقال (عليه السلام): لا خير في العيش إلا لمستمع واع، أو عالم ناطق.

                    وقال (عليه السلام): لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرره عليك أعظم من منفعته لهم.

                    وقال (عليه السلام): لا تضيع حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنّه ليس بأخ من ضيعت حقه، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته.

                    وقال (عليه السلام) لبعض ولده: لا تخرجن نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله وطاعته، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يعبد حق عبادته.

                    وقال (عليه السلام): المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان.

                    وقال (عليه السلام): ما تسابّ اثنان إلا انحطّ الأعلى إلى مرتبة الأسفل.

                    وقال (عليه السلام): ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى.

                    وقال (عليه السلام): المؤمن أعز من الجبل، الجبل يستغل بالمعاول، والمؤمن لا يستغل دينه بشيء.

                    وقال (عليه السلام): المؤمن مثل كفتيّ الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه.

                    وقال (عليه السلام): ما أهانت الدنيا قوم قط إلا هنّأهم الله إياّها، وبارك لهم فيها، وما أعزّها قوم قطّ إلا بغّضهم الله إياها.

                    وقال (عليه السلام): من أتى إلى أخيه مكروهاً فبنفسه بدأها.

                    وقال (عليه السلام): من ولده الفقر أبطره الغنى.

                    وقال (عليه السلام): المؤمن أخو المؤمن لأمه وأبيه وإن لم يلده أبوه، ملعون من اتهم أخاه، ملعون من لم ينصح لأخيه، ملعون من استأسر لأخيه، ملعون من احتجب عن أخيه، ملعون من اغتاب أخاه.

                    وقال (عليه السلام): المعروف تلو المعروف غلّ لا يفكه إلا مكافأة أو شكر.

                    وقال (عليه السلام): من لم يكن له من نفسه واعظ تمكن منه عدوه ـ يعني الشيطان.

                    وقال (عليه السلام): المغبون من غبن من عمره ساعة.

                    وقال (عليه السلام): من ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه فيها لم ينل جسيماً.

                    وقال (عليه السلام): من تكلم في الله هلك، ومن طلب الرياسة هلك، ومن دخله العجب هلك.

                    وقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من أصبح وهو لا يهتم بظلم أحد غفر الله بما اجترم.

                    وقال (عليه السلام): من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض.

                    قال (عليه السلام): نعم المال النخل الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل.

                    وقال (عليه السلام): وجدت علم الناس في أربع: أولها: أن تعرف ربك، والثانية: أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك من دينك.

                    قال (عليه السلام): يعرف شدة الجور من حكم به عليه.

                    وقال (عليه السلام): ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له على الله أجر فليقم. فلا يقوم إلا من عفا وأصلح فأجره على الله.

                    وقال (عليه السلام): ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقه، ولا يتهمه في قضائه.

                    Comment

                    • راية اليماني
                      مشرف
                      • 05-04-2013
                      • 3021

                      #11
                      رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة

                      كوكبة من رواته و اصحابه و مؤلفاتهم

                      الكثيرين من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) قد قاموا بدور مهم في التأليف والتصنيف ونشر الحضارة الإسلامية حتى ملأوا المكتبة العربية والإسلامية في عصرهم بنتاجهم القيّم، الأمر الذي دلّ بحق على أن لهم اليد الطولى في رفع منار العلم، وتهذيب الأفكار، وتقويم الأخلاق.


                      أما عدد أصحابه فقد ذكر أحمد بن خالد البرقي أنهم كانوا مائة وستين شخصاً. والحقيقة أن أغلب المنتمين لمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) قد بقوا بعد وفاته ينهلون من علم الإمام الكاظم (عليه السلام) ويتلقون العلوم والفقه منه.

                      1ـ إبراهيم بن أبي البلاد

                      هو يحيى بن سليم وكنى بأبي البلاد، كان إبراهيم ثقة جليلاً رفيع المنزلة عظيم الشأن، روى عن أبي عبد الله والكاظم والرضا، وأرسل له الإمام الرضا (عليه السلام) رسالة أعرب فيها عن ثنائه وإكباره له

                      2ـ أحمد بن الحسن

                      هو ابن إسماعيل النمار، مولى بني أسد، كان من أصحاب الإمام الكاظم وروى عن الإمام الرضا (عليه السلام) وقال النجاشي: هو على كل حال ثقة صحيح الحديث معتمد عليه له كتاب نوادر

                      3ـ أحمد بن عمرو

                      هو ابن أبي شعبة الحلبي روى عن الإمام الكاظم والرضا وروى أبوه عن أبي عبد الله وهو من بيت عرف بالتقوى والصدق والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)

                      4ـ إسماعيل بن عبد الخالق

                      مولى لبني أسد، وجه من وجوه الشيعة، وفقيه من فقهائها، وقد عرف أهله بالعدالة والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)؛ روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن وله كتاب

                      5ـ إسحاق بن جرير

                      ثقة من أهل العلم روى عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) وله كتاب، وعدّه الشيخ من أصحاب أبي الحسن موسى

                      6ـ أبو أيوب الحر

                      الملقب بالجعفي ثقة جليل روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن روى عنه يحيى بن عمران الحلبي وأبو عبد الله البرقي وقال الشيخ أنه ثقة وله كتاب

                      7ـ إبراهيم بن محمد الأشعري

                      القمي، روى عن الإمام الكاظم، وأبي الحسن الرضا، وثقه جماعة من الأعلام
                      8ـ بكر بن الأشعث

                      هو أبو إسماعيل الكوفي، روى عن الإمام، ووثقه جماعة من الأعلام

                      9ـ بكر بن محمد

                      هو ابن نعيم الأزدي الغامدي، ثقة جليل من بيت رفيع بالكوفة؛ عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الكاظم، عمّر عمراً طويلاً، وله كتاب، وروى عنه عبد الله بن مسكان واحمد بن حنبل
                      10ـ ثعلبة بن ميمون

                      الأسدي الكوفي، قال النجاشي: كان وجهاً من أصحابنا قارئاً فقيهاً نحوياً لغوياً راوية، وكان حسن العمل كثير العبادة والزهد روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن له كتاب تختلف الرواية عنه، قد رواه جماعة من الناس. وحكي أنه لما حجّ هارون مرّ بالكوفة فلما صار إلى الموضع الذي يعرف بمسجد (سماك) كان ثعلبة ينزل في غرفة على الطريق فسمعه هارون يدعو بلسان فصيح فوقف يسمع دعاءه وأقبل على الفضل بن الربيع فقال له: تسمع ما أسمع؟ فقال له: نعم. فقال هارون: إن أخيارنا بالكوفة

                      وكان يلقب بأبي إسحاق الفقيه ويعد في الطليعة من علماء هذه الطائفة بالإضافة إلى ورعه وتقواه، وقد روى عنه محمد ابن عبد الله المزخزف وعلي بن اسباط والحسن بن علي الخزاز وطريف بن ناصح
                      11ـ جعفر بن خلف
                      الكوفي عدّه الشيخ من أصحاب أبي الحسن موسى، وقال إنه سمع الإمام يقول: سعد امرإ لم يمت حتى يرى منه خلفاً، وقد أراني الله ابني هذا خلفاً ـ وأشار لولده الرضا

                      12ـ جميل بن دراج

                      ابن عبد الله النخعي الكوفي من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) والكاظم (عليه السلام)، وكان ثقة جليلاً من كبار العلماء، وهو أحد الستة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم، وكان كثير الحديث؛ روى عنه خلق كثير: كالحسن بن محبوب، وصالح بن عقبة، وأبو مالك الحضرمي وغيرهم، له مؤلفات منها كتاب اشترك في تأليفه هو ومرازم بن حكيم، وله أصل انفرد بتأليفه، وتوفي في أيام الرضا

                      13ـ جميل بن صالح

                      الأسدي الكوفي، ثقة جليل من أصحاب الإمام الصادق، والكاظم (عليه السلام)، له أصل، روى عنه جماعة منهم عمار بن موسى الساباطي وغيره

                      14ـ جهم بن أبي جهيم

                      ثقة جليل الشأن، رفيع المنزلة، روى عن الإمام الكاظم (عليه السلام) له أصل
                      15ـ حبيب بن المعلل

                      الخثعمي المدايني، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن قال النجاشي: ثقة صحيح الحديث، وقال الكشي مثل ذلك وأضاف أن له كتاباً

                      16ـ حذيفة بن منصور

                      الخزاعي، قال النجاشي: إنه ثقة روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن، له كتاب يرويه عدّة من أصحابنا، وثقة الشيخ المفيد

                      17ـ الحسن بن الجهم

                      هو ابن بكير بن أعين أبو محمد الشيباني، عدّه الشيخ من أصحاب الإمام موسى (عليه السلام) ووثقه، وهو ثقة روى عن أبي الحسن وولده الرضا، وله كتاب

                      18ـ الحسن بن علي

                      ابن فضال بن عمرو بن أنيس التيمي الكوفي، روى عن الإمام موسى (عليه السلام) والإمام علي بن موسى (عليه السلام) وابراهيم بن محمد الأشعري ومحمد بن عبد الله بن زرارة وعلي بن عقبة وغيرهم؛ وروى عنه الفضل بن شاذان، وبالغ في الثناء عليه بالزهد والعبادة، وكان من المؤلفين. له كتاب: الزيارات، وكتاب البشارات، وكتاب النوادر، وكتاب الرد على الغالية، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب التفسير وكتاب الابتداء والمبتدأ، توفي سنة 224هـ

                      19ـ الحسن بن محبوب

                      السراد، كوفي ثقة، عدّه الشيخ من أصحاب الإمام موسى، روى عن الإمام الرضا (عليه السلام) وروي عن ستين رجلاً من أصحاب أبي عبد الله، وكان جليل القدر يعد من أعلام عصره، ألّف كتباً كثيرة منها: كتاب الحدود، وكتاب الديّات، وكتاب الفرائض، وكتاب النوادر، يقع في ألف ورقة، وكتاب التفسير

                      20ـ الحسين بن محمد

                      ابن الفضل الهاشمي ثقة جليل من شيوخ بني هاشم، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن، وألّف كتاباً أسماه: (مجالس الرضا مع أهل الأديان) وقال الشيخ المفيد: كان الحسين بن محمد من خاصة الكاظم وثقاته ومن أهل الورع والعلم والفضل من شيعته

                      21ـ الحسين بن زيد


                      ابن علي بن الحسين، يلقب بذي الدمعة، كان الإمام الصادق قد ربّاه، وزوجته بنت الأرقط، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن وقال رواة الأثر إنه نشأ في حجر الإمام الصادق منذ قتل أبوه، وأخذ منه علماً كثيراً، وكان لا يجالس أحداً ولا يدخل إليه إلا من يثق به، وإنما لقّب بذي الدمعة لكثرة بكائه. قالت له زوجته: ما أكثر بكاؤك؟! فأجاب: وهل ترك لي السهمان والنار سروراً يمنعني من البكاء؟ توفي سنة 140هـ وعمره ست وسبعون سنة
                      22ـ خالد بن نجيح

                      كوفي، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن قال الكشي: كان خالد خادماً عند أبي الحسن موسى وهو الذي روى عنه في شأن ولده الرضا (عليه السلام) أنه قال فيه: (عهدي إلى ابني علي أكبر ولدي وخيرهم وأفضلهم)

                      23ـ خالد بن سعيد

                      القمّاط، عدّه الشيخ في رجاله في باب الكنى من أصحاب الإمام الكاظم، ووثّقه النجاشي وقال: إنه روى عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وله كتاب
                      24ـ خف بن حماد

                      الكوفي إمامي حسن الحال، من أصحاب الإمام الكاظم وروى عنه
                      25ـ داود بن أبي يزيد

                      الكوفي العطار ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن وله كتاب
                      26ـ داود بن سليمان

                      عدّه الشيخ المفيد من خاصة أبي الحسن موسى (عليه السلام) وثقاته ومن أهل الورع والعلم والفقه، وممن روى النص عن الإمام موسى على إمامة ولده الرضا، فقد قال فيه: إني سألت أباك ـ من الذي يكون بعده؟

                      فأخبرني أنك أنت، فلما توفي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً وقلت لك أنا وأصحابي، فأخبرني من الذي يكون بعدك؟ فقال (عليه السلام): ابني فلان ـ يعني الرضا ـ وترجمه الشيخ في الفهرست وقال إن له أصلاً

                      27ـ داود بن فرقد

                      الأسدي، كوفي ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى وله وكتاب

                      28ـ ذريح بن محمد

                      ابن يزيد أبو الوليد المحاربي عربي من بني محارب من بني خصفة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن، ذكره ابن عقدة وابن نوح وله كتاب، ووثّقه الشيخ والعلامة وغيرهما

                      29ـ ربعي بن عبد
                      الله
                      ابن الجارود بن أبي سبرة الهذلي، أبو نعيم، بصري، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام) وصحب الفضيل بن يسار وأكثر الأخذ عنه وكان خصيصاً به وقال الشيخ: له أصل.

                      30ـ رفاعة بن موسى

                      الأسدي النحاس، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام)، كان ثقة في حديثه، مسكوناً في روايته، لم يُعترض له بشيء من الغمز، حسن الطّريقة، له كتاب مبوب في الفرائض، ذكره العلامة في القسم الأول من (الخلاصة) وورد توثيقه في الوجيزة، ومشتركات الكاظمي، والحاوي وغيرها
                      31ـ زكريا بن إدريس
                      القمي روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن، والرضا (عليهم السلام) وكان وجيهاً عند الإمام الرضا وله كتاب
                      32ـ سعد بن أبي خلف

                      كوفي ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن، له كتاب يرويه جماعة منهم: ابن أبي عمير عدّه ابن داود في القسم الأول من رجاله، وورد توثيقه في (الوجيزة) و(البلغة) و(الحاوي).

                      33ـ سعيد بن جناح

                      كوفي الأصل نشأ في بغداد ومات فيها، روى عن أبي الحسن والرضا، له كتاب في (صفة الجنة والنار) وكتاب (قبض روح المؤمن والكافر) عدّه ابن داود في القسم الأول، ووثقه في الوجيزة والبلغة

                      34ـ سليم الفراء

                      كوفي روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام) ثقة له كتاب يرويه جماعة منهم محمد بن أبي عمير

                      35ـ سيف بن عميرة

                      النخعي عربي ثقة روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن (عليه السلام) له كتاب ترويه جماعات من أصحابنا، وهو ثقة وعدّه ابن النديم من فقهاء الشيعة
                      36ـ شعيب بن يعقوب

                      ابن أخت أبي بصير يحيى بن القاسم، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن ثقة، له كتاب يرويه حماد بن عيسى وغيره. وورد توثيقه في الوجيزة والبلغة والحاوي
                      37ـ صالح بن خالد

                      المحاملي، أبو شعيب الكناسي، روى عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، له كتاب يرويه جماعة منهم عباس بن معروف؛ وثّقه الشيخ في رجاله في باب الكنى كما ورد توثيقه في الوجيزة والبلغة (81).

                      38ـ صباح بن موسى

                      الساباطي ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام)

                      39ـ صفوان بن يحيى


                      أبو محمد البجلي، كوفي ثقة، قال الشيخ الطوسي: إنه أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وغيرهم، وكان يصلي في كل يوم مائة وخمسين ركعة، ويصوم في السنة ثلاثة أشهر، ويخرج زكاة ماله في كل سنة ثلاثة مرات، والسبب في ذلك أنه تعاقد هو وعبد الله بن جندب ولعي بن النعمان في بيت الله الحرام أنه إن مات واحد منهم أن يقوم من بقي منهم بالصلاة والزكاة والحج عنهم فمات صاحباه وبقي صفوان فوفى لهما بذلك، فكان جميع ما يفعله من البر والخير يجعله ثلاثة أقسام، قسم له وقسمان لصاحبيه، وكان من الزهاد المتعبدين والمحتاطين، فقد كلفه شخص وهو مسافر أن يجعل معه دينارين إلى أهله في الكوفة، فقال له: إن جمالي مكرية فلابدّ أن أستأذن الأجراء.

                      ويكفي للتدليل على وثاقته أنه كانت له منزلة عند الإمام الرضا (عليه السلام) وكان وكيلاً له. ألّف ثلاثين كتاباً منها: كتاب الصلاة، وكتاب الصوم، وكتاب الحج، وكتاب الزكاة، وكتاب الطلاق، وكتاب الفرائض، وكتاب الشراء والبيع، وكتاب العتق والتدبير، وكتاب البشارات، وكتاب مسائل عن أبي الحسن موسى وغير ذلك. توفي سنة 210هـ بالمدينة، وبعث إليه أبو جعفر بحنوطه وكفنه، واقر إسماعيل بن موسى بالصلاة عليه

                      40ـ الضحاك الحضرمي

                      أبو مالك، كوفي عربي، أدرك أبا عبد الله (عليه السلام) وقال قوم: إنه روى عنه وقال آخرون: إنه روى عنه وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام) وكان متكلماً ثقة في الحديث، له كتاب في الحديث رواه علي بن الحسن الطاطري
                      41ـ عبد الحميد بن سعيد

                      عدة الشيخ من صحاب الإمام موسى (عليه السلام) وروى عنه صفوان بن يحيى

                      42ـ عبد الله بن الحارث

                      المخزومي، أمه من ولد جعفر بن أبي طالب، وقد وثّقه الشيخ المفيد في (الإرشاد) وعدّه من خاصة الإمام الكاظم (عليه السلام) وثقاته ومن أهل الورع والعلم والفقه.

                      43ـ عبد الله بن جندب

                      البجلي، عربي، كوفي، من أصحاب الإمام الكاظم والرضا (عليهما السلام) قال الشيخ الطوسي: كان وكيلاً للإمام موسى وولده الرضا، وكان عابداً رفيع المنزلة وروى الكشي في حقه أنه قال للإمام أبي الحسن: ألست عني راضياً؟ قال (عليه السلام): أي والله، ورسول الله والله عنك راض، وعن علي بن إبراهيم عن أبيه، قال: رأيت عبد الله بن جندب بالموقف ـ أي موقف عرفة ـ فلم أر موقفاً كان أحسن من موقفه، ما زال ماداً يده إلى السماء، ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض فلما انصرف الناس قلت له: يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك!!

                      قال لي: والله ما دعوت فيه إلا لإخواني، وذلك لأن أبا الحسن موسى (عليه السلام) أخبرني أنه من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب نودي من العرش ولك بكل واحدة مائة ألف وكرهت أن أدعو مائة ألف لواحدة لا أدري تستجاب أم لا؟

                      وقد وثق الرجل في الوجـــيزة والحاوي ومشتركــات الطريحي وقد أجـــمع المترجـــمون له أنه لم يغمز بوجه، وإنه ثقة بلا خلاف.

                      44ـ عبد الله بن المغيرة

                      هو أبو محمد البجلي كوفي، ثقة لا يعدل به أحد لجلالته ودينه وورعه، روى عن أبي الحسن موسى، قيل أنه صنف ثلاثين كتاباً، منها كتاب (الوضوء) وكتاب الصلاة. وقد روى هذه الكتب كثير من أصحابنا. قال: أتيت المدينة ووقفت على باب الرضا (عليه السلام) وقلت للغلام، قل لمولاك رجل من أهل العراق بالباب فسمعت نداء الإمام وهو يقول: ادخل يا عبد الله بن المغيرة، فدخلت فلما نظر إليّ قال: قد أجاب الله دعوتك وهداك لدينه، فقلت: أشهد أنك حجة الله وأمينه على خلقه.

                      45ـ علي بن جعفر

                      أخو الإمام موسى (عليه السلام) ثقة جليل من عيون الهاشميين ومن خيارهم، وفي طليعة الرواة الثقات، روى عن أبيه وبعد وفاته اختص بأخيه موسى، وروى عنه الشيء الكثير، وقد أفرد المجلسي في بحاره فصلاً لرواياته عنه، وقد ألف رسالة في الأحاديث التي رواها عن أخيه موسى، وكان قوي الإيمان، صلب العقيدة، دخل عليه بعض الواقفية فقال له: ما فعل أخوك أبو الحسن؟

                      ـ قد مات؟ ـ وما يدريك؟

                      ـ قسمت أمواله، ونطق الناطق من بعده.

                      ـ ومن الناطق؟ ـ ابنه علي.

                      ألف كتاباً في الحـــلال والحـــرام، وروى عنه جماعــــة منهم ابنـــه أحــــمد ومحمد وحفيده عـــبد الله بن الحسن، توفي سنة 210هـ.

                      46ـ علي بن حمزة

                      ابن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو والد سيدنا حمزة المدفون بقرب الحلة الذي يزار ويتبرك بقبره، وهو ثقة روى وأكثر الرواية، له نسخة يرويها عن الإمام موسى (عليه السلام).

                      47ـ علي بن عبيد الله

                      ابن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال فيه النجاشي: إنه أزهد آل أبي طالب وأعبدهم في زمانه؛ اختص بالإمام موسى (عليه السلام) والإمام الرضا (عليه السلام)، وقال: إنه له كتاباً في الحج يرويه كله عن الإمام موسى (عليه السلام).

                      48ـ عمر بن محمد

                      ابن يزيد أبو الأسود كوفي، ثقة جليل الشأن، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن وأثنى عليه الإمام أبو عبد الله (عليه السلام) فقال له: أنت والله منا أهل البيت. جعلت فداك، من آل محمد؟ من أنفسهم أما تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) له كتاب: مناسك الحج وفرائضه.

                      49ـ علي بن يقطين

                      ولد بالكوفة سنة 124هـ في أواخر دولة الأمويين، ونشأ وترعرع على أرضها؛ كان أبوه يقطين يحمل الأموال والألطاف إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، طلبه مروان الحمار فهرب منه وهربت زوجته بولديه علي وعبيد الله إلى المدينة، ولما زالت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية عادت بولديها إلى وطنها وفي ذلك الوقت انتشر صيت يقطين، فقد اتصل بالسفاح وبالمنصور والمهدي ثم وشي عليه بأنه يذهب إلى (الإمامة) ولكن الله تعالى صرف عنه كيد الغادرين ولما توفي قام ولده علي مقامه فاتصل اتصالاً وثيقاً بالعباسيين وتولى بعض المناصب المهمة في الدولة، وكان في الوقت نفسه عوناً وغوثاً للشيعة، يدفع عنهم الخطوب، وكان من عيون المؤمنين الصالحين، فكان يستنيب جماعة في كل سنة ليحجوا عنه، فقد حدث سليمان بن الحسين كاتبه فقال: أحصيت لعلي بن يقطين من يحج عنه، في عام واحد مائة وخمسين رجلاً، أقل من أعطاه منهم سبعمائة درهم، واكثر من أعطاه عشرة آلاف درهم. وقد انفق أموالاً ضخمة في وجوه البر والإحسان منها أنه أوصل الإمام موسى (عليه السلام) بصلات كبيرة تتراوح ما بين المائة ألف درهم إلى ثلاث مائة ألف درهم، وقد زوج ثلاثة من أولاد الإمام منهم أبو الحسن الرضا (عليه السلام)، كما دفع ثلاثة آلاف دينار للوليمة، وكان يعول بعض عوائل الشيعة. فقد قام بنفقة الكاهلي وعياله حتى توفي، إلى غير ذلك من وجوه البر والإحسان كل ذلك يدل على إيمانه وحسن عقيدته.

                      تقلد علي منصب أزمة الأزمة في أيام المهدي، ومن بعده عينه هارون وزيراً له، وقد تقدم بطلب إلى الإمام موسى (عليه السلام) يطلب منه الإذن في ترك منصبه والاستقالة منه فنهاه عن ذلك وقال له:

                      (يا علي إن لله تعالى أولياءً مع أولياء الظلمة يدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي). وقد سمح له الإمام في بقائه في وظيفته ليقوم بالإفراج عن الشيعة الذين اضطهدتهم السلطات العباسيّة حتى حرمتهم من جميع الحقوق المشروعة.

                      كان الإمام (عليه السلام) يكن لعلي أخلص الود والولاء، فقد زاره يوماً فقال (عليه السلام) لأصحابه: من سره أن يرى رجلاً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلينظر إلى علي بن يقطين.

                      فانبرى إليه بعض الحاضرين قائلاً: أهو من أهل الجنة؟

                      فقال الإمام (عليه السلام): أما أنا فاشهد أنه من أهل الجنة.

                      كان الإمام (عليه السلام) حريصاً على ابن يقطين، وكان يخاف عليه من سطوة هارون وبطشه، لأن أمر تشيّعه لم يكن خافياً على العملاء الذين يتقربون إلى السلطة بكل وسيلة، وقد علم (عليه السلام) أنهم لا يتركونه حتى يقظون عليه، فتصدّى إلى تسديده ورفع الخطر عنه. فقد ردّ له (الدراعة المذهبة) التي أهداها له هارون حتى لا يكشف أمره.

                      مؤلفاته: كان علي بن يقطين من عيون أهل العلم ومن الفضلاء المعروفين في عصره وهذه بعض مؤلفاته:

                      1ـ (الملاحم) أخذها من الإمام الصادق (عليه السلام).

                      2ـ (مناظرة الشاك).

                      3ـ (المسائل) أخذها من الإمام موسى (عليه السلام).

                      وقد ورد في الفهرست للشيخ الطوسي أن الذين أخبر بهذه الكتب محمد بن محمد بن النعمان، والحسين بن عبيد الله ومحمد بن الحسن

                      وفاته: انتقل علي بن يقطين إلى دار الحق بمدينة السلام سنة 182هـ.

                      وله من العمر سبع وخمسون سنة، وكان الإمام موسى (عليه السلام) آنذاك في ظلمات السجون

                      50ـ العيص بن القاسم

                      ابن ثابت بن عبيد بن مهران، البجلي، كوفي عربي، يكنى أبا القاسم ثقة عين، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى (عليهما السلام) وله كتاب
                      51ـ غياث بن إبراهيم

                      التميمي الأسدي بصري، سكن الكوفة، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام)، له كتاب مبوب في الحلال والحرام يرويه جماعة
                      52ـ فضالة بن أيوب

                      عربي سكن الأهواز، ثقة في حديثه، روى عن الإمام موسى (عليه السلام) وعدّه الكشي ممن أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنهم من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وتصديقهم والإقرار لهم بالفقه والعلم، وله كتاب (الصلاة)

                      53ـ الفيض بن المختار

                      الجعفي، الكوفي، روى عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وأبي الحسن (عليهم السلام)، ثقة عين، له كتاب يرويه ابنه جعفر، وهو أول شخص سمع النص من أبي عبد الله على إمامة ولده موسى (عليه السلام) وقد تقدم ذكره في الحديث عن (النص على الإمامة)
                      54ـ قيس بن موسى

                      الساباطي، أخو عمار الساباطي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن وهو ثقة مقبول الحديث
                      55ـ محمد بن جعفر

                      ابن سعد الأسلمي، كتب وصية الإمام موسى (عليه السلام) الأولى، وشهد في وصيته الثانية

                      56ـ محمد بن حكيم


                      الخثعمي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن، يكنى أبا جعفر، له كتاب يرويه جعفر بن محمد بن حكيم، وأثنى عليه في (الوجيزة)

                      57ـ محمد بن زرقان

                      ابن الحباب صاحب الإمام موسى وله نسخة يرويها عنه، ومصاحبته للإمام (عليه السلام) دليل وثاقته ونباهة شأنه

                      58ـ محمد بن أبي عمير

                      الأزدي، بغدادي الأصل والمقام، من أشهر علماء هذه الطائفة ومن عيون رواتها، وقد أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصح عنه وعلى عد مراسيله مسانيد؛ عاصر الإمام الكاظم، والرضا، والجواد (عليهم السلام) وسوف نلخص بعض أحواله.

                      علمه: كان من عيون العلماء، ومن كبار الفقهاء، وقد أجمعت الأكثرية على الإقرار له بالفقه والعلم، وقد لازم ثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأُشبع من نمير علومهم وقد زود الفقه الإسلامي بالشيء الكثير من أحاديثه التي سمعها من الأئمة الميامين، ومراسيله بمنزلة الصحاح عند الفقهاء، وفي هذا دليل على سمو مكانته العلمية.

                      مؤلفاته: ألف من الكتب أربعاً وتسعين كتاباً منها:

                      كتاب المغازي، وكتاب الكفر والإيمان، وكتاب البداء، وكتاب الاحتجاج في الإمامة، وكتاب الحج، وكتاب فضائل الحج، وكتاب المتعة، وكتاب الاستطاعة، وكتاب الملاحم، وكتاب يوم وليلة، وكتاب مناسك الحج، وكتاب الصيام، وكتاب اختلاف الحديث، وكتاب المعارف، وكتاب الطلاق، وكتاب الرضاع.

                      ولكن من المؤسف أن هذه المؤلفات قد تلفت، والسبب في ذلك كما رووا أنه تركها في غرفة فسال عليها المطر فأتلفها، وقيل أن أخته دفنت كتبه أثناء حبسه فضاعت، وضاع بذلك علم هذا العالم الكبير.

                      عبادته: كان محمد من عيون المتقين الصالحين، فقد تربّى في بيت الإمامة، وسار على خطّ أهل البيت (عليهم السلام) من رفض الدنيا المادية، وعدم الاهتمام بملذاتها وشهواتها، ويكفي للتدليل على مدى عبادته ما رواه الفضل بن شاذان قال: دخلت العراق فرايت شخصاً يعاتب صاحبه ويقول له:

                      أنت رجل ذو عيال، وتحتاج أن تكسب لهم، وما آمن عليك أن تذهب عيناك لطول سجودك، وأكثر عليه التوبيخ والتقريع، فالتفت إليه وقال له: (لو ذهبت عين أحد من السجود، لذهبت عين ابن أبي عمير ما ظنك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر فما رفع رأسه إلا عند زوال الشمس.

                      وقد عظمه وبجله جمع من المشايخ، ولا ريب أن تعظيم أولئك الأتقياء الصالحين له وإكبارهم لمنزلته ممّا يدل على سمو مكانته وعلو شأنه.

                      مع هارون والسجون: كان محمد بن أبي عمير من الشخصيات البارزة في العالم الشيعي نظراً لاتصاله الوثيق بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وفي الوقت نفسه كان عنده السجل العام الذي يتضمن أسماء الشيعة، ولقد ضاق على هارون ذلك، فأمر أن يلقى في ظلمات السجون، فبقي فيها سبعة عشر عاماً. ثم جيء به إلي الطّاغية هارون وهو مكبل بالقيود، فطلب إليه أن يعرفه بأسماء الشيعة الذين يحتفظ بأسمائهم، فامتنع وأبى، فأمر الظالم أن يضرب هذا المؤمن التّقيُّ مائة سوط، فضرب، وبلغ به الألم الشديد مبلغاً عظيمًا. يقول: كدت أن أسمي إلا أني سمعت نداء يونس بن عبد الرحمن يقول لي:

                      (يا محمد بن أبي عــمير، اذكر موقـــفك بين يدي الله، فتقـــويت بـــقوله وصبـــرت على الألم ولم أخبر، والحمد لله رب العالمين).

                      من هذه الحادثة وأمثالها نقف على مدى الظلم والجور والضغط الهائل الذي واجهته الشيعة في تلك الأدوار المظلمة من الحكام العباسيين الذين كان جل همهم السلطة والمال والدنيا والملذات.

                      وفاته: انتقل إلى دار الخلود سنة 217هـ فهنيئاً له على صلابة عودة وقوة عقيدته، وتمسكه بحبل أهل البيت الذي ما تمسك به أحد إلا نجا من الضلال، وكسب رضى الله جلّ وعلا.

                      59ـ محمد بن الصباح

                      عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وقال فيه النجاشي: إنه كوفي ثقة، له كتاب أخبرنا عنه أحمد بن عبد الواحد وذكره ابن داود في القسم الأول من رجاله

                      60ـ محمد بن يونس

                      عده الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام موسى، وقال إنه ثقة، وذكره العلامة في الخلاصة وورد توثيقه في كل من الوجيزة والبلغة

                      61ـ مسعدة بن صدقة

                      العبدي يكنى أبا محمد وقيل أبو بشر، روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن موسى (عليهما السلام) وله كتاب، منها كتاب (خطب أمير المؤمنين)

                      62ـ المفضل بن عمر

                      الجعفي الكوفي، من كبار العلماء، ومن عيون المتقين والصالحين، ومن أفذاذ عصره، له منزلة مرموقة ومكانة عليا عند أهل البيت (عليهم السلام).

                      ولادته: ولد بالكوفة في نهاية القرن الأول، في أيام الإمام الباقر

                      نشأته: ونشأ بالكوفة في وقت كان الجو السياسي مضطرباً، وكانت الأحزاب السياسية والجمعيات الدينية منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وخصوصاً بالكوفة، فقد كانت مصدر الانطلاق لجميع الأحزاب، ونشأ المفضل في وسط هذا الخضم الهائل، وقد تغذى بحب أهل البيت (عليهم السلام)، فاتصل بهم اتصالاً وثيقاً.

                      وثاقته: كان من عيون الثقات الصالحين، ومن ذوي البصيرة في دينهم والدليل القاطع على ورعه وكالته عن الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) في قبض أموالهما، وقبض الحقوق الشرعية الراجعة لهما وصرفها بحسب نظره من إصلاح ذات البين وإعطائها للفقراء والبائسين، وبلا شك أن هذا التفويض ينم على سمو منزلته وثقته عندهم (عليهم السلام) قال في حقه الإمام الصادق (عليه السلام): (نعم العبد والله الذي لا إله إلا هو المفضل بن عمر الجعفي). وقال في حقه أيضاً الإمام الرضا في تأبينه: (إن المفضل كان أنسي ومستراحي) وأخبار كثيرة تدل على إيمانه الصادق وورعه واجتهاده في طاعة الله تعالى.

                      علمه: كان من كبار العلماء ومن قادة الفكر في عصره، اقتبس العلوم من الإمام الصادق (عليه السلام) اختص به سنين طويلة، وكان من عيون أصحابه الذين أخذوا العلم عنه، ويكفي للتدليل على غزارة علمه كتابه القيم (توحيد المفضل) الذي أملاه عليه الإمام الصادق (عليه السلام). يعد الكتاب من مفاخر التراث الإسلامي الذي يعتز به، وقد حقق الكتاب صدر الدين العاملي واثنى على المفضل بقوله: (ومن نظر في حديث المفضل المشهور عن الإمام الصادق (عليه السلام) علم أن ذلك الخطاب البليغ، والمعاني العجيبة، والألفاظ الغريبة، لا يخاطب الإمام بها إلا رجلاً عظيماً كثير العلم، ذكي الحس، أهلاً بتحمل الأسرار الرفيعة، والدقائق البديعة)

                      اقرّ الإمام الصادق (عليه السلام) بمواهبه العلمية فقد حدث الفيض بن المختار: فما أكاد أشك لاختلافهم في حديثهم حتى أرجع إلى المفضل فيقضي من ذلك ما تستريح إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي، فقال له الإمام: أجل هو كذلك وعده الشيخ المفيد من ثقات الفقهاء الصالحين

                      مؤلفاته:

                      ألف المفضل عدة كتب مختلفة المواضيع تدل على طول باعه في هذه العلوم وهذه بعضها:

                      1ـ كتاب (يوم وليلة).

                      2ـ كتاب (فكر).

                      3ـ كتاب (بدئ الخلق والحث على الاعتبار).

                      4ـ كتاب (علل الشرائع).

                      5ـ كتاب (وصيّة المفضل).

                      وصيّته للشيعة: أوصى المفضل جماعة من إخوانه الشيعة بهذه الوصية القيمة الحافلة بأخلاق أهل البيت (عليهم السلام) وآدابهم وسيرتهم والحقيقة أنها يمكن أن تكون درساً حافلاً بالقيم والنصائح ومنهاجاً قويماً في الاجتماع والدين والأخلاق لكل مسلم ومسلمة

                      63ـ منصور بن حازم

                      أبو أيوب البجلي الكوفي ثقة عين صدوق من أجلاء الشيعة، ومن عيون الفقهاء، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى (عليهما السلام)، ألف عدة كتب منها: كتاب (أصول الشرائع) وكتاب (الحج) وقد أجمع المترجمون على توثيقه وسعة علمه في الفقه

                      64ـ موسى بن إبراهيم

                      المروزي، اختص بالإمام موسى (عليه السلام) لما كان في سجن الطاغية السندي ابن شاهك لأنّه كان معلماً لولده، وقد فسح له المجال للاتصال بالإمام، وقد ألّف كتاباً ممّا سمعه من الإمام، وقد أسماه (مسند الإمام موسى بن جعفر) توجد نسخة منه في المكتبة الظاهرية بدمشق ضمن المجموع رقم (34-70) وقد استنسخها وصوّر بعض فصولها العلامة الجليل السيد محمد الحسين الحسيني الجلالي، وهي حسب تحقيقه يرجع عهدها إلى القرن السادس الهجري وعليها عدة تواريخ أقدمها سنة 531.

                      وقد عني السيد الجلالي عناية بالغة بتحقيق المسند فترجم لمؤلفه ترجمة وافية فذكر شيوخه ومن روى عنه، كما ذكر سند الكتاب حسب ما نص عليه الشيخ الطوسي والنجاشي، ويحتوي على 59 حديثاً شريفاً

                      65ـ نصر بن قابوس

                      اللخمي القابوسي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى والإمام الرضا (عليهم السلام)، وكانت له منزلة عندهم وله كتاب، وعدّه الشيخ من خاصة الإمام الكاظم (عليه السلام) ومن ثقاته، ومن أهل الورع والعلم من شيعته.

                      وقال الشيخ الطوسي: إنه كان وكيلاً عند الإمام الصادق (عليه السلام) عشرين سنة وهو أحد رواة النص على إمامة الإمام الرضا (عليه السلام)، وهذا يظهر عدالته ووثاقته

                      66ـ نشيط بن صالح

                      ثقة، روى عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) وله كتاب وروى العلامة أنه كان خادماً عند الإمام موسى وهو أحد رواة النص على إمامة الرضا
                      67ـ هشام بن سالم

                      الجواليقي الجعفي، وهو من عظماء هذه الطائفة ومن عيونها، روى عن أبي الحسن، وقد عيّنه الإمام الصادق (عليه السلام) للمناظرة في التوحيد مع رجل من أهل الشام، وفي هذا دلالة على وفور علمه وتقدّمه في الفضل، وقد اعترف له بالفضل والوثاقة كثير من مترجميه.

                      68ـ هند بن الحجاج

                      عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وذكر المترجمون له حديثاً مع الإمام الكاظم (عليه السلام) يدل على وثاقة الرجل واختصاصه بالإمام.

                      69ـ الهيثم بن عبد الله

                      الرماني الكوفي، روى عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، والإمام الرضا (عليه السلام) وله كتاب.

                      70ـ هشام بن الحكم

                      من كبار علماء الأمّة الإسلامية وفي طليعة المدافعين عن مبدأ أهل البيت (عليهم السلام)، ناضل كثيراً وجاهد جهاداً مباركاً في نصرة الحق والدفاع عن الشريعة الإسلامية في عصر انعدمت فيه الحرّيات العامة، وكان الذاكر لفضائل أهل البيت (عليهم السلام) عرضة للتنكيل والانتقام من قبل الحكام العباسيين الذين بذلوا كل امكاناتهم من أجل إضعاف كيان آل الرسول (عليهم السلام). لكن هشاماً الجريء الشجاع لم يهتم بكل ذلك، بل ناظر خصومه وتفوّق عليهم، وقد تحدثت الأندية العلمية عن قوة استدلالية، وبراعة برهانه، الأمر الذي ينم عن مدى حبه لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذه باختصار بعض شؤونه وأحواله.

                      ولادته: ولد بالكوفة، وليس لدينا نص يعين السنة التي ولد فيها.

                      نشأته: المرجح عند المترجمين أنه نشأ في مدينة واسط وكان يتعاطى التجارة وانتقل أخيراً إلى بغداد فنزل في جانب الكرخ في قصر وضاح، كان من أصحاب الجهم بن صفوان لكنه لما التقى بالإمام الصادق (عليه السلام) وحاوره الإمام فلم يعد يقدر على مفارقته أبداً، ومنذ ذلك الحين أخذ يتلقى العلم والمعارف منه حتى أصبح في طليعة العلماء ومن أفذاذهم

                      تخرجه: انقطع هشام إلى الإمام الصادق (عليه السلام) حتى أصبح من أبرز رجال مدرسته، ولما انتقل الإمام الصادق إلى دار الخلود اختص بولده الإمام الكاظم (عليه السلام) وأخذ يتلقى منه العلم والفضل وبذلك يكون قد أخذ العلم من منبعه الصحيح ونال شرف التلمذة عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

                      رواته: روى عنه جماعة من كبار الرواة الأحاديث التي سمعها من أهل البيت (عليهم السلام) وهم كثر توجد رواياتهم عنه في كتب الفقه والحديث من هؤلاء نذكر: محمد بن أبي عمير، صفوان بن يحيى البجلي الكوفي، النضر بن سويد الصيرفي الكوفي، نشيط بن صالح، يونس بن عبد الرحمن، حماد بن عثمان، علي بن معبد البغدادي ويونس بن يعقوب

                      اختصاصه: اختص هشام في علم الكلام فكان من كبار المتكلمين في عصره، ومناظراته التي أجراها مع كبار المفكرين تنمّ عن تفوّقه في هذا الفن، قال ابن النديم في ترجمته: كان هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة، وممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام

                      وقد ناظر هشام الفلاسفة في مختلف الميادين العلمية حتى تفوّق عليهم وكانت نوادي بغداد تعجّ بمناظراته القيّمة التي دلّت على تفوّقه في هذا الفن. ومن مناظراته هذه مناظرته مع عمرو بن عبيد.

                      طلب الإمام الصادق (عليه السلام) من هشام أن يقصّ عليه مناظرته مع عمرو الزعيم الروحي للمعتزلة، فامتثل هشام لأمر الإمام وأخذ يحدثه بقصته قائلاً له: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، وعظم ذلك عليّ، لأنه كان ينكر الإمامة، ويقول:

                      مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بلا وصي، فخرجت إليه ودخلت البصرة فأتيت مسجدها، وإذا أنت بحلقة كبيرة، وإذا أنا بعمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء مؤتزر بها، وشملة أخرى مرتدٍ بها والناس يسألونه فاستفرجت الناس فأخرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم ثم قلت له: أيها العالم أنا رجل غريب، أتأذن لي أن أسألك عن مسألة؟

                      قال: نعم. فقلت له:

                      ألك عين؟ فما ترى بها؟ ـ أرى بها الألوان والأشخاص. ثم تابع يسأله... ألك أنف؟ ألك فم؟ ألك إذن؟ ألك يدان؟ ألك رجلان؟ ألك قلب؟ قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح، فسأله هشام: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا.

                      قال هشام: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟

                      فقال عمرو: يا بني، إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو ذاقته، فتؤديه إلى القلب، فيتيقن اليقين، ويبطل الشك.

                      فإنما أقام الله القلب لشكّ الجوارح؟ قال عمرو: نعم. فقال هشام: فلابدّ من القلب، وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال عمرو: نعم.

                      وبعدما أخذ هشام من عمرو هذه المقدمات كرّ عليه في إبطال ما ذهب إليه من أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات بلا وصي فقال له هشام:

                      (يا أبا مروان إن الله لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح، وينقي ما شكّت فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد حيرتك وشكك؟!

                      فسكت عمرو ولم يطق جواباً لأن هشام قد سدّ عليه كل نافذة يخرج منها.

                      وكان له جولات عديدة أخرى ومناظرات مع كبار المفكرين منهم:

                      ـ يحيى بن خالد البركي: الذي طلب إليه أن يخبره هل يكون الحق في وجهتين مختلفتين؟ فأجابه بلباقة وحنكة

                      ـ وله مناظرة مع النظام الذي يسأل: هل أن أهل الجنة غير مخلدين فيها، وأنه لابدّ أن يدركهم الموت؟ فأجابه هشام وانصرف النظام مخذولاً لا يجد برهاناً على ما يذهب إليه

                      ـ ومع ضرار الضبي: الذي كان جاحداً للإمامة.

                      أجابه هشام قائلاً: (الإمام لابدّ له من علم يقيمه الرسول له، فلا يسهى، ولا يغلط، ولا يحيف، معصوم من الذنوب مبرأ من الخطايا يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد)

                      فسكت ضرار أمام هذا المنطق المدعم بالدليل العقلي.

                      هذه بعض مناظرات لهذا العالم الكبير الذي فتق بها مباحث الفلسفة الكلامية، وبقيت من بعده مدداً مفيداً لكل من أراد الخوض في مثل هذه البحوث. وقد بقي جماعة يناظرون على مبادئه حتى في عصور متأخرة. نذكر منهم: أبا عيسى محمد بن هارون الوراق،وأحمد بن الحسين الراوندي وغيرهما... وقد وضع هذا الأخير كتابه: (فضيحة المعتزلة) هاجم فيه الآراء الاعتزالية ورجالها مهاجمة شديدة، معتمداً في كثير منها على آراء هشام. كما يظهر تأثيره من كتابه الذي وضعه في حدوث العلم، ونجد أثر ذلك في دفاع المعتزلة أنفسهم الذين عنوا بردها ونقضها ومنهم بشر بن المعتمر من أفضل علماء المعتزلة، فقد وضع كتاباً في الرد على هشام بن الحكم

                      وفاته: مؤامرة من يحيى بن خالد البرمكي حيث جمع المتكلمين واختفى هارون وراء الستر ولا يعلم بذلك هشام. ثم جرت بينه وبين الفلاسفة مناظرة: حول الإمامة، وأخيراً وبعد حوار طويل بينه وبينهم صرح هشام بأن الإمام إذا أمره بحمل السيف أذعن بقوله ولبى طلبه. ولما سمع الرشيد بذلك تغيرت حاله واستولى عليه الغضب، فأمر بإلقاء القبض على هشام وعلى أصحابه، وعلم بما ضمر له من الشر، فهام على وجهه فزعاً مرعوباً حتى انتهى إلى الكوفة، فاعتلّ فيها ومات في دار ابن شراف

                      مؤلفاته: كان هشام خصب الإنتاج ألف في مختلف الفنون والعلوم وبرز الجميع بها، لكن إن أغلب تراثه العلمي لم يعثر عليه سوى اليسير، وهذه بعض عناوينها:

                      1) كتاب الإمامة.

                      2) كتاب الدلالات على حدوث الأشياء.

                      3) كتاب الرد على الزنادقة.

                      4) كتاب على أصحاب الاثنين.

                      5) كتاب التوحيد.

                      6) كتاب الرد على هشام الجواليقي.

                      7) كتاب الرد على أصحاب الطبائع.

                      8) كتاب الشيخ والغلام.

                      9) كتاب التدبير.

                      10) كتاب الميزان.

                      11) كتاب الميدان.

                      12) كتاب الرد على من قال بإمامة المفضول.

                      13) كتاب اختلاف الناس في الإمامة.

                      14) كتاب الوصية والرد على من أنكرها.

                      15) كتاب الجبر والقدر.

                      16) كتاب الحكمين.

                      17) كتاب الرد على المعتزلة في طلحة والزبير.

                      18) كتاب القدر.

                      19) كتاب الألفاظ.

                      20) كتاب المعرفة.

                      21) كتاب الاستطاعة.

                      22) كتاب الثمانية أبواب.

                      23) كتاب الرد على بعض الأصحاب.

                      24) كتاب الأخبار كيف تفتح.

                      25) كتاب الرد على أرسطاليس في التوحيد.

                      26) كتاب الرد على المعتزلة

                      27) كتاب المجالس في الإمامة.

                      28) كتاب علل التحريم

                      29) كتاب الرد على القدرية. وقد اطلع عليه الإمام موسى (عليه السلام) فقال: (ما ترك شيئاً).

                      30) كتاب الفرائض

                      وهذه المجموعة الضخمة من المؤلفات في شتى المواضيع تدل على ثروة هشام بن الحكم العلمية وعلى سعة إطلاعه وعمق ثقافته. ويكفي مناظراته القيّمة التي خاضها مع علماء الأديان والمذاهب وكبار الفلاسفة.

                      71ـ يحيى بن عبد الرحمن

                      الأزرق، كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن له كتاب يرويه عدّة من أصحابنا ووثّقه جماعة من الأعلام

                      72ـ يحيى بن عمران

                      ابن علي بن أبي شعبة الحلبي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام) ثقة، صحيح الحديث، له كتاب يرويه جماعة ووثّقه أكثر المترجمين له

                      73ـ يزيد بن سليط

                      عدّه الشيخ في رجاله والكشي وغيرهما من أصحاب الإمام الكاظم وذكر بعضهم أنه من خاصة الإمام ومن ثقاته، ومن أهل الورع والعلم والفقه وأحد الراوين النص على إمامة الإمام الرضا (عليه السلام) وله حديث طويل مع الإمام الكاظم (عليه السلام)

                      74ـ يونس بن عبد الرحمن

                      مولى علي بن يقطين من كبار علماء الأمة الإسلامية، كان وحيد عصره في تقواه وورعه، تربّى في مدرسة الإمام الكاظم، وأخذ منه العلوم والمعارف، ومن بعده اختص بولده الإمام الرضا (عليه السلام).

                      ولادته: كانت ولادته في أيام هشام بن عبد الملك.

                      نشأته: نشأ يونس على التقوى والصلاح وتغذى من علوم أهل البيت (عليهم السلام) وكان في جميع أدوار حياته مثالاً للتكامل الإنساني، قضى حياته في تحصيل العلوم من منبعها، من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وقد وردت في حقه والثناء عليه أخبار كثيرة من الأئمة (عليهم السلام).

                      روى عبد العزيز المهتدي قال: سألت الإمام الرضا (عليه السلام) فقلت له: إني لا ألقاك فمن آخذ معالم ديني؟ فقال (عليه السلام): خذ عن يونس بن عبد الرحمن. وقال عنه أيضاً: يونس في زمانه كسلمان في زمانه.

                      وعن الإمام الجواد (عليه السلام): أنه تصفّح كتاب يونس (يوم وليلة) فردّد قائلاً:

                      رحم الله يونس

                      علمه: كان علاّمة زمانه، كما قال ابن النديم، اعترف له جميع المترجمين بغزارة علمه، وسعة اطلاعه ويقال أنه انتهى علم الأئمة (عليهم السلام) إلى أربعة نفر وهم: سلمان الفارسي، وجابر، والسيد، ويونس بن عبد الرحمن.

                      مؤلفاته: ألّف يونس كتباً كثيرة دلّت على تضلعه في كثير من العلوم، وهذه بعض مؤلفاته:

                      1ـ كتاب يوم وليلة عـــرض الكتاب عـــلى أبي محـــمد العـــسكري (عليه السلام) فقال: أعـــطاه الله بكل حرف نوراً يوم القيامة

                      2ـ كتاب علل الأحداث.

                      3ـ كتاب الصلاة.

                      4ـ كتاب الصيام.

                      5ـ كتاب الزكاة.

                      6ـ كتاب الوصايا والفرائض.

                      7ـ كتاب جامع الآثار.

                      8ـ كتاب البداء

                      9ـ كتاب السهو.

                      10ـ كتاب الأدب والدلالة على الخير.

                      11ـ كتاب الفرائض.

                      12ـ كتاب الجامع الكبير في الفقه.

                      13ـ كتاب التجارات.

                      14ـ كتاب تفسير القرآن.

                      15ـ كتاب الحدود.

                      16ـ كتاب الأدب.

                      17ـ كتاب المثالب.

                      18ـ كتاب علل النكاح وتحليل المتعة.

                      19ـ كتاب نوادر البيع.

                      20ـ كتاب الرد على الغلاة.

                      21ـ كتاب ثواب الحج.

                      22ـ كتاب النكاح.

                      23ـ كتاب الطلاق.

                      24ـ كتاب المكاسب.

                      25ـ كتاب الوضوء.

                      26ـ كتاب البيوع والمزروعات.

                      27ـ كتاب اللؤلؤ في الزهد.

                      28ـ كتاب الإمامة.

                      29ـ كتاب فضل القرآن

                      30ـ كتاب اختلاف الحديث.

                      31ـ كتاب مسائله عن أبي الحسن موسى

                      نظرة سريعة على عناوين هذه الكتب تدل دلالة واضحة على سعة معارفه، وإحاطته بمختف العلوم والفنون.

                      حسّاده: كل عبقري صاحب شأن لابدّ له من حسّاد حاقدين ينغّصون عليه عيشه، ويونس بن عبد الرحمن كان من أولئك الأفذاذ الموهوبين الذين خصّهم الله بمزيد من العلم والفضل. وقد شكا أمره إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) فيما يتهمونه به فهدّأ الإمام روعه وقال له:

                      (مـــا يضرّك أن يكون في يـــــدك لؤلؤة، فيقــــول الناس: هي حـــصاة، وما ينفعــــك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس لؤلؤة)

                      وفاته: اختاره الله إلى لقائه بعد أن أبلى بلاءً حسناً في الدفاع عن الإسلام والتبشير بمبدأ أهل البيت (عليهم السلام) وقد توفي في يثرب سنة 208هـ

                      ولما وصل نعيه إلى الإمام الرضا (عليه السلام) قال: انظروا إلى ما ختم الله ليونس قبضه بالمدينة مجاوراً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)

                      رحم الله يونس بن عبد الرحمن وجزاه عن الإسلام خير الجزاء، وحشره مع (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)

                      75ـ يونس بن يعقوب

                      ابن قيس، أبو علي البجلي الدهني الكوفي، اختص بأبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن (عليه السلام) وكان يتوكّل لأبي الحسن وعدّه الشيخ المفيد من فقاء أصحاب الصادقين (عليهما السلام) ومن الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يُطعن فيهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم، وهم أصحاب الأصول المدوّنة، والمصنفات المشهورة وممّا يدل على وثاقته أنه وكّله أبو عبد الله وأبو الحسن (عليه السلام) ليشتري لهما بعض الأشياء فلما اشترى ذلك وأوصله إليهما قال له أحدهما:

                      (ما أنت عندنا بمتهم، إنما أنت رجل منّا أهل البيت فجعلك الله مع رسول الله وأهل بيته) والله فاعل ذلك إن شاء الله.

                      توفي في يثرب وتولى تجهيزه الإمام الرضا (عليه السلام).

                      وهنا نذكر بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) الذين عرفوا بكنيتهم منهم:

                      76ـ أبو زكريا

                      عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو ثقة، وقد روى عن علي بن رباط

                      77ـ أبو شعيب

                      المحاملي، كوفي، ثقة من رجال أبي الحسن موسى (عليه السلام) وله كتاب

                      78ـ أبو يحيى

                      المكفوف، عدّه الشيخ في باب الكنى من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وقال في (الفهرست) له كتاب، وكذا قال النجاشي واستفاد الحائري من مصاحبته للإمام أنه محل اعتماد

                      Comment

                      • راية اليماني
                        مشرف
                        • 05-04-2013
                        • 3021

                        #12
                        رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة

                        أسباب اعتقال الإمام موسى الكاظم (ع)

                        1ـ احتجاج الإمام (عليه السلام)

                        من الأسباب التي حفّزت هارون الرشيد لاعتقال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وزجّه في غياهب السجون، احتجاجه عليه بأنه أولى بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من جميع المسلمين، فهو أحد أسباطه ووريثه، وأنه أحق بالخلافة من غيره، وقد جرى احتجاجه معه عند قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) وذلك عندما زاره هارون وقد احتفّ به الأشراف والوجوه وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة، فقد أقبل بوجهه على الضريح المقدّس وسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً:

                        (السلام عليك ابن العم).

                        وبذلك بدا الاعتزاز والافتخار لهارون على غيره برحمه الماسة من النبي (صلّى الله عليه وآله) وإنه نال الخلافة لهذا السبب، قربه من الرسول (صلّى الله عليه وآله).

                        أما الإمام الكاظم (عليه السلام) فتقدم أمام الجمهور وسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً: (السلام عليك يا أبتِ).

                        عندها استولت على الرشيد موجات من الاستياء وكاد يفقد صوابه لأن الإمام (عليه السلام) قد سبقه إلى ذلك المجد، فاندفع قائلاً بصوت مشحون بالغضب: (ثم قلت إنك أقرب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) منّا؟!).

                        فأجابه الإمام (عليه السلام) بهدوء كعادته وبجواب مفحم لم يتمكن الرشيد من الرد عليه. (لو بعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون:

                        سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.

                        فانبرى الإمام وبيّن له الوجه الصحيح في قربه من النبي (صلّى الله عليه وآله) دونه قائلاً:

                        (لكنه لا يخطب منّي ولا أزوجه، لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم) وتابع (عليه السلام) مدعماً رأيه ببرهان آخر فقال لهارون:

                        (هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهنّ مكشفات؟؟)

                        فقال هارون: لا.

                        فقال الإمام (عليه السلام): لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، وهذا يعني أننا اقرب إليه منكم. وبذلك يكون الإمام قد سدّ أمامه كل منافذ الدفاع بحججه الدامغة بعد أن ألبسه ثوب الفشل، وبيّن بطلان ما ذهب إليه، فهو أحق منه بالخلافة لأنه سبطه ووارثه.

                        عندها اندفع هارون حانقاً وأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن ثم سأله الرشيد قبل دخوله السجن:

                        لمَ فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة بنو عبد المطلب، ونحن وأنتم واحد، إنا بنو العباس، وأنتم ولد أبي طالب وهما عمّا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقرابتهما منه سواء؟

                        فقال (عليه السلام): نحن أقرب إليه منكم، قال هارون: وكيف ذلك؟

                        فقال (عليه السلام): لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله، ولا من أم أبي طالب.

                        قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلّى الله عليه وآله) والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد توفى أبو طالب قبله. والعباس عمه حيّ؟

                        فقال (عليه السلام): إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة يسألني عن كل باب سواه يريد.

                        قال: لا، أو تجيب. فقال (عليه السلام): فآمنّي. قال: آمنتك قبل الكلام.

                        فقال (عليه السلام): إن في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): إنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين، والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة، إلا إن تيماً وعدياً وبني أمية قالوا: العم والد، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومن قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دارج يقول في هذه المسألة بقول علي، وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين:

                        الكوفة والبصرة، وقضى به.

                        فأمر هارون الظالم بإحضار من يقول خلاف قوله. منهم: سفيان الثوري وإبراهيم المازني، والفضيل بن عياض، فشهدوا جميعهم أنه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة.

                        فقال لهم: لما لا تفتون وقد قضى نوح بن دارج؟ فقالوا:

                        جسر وجبنا، وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن علي أقضانا، وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي (صلّى الله عليه وآله) أصحابه من القرابة، والفرائض، والعلم، داخل في القضاء.

                        قال هارون: زدني يا موسى.

                        فقال (عليه السلام): المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك.

                        فقال هارون: لا بأس.

                        فقال (عليه السلام): النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يورث من لم يهاجر ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر. وعمّي العباس لم يهاجر

                        2ـ تعيينه لفدك

                        وسبب آخر أغاظ نفس هارون على الإمام (عليه السلام) ودعاه إلى اعتقاله، حتى والتخلص منه، تعيينه لفدك بأنها تشمل أكثر المناطق الإسلامية وذلك حينما سأله هارون عنها ليرجعها إليه فلم يرضَ (عليه السلام) إلا أن يأخذها بحدودها، فقال الرشيد:

                        ـ ما هذه الحدود؟ فقال (عليه السلام): إن حددتها لم تردها لنا.

                        فأصرّ الرشيد عليه أن يبينها له قائلاً: بحق جدك إلا فعلت.

                        عند ذلك لم يجد الإمام بداً من إجابته، فقال له:

                        (أما الحد الأول): فعدن. فلما سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهه.

                        وأما الحدّ الثاني: (سمرقند). فأربد وجه الحاكم الظالم واستولت عليه موجة من الغضب، لكن الإمام (عليه السلام) بقي مستمراً دون أن يأبه له.

                        والحد الثالث: (إفريقيا). فاسودّ وجه الرشيد وقال بصوت يقطر غيظاً (هيه) ثم عيّن الإمام (عليه السلام) الحد الرابع والأخير قائلاً:

                        والحد الرابع: (سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية).

                        فثار الرشيد ولم يملك أعصابه دون أن قال:

                        ـ لم يبق لنا شيء!!

                        ـ فقال الإمام (عليه السلام): (قد علمت أنك لا تردّها).

                        وتركه الإمام (عليه السلام) والكمد يحزّ في نفسه، فأضمر له الشر منتظراً الوقت المناسب للتنكيل به.

                        لقد بيّن الإمام (عليه السلام) للرشيد أن العالم الإسلامي بجميع أقاليمه من عدن إلى سيف البحر ترجع سلطته له، وإن الرشيد من سبقه من الخلفاء قبله قد استأثروا وغصبوا الخلافة من أهل البيت (عليهم السلام).

                        3ـ حرص الرشيد على الملك

                        كان هارون الرشيد يحصر حرصاً شديداً على ملكه، يضحّي في سبيل السلطة جميع المثل والقيم والمقدسات. وقد عبّر عن مدى تفانيه في حب السلطة بكلمته الحقيرة التي تناقلتها الأجيال وهي:

                        (لو نازعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على السلطة لأخذت الذي فيه عيناه).

                        أجل لو نازعه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لأخذ الذي فيه عيناه، فكيف لو نازعه الإمام (عليه السلام)؟! فهل يمكن أن يخلّي عن سراحه؟ هذا والذي يحزّ في نفسه إجماع الناس على حب الإمام (عليه السلام) وتقديرهم له.

                        لذلك كان يخرج متنكراً بغير زيّه ليسمع أحاديث العامة،ويقف على رغبتهم واتجاههم، فلا يسمع إلا الذكر العاطر، والحبّ الجامع والثناء على الإمام (عليه السلام).

                        كل الناس يحبونه، كل الناس يرغبون في أن يتولّى شؤونهم، فلذلك أقدم على ارتكاب فعلته الشنعاء والموبقة حتى انتهى به الأمر إلى قتل الإمام (عليه السلام).

                        4ـ بغضه للعلويين

                        ورث هارون الرشيد بغضه للعلويين عن آبائه الذين نكّلوا بهم، وصبّوا عليهم ألواناً من العذاب والاضطهاد والقتل والتشريد. فمنهم من ساقوهم إلى السجون، ومنهم إلى القبور. طاردوهم في كل ناحية حتى هربوا هائمين على وجوههم يلاحقهم الخوف والفزع والرعب.

                        أما هارون قد أترعت نفسه ببغض العلويين فزاد على أسلافه جوراً وظلماً وإرهاباً حتى أشاع الحزن والثكل والحداد في كل بيت من بيوتهم. استعمل جميع إمكانياته للبطش بهم، ففرض عليهم الإقامة الجبرية في بغداد، وجعلهم تحت المراقبة الدقيقة، ولم يسمح للاتصال بهم، وحرمهم من جميع حقوقهم الاجتماعية. حتى أنه دفن البعض منهم أحياء.

                        وطبيعي أنه لا يترك عميد العلويين الإمام الكاظم (عليه السلام) في دعة واطمئنان، ولم يرق له محبة الجماهير للإمام، فنكّل به ودفعه لؤمه وعداؤه الموروث إلى سجنه وحرمان الأمة الإسلامية من الاستفادة بعلومه، ومن سموّ نصائحه وصواب توجيهاته.

                        لقد استقبل إمامته التي استمرت خمسة وثلاثين عاماً في هذا الجور المشحون بالحقد والكراهية لأهل البيت بصورة عامة، فلزم جانب الحذر واعتصم بالكتمان إلا عن خاصته. حتى أن رواته قلّما كانوا يروون عنه باسمه الصريح. لكن كل ذلك لم ينجيه من سجن الطاغية هارون.

                        5ـ الوشاية بالإمام (عليه السلام)

                        ضمائر رخيصة انعدمت من نفوسهم الإنسانية، فعمد فريق منهم فباعوا دينهم بثمن رخيص، فوشوا بالإمام (عليه السلام) عند الطاغية هارون ليتزلّفوا إليه بذلك وينالوا في دنياهم الفانية بعض جوائزه.

                        وقد بلي بهم الإسلام والمسلمون فاستعان الظالمون بهؤلاء الأوغاد في جميع مراحل التاريخ على تنفيذ خططهم الإرهابية الرامية إلى إشاعة الظلم والجور والفساد في الأرض. وقد نرى بعضاً منهم في هذه الأيام. كانت وشاية هؤلاء المجرمين بالإمام (عليه السلام) ذات طوابع متعددة.

                        أ) طلبه للخلافة

                        سعى فريق من باعة الضمير بالوشاية على الإمام (عليه السلام) عند هارون فأوغروا صدره، وأثاروا كوامن الحقد عليه، فقالوا: إنه يطالب بالخلافة، ويكتب إلى سائر الأقطار والأمصار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه، ويحفّزهم إلى الثورة ضد الحكومة. وكان في طليعة هؤلاء يحيى البرمكي.

                        قال ليحيى بن أبي مريم: ألا تدلّني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها؟

                        فقال له: نعم، ذاك علي بن إسماعيل بن جعفر، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج، فلما اجتمع به قال له يحيى: أخبرني عن عمّك موسى، وعن شيعته وعن المال الذي يحمل إليه.

                        فقال: عندي الخبر وحدثه بما يريد، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين هارون، فأجابه إلى ذلك. فلما سمع الإمام الكاظم (عليه السلام) بسفره مع يحيى بعث خلفه فقال له: بلغني انك تريد السفر؟

                        ـ قال: نعم. فقال له الإمام: إلى أين؟ فقال: إلى بغداد. فقال له الإمام: ما تصنع؟ فقال: عليّ دين وأنا مملق.

                        ـ أنا أقضي دينك، وأكفيك أمورك.

                        فلم يلتفت إلى الإمام لأن الشيطان قد وسوس له فأجاب داعي الهوى، وترك الإمام وقام من عنده، فقال (عليه السلام) له:

                        لا تؤتم أولادي، ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، وقال (عليه السلام): والله ليسعى في دمي ويؤتم أولادي فقال له أصحابه.

                        جعلنا الله فداك فأنت تعلم هذا من حاله، وتعطيه؟!!

                        فقال (عليه السلام): حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال:

                        إن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله.

                        وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلّم عليه بالخلافة.

                        وقيل أنه قال له: إن الأموال تحمل إليه من كل النواحي، وإن له بيوت أموال، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار، وسماها (اليسيريّة) فلما سمع هارون هذا الكلام أحرقه الغيظ وفقد صوابه، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه، فدخل العميل الذي باع آخرته بدنياه بيت الخلاء فزحر فيه وسقط أمعاؤه. فأخرج منه وهو يعاني آلام الموت فقيل له: إن الأموال قد وصلتك فقال:

                        ما أصنع بها والموت قد وصلني معها؛ وقيل أنه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع الطاغية هارون. فقد ذهب المال منه وبقي عليه الخزي والعذاب الأليم.

                        ب) جباية الأموال

                        وسبب آخر أثار كوامن الغيظ والحقد في نفس هارون، وهو جباية الأموال، عمد بعض الأشرار بإخباره أن الإمام قد اشترى ضيعة تسمى (اليسيريّة) جمعها (عليه السلام) من الأموال التي تجبى إليه عن طريق الخُمس من كل صعيد فكمن للإمام الشرّ ليوقع به.

                        وكانت سياسته المكشوفة تجاه العلويين تقضي بفقرهم ووضع الحصار الاقتصادي عليهم، فإن فقرهم أجدى له وأنفع من غناهم ـ كما أوصى ولده المأمون ـ لأن المال كان ولم يزل عنصراً هاماً في سياسة الأشخاص وسياسة الدول، فهو سلاح ذو حدين يستعمل للمصالح الخيرية كما يستعمل للشر عن طريق الجماعة الباغية.

                        وقد ذهب ابن الصباغ إلى أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الإمام (عليه السلام)

                        6ـ سموّ شخصية الإمام (عليه السلام)

                        كان الإمام (عليه السلام) كما هو معروف من قبل علماء عصره، من ألمع الشخصيات الإسلامية، فهو إمام معصوم ابن إمام معصوم، وأحد أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله) على أمته. وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على إكبار الإمام وتقديره. فكلهم نهلوا من علومه وأخلاقه، وكلهم تمثلوا بتقواه وورعه وكلهم أحبوه لسخائه وكرمه. حتى أن أعداءه كانوا يحترمونه ويبجلونه، وهارون الرشيد نفسه يبجّله ويعتقد ضميرياً بأن الإمام (عليه السلام) أولى بالخلافة الإسلامية منه، كما حدّث بذلك لابنه المأمون.

                        فقد قال لندمائه: أتدرون من علّمني التشيّع؟

                        فانبروا جميعاً قائلين: لا والله ما نعلم.. فقال: علّمني ذلك الرشيد.

                        فقالوا: كيف ذلك؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟!

                        قال: كان يقتلهم على المُلك لأن المُلك عقيم، ثم أخذ يحدّثهم عن ذلك قائلاً: لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة قال: لا يدخل عليّ رجل من أهلها أو من المكيّين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرّفني بنسبه وأسرته، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجب بأنسابها، فيأذن لها، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها، وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه يقول له: رجل على الباب، زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

                        فلما سمع هارون بهذا الاسم الشريف أمر جلساءه بالوقار والهدوء، ثم قال لرئيس تشريفاته: إئذن له، ولا ينزل إلا على بساطي.

                        وأقبل الإمام (عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال: إنه شيخ أنهكته العبادة، والسجود يكلم وجهه. أما هارون فقام ولم يقبل إلا أن ينزل الإمام عن دابته على بساطه، ونظر إليه بكل إجلال وإعظام فقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيّره في صدر مجلسه والحجّاب وكبار القوم محدقون به. ثم أقبل يسأله عن أحواله ويحدّثه. ثم قال له:

                        ـ يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟ قال الإمام: يزيدون على الخمسمائة.

                        ـ أولاد كلهم؟ قال الإمام (عليه السلام): لا، أكثرهم مواليّ وحشمي فأما الأولاد فلي نيّف وثلاثون. ثم بيّن له عدد الذكور والإناث.

                        ـ لِمَ لا تزوّج النسوة من بني عمومتهن؟ قال الإمام: اليد تقصر عن ذلك.

                        ـ فما حال الضيعة؟ قال الإمام: تعطي في وقت وتمنع في آخر.

                        ـ فهل عليك دين؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم.

                        ـ كم؟ قال الإمام (عليه السلام): نحو من عشرة آلاف دينار.

                        ـ يا ابن العم، أنا أعطيك من المال، ما تزوّج به أولادك، وتعمر به الضياع.

                        ـ قال الإمام (عليه السلام): وصلتك رحم يابن العم، وشكر الله لك هذه النية الجميلة، والرحم ماسة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه، وعم علي بن أبي طالب وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك، وأعلى محتدك.

                        ـ أفعل ذلك يا أبا الحسن، وكرامة.

                        فقال له الإمام (عليه السلام): إن الله عزّ وجلّ قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة، ويقضوا على الغارمين، ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري، وأنت أولى من يفعل ذلك.

                        ـ افعل ذلك يا أبا الحسن.

                        فانصرف الإمام (عليه السلام) وقام هارون فودّعه وقبّل وجهه وعينيه، ثم التفت إلى أولاده فقال لهم: قوموا بين يدي عمكم وسيدكم، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه، وشيّعوه إلى منزل، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسرّ الإمام (عليه السلام) إلى المأمون فبشّره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى والده، ولما انتهوا من خدمة الإمام (عليه السلام) وإيصاله إلى داره. قال المأمون كنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت له:

                        (يا أمير المؤمنين، مَن هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له)؟

                        قال هارون: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده.

                        قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

                        قال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام الحق، والله يا بني: إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فإن المُلك عقيم.

                        فيا سبحان الله عرف الحق ونطق به، ثم انحرف عنه حباً بالتملك والسلطان.

                        اهتم هارون بدنياه ونسي أو تناسى اليوم الآخر، يوم لا ينفع لا مال ولا ولد ولا سلطان!!

                        بقي هارون في يثرب عدة أيام، ولما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة جداً قدرها مائتا دينار، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام. فانبرى إليه ولده المأمون مستغرباً من قلّة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره الزائد له قائلاً:

                        (يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار، وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار، وتعطي الإمام موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار وهي أخس عطية أعطيتها أحداً من الناس)؟ فغضب هارون وصاح على ابنه قائلاً: (اسكت، لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم).

                        يتوضح من خلال هذه الرواية وغيرها اعتقاد هارون بإمامة موسى (عليه السلام) وأنه خليفة الله في أرضه، وحجّته على عباده، وأن الخلافة الإسلامية من حقوقه الخاصة، وهو أولى بها منه، لكن الذي حدث عكس ذلك لأن حب الدنيا وزهوة السلطان هو الذي سلبها منه ومن آبائه من قبله. فالمُلك عقيم، كما كشف هارون عن نفسه في حديثه مع ابنه المأمون، السبب الأساسي في حرمانه الإمام الكاظم (عليه السلام) من عطائه حسب منزلته. عقدة الخوف تطارده دائماً، وهي انتفاضة الإمام وخروجه عليه إن تحسنت أحواله الاقتصادية.

                        وهذا هو الحرب الذي تستعمله الدول المستعمرة مع خصومها اليوم من أجل إنهاكها وإضعافها. لكن الليل سوف يزول مهما تأخر طلوع الصباح.

                        كان الرشيد يعلم بمكانة الإمام الاجتماعية، وكفاءته العلمية، ومحبّة الناس له، وتقديرهم لمواهبه، وهو نفسه يعتقد أن الإمام وارث علوم الأنبياء، وخليفة الله الحق على عباده، فكان يسأله دائماً عما يجري من الأحداث، والإمام (عليه السلام) لم يبخل عليه بأي جواب.

                        وقد سأله عن الأمين والمأمون، فأخبره بما يقع بينهما، فحزّ ذلك في نفسه، وتألّم كثيراً.

                        روى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد، وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولاً، فسلّمت عليه بالخلافة، فأومأ لي بالجلوس قريباً منه فجلست، ثم نهضت، فأومأ لي ثانية أن أجلس فجلست حتّى خفّ الناس، ثم قال لي: (يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمداً وعبد الله ابنيّ؟).

                        قلت: (بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلّم عليهما).

                        أمر الرشيد بإحضارهما، فأقبلا حتى وقفا على أبيهما، وسلّما عليه بالخلافة، فأومأ لهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه، وعبد الله عن يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب، فكنت لا ألقي عليهما شيئا في فنون الأدب إلا أجابا فيه، وأصابا، فقال الرشيد: كيف ترى أدبهما؟

                        ـ يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما، وجودة فهمهما، أطال الله بقاءهما ورزق الله الأمة من رأفتهما وعطفهما.

                        فأخذهما الرشيد وضمّهما إلى صدره، وسبقته عبرته فبكى حتى انحدرت دموعه على لحيته، ثم إذن لهما في القيام فنهضا، وقال:

                        (يا أصمعي كيف فهما إذا ظهر تعاديهما، وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء أنهما كانا موتى) فبهر الأصمعي من ذلك وقال له:

                        (يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجّمون عند مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما!!).

                        فقال الرشيد بلهجة الواثق بما يقول:

                        (لا، بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما..).

                        قال المأمون: كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر.

                        إن علم الرشيد بسموّ منزلة الإمام، وبما تذهب إليه جموع المسلمين من القول بإمامته هو الذي أثار غضبه، وزاد في أحقاده عليه، ممّا دعاه إلى زجّه في السجن أعواماً طويلة.

                        كان الحقد على العلويين عامة والإمام موسى (عليه السلام) خاصة من مقومات ذات الرشيد، ومن أبرز صفاته النفسية، وكان يحمل حقداً لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في مجتمعه، ولم يرق له بأي حال أن يسمع الناس يتحدّثون عن أي شخص يتمتع بمكانة عليا، محاولاً احتكار الذكر الحسن لنفسه ولذاته؛ لكن الليل لا يستطيع منع الفجر من الطلوع، فالفجر يطلع والشمس تسطع بنورها الكاشف، والجمهور يميّز بين الظلام والنور.

                        7ـ صلابة موقف الإمام (عليه السلام)

                        كان صلحاء الأمة يقاومون الظلم في كل عهوده وفي كل ألوانه، لأن ذلك واجب شرعي أوصى عليه الله عزّ وجلّ في كتابه، وأوصى عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أحاديثه الشريفة، وقاومه الأئمة (عليهم السلام) كل واحد منهم حسب الظرف المناسب له. قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

                        والإمام موسى الكاظم ابن أبيه وأجداده (عليهم السلام) كان موقفه مع هارون الرشيد الطاغية الظالم موقفاً سلبياً، تمثلت فيه صلابة الحق وصرامة العدل.

                        فقد حرّم على شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه.

                        من ذلك ما قاله لصاحبه صفوان وكان صاحب جمال يكريها لهارون أيام حج بيت الله الحرام، افهمه أن التعامل مع الظالمين حرام، فاضطرّ صفوان لبيع جماله، فعرف هارون، ممّا دفعه إلى الحقد على صفوان وهمّ بقتله.

                        وكذلك منع الإمام (عليه السلام) زياد بن أبي سلمة من وظيفته في بلاد هارون عملاً بقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، عن أبيه الصادق عن أبيه، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله).

                        لقد شاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام الكاظم بحرمة الولاية من قبل هارون الطاغية وأضرابه من الحكام الظالمين، فأوغر ذلك قلب هارون وساءه إلى أبعد الحدود، فترقّب له ساعة الوقوع به.

                        ونوجز القول: إن موقف الإمام مع هارون كان موقفاً صريحاً واضحاً، لم يصانع ولم يتسامح معه على الإطلاق.

                        فقد دخل عليه في بعض قصوره الأنيقة والفريدة في جمالها في بغداد، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً:

                        ما هذه الدار؟ فأجابه الإمام (عليه السلام) غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلاً: (هذه دار الفاسقين) قال الله تعالى في كتابه العزيز:

                        (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).

                        لما سمع هارون هذا الكلام سرت الرعدة في جسمه، وامتلأ قلبه غيظاً فقال للإمام: دار من هي؟

                        ـ هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة.

                        ذلك أن المؤمن كل ما يملك هو وكيل عليه يملكه فترة ويتركه لغيره هو زاهد في الدنيا، والشيعة هم كذلك وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لقب بـ(أبي تراب) وخاطب الدنيا قائلاً: (فقد طلّقتك ثلاثاً فلا رجعة لك عندي).

                        ـ ثم سأله هارون: ما بال صاحب الدار لا يأخذها؟

                        ـ أجابه الإمام: أخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلا معمورة.

                        ـ أين شيعتك؟

                        ـ فتلا الإمام قول الله عزّ وجلّ: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).

                        فثار هارون ثورة عارمة وقال بصوت يقطر غضباً:

                        ـ أنحن كفار؟

                        ـ لا، ولكن كما قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).

                        فغضب هارون وأغلظ على الإمام (عليه السلام) في كلامه.

                        من الواضح والمعروف مسبقاً أن موقف الإمام (عليه السلام) مع هارون موقف واضح وصريح لا يقبل الرد ولا يقبل المهادنة، لأنّ هارون مغتصب لمنصب الخلافة التي هي من حق علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين من بعده. فالعباسيون اختلسوا السلطة، وخانوا الأمانة والعهد لقد استلموا السلطة باسم العلويين، وتبنّوا شعارهم، ولما جلسوا على كرسي الحكم خانوا العهد، واشتروا به وبأيمانهم ثمناً قليلاً.

                        قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

                        هذه هي أهم الأسباب التي دعت هارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام).

                        وأيضا: قال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف، ومنعت العامة من ذلك لينفرد وحده، فبينما هو في ذلك إذ ابتدر أعرابي وجعل يطوف معه.

                        فقال الحاجب: تنح يا هذا عن وجه الخليفة: فانتهره الأعرابي وقال: إن الله يساوي بين الناس في هذا الموضع فقال: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ).

                        فأمر الحاجب بالكف عنه.

                        ولما فرغ الأعرابي من صلاته استدعاه الحاجب وقال له: أجب أمير المؤمنين.

                        فقال الأعرابي: ما لي إليه حاجة فأقوم إليه، بل إن كانت الحاجة له فهو بالقيام إليّ أولى. قال: صدق.

                        فمشى إليه هارون وسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال هارون: اجلس يا أعرابي؟ فقال الأعرابي:

                        ما الموضع لي فتستأذني فيه بالجلوس، وإنما هو بيت الله نصبه لعباده، فإن أحببت فاجلس، وإن أحببت أن تنصرف فانصرف.

                        فجلس هارون وقال: ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك؟!

                        قال: نعم، وفي مستمع. قال هارون: فإني سائلك، فإن عجزت آذيتك.

                        قال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال متعلم، أو سؤال متعنّت؟

                        قال هارون: بل سؤال متعلّم.

                        قال الأعرابي: اجلس مكان السائل من المسؤول وسل، وأنت مسؤول.

                        فقال هارون: ما فرضك؟

                        قال الأعرابي: إن الفرض رحمك الله واحد، وخمس، وسبع عشرة، وأربع وثلاثون، وأربع وتسعون، ومائة ثلاث وخمسون على سبع عشرة، ومن إثنى عشر واحد، ومن أربعين واحد، ومن مائتين خمس، ومن الدهر كله واحد، وواحد بواحد.

                        فضحك الرشيد وقال: ويحك أسألك عن فرضك وأنت تعد علي الحساب؟!

                        قال الأعرابي: أما علمت أن الدين كله حساب، ولو لم يكن الدين كله حساب لما اتخذ الله الخلائق حسابا، ثم قرأ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).

                        قال هارون: فبين لي ما قلت وإلا أمرت بقتلك بين الصفا والمروة؟ فقال الحاجب: تهبه لله ولهذا المقام.

                        فضحك الأعرابي من قوله. فقال هارون: ممّا تضحك يا أعرابي؟

                        قال: تعجّباً منكما، إذ لا أدري من الأجهل منكما، الذي يستوهب أجلاً قد حضر، أو الذي استعجل أجلاً لم يحضر؟

                        فقال هارون: فسر لنا ما قلت.

                        قال الأعرابي: أما قولي الفرض واحد فدين الإسلام كله واحد، وعليه خمس صلوات، وهي سبعة عشر ركعة، وأربع وثلاثون سجدة، وأربع وتسعون تكبيرة، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة، وأما قولي من اثني عشر واحد: فشهر رمضان من إثني عشر شهر، وأما قولي من الأربعين واحد: فمن ملك أربعين ديناراً أوجب الله عليه ديناراً، وأما قولي من مائتي خمسة: فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم.

                        وأما قولي فمن الدهر كله واحد: فحجة الإسلام، وأما قولي واحد بواحد: فمن أهرق دماً من غير حق، وجب إهراق دمه، قال الله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...).

                        فقال الرشيد: لله درك، وأعطاه بدرة.

                        فقال الأعرابي: فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون، بالكلام أم بالمسألة؟

                        قال هارون: بالكلام.

                        قال الأعرابي: فإني أسألك عن مسألة، فإن أتيت بها كانت البدرة لك، تصدّ ق بها في هذا الموضع الشريف، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أخرى لأتصدق بها على فقراء الحي من قومي.

                        فأمر هارون بإيراد أخرى وقال: سل عما بدا لك.

                        فقال الأعرابي: أخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟

                        فغضب هارون وقال: ويحك من يسأل عن هذه المسألة؟!

                        فقال الأعرابي: سمعت ممن سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:

                        من ولي أقواماً وهب له من العقل كعقولهم، وأنت إمام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك ومن الفرائض، إلا أجبت عنها، فهل عندك جواب؟

                        قال هارون: رحمك الله لا، فبين لي ما قلته وخذ البدرتين.

                        فقال الأعرابي: إن الله تعالى لما خلق الأرض خلق ديابات الأرض التي من غير فرث ولا دم، خلقها من التراب، وجعل رزقها وعيشها منه، فإذا فارق الجنين أمه لم تزقه ولم ترضعه وكان عيشها من التراب. فقال هارون: والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة، وأخذ الأعرابي البدرتين وخرج، فتبعه الناس وسألوا عن اسمه، فإذا هو موسى بن جعفر (عليه السلام)، فأخبر هارون بذلك فقال:

                        والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة.

                        ولكن هل سمح لهذه الشجرة أن تنمو وتعطي وتثمر ثمراً طيباً يتغذى منه جميع الناس؟!

                        لم يكتف الحكام العباسيون بتقمصهم الخلافة، مستأثرين بها على أهل البيت (عليهم السلام)، حتى أخذوا يتبعونهم سجناً وقتلاً وتشريداً. أهل العلم والحكمة والأخلاق باتوا قابعين في بيوتهم ليس لهم الأمر ولا نهي! رحمك الله يا أبا فراس حيث تقول:

                        بــــــنو عــــلي رعـــايا فــــي ديـارهم والأمـــــر تــــــملكه الـنسوان والخدم!

                        Comment

                        • راية اليماني
                          مشرف
                          • 05-04-2013
                          • 3021

                          #13
                          رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة

                          القبض على الإمام (عليه السلام)

                          انتشر اسم الإمام (عليه السلام) في الأقطار، وذاع صيته في الأمصار، وتحدّث الناس عن علمه ومآثره وفضله، فثقل ذلك على هارون، وطفح قلبه غيظاً منه فذهب الطاغية إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله)، فسلم على النبي مثل الزوار المؤمنين، وخاطبه قائلاً:

                          (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني اعتذر إليك من أمر عزمت عليه، إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر (عليه السلام) فأحبسه لأني قد خشيت أن يُلقي بين أمتك حرباً يسفك فيها دماءهم).

                          إنه يريد أن يخلق مبرراً أمام المجتمع لعمله الفظيع ويخفّف ما سيواجه به من الاستياء، لا سيّما من العلماء الذين سيستنكرون عمله الإجرامي.

                          وبعد الاعتذار في اليوم الثاني أصدر الطاغية أوامره بإلقاء القبض على الإمام، فجاءت الشرطة وألقت القبض عليه وهو في طاعة الله يصلي لربه عند رأس جده النبي (صلّى الله عليه وآله). فقطع المجرمون الآثمون عليه صلاته ولم يمهلوه من إتمامها. لكنهم نسوا أن الله يمهل ولا يهمل. ثم حمل الإمام من ذلك المكان الشريف وقيّد بالحديد وقد توجّه إلى جدّه الرسول الأكرم:

                          (إليك أشكو يا رسول الله). فأين احترام قداسة القبر الشريف، قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأين احترام أبنائه، الأئمة المعصومين التي هي أولى بالرعاية والمحبة والمودة من كل شيء؟ ثم أين احترام الصلاة التي هي أقدس عبادة في الإسلام؟

                          لم يحترم هارون قداسة القبر الشريف فهتك حرمته وحرمة أبنائه، وقطع صلاة الإمام (عليه السلام) وأمر بتقييده، وحمل إليه في ذل القيود، ولما مثل الطاهر الكريم أمام الفاجر اللئيم أغلظ له في القول، وكان اعتقاله سنة 179هـ في شهر شوال لعشر بقين منه

                          في البصرة

                          ساروا بالإمام (عليه السلام) معتقلاً إلى البصرة ووكل هارون حسان السروي بحراسته والمحافظة عليه. وقبل أن يصل إلى البصرة تشرّف بالمثول بين يديه عبد الله بن مرحوم الأزدي فدفع له الإمام كتباً وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا (عليه السلام) وعرفه بأنه الإمام من بعد. سارت القافلة بالإمام المقيد حتى وصلت إلى البصرة قبل التروية بيوم. فأخذ حسان وكيل هارون الإمام ودفعه إلى عيسى بن أبي جعفر فسجنه في بيت من بيوت السجن، وأقفل عليه الباب، فكان لا يفتح باب السجن إلا في حالتين: خروج الإمام (عليه السلام) إلى الطهور، أو إدخال الطعام له.

                          أحواله في السجن

                          تفرغ الإمام (عليه السلام) للعبادة، انقطع الإمام (عليه السلام) في السجن إلى العبادة المطلقة، يصوم في النهار ويقوم بالليل، يقضي كل أوقاته في الصلاة والسجود والدعاء.

                          لقد أدهش العقول وحير الألباب بعبادته المتواصلة، وانقطاعه إلى الله عزّ وجلّ: وقد اعتبر وجوده في السجن نعمة من أعظم النعم التي منحها الله له، وذلك لتفرغه للعبادة، فكان يشكر ربه تعالى على ذلك ويدعو بهذا الدعاء الروحاني قائلاً:

                          (اللهم ، إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد).

                          اتصال العلماء به

                          شاع اعتقال الإمام (عليه السلام) في البصرة وجميع أنحاء البلاد، فأقبل عليه رواة الحديث بطريق خفي لينهلوا من علمه الغزير، وقد رووا عنه بعض الأحكام والعلوم ومن هؤلاء ياسين الزياتي.

                          كما اتصل به كبار العلماء من البصرة ومن نواح أخرى فرووا عنه الشيء الكثير ممّا يتعلق بالتشريع الإسلامي. ولا يخفى ما قلناه سابقاً إن الإمام (عليه السلام) دائرة معارف يغترف منها كل من أراد المعرفة.

                          الإيعاز باغتياله

                          لما انتشر خبر اعتقال الإمام (عليه السلام) في سجن البصرة، وتناقل الناس حديثه مقروناً بالحسرة واللوعة والحزن، خاف هارون من حدوث الفتن، وقيام الاضطرابات في المدينة فأوعز إلى عيسى باغتيال الإمام (عليه السلام) ليستريح منه ويطمئن باله.

                          طلب عيسى بالإعفاء

                          لما وصلت أوامر هارون لعيسى لتنفيذ الاغتيال، ثقل عليه الأمر وفكر ملياً بالمصير، جمع أصحابه وخواصه وعرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب مثل هذه الجريمة التي تغضب الله ورسوله، فاستصوب رأيهم وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك.

                          جاء في الرسالة:

                          (يا أمير المؤمنين، كتبت إلي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته، وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية، ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله، فإني منه في غاية الحرج).

                          تدل هذه الرسالة بوضوح على إكبار عيسى وتقديره للإمام (عليه السلام)، فقد راقبه ووضع العيون عليه فلم يره إلا مشغولاً بذكر الله وطاعته، ولم يتعرض بذكر أحد بسوء حتى الظالمين له، لذا خاف عيسى وراقب الله.

                          بقي في سجن عيسى سنة كاملة.

                          حمل الإمام إلى بغداد

                          عندما شعر هارون بعدم تنفيذ طلبه في اغتيال الإمام من قبل عيسى عامله على البصرة، خاف منه أن يطلق سراح الإمام (عليه السلام)، فأمر بحمل الإمام إلى بغداد مقيّداً بالحديد، تحف به الحرس والشرطة. ساروا به مسرعين حتى انتهوا إلى بغداد، وفوراً أعلموا الرشيد بصنيعهم فأمر بحبسه عند أحد وزرائه يدعى الفضل بن الربيع.

                          أخذه الفضل وسجنه في بيته، هكذا كانت إرادة هارون، فلم يعتقله في السجون العامة لمكانة الإمام العالية في المجتمع، وسمو شخصيته لأن الشخصيات الهامة في عهد الطاغية هارون كانت تعتقل في بيوت وزرائه وليس في السجون العامة، فقد سجن عبد الملك بن صالح عندما غضب عليه عند الفضل بن الربيع، وكذلك سجن إبراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد.

                          انشغال الإمام بالعبادة

                          تفرغ الإمام (عليه السلام) في السجن لطاعة ربّه، فقضى معظم أوقاته في الصلاة والتضرع والابتهال إلى الله، فرّاج الكروب والهموم. فقد بهر الفضل بعبادته، فكان يتحدث عنها أمام زائريه بتعجب وإكبار للإمام.

                          حدّث عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح داره، فقال لي: اُدْنُ مني، فدنوت حتى حاذيته فقال لي: أشرف على الدار، فأشرف عبد الله على الدار فقال له الفضل ـ ما ترى في البيت؟ ـ أرى ثوباً مطروحاً هناك.

                          ـ انظر حسناً. فتأمل عبد الله ملياً، فقال له: رجل ساجد.

                          ـ هل تعرفه؟ ـ لا. فقال له: هذا مولاك.

                          ـ من مولاي؟!! ـ تتجاهل علي؟!!

                          ـ ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى.

                          ـ قال الفضل: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.

                          وأخذ الفضل يحدث عبد الله عن عبادة الإمام وتقواه وطاعته لله فقال: (إني اتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها، يصلي الفجر، فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، ثم يبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء، فاعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العشاء، فإذا صلى العشاء أفطر على شوى يؤتى به، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري حتى يقول الغلام إن الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل إليّ..).

                          لما رأى عبد الله إكبار الفضل للإمام (عليه السلام) حذره من أن يستجيب لرغبة الرشيد باغتياله. فقال له:

                          (اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة).

                          وكان الفضل مؤمناً بذلك فقال له: (قد أرسلوا إليّ غير مرّة يأمروني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني).

                          ولا غرو فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كان مثلاً صالحاً يحتذى في التقوى والورع والإيمان بالله، فحب الله مطبوع في قلبه ومشاعره.

                          إشراف هارون على الإمام في سجنه

                          لما امتنع حراسه ووزراؤه من القدوم على اغتياله، لم يثق بالعيون التي وضعها عليه في السجن، فأخذ يراقبه بنفسه، ويتطلع على شؤونه خوفاً من أن يتصل به أحد من الناس، فأطل من أعلى القصر على السجن فرأى ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغير عن موضعه فقال للفضل:

                          ـ ما ذاك الثوب المطروح الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!

                          ـ يا أمير المؤمنين، ما ذاك ثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.

                          فبهر هارون بصلابة الإمام (عليه السلام) وقوة إرادته وقال للفضل:

                          ـ أما هذا فإنه من رهبان بني هاشم!!

                          فالتفت إليه الفضل بعدما سمع منه اعترافه بزهد الإمام قائلاً له:

                          ـ يا أمير المؤمنين: ما لك قد ضيّقت عليه في السجن؟!!

                          فأجابه هارون بكل لؤم وغرور قائلاً:

                          (هيهات: لابدّ من ذلك).

                          هارون الطاغية كان يعلم عزوف الإمام عن الدنيا، ويعلم إقبال الإمام على الله، ويعلم منزلة الإمام السامية وتقدير الناس له، لكن حبه للسلطان والدنيا أعمى بصره وبصيرته، وملأ قلبه غيظاً وحسداً له. وهذا ما دفعه إلى ذلك. الحسد القاتل الذي يميت القلب ويضعف الروح ويخدر الإيمان، ويعمي البصيرة عن رؤية الحق.

                          ﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ .

                          مصائب ومتاعب

                          ضاق صدر الإمام من ظلمة السجن وطول المدة فيه بعد أن حجب عن عياله وأطفاله وشيعته، ينتقل من سجن إلى سجن مثقلاً بالحديد، والشرطة تراقبه خوفاً من اتصال أحد من شيعته به، فأحسّ بآلام مرهقة أحاطت به، وخطوب مريرة ثقلت عليه، وهارون ما زال على موقفه يراقبه بحذر، ويخطط لاغتياله. فما العمل؟

                          لقد لجأ (عليه السلام) إلى الله تبارك وتعالى في أن يخلّصه من هذا الطاغية وهذه المحنة المريرة.

                          دعاء من القلب

                          سئم الإمام من السجن وطالت مدة الحبس عليه، وهو رهين السجون فقام في غلس الليل وجدد طهوره وصلى لربه أربع ركعات، وأخذ يناجي الله بهذا الدعاء الروحي الصاعد من قلب طاهر أثقلته الهموم فقال: (يا سيدي، نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يد هارون الرشيد).

                          يرشح من هذا الدعاء المرارة التي عاناها الإمام (عليه السلام) في السجن والحزن العميق الذي رزح على صدره خلاف هذه الفترة الطويلة لكن إرادة الله فوق كل إرادة فمنه الفرج وهو على كل شيء قدير.

                          إطلاق سراح الإمام (عليه السلام)

                          قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ .

                          الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مؤمن طاهر وعبد صالح دعا الله عزّ وجلّ لينقذه من هذه المحنة الظالمة التي أثقلت صدره فاستجاب سبحانه لدعائه وأخرج عنه الغمّ الذي أصابه في سجن الطاغية هارون.

                          فأطلق سراحه غلس الليل. ويعود السبب في ذلك إلى رؤيا رآها في منامه. حدّث عبد الله بن مالك الخزاعي قال:

                          أتاني رسول الرشيد في ما جاءني به قط، فانتزعني من موضعي، ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم، فعرف الرشيد خبري، فأذن لي بالدخول، فوجدته جالساً على فراشه فسلّمت فسكت ساعة، فطار عقلي، وتضاعف جزعي، ثم قال لي:

                          ـ يا عبد الله، أتدري لما طلبتك في هذا الوقت؟

                          ـ لا، والله يا أمير المؤمنين. قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني، ومعه حربة فقال: إن لم تخلّ عن موسى بن جعفر الساعة، وإلا نحرتك بهذه الحربة، اذهب فخل عنه.

                          ولم يطمئن عبد الله بأمر الرشيد بإطلاق سراح الإمام، فقال له: أطلق سراح موسى بن جعفر؟ قال له ذلك ثلاث مرات، فقال الرشيد: (نعم، امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالأمر في ذلك إليك).

                          مضى عبد الله مسرعاً إلى السجن يقول: لما دخلت وثب الإمام (عليه السلام) قائماً، وظنّ أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت له:

                          (قد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك: إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته الثلاثين ألف درهم) (37).

                          وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجبا.

                          وأخذ الإمام (عليه السلام) يحدثه عن السبب في إطلاق سراحه قائلاً:

                          (بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا موسى، حبست مظلوماً قل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت له بأبي أنت وأمي ما أقول فقال (صلّى الله عليه وآله): قل:

                          (يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصى عدداً، فرج عني) فكان ما ترى.

                          وفرج الله عن الإمام فخلى هارون بعد رؤياه سبيله، وقد مكث في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعينها لنا التاريخ.

                          بعد إطلاق سراحه لم يذهب الإمام (عليه السلام) إلى يثرب بل بقي في بغداد لم ينزح عنها وكان يدخل على الرشيد في كل أسبوع مرة في يوم الخميس.

                          كان الرشيد يحتفي به كثيراً إذا رآه، وقد دخل عليه يوماً، وقد استولى عليه الغضب من أجل رجل ارتكب جرماً فأمر أن يضرب ثلاثة حدود فنهاه الإمام (عليه السلام) عن ذلك وقال إنما تغضب لله، فلا تغضب له أكثر ممّا غضب لنفسه)

                          الإذن بالرجوع إلى يثرب

                          طلب الإمام (عليه السلام) من هارون أن يسمح له بالرحيل إلى يثرب، مدينة آبائه وجدّه (صلّى الله عليه وآله) لرؤية عياله وأطفاله، قيل أنه سمح له، وقيل أنه لم يجبه قائلاً له: أنظر في ذلك حتى حبسه في السجن عند السندي.

                          وأكبر الظن أن هارون فرض عليه الإقامة الجبرية في بغداد ولم يسمح له بالسفر إلى وطنه. فمكث (عليه السلام) في بغداد مدة من الزمن لم يحددها لنا قسم كبير من المؤرخين. خلال هذه المدة لم يتعرض له هارون بسوء. قال السيد مير علي الهندي قال: (وقد حدث مرتين أن سمح هارون لهذا الإمام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب على طيبة قلبه فيبقيه في الحبس).

                          استمر الإمام في تلك الفترة من بذل الجهود لإرشاد الناس وهدايتهم إلى طريق الحق ومن الذين اهتدوا متأثرين بنصائحه بشر الحاني فقد تاب على يد الإمام (عليه السلام) حتى صار من عيون عباد الله الصالحين المتقين لكن التاريخ لم يذكر المدة التي خلي فيها عن سبيل الإمام (عليه السلام)، فيحتمل أنها فترة قصيرة، وكل ما ذكره المؤرخون أنه (عليه السلام) انتقل من سجن إلى سجن، من سجن الفضل بن الربيع إلى سجن الفضل بن يحيى..

                          فهارون لم يؤمن بكل ما رآه من الآيات والمعجزات التي ظهرت للإمام (عليه السلام) فاطلق سراحه وندم على ذلك فأصر على التنكيل به وكانت الجريمة.

                          اعتقال الإمام (عليه السلام) عند الفضل بن يحيى

                          مرة ثانية ألقى هارون القبض على الإمام فأمر باعتقاله عند الفضل بن يحيى، فماذا حدث له في سجنه؟

                          معاملة حسنة في سجن الفضل:

                          لما رأى الفضل بن يحيى إقبال الإمام (عليه السلام) على الله سبحانه وتعالى، وانشغاله بذكره، أكبر الإمام ورفّه عليه وأحسن معاملته، فكان يرسل له كل يوم مائدة فاخرة من الطعام، وقد رأى (عليه السلام) من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في السجون الأخرى.

                          الإيعاز باغتياله من جديد

                          أوعز هارون للفضل باغتيال الإمام (عليه السلام)، فخاف الفضل من الله وامتنع عن تنفيذ هذه الجريمة النكراء، ولم يلبّ رغبة هارون. ذلك أنه كان ممن يذهب إلى الإمامة ويدين بها، وهذا هو السبب في اتهام البرامكة بالتشيع.

                          قال الفضل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أقود نفسي إلى النار وأحفر قبري بيديّ؟! لا يمكن أن أنفذ رغبات هارون الطاغية في قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مهما كانت النتيجة.

                          التنكيل بالفضل

                          كان لهارون بعض العملاء المأجورين يراقبون ويوصلون بأخبارهم إليه، كما في عصرنا اليوم، انطلقوا إليه وأخبروه بحسن معاملة الفضل للإمام (عليه السلام) ولما سمع ذلك الطاغية استشاط غضباً وأنفذ بالحال خادمه مسرور إلى بغداد ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان الأمر على ما بلغه مضى إلى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل بن يحيى، وكذلك أمره بالوصول إلى السندي بن شاهك مدير شرطته ومنفذ أوامره لينفذ ما أمر به دون أي تأخير.

                          قدم العميل مسرور إلى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريده ثم دخل خلسة إلى الإمام موسى (عليه السلام) فوجده مرفّهاً مرتاحاً كما بلغ هارون فمضى من فوره إلى العباس وأمره بتنفيذ أمر الخليفة، وكذلك سار إلى السندي فأمره بإطاعة العباس، أرسل العباس فوراً الشرطة إلى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله، فدخل على العباس فأمر بتجريده، ثم ضربه مائة سوط.

                          خرج الفضل بعد هذا الجزاء الظالم وقد انهارت قواه ودكّت أعصابه متحرقاً على الإمام ماذا سيحصل له.

                          كتب مسرور الوغد الحقير إلى هارون بما فعله، فأمره بنقل الإمام من عند الفضل واعتقاله في دار السندي بن شاهك. ثم جلس هارون في مجلس حافل ضمّ جمهوراً غفيراً من الناس، فرفع صوته قائلاً: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني، وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه.

                          ارتفعت أصوات العملاء من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن.

                          وبلغ يحيى بن خالد ذلك فأسرع إلى الرشيد ودخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس، وأسره قائلاً: يا أمير المؤمنين، إن الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد.

                          فسرّ هارون بما أخبره صنيعه الوغد وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ويرد له كرامته.

                          فقال للرشيد: (يا أمير المؤمنين، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرّفه بإزالة ذلك) فأقبل هارون يوجهه على الناس، ورفع عقيرته قائلاً: (إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وناب إلى طاعتي فتولوه).

                          ارتفعت الأصوات المأجورة ثانية من جميع جنبات الحفل وأعلنت التأييد الشامل لتلك السياسة المتقلبة والمتناقضة وهي ذات لهجة واحدة أعلنها أولئك الناس الذين يهتمون بمصالحهم الخاصة ولا يؤمنون بالقيم ولا بالمثل العليا مرددين:

                          (يا أمير المؤمنين، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وقد توليناه).

                          Comment

                          • راية اليماني
                            مشرف
                            • 05-04-2013
                            • 3021

                            #14
                            رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة

                            خاتمة المطاف

                            أحزان جديدة، وخطب مريع حلّ بسبط النبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته العطرة ووديعته في أمته، فقد سدت نوافذ الحياة عليه وحفّت به المصائب والمصاعب من كل جانب، فجمع هارون الطاغية كل ما عنده من لؤم وغضب وبغض وصبها عليه دفعة واحدة؛ من تكبيل بالقيود، وزج في السجون، ومراقبة بالعيون خوفاً من العطف عليه، فنكل بكل من أكرمه ورعى جانبه، حين جلد الفضل بن يحيى مائة جلدة، وأعلن سبه وشهّر به لأنه لم يضيّق عليه.

                            لقد أصبح هارون قلقاً جداً من وجود الإمام (عليه السلام) فذيوع فضله بين الملأ وانتشار اسمه وحديث الناس عن محنته واضطهاده، كل ذلك أقلق مضجعه وأربك فكره، فأوعز إلى كبار رجال دولته باغتياله لكنهم لم يجيبوه على ذلك، لما رأوا للإمام (عليه السلام) من كرامة وتقى وانقطاع إلى عبادة الله عزّ وجلّ، فخافوا من غضب الله ورسوله عليهم وزوال نعمتهم إن تعرضوا له بمكروه. استمر هارون في التفتيش عن مثل هؤلاء الأوغاد الذين يبيعون آخرتهم بدنياهم فلم يجد سوى السندي بن شاهك الأثيم اللعين الذي لا يرجو لله وقارا، ولا يؤمن بالآخرة، فنقله إلى سجنه، وأمره بالتضييق عليه. فاستجاب الأثيم لذلك، حيث عامل الإمام بكل قسوة، والإمام صابر محتسب، قد كظم غيظه، وأوكل أمره إلىالله. إنها المحنة الكبرى قد مُنيَ بها الإمام (عليه السلام) حينما نقل إلى سجن السندي بن شاهك، الذي بالغ في أذاه والتضييق عليه، والتنكيل به في مأكله ومشربه وتكبيله بالقيود، كل ذلك ليرضي هارون ويتقرب منه من أجل دنياه. وسوف نعرض لهذا الدور الرهيب، آخر أدوار حياة الإمام الكاظم المظلوم، ونذكر بعض شؤونه الأخرى كأوقافه ووصاياه وغيرها من الأمور.

                            مكان السجن

                            سجن (عليه السلام) في السجن المعروف بدار المسيّب الواقع قرب باب الكوفة وفيه كانت وفاته (عليه السلام)

                            التضييق على الإمام (عليه السلام)

                            أمر هارون الطاغية جلاده السندي الباغي أن يضيّق على الإمام، وإن يقيّده بثلاثين رطلاً من الحديد، ويقفل الباب في وجهه، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء. وامتثل السندي لأوامر معلمه، فعمل على التضييق على الإمام، ووكل على مراقبته مولاه بشاراً، وكان من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ولكنه لم يلبث أن تغيّر حاله، وتاب إلى طريق الحق، لما رآه من كرامات الإمام (عليه السلام) ومعاجزه، وقام ببعض الخدمات له.

                            لم يرع السندي حرمة الإمام (عليه السلام) وتعرض لإساءته، فقد حدث أبو الأزهر ابن ناصح البرجي قال:

                            اجتمعت مع ابن السكّيت في مسجد يقع بالقرب من دار السندي، فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية، وكان في الجامع رجل لا نعرفه فالتفت إلينا قائلاً: (يا هؤلاء، أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم).

                            وأخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة على ضرورة الإمامة، ثم قال:

                            ـ ليس بينكم، وبين إمام العصر غير هذا الجدار ـ وأشار إلى جدار السندي.

                            ـ لعلك تعني هذا المحبوس؟

                            ـ نعم. يقول أبو الأزهر فعرفنا الرجل من الشيعة، وإنه يذهب إلى الإمامة فقلنا له: قد سترنا عليك، وطلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه فانبرى الرجل لنا وقال: (والله لا يفعلون ذلك أبداً، والله ما قلت لكم إلا بأمره، وإنه ليرانا ويسمع كلامنا، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان).

                            يقول أبو الأزهر: وفي أثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته ووقاره، فعلمنا أنه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فبادرنا قائلاً: أنا ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي، وفي الوقت أقبل السندي ومعه جماعة من شرطته فقال للإمام بغير حياء ولا خجل: (يا ويحك كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الأبواب والأغلال فلو كنت هربت كان أحب إليّ من وقوفك ههنا أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة؟).

                            فقال له الإمام (عليه السلام) والتأثر باد عليه:

                            (كيف أهرب، وكرامتي ـ أي نيلي الشهادة ـ على أيديكم).

                            ثم أخذ بيد الإمام (عليه السلام) وأودعه السجن.

                            هكذا كانت حالة الإمام (عليه السلام) يساء إليه ويضيّق عليه وهو صابر محتسب قد كظم غيظه، وبث همومه وأشجانه إلى الله تعالى.

                            تفرّغ الإمام (عليه السلام) للعبادة من جديد

                            اعتاد الإمام (عليه السلام) على عذاب السجون من قبل الحكام الظالمين الطغاة، فأقبل على العبادة، يصوم في النهار، ويقوم في الليل، ويقضي أكثر أوقاته بالسجود والعبادة، لا يفتر لسانه عن ذكر الله. حتى أن أخت السندي لما رأت إقبال الإمام (عليه السلام) على الطاعة الخالصة والعبادة المستمرة أثر ذلك في نفسها، وأصبحت من الصالحات، وعند ذلك دبّت الرأفة في قلبها وأخذت تعطف على الإمام (عليه السلام) وتقوم بخدمته دون علم أخيها وكانت إذا نظرت إليه أرسلت الدموع مدراراً من عينيها وتقول: (خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل)

                            اتصال العلماء بالإمام (عليه السلام)

                            الإمام الكاظم (عليه السلام) ذلك الينبوع الغزير والمنهل الذي لا ينضب ماؤه كان مقصد العلماء والرواة والمحدثين، اتصلوا به من طريق خفي فنهلوا من نمير علومه، من هؤلاء نذكر موسى بن إبراهيم المروزي، وقد سمح له السندي بذلك لأنه كان معلماً لولده، وقد ألف المروزي كتاباً ممّا سمعه من الإمام (عليه السلام). واتصل به هند بن الحجاج وغيره من قادة الفكر الإسلامي، كما دخل عليه من غلس الليل أبو يوسف ومحمد بن الحسن وقد أراد اختباره في بعض المسائل المهمة ليطلعا على مدى علمه ولما استقر بهما المجلس جاء إلى الإمام (عليه السلام) أحد الموظفين في السجن فقال له:

                            إن نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف، فإن كانت لك حاجة فأمرني أن آتيك بها غداً، فقال (عليه السلام):

                            ليس لي حاجة انصرف. فلما انصرف، التفت (عليه السلام) إلى أبي يوسف وصاحبيه فقال لهما:

                            (إني لأعجب من هذا الرجل يسألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غداً إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة) فأمسكا عن سؤاله، وقاما، وقد استولى عليهما الذهول وجعل كل واحد منهما يقول لصاحبه:

                            أردنا أن نسأله عن الفرض، والسنة، فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب!!

                            والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره لينظر ما ذا يكون من أمره؟ وأرسلا في الوقت شخصاً فجلس على باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ والعويل قد على من الدار، فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفى، فقام مبادراً وأخبرهما بالأمر، متعجباً من علم الإمام (عليه السلام). وقد روى هذه القصة العديد من رواة الأثر وإن دلّت هذه الرواية على شيء فإنها تدل على علم الإمام بالمغيبات، وانكشاف الحجاب له، وهذا ما تعتقده الشيعة في الإمام فهو يرى بعين الله تعالى.

                            إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أخبروا بالملاحم والأمور الغيبية التي تحققت كلها، فهم بلا ريب ولا شك ورثة علم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قد ألهمهم عزّ وجلّ جميع أنواع العلوم، وأطلعهم على خفايا الأمور.

                            إرسال الفتاوى إلى الإمام (عليه السلام)

                            كانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً إلى الإمام (عليه السلام) حينما كان في سجن السندي، فتزوده بالرسائل والفتاوى فيجيبهم (عليه السلام) عنها، وممن جاءه علي بن سويد، اتصل بالإمام (عليه السلام) وسلّم إليه الكتب والفتاوى، فأجابه (عليه السلام) عنها.

                            تعيين وكلاء الإمام (عليه السلام)

                            عيّن الإمام (عليه السلام) جماعة من طلابه وأصحابه الذين يثق بهم وجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلامية، ثم أومأ لشيعته بالرجوع إليهم لأخذ الأحكام الدينية منهم، كما أذن لهم في أخذ الحقوق الشرعية، لصرفها في مواضعها الشرعية على الفقراء والبائسين من الشيعة وإنفاقها في وجه البرّ والخير.

                            فقد نصب المفضل بن عمر وكيلاً له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقيها.

                            تعيين ولي عهده

                            نصب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من بعده ولده الإمام الرضا (عليه السلام) فجعله علماً لشيعته، مرجعاً لأمة جده (صلّى الله عليه وآله)، فقد حدّث الحسين بن المختار قال: لما كان الإمام الكاظم (عليه السلام) في السجن خرجت لنا ألواح من عنده وقد كتب فيها (عهدي إلى أكبر ولدي).

                            علماً أنه عيّن ولده الرضا (عليه السلام) من بعده وذلك قبل أن يعتقله الطاغية هارون، وقلّده منصب الإمامة، ودلّ عليه الخواص من شيعته، فقد روى محمد بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: دعانا أبو إبراهيم ونحن سبعة عشر من ولد علي وفاطمة، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته.

                            وصية الإمام الكاظم (عليه السلام)

                            أوصى الإمام الكاظم (عليه السلام) ولده الإمام الرضا (عليه السلام) وعهد إليه بالأمر من بعده وقد أوصاه بوصية تتضمن ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة. وقد أشهد عليها جماعة من المؤمنين الأعلام، وقبل أن يدلي بها ويسجلها أمر بإحضار الشهود وهم:

                            إبراهيم بن محمد الجعفري، وإسحاق بن محمد الجعفري، وإسحاق بن جعفر بن محمد، وجعفر بن صالح، ومحمد الجعفري، ويحيى بن الحسين بن زيد، وسعد بن عمران الأنصاري ومحمد بن الحارث الأنصاري، ويزيد بن سليط الأنصاري، ومحمد بن جعفر سعد الأسلمي ـ وهو كاتب الوصية ـ ولما حضر هؤلاء شرع بذكر وصيته، وهذا نصها:

                            (إن موسى يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وإن محمداً عبده ورسوله، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور، وإن البعث من بعد الموت حق، وأن الوعد حق، وإن الحساب حق، والقضاء حق، وإن الوقوف بين يدي اللهحق، وأن ما جاء به محمد (صلّى الله عليه وآله) حق، وأن ما أنزل به الروح الأمين حق، على ذلك أحيى وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله، وأشهدهم أن هذه وصيتي بخطي، وقد نسخت وصية جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووصية محمد بن علي قبل ذلك نسختها حرفاً بحرف، ووصية جعفر بن محمد، على مثل ذلك، وإني قد أوصيت بها إلى علي وبني بعده معه إن شاء وآنس منهم رشداً، وأحب أن يقرهم فذاك له، ولا أمر لهم معه، وأوصيت إليه بصدقاتي وأموالي ومواليّ وصبياني الذي خلفت وولدي إلى إبراهيم والعباس وقاسم وإسماعيل وأحمد وأم أحمد، وإلى علي أمر نسائي دونهم، وثلث صدقة أبي وثلثي يضعه حيث يرى، ويجعل فيه ما يجعل ذو المال في ماله، فإن أحب أن يبيع أو يهب أو ينحل أو يتصدّق بها على من سمّيت له وعلى غير من سمّيت فذاك له، وهو أنا في وصيتي في مالي، وفي أهلي وولدي وإن يرى أن يقر أخوته الذين سميتهم في كتابي هذا أقربهم، وإن كره فله أن يخرجهم غير مثرب (54)عليه، ولا مردود، فإن آنس منهم غير الذي فارقتهم عليه فأحب أن يردهم في ولاية فذاك له، وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره فإنه أعرف بمناكح قومه، وأي سلطان أو أحد من الناس كفه عن شيء أو حال بينه وبين شيء ممّا ذكرت فهو من الله ومن رسوله بريء، والله ورسوله منه براء، وعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة المقربين والنبيين والمرسلين وجماعة المؤمنين، وليس لأحد من السلاطين أن يكفه عن شيء، وليس لي عنده تبعة، ولا تباعة، ولا لأحد من ولدي وله قبلي مال، فهو مصدق فيما ذكر، فإن أقل فهو أعلم، وإن أكثر فهو الصادق كذلك، وإنما أردت بإدخال الذين أدخلتهم معه من ولدي التنويه بأسمائهم، والتشريف لهم، وأمهات أولادي من أقامت منهنّ في منزلها وحجابها فلها ما كان يجري عليها في حياتي، إن رأى ذلك. ومن خرجت منهنّ إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي إلا أن يرى عليّ غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوّج بناتي أحد من إخوتهن، من أمهاتهن، ولا سلطان ولا عم إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله، وجاهدوا في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوّج زوّج وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهنّ بما ذكرت في كتابي هذا، وجعلتالله عزّ وجلّ عليهنّ شهيداً، وهو وأم أحمد شاهدان وليس لأحد أن يكشف وصيتي، ولا ينشرها، وهو منها على غير ما ذكرت وسمّيت، فمن أساء فعليه، ومن أحسن فلنفسه، وما ربّك بظلاّم للعبيد، وصلّى الله على محمد وعلى آله، وليس لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي هذا الذي ختمت عليه الأسفل، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين، والملائكة المقربين، وجماعة المرسلين والمؤمنين، وعلى من فضّ كتابي هذا).

                            ووقع عليه السلام الوصية وختمها، وكذلك وقّع عليها الشهود السالفة أسماؤهم. وواضح أن وصيّه والحجة من بعده ولده الإمام الرضا (عليه السلام) فقد فوّض إليه جميع شؤونه، وألزم أبناءه بإتباعه والانصياع لأوامره. كما أمر (عليه السلام) أن يكون زواج كريماته بيد الإمام الرضا (عليه السلام) وتحت مشورته ورأيه فإنه أعرف بمناكح قومه من غيره فإنّهنّ ودائع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكريماته فينبغي أن لا يتزوّجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهنّ ويقدّر منزلتهنّ ولا يعرف الكفؤ لهنّ إلا ولده الرضا. وأكبر الظن أنه إنما أمر بإخفاء وصيته وعدم ذيوعها خوفاً على ولده من السلطة العباسية التي لم تقصر أبداً في محاربة أهل البيت (عليهم السلام) لذلك أراد إخفاءها خوفاً من نقمتهم عليه وتنكيلهم به.


                            Comment

                            • راية اليماني
                              مشرف
                              • 05-04-2013
                              • 3021

                              #15
                              رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة

                              أوقافه وصدقاته

                              تصدّق الإمام (عليه السلام) ببعض أراضيه على أولاده وسجّل ذلك في وثيقة، والزم أبناءه بتنفيذ مضامينها، والعمل على وقفها، وهذا نصها:

                              بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر بأرضه مكان كذا وكذا ـ وقد عيّن ذلك ـ كلها: نخلها وأرضها وماؤها وأرجاؤها وحقوقها وشربها من الماء وكل حق هو لها في مرفع أو مطهر أو عيص أو مرفق أو ساحة أو مسيل أو عامر أو غام. تصدّق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء يقسم واليها ما أخرج الله عزّ وجلّ من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها ومرافقها وبعد ثلاثين عذقاً يقسم في مساكين أهل القرية، بين ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن تزوجت امرأة من ولد موسى بن جعفر فلا حقّ لها في هذه الصدقة حتى ترجع إليها بغير زوج، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى، ومن توفي من ولد موسى وله ولد فولده على سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين على مثل ما شرط موسى بين ولده من صلبه. ومن توفي من ولد موسى ولم يترك ولداً رد حقه على أهل الصدقة وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق إلا أن يكون آباؤهم من ولدي، وليس لأحد في صدقتي حق مع ولدي وولد ولدي وأعقابهم ما بقي منهم أحد، فإن انقرضوا ولم يبق منهم أحد فصدقتي على ولد أبي من أمي ما بقي منهم أحد، ما شرطت بين ولدي وعقبى، فإن انقرض ولد أبي من أمي وأولادهم فصدقتي على ولد أبي وأعقابهم ما بقي منهم أحد فإن لم يبق منهم أحد فصدقتي على الأولى فالأولى حتى يرث الله الذي يرثها وهو خير الوارثين.

                              تصدّق الإمام موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح، صدقة حبيساً بتاً لا مثنوية فيها، ولا رداً أبداً ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ولا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها أو ينحلها أو يغير شيئاً ممّا وضعتها عليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وجعل صدقته هذه إلى علي وإبراهيم فإن انقرض أحدهما دخل القاسم مع الباقي في مكانه، فإن انقرض أحدهما دخل إسماعيل مع الباقي منهما، فإن انقرض أحدهما دخل العباس مع الباقي منهما، فإن انقرض أحدهما فالأكبر من ولدي يقوم مقامه فإن لم يبق من ولدي إلا واحد فهو الذي يقوم به...).

                              هذا الموقف الذري هو بعض ميراثه وخيراته، وقد خص به أبناءه وذريته لأجل أن تقوم تلك الغلة بشؤونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس.

                              ترفع الإمام من المطالبة بإطلاق سراحه

                              مكث الإمام (عليه السلام) زمناً طويلاً في سجن هارون، فطلب منه جماعته من شيعته الخاصة أن يتصل مع بعض الشخصيات المقرّبة عند هارون ليتوسطوا في إطلاق سراحه، فترفّع وامتنع عن ذلك وقال لهم: (حدّثني أبي عن آبائه أنالله جل وعلا أوصى إلى داود أنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني وعرفت ذلك منه إلا قطعت عنه أسباب السماء، وأسخت الأرض من تحته)

                              تدل هذه البادرة من الإمام المعصوم (عليه السلام) على مدى إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وانقطاعه إليه، ورضائه بقضائه، وترفّعه من سؤال أي أحد من المخلوقين. لقد تذكر (عليه السلام) قول جدّه الرسول الأكرم عندما قال

                              (اللهم أكفنا ذل السؤال) وقوله (صلّى الله عليه وآله): (اليد العليا خير من اليد السفلى) وما حدث مع الإمام (عليه السلام) عكس ما طلب منه لقد أرسل كتاباً إلى هارون وهو في السجن يعبر فيه عن سخطه.

                              كتابه لهارون

                              أرسل الإمام (عليه السلام) وهو في السجن رسالة لهارون الطاغية أعرب فيها عن سخطه البالغ عليه، قال فيها:

                              (إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء وهناك يخسر المبطلون).

                              في هذه الحياة تحمّل الإمام (عليه السلام) الآلام المبرحة والجزع الدائم من السجن لكنه سوف ينتظر اليوم العظيم الذي سيحاكم فيه خصمه الطاغية عند الله، يوم يخسر فيه المبطلون والظالمون.

                              إغراء وفتنة

                              أرسل هارون إلى الإمام في سجنه جارية بارعة في الجمال، بيد أحد خواصه لتتولى خدمته، علّ الإمام يفتتن بحسنها في اعتقاد هارون.

                              فلما وصلت إليه قال (عليه السلام) لمبعوث هارون:

                              (قل لهارون: بل أنتم بهديتكم تفرحون، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها) فرجع الخادم ومعه الجارية وأبلغ هارون قول الإمام فغضب غضباً شديداً وقال للخادم: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخدمناك، واترك الجارية عنده وانصرف).

                              رجع رسول هارون وترك الجارية الحسناء عند الإمام، وأبلغه بمقالته ثم أنفذ هارون خادماً إلى السجن ليراقب ويتفحص حال الجارية. فلما انتهى إليها رآها ساجدة لا ترفع راسها وهي تقول: (قدّوس، قدّوس) فمضى الخادم مسرعاً وأخبر هارون بحالها فقال: سحرها والله موسى بن جعفر عليّ بها!!).

                              فجيء بها إليه، وهي ترتعد خوفاً فشخصت ببصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجّده، فقال لها هارون: ما شأنك؟

                              قالت: شأني الشأن البديع، إني كنت عنده واقفة، وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلما انصرف من صلاته قلت له:

                              هل لكَ حاجة أعطيكها؟ فقال (عليه السلام): وما حاجتي إليكِ؟

                              قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك. قال الإمام (عليه السلام):

                              فما بال هؤلاء ـ وأشار بيده إلى جهة ـ فالتفت، فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصائف ووصايف لم أرَ مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليها الحرير الأخضر، والأكاليل والدرّ والياقوت وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كل الطعام فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت، فقال لها هارون والحقد يتطاير من عينيه لأن مؤامرته باءت بالفشل فقال: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمتِ فرأيتِ هذا في منامك.

                              فقالت: لا والله يا سيدي، رأيت هذا قبل سجودي، فسجدت من أجل ذلك.

                              فالتفت هارون إلى خادمه، وأمره باعتقال الجارية، ليخفى الحادث تماماً، لئلا يسمعه الناس. فأخذها الخادم، واعتقلها عنده، فأقبلت على العبادة والصلاة، فإذا سئلت عن ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح، وقالت إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة، إبعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه فنحن له دونك، وبقيت عاكفة على العبادة حتى لحقت بالرفيق الأعلى.

                              محاولة اغتيال فاشلة

                              تحدث الناس في مناقب الإمام (عليه السلام) وانتشرت فضائله بين الجموع وأصبح أحدوثة العصر بعلمه وحلمه، وصبره وبلواه، ضاق صدر هارون من ذلك وعقد العزم على اغتيال الإمام المظلوم ثانية فدعا برطب فأكل منه ثم أخذ إناءً ووضع فيه عشرين رطبة، وأخذ سلكاً فعركه في السم وأدخله في سم الخيّاط. وأخذ رطبة من ذلك الرطب فوضع فيها ذلك السلك وأخرجه منها حتى تكللت بالسم، ووضعها مع ذلك الرطب وقال لخادمه: احمله إلى موسى بن جعفر، وقل له:

                              إن أمير المؤمنين أكل من ذلك الرطب، وهو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره، فإني اخترتها لك بيدي، ولا تتركه يبقي منها شيئاً ولا يطعم منها أحداً. فحمل الخادم الرطب وجاء به إلى الإمام، وأبلغه برسالة هارون. فأمره (عليه السلام) أن يأتيه بخلال، فجاء به إليه، وقام بإزائه فأخذ الإمام يأكل من الرطب، وكانت لهارون كلبة عزيزة عنده، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها الذهبية حتى حاذت الإمام (عليه السلام) فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث إن ضربت بنفسها الأرض وماتت للحال، وأكمل الإمام في أكل باقي الرطب. والخادم ينظر إليه مشدوهاً، حمل الإناء إلى هارون فلما رآه بادره قائلاً: قد أكل الرطب عن آخره؟ ـ نعم يا أمير المؤمنين.

                              ـ كيف رأيته؟

                              ـ ما أنكرت منه شيئاً، ثم قصّ عليه حديث الكلبة وطريقة موتها فقام هارون بنفسه ليشرف عليها، لأنها عزيزة على قلبه كثيراً، فرآها اهترأت أمعاؤها وتقطعت من السم فوقف مذهولاً وقد سرت الرعدة بأوصاله والشرر ينزف من عينيه وقال:

                              (ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمنا جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا ما في موسى حيلة).

                              لقد فشل في مشروعه الخسيس ولم تنجح محاولته في اغتيال الإمام (عليه السلام) والله سبحانه وتعالى قد أنقذه منه وصرف عنه السوء. ولا ندري من أين تعلم طريقة الاغتيال بالسم؟ فيجوز أنه اطلع على تاريخ معاوية بن أبي سفيان واستعماله السم في اغتيال الأئمة (عليهم السلام) وهو القائل: (إن لله جنوداً من عسل).

                              Comment

                              Working...
                              X
                              😀
                              🥰
                              🤢
                              😎
                              😡
                              👍
                              👎