#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(1)
.
ملاحظات عامة قبل النقاش:
.
.
ملاحظة 1: لا شك أنّ للشك في أمر ما أسباباً ودوافع عديدة:
.
- منها: ما له علاقة بالجانب العلمي والبحثي لما يكون الهدف منه البحث عن الحقيقة والوصول إليها.
- ومنها: ما هو مسبّب عن شبهة وجهل.
- ومنها: ما هو ناتج عن صدمة تعرّض لها الشاك أدّت إلى زعزعة الثقة بمعتقده وسلوكه ومنظومته الفكرية عموماً.
- ومنها: ما هو ناشئ عن مرض وعقدة نفسية تتطلب علاجاً.
.
وربما توجد أسباب أخرى لا يهمني استقصاؤها الآن، لكن المهم هو معرفة أنّ الشك ليس مذموماً دائماً، إذ اتضح أنه أحياناً يكون قنطرة الباحث للوصول إلى الحقيقة المنشودة لديه، لكنه يصبح مذموماً بل ووسيلة هدّامة وخطرة - على الإنسان نفسه - لما يستهدف به الحقيقة الثابتة نفسها في حالات تبدو فيها خطواته بعيدة تمام البعد عن الحياد الذي يفترض أن يتحلّى به من ينشد الحقيقة، ويظهر ذلك بوضوح لما يستعمل الشاك في طرح شكّه منهجاً غير علمي مصحوباً بتعمّد أساليب الشيطنة والإساءة والبذاءة التي تكشف بوضوح عن انعدام الخلق المطلوب في الحوار والبحث العلمي، وبالتالي فالغالب - والحال هذه - أن يخسر معرفة الحقيقة بل ربما لا يكون طالباً لها من الأساس حتى وإن تقنّع بذلك.
.
ملاحظة 2: الشك في المعتقدات:
1- ليس ما يحصل من حملات التشكيك بالمعتقدات في زمننا هذا بأمر طارئ وجديد، فالتشكيك بوجود الله سبحانه أو صفاته أو أفعاله، وكذلك التشكيك بكتبه ورسله وما يصدر منهم قولاً أو فعلاً، قائم منذ فجر الرسالات الإلهية على هذه الأرض، ولم تسلم هذه المعتقدات من حملات التشكيك والطعن بها في زمن من الأزمان.
.
لكن ما هو مختلف هذه المرة هو حجم وشدة الهجمة المنظّمة التي يتعرّض لها الدين الإلهي عموماً، وليس المنظّرون للإلحاد العلمي - المدعومون من مراكز القرار السياسي العالمي الكبرى - ينفردون في قيادة هذه الهجمة وحسب، ولكن يعينهم في ذلك الكثير ممن يحسبون ظاهراً على أتباع الدين الإلهي أيضاً.
.
.
2- ما هي أسباب الشك في المعتقد الديني ؟
..............
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(2)
.
2- سبب الشك في المعتقد الديني:
.
لو استثنينا المريض والمبغض لكل ما هو إلهي وديني لا لشيء إلا لأنه يبغض الدين وكل ما يتصل بالله سبحانه، فالشك في الاعتقاد الديني - أي اعتقاد ديني - يعود لعدة أسباب أهمها - بنظري - سببين رئيسين:
.
الأول: الجهل، فما حوربت حقيقة ما بشيء أشد من الجهل بها، والجهل يمكن أن يتمظهر بعدة صور، منها:
.
- الجهل بحقيقة المعتقد:
فمثلاً: تراه يشكك ببعض آيات القرآن وسر إعجازه وعصمة الرسل وبعض ما يصدر منهم ويرتّب على شكوكه وإشكالاته ما يحلو له ترتيبه، وهو لا يعرف الصحيح من معنى الآيات ولا سر الإعجاز ولا العصمة ولا حدودها من الأساس.
.
- المنهج المغلوط:
لكل شيء أصول وحدود ومبادئ، ولا يشذ المنهج المتبع في السير البحثي والاستدلالي عن ذلك، فأيضاً له أسس منطقية يسير عليها، فمثلاً: المتشابه يرجع للمحكم لا العكس، وما ثبت باليقين لا يُنقض بشك وإنما ينقض بيقين مثله، والأصل إذا ثبت يقيناً فلا تتم محاكمته بفرع يتوهم شذوذه عنه، وإنما لابد - وفق المنهج العلمي والمنطقي - أن يطوّع الفرع ليلائم أصله، هذا إن كان قابلاً للملائمة وإلا يستحيل أن يكون فرعاً له بمعنى أنه يجب استئصاله وبتره؛ لأنه - والحال هذه - سيكون دخيلاً لا فرعاً حقيقياً.
.
هذه بعض البنود المنطقية التي يُفترض مراعاتها أثناء البحث والاستدلال ومحاكمة الآراء والمواقف، وستتضح بعض التطبيقات للبنود المذكورة لاحقاً.
.
الثاني: الخطأ في تشخيص الناطق الحقيقي والرسمي عن الدين، فمن الواضح أنّ محاكمة حقيقة ما - سواء كانت منهجاً أو معتقداً دينياً أو نظرية أو فرضية أو فكرة ما - وما يستتبع ذلك من اتخاذ موقف سلبي منها والتشكيك فيها، إنما تصح بعد فهمها ومعرفتها من قائلها وصاحبها الحقيقي الناطق بها، وليس من النهج العلمي والمنطقي في شيء أن تتم محاكمتها بناء على شرح وتفسير دخلاء ومتبرّعين بعيدين عن بيان المراد الصحيح والمقصود لصاحبها.
.
أعتقد أنّ مثل هذا الحق لا يثبت للدين الإلهي فحسب، ولكنه حق بديهي ثابت لكل النقابات والجمعيات والمنظمات والمؤسسات والحكومات في عالمنا اليوم ابتداءً من منظمة الأمم المتحدة وانتهاء بأبسط جمعية تدافع عن حقوق الحيوان، بل هو حق ثابت لعموم أفراد الجنس البشري عموماً أيضاً، فأنت إذا ما أردت معرفة الموقف والرأي الرسمي لمؤسسة ما - وحتى فرد ما - فهناك جهة محددة تحمل تخويلاً وتصريحاً رسمياً تمنح بموجبه - هي لا غير - حق إبداء الموقف الرسمي للمؤسسة وتفسير المشتبه منه، ولا تكون المؤسسة معنية بأي تصريحات أو تفسيرات أخرى يمارسها المحللون السياسيون أو غيرهم ممن يحاولون فهم موقفها او تفسيره من خلال التخمين أو تجميع بعض القرائن من هنا وهناك.
.
من يمتلك هذه الصفة في الدين الإلهي هو خليفة الله المنصّب من قبل الله لا غير، فهو الناطق الرسمي والوحيد الذي يحمل تخويلاً من صاحب الدين يحق له بموجبه التصريح باسم الدين وتحديد موقفه وتفسير ما تشابه من نصوصه وكذلك التعبير عن وجهة نظره الحقيقية حيال مختلف القضايا بما في ذلك قضايا الإنسان والحياة عموماً، والثابت - عقلاً ونقلاً - أنّ مثل هذا الناطق لا يخلو منه زمان.
.
بناءً على هذا، لا يكون الدين الإلهي معنياً أصلاً بتفسير وفهم علماء الأديان وما تستلزمه من أخطاء أو إشكالات أو تناقضات معرفية أو أخلاقية أو علمية وغير ذلك؛ لأن الله "صاحب الدين" لم ينصّبهم ويختارهم لأداء هذه المهمة، وبالتالي لا يؤاخذ الدين بجريرة أقوالهم وآرائهم، والإصرار على إلزام الدين الإلهي بها ابتعاد واضح عن النهج العلمي الرصين إضافة إلى كونه ظلماً وتعسفاً وعناداً ليس إلا، فمثلاً:
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ سر إعجاز القرآن يكمن في بلاغته ولغته ليقال إنّ القرآن كتاب عنصري ولا يدرك جهة إعجازه إلا العرب فقط !
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ السارق تقطع يده من المعصم أو من أصول الأصابع ليقال إنّ الإسلام دين بعيد عن الرحمة والعقوبة فيه أشد من الجريمة نفسها !
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ المرأة ناقصة عقل ودين، أو يسمح بضربها أو الانتقاص منها، أو يفرض لبس الحجاب عليها بالقوة، ليقال إنّ الإسلام امتهن المرأة وانتقص من قدرها وسلب إرادتها حيال فروضه !
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ الأرض ساكنة ومسطحة ولا أنه أنكر نظرية التطور الهادف للإنسان والكون عموماً - والذي يكشف بالنهاية عن وجود المسبِّب الأول "الله" - ليقال إنّ الأرض متحركة وكروية وصوّرت وهي تدور، وليقال إنّ الدين يخالف الحقائق العلمية الثابتة والمبرهن عليها بالدليل القاطع !
.
وهكذا. .....
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(3)
.
ملاحظة 3: منهج المناقشة:
.
لا ينبغي إغفال الخلفية التي ينطلق منها المشكك عند النقاش معه، فأغلب المشككين بالمعتقدات الدينية ينتسبون إلى أحد الاتجاهات التالية:
- ملحد، ينكر وجود الله من الأساس.
- لا أدري، فلا هو ينكر وجود الله ولا هو يثبت وجوده.
- ربوبي، يؤمن فقط بوجود الله وينكر كل ما سوى ذلك.
- ديني، أي تابع لدين إلهي "كالإسلام" لكنه يشكك ببعض المعتقدات، بل ربما يصل تشكيكه إلى القرآن ورسول الإسلام محمد (ص) أو أحد أوصيائه الطاهرين.
.
بالنسبة للملحدين، فالنقاش معهم ينبغي حصره - بالدرجة الأساس - في قدرة أي من الطرفين على إثبات موقفه ومعتقده بالدليل القطعي، فهم من جهتهم حاولوا ذلك، ولعل أبرز المحاولات في هذا الاتجاه ما طرحه عالم الفيزياء البريطاني الراحل ستيفن هوكنج في تصوير البداية اللاحدية للكون وبالتالي استغناؤه - بحسبه طبعاً - في وجوده عن الخالق، ومن ثم أطلق مقولته الشهيرة "كون من لا شيء".
.
وهنا انبرى السيد أحمد الحسن لرد أكثر مقولاتهم جرأة في إنكار وجود الله وقلب الطاولة عليهم في كتابه "وهم الإلحاد"، ووظّف أكثر نظرياتهم العلمية رصانة - كنظرية التطور الدارويني ونظرية الانفجار العظيم وضبط الثوابت الكونية الدقيقة ومعطيات نظرية الكم المدهشة - كأدلة عقلية واضحة على إثبات وجود الله، منها:
.
1- التطور له هدف سواء على مستوى الحياة الأرضية أو الكون عموماً، ومن ورائه حقيقة هادفة وعالمة مريدة له.
2- قانون السببية "لكل مسبّب سبب"، واستعراض بعض تطبيقاته في إثبات حدوث الكون وبدايته وفق نظرية الانفجار العظيم.
3- الكون مقنَّن ومصمَّم بدقة عالية جداً من خلال استعراض ضبط الثابت الكوني "لامدا" والثوابت الكونية الأخرى، ومن ورائه مقنِّن ومصمِّم عظيم.
4- للكون هدف ومن ورائه هادف مريد له وللإنسان بالخصوص.
.
من جهته، دعا مؤلف الكتاب "السيد أحمد الحسن" الملحدين للرد على ما طرح وفتح باب الحوار والنقاش، لكن وبالرغم من مرور سنين على صدور الكتاب لم تجد دعوته أذناً صاغية منهم.
.
بطبيعة الحال، ينبغي أن تكون مادة الاستدلال في إثبات وجود الله للملحدين أموراً عقلية ثابتة بالبداهة أو بالدليل العلمي العقلي أو التجريبي.
.
الملحد من جهته، لا يقف في طرحه عند حدود إنكار وجود الله، وإنما يتعدى ذلك بمديات واسعة ليثير شكوكه على القرآن والإسلام ورسوله الكريم والدين عموماً عقيدة وشريعة، وأعتقد أنّ الانجرار خلفه ونقاشه في الدوائر البعيدة عن الأصل "أي مسألة إثبات وجود الله" لا يجدي نفعاً غالباً، بل ويخفف عنه العبء كثيراً، وبالتالي ينبغي إرجاعه إلى الأصل الذي يعد إحرازه أولى خطوات النقاش المنهجي والعلمي الرصين.
.
نعم، لابد من إثارة ضرورة البعث والإرسال الإلهي وطرح مباحث النبوة والإرسال العامة بأدلتها العقلية القطعية في النقاش مع "الربوبي" بعد اعتقاده بوجود الله، فهي بذلك تعد أحد الأصول التي ينبغي حصر الحوار فيها إذا ما أريد له أن يكون حواراً جادّاً ومثمراً.
.
يبقى أهل التشكيك من المتدينين - كالمسلمين مثلاً - فقد نجد أنفسنا مضطرين أحياناً لإعادة طرح مبادئ الاعتقاد الأساسية عليهم وتذكيرهم بها إن وصل الشك بهم إلى حد الطعن بالقرآن الكريم أو رسول الله محمد (ص) أو أحد أوصيائه الكرام (ع) أو تعاليمهم الصادرة عنهم من خلال عرض قانون معرفة حجج الله الثابت عقلاً ونقلاً، وضرورة اتصافهم بالعصمة عقلاً ونقلاً، فمن الواضح أنّ ادعاء اعتقاده بنبوة نبي الإسلام وخلافة أوصيائه الكرام وعصمتهم لا يجتمع بحال مع ادعاء صدور الظلم أو الكذب أو الاجرام ونحو ذلك من المنكرات من أي منهم، وحاشاهم.
.
.............
* ملاحظة: رابط كتاب وهم الالحاد لمن يحب الاطلاع سأضعه في التعليقات
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(4)
.
إعادة إثبات نبوة نبي الإسلام محمد (ص) فضلاً عن إثبات إمامة أوصيائه الكرام لكثير من المسلمين هو ما وصلنا إليه اليوم للأسف، ولست مجازفاً إن قلت إنّ كثيراً من المسلمين لا يعرفون إثبات نبوة نبيهم الكريم بشكل صحيح، فأغلبهم وجد نفسه مسلماً بالولادة ولم يكلّف نفسه عناء الاطلاع والبحث، ثم أفاق وقد ملأ رأسه قول علماء المسلمين بأنّ النبي يعرف بالمعجزة المادية وأكبرها شأناً ودلالة هي القرآن، ولما يُسأل عن كيفية دلالته يجد نفسه عاجزاً عن الإجابة، فالقرآن - كما يعرف الجميع - لم ينزل دفعة واحدة، وإنما اكتمل نزوله خلال مدة تقرب من 23 سنة، فهل يقصد العلماء أنّ النبي الأكرم انتظر 23 عاماً من عمر دعوته الإلهية ليكتمل بعدها دليل نبوته ؟ أو أنّهم يقصدون كفاية شيء من القرآن في تحقق الدلالة على نبوته، وما هو ذلك الشيء الكافي بالضبط؟
.
من جانب آخر: إذا كان شيء من القرآن كافٍ بنظرهم، وهم في نفس الوقت يرون أنّ وجه إعجاز القرآن ودلالته على نبوة النبي هو اللغة والفصاحة التي نزل بها وعجز عنها فصحاء العرب عند التحدي، وعجزهم يثبت نبوته، وهو ما يجده أي باحث ومتابع في كتبهم، فيكون لزاماً عليهم إثبات أمرين بنحو القطع؛ لأننا نتكلم في أهم المسائل العقائدية:
.
الأول: إثبات أنّ رسول الله (ص) كان معه من القرآن ما يكفي لتحقق الإعجاز اللغوي - كما هم يصوّرون - والتحدي به في أول لحظة ابتدأ فيها دعوته الإلهية، هذا مع أنهم مختلفون في بيان القدر المعجز من القرآن فضلاً عن اختلافهم في أول ما نزل منه، وإذا أخذنا برأي بعضهم بأن أقل المعجز هو "السورة" وأنّ الكثير منهم يرى أنّ أول ما نزل "آيات" من سورة وليس "سورة" كاملة، فهذا يعني أنّ النبي ابتدأ بدعوته ولم يكن لديه دليل يثبت صدق دعوته، فهل يقبلون بنتيجة ما أسّسوه!!
.
الثاني: إثبات أنه (ص) تحدّى العرب بما نزل عليه من القرآن للإتيان بمثله من زاوية لغوية وبلاغية، وهو ما لم يثبت قطعاً، ولا تجد عليه شاهداً لا من القرآن ولا من سيرة النبي (ص).
.
الأمر الآخر الملفت في بحوث العلماء أنهم يشبّهون إعجاز القرآن بسائر معاجز الأنبياء المادية كقلب عصا موسى (ع) حيّة تلقف أفك السحرة، أو تطبيب عيسى (ع) لبعض المرضى في زمانه وشفائهم على يديه وما شابه ذلك، وهو في الحقيقة انتقاص من القرآن دون أن يعي العلماء ذلك، والسبب: إنّ معاجز الأنبياء المادية - التي يُعبّر عنها عادة بـ "الآيات" في النص الديني - ليست هي الأساس في التعرف على خلفاء الله عموماً؛ لأنها ببساطة قد تحصل وقد لا تحصل، وهي ليست متوفرة دائماً مع جميع خلفاء الله على طول خطهم الرسالي، قال تعالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ" [الإسراء: 59]، ومع ذلك فالدليل على أحقية الرسل متوفر دائماً ولا يضر عدم مجيئهم بالآيات على صدقهم في دعواتهم الإلهية شيئاً.
.
وأيضاً: بالنسبة للإتيان بالآيات (المعاجز المادية) أمرها معلّق على إذنه سبحانه، قال تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ" [العنكبوت: 50]. ولا يُعقل أن يكون دليل صدق أنبياء الله أمر غير موجود فعلاً وإنما هو معلق وموقوف على إذن الله، وإلا فهو "نذير مبين" بماذا ؟ ثم هل سمع أحد بأنّ نبياً من الأنبياء طالبه قومه بالدليل على صدق دعوته وطلب منهم الانتظار حتى يأذن الله بمجيء الدليل أو أجابهم بأنه أمر معلّق على إذن الله بالإتيان به، هل حصل مثل هذا مع أحد منهم صلوات الله عليهم ؟!!
.
إنه لأمر مؤسف حقاً أن يصل الحال في التعامل مع القرآن الكريم ورسول الله (ص) إلى هذا المستوى، بحيث لا يعرف جل علماء المسلمين فضلاً عن عامتهم الاستدلال الصحيح على إثبات نبوة النبي الكريم، ولا يتمكّنون من بيان موقع القرآن الكريم منها، ولا بيان وجه الإعجاز في كتاب ربهم، وكل ما يعرفه المسلم في أيامنا هذه هو التقليد لمن هم في حقيقة الأمر ليسوا بأحسن حالاً منه.
.
لا ريب أنّ حالاً كهذا الذي نشاهده لا ننتظر منه غير أن تؤدي حملات التشكيك بدين الله ورموزه الكرام إلى تعاطف بعض المسلمين معها أو لا أقل زعزعة الثقة في نفوسهم بدين الله وقادته المعصومين.
.
لذا كان لزاماً علينا كمؤمنين بالله وكتبه وخلفائه الكرام الدفاع عن دينه ورموز خطه الرسالي القويم، وإماطة اللثام عن الشكوك والطعون التي يمارسها البعض وكشف وهنها وزيفها والمغالطات التي تنطوي عليها.
.
ملاحظة: لمن أراد الاطلاع على المنهج الصحيح في إثبات خلافة رسول الله محمد (ص) فيمكنه الرجوع إلى كتاب "عقائد الإسلام" للسيد أحمد الحسن
.
* رابط الكتاب في التعليقات.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(5)
.
إشكالات مثارة على القرآن الكريم
.
ليست قليلة مساحة الجدل الذي أثير على القرآن الكريم وتعرّضه لحملات واسعة من الشكوك والطعون قديماً وحديثاً، والفرق حالياً فقط في شدتها وتنظيمها، ونحن يمكننا تصنيفها إلى عدة أصناف:
.
- منها: ما يتصل بلغة القرآن كمسألة الإعجاز اللغوي ومخالفة القرآن لقواعد النحو والصرف والإملاء ونحو ذلك.
- ومنها: ما يتصل بطريقة جمعه الواردة في روايات المسلمين فهي بنظر المشككين لا تناسب كونه دستوراً إلهياً مقدّساً كما يعتقد المسلمون.
- ومنها: ما يتصل بمضامين القرآن أي ما يحتويه من مفاهيم لا يراها المشككون منسجمة مع معطيات العلم والجانب الإنساني عموماً، إضافة إلى التناقض الموجود فيما بينها أحياناً على حد زعمهم.
.
سنحاول المرور على المهم منها والإجابة عنه.
.
إشكال 1: إعجاز القرآن أسطوري لا واقع له:
.
يفترض المشككون أنّ إعجاز القرآن لغوي، وتحدي الناس على الإتيان بمثله ما هو إلا أسطورة وخيال لا يمكن تحققه في الواقع مطلقاً، فأيّاً تكن ظروف القابل بالتحدي فإنّ محاولته محكوم عليها بالفشل مسبقاً، فهو إن أتى بما يشبه القرآن قيل له إنك لم تفعل شيئاً غير تقليد القرآن نفسه، وإن ابتعد عنه في أسلوبه ونظمه قيل له إنك ما شابهت القرآن في شيء ولم تستطع الإتيان بمثله، هذا فضلاً عن مدى إمكانية توفر الجهة المحايدة التي تصلح أن تكون حكماً بين النظمين.
إضافة - والإضافة منهم - إلى أنّ بعض آيات التحدي اكتفت بالتحدي بآية، ومعلوم أنّ بعض أوائل السور هي حروف مقطعة لا غير مثل "ألم" فما الصعوبة التي يجدها القابل بالتحدي إن قام بإبدالها بثلاثة أحرف أخرى، خصوصاً وأنّ المسلمين لم تتفق لهم كلمة في بيان معاني الحروف المقطعة إلى يوم الناس هذا.
.
وبالنتيجة فهم اليوم - في إشكالهم هذا - يكرّرون مقولة الفيلسوف ابن زكريا الرازي (ت: 311 هـ - 923 م) في القرآن، يقول: "إنكم تدعون أنّ المعجزة قائمة موجودة - وهي القرآن- وتقولون: من أنكر ذلك فليأت بمثله". ثم قال: "إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلَق منه ألفاظاً وأشد اختصاراً في المعاني، وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعاً؛ فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به".
.
الجواب:
واضح أنّ الاشكال قائم على أساس فكرة أنّ إعجاز القرآن لغوي وبه حصل التحدّي، وبالتالي فانهيار أساسه كافٍ لانهيار الإشكال نفسه، بمعنى أننا لسنا مطالبين بأكثر من إبطال فكرة الإعجاز اللغوي والتحدي به، وهو ما تتكفله النقاط الخمس الآتية، وأعتذر مقدماً عن الاطالة فيها؛ لأنها لا تجيب هذا الإشكال فحسب ولكنها تسهم بالإجابة على إشكالات أخرى أيضاً.
.
1- ...............
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(6)
.
1- ابتداءً، ينبغي لنا معرفة أنّ إصرار علماء المسلمين - بشتى طوائفهم - على فهم إعجاز القرآن من زاوية لغوية، ساهم إلى حد كبير في نشوء الطعن المذكور، فهم لما اتفقت كلمة الغالبية العظمى منهم على بيان أنّ وجه الإعجاز الذي تحدى به القرآن الآخرين هو لغوي صرف، اعتبره المشكّكون أصلاً مسلّماً حاكموا القرآن على ضوئه.
.
وللتوضيح أكثر، أقول: من يراجع كلمات علماء المسلمين في المسألة يجد أنّ "الإعجاز اللغوي" كان له النصيب الأوفر منها، وهذا فهرس مختصر بأهم آرائهم:
.
- إعجاز القرآن في اختصاصه بالفصاحة المفرطة والنظم معاً. اختار هذا الوجه الشيخ الطوسي في الاقتصاد: 173؛ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: 5/250؛ المجلسي في البحار: 9/104.
- إعجازه في بلاغته أو فصاحته فقط. اختاره الإيجي في المواقف: 3/381؛ الرازي في تفسيره: 17/203.
- إعجازه في "حسن نظمه + الإخبار عن المغيبات". اختاره مجموعة من المفسرين كالواحدي والسمعاني والنسفي والأندلسي.
- إعجازه في المجموع من "حسن نظمه وبلاغته + إخباره عن الغيب + سرد قصص الأولين". اختاره القاضي الباقلاني في إعجاز القرآن: 33 فما بعد.
- إعجازه في سبعة وجوه منفردة هي: "البلاغة والأسلوب، المعارف، النظام والتشريع، استقامة البيان، اتقان المعاني، الاخبار بالغيب، أسرار الخليقة". اختاره السيد الخوئي في البيان: 45 فما بعد.
- إعجازه في سبعة وجوه بنحو آخر عند الراوندي (الخرائج والجرائح: 3/981)، أو عشرة وجوه عند القرطبي (تفسير القرطبي: 1/72)، بل أوصلها الزركشي إلى ستة عشر وجهاً (البرهان: 2/94)، بل على حد قول بعضهم إنّ وجوه الإعجاز هي كل ما يمكن من أوجه التفاضل (تفسير الميزان: 1/59). طبعاً، كان الإعجاز اللغوي على رأس القائمة في جميع الآراء.
.
وهنا أسجل ملاحظتين:
.
الأولى: بالرغم من اختلاف أقوالهم في بيان وجه الإعجاز لكنها لم تلتقِ في شيء أوضح من التقائها في بيان الإعجاز اللغوي للقرآن.
.
الثانية: لا يجد الباحث دليلاً قطعياً محكماً سواء كان قرآنياً أو روائياً - ولا حتى دليل عقلي قطعي - في كلام العلماء وتحديد ما اختاروه من وجوه.
.
اللهم، إلا ما يتعلق بفهمهم الظني لآيات التحدي (المتشابهة عندهم)، ولذلك اختلفت آراؤهم في تحديد القدر المعجز من القرآن أيضاً اختلافاً كبيراً، وهذه جملة منها:
.
- أقل ما يقع بها الإعجاز ثلاث آيات.
- المعجز هو كل سورة برأسها.
- المعجز هو السورة طويلة كانت أم قصيرة، وكذلك الآيات التي لها قدر السورة القصيرة.
- المعجز هو السورة أو قدرها من الكلام الذي يتبيّن فيه تفاضل قوى البلاغة ورتبها، وليس مطلق الكلام.
- المعجز مطلق القرآن قليله وكثيره، سوره وآياته.
- بعض الآية ليس بمعجز، في قبال من يرى أنّ في بعض الآية إعجاز.
- المعجز هو السور الطوال والقصار إذا اشتملت على الحكم الظاهرة.
.
يمكنك مراجعة هذه الآراء وغيرها في كتبهم، وعلى سبيل المثال: (انظر: الطوسي، المبسوط: 4/274؛ الباقلاني، إعجاز القرآن: 286؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/107؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 2/324؛ البهوتي، كشف القناع: 1/408؛ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء: 3/450).
.
واضح جداً أنّ مسألة إعجاز القرآن وبيان القدر المعجز منه ظنية بالنسبة لهم، ولهذا تعددت الآراء فيها وتنوّعت بشكل كبير.
.
2- ....................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(7)
.
2- الملفت في مسألة إعجاز القرآن أنّ آيات التحدي نفسها لم تصرّح بأنّ التحدي لغوي، ولا أنّ سيرة رسول الإسلام (ص) تشهد بذلك.
.
أما الآيات فهي قوله تعالى:
- "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [يونس: 38].
- "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [هود: 13].
- "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88].
.
ونحن إذا تدبّرنا الآيات نجدها صريحة في أصل التحدي، لكن لن نجد فيها أي إشارة صريحة إلى أنّ التحدي هو تحدٍ بالرد اللغوي ومعارضة القرآن من جهة فصاحته وبلاغته، فلِمَ لا يكون التحدي - مثلاً - بأن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة - أو سور منه - من جهة كونه نوراً وكتاب هداية واستقامة ؟ أو أن يأتوا بمثله من جهة معارفه وحقائقه التي تضمنها، أو من جهة تأثيره في نفوس السامعين له ؟ لِمَ لا يكون التحدي من جهة كون القرآن كتاب موعظة "وإن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره" كما يقول علي (ع)، وغير ذلك من وجوه محتملة.
.
حقيقة، لا أعرف وجهاً علمياً محكماً وصحيحاً (آية صريحة، رواية قطعية، دليل عقلي محكم) حتّم على العلماء اختيار التحدي بالرد اللغوي دون سواه، علماً أنّ من يقول بالإعجاز اللغوي للقرآن يصوّر النبي (وحاشاه) وكأنه يحمل ما معه من القرآن ويبحث في نوادي الأدب والشعر يومذاك في مكة عن أكثر العرب فصاحة ويتحداهم أن يأتوا بمثله، ولأجل ماذا؟ لأجل أن يثبت نبوته؟!!
.
لا شك أنّ مثل هذا الأمر ترفضه سيرة الرسول (ص) عند بدايات دعوته - وحتى لاحقاً - رفضاً تاماً، فالثابت قرآنياً وتاريخياً - كما هو واضح لكل من راجع سيرته - أنّه كان يدعو قومه إلى الله بالحكمة ومكارم الأخلاق، ويستند إلى شهادة ربه "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم" كما يصرّح القرآن بذلك في آيات عديدة، كان يتلو عليهم ما نزل عليه من القرآن، فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر. كذلك: كان يحتج عليهم بالعلم الإلهي الذي زوّده الله به ويجيب أسألتهم، ولم يكن في سيرته شيء يوحي - ولو بإشارة خفيّة - أنه دعا فصحاء العرب في يوم ما إلى معارضة القرآن من جهة الفصاحة والبلاغة اللغوية ليكون عجزهم دليلاً على نبوته كما يعتقد العلماء.
.
نعم، ربما يجد المتتبع لكلام العلماء في هذا الصدد مقولة للوليد بن المغيرة كثيرة التداول بينهم يصف فيه القرآن بقوله: "... ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلا وأنه ليحطم ما تحته"، لكن من يفهم الاعجاز اللغوي من مقولة الوليد فهو مخطئ، لأنه كلام لا يتضمن تصريحاً بأنّ القرآن معجز لفصاحته وإنما كان بصدد نفي الشبه بينه وبين المعهود عند العرب من كلام من شعر ورجز ونثر ونحو ذلك، وهذا صحيح فالقرآن ليس من جنس الشعر أو النثر ولا غير ذلك بل له أسلوبه الخاص به، ثم - وهو المهم - متى كان كلام مثل الوليد حجة يحتج بها في دين الله وفي أمر عقائدي خطير كالذي نحن بصدده؟!
.
والأهم من كل ذلك: بين أيدي الجميع "القرآن نفسه، وما وصلنا من سيرة الرسول محمد (ص)" وبوسع الجميع الرجوع إليهما وقراءتهما، وسوف لن يجدوا لما ظنّه العلماء "التحدي اللغوي" عيناً ولا أثراً.
.
3- .................
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(8)
.
3- الإعجاز اللغوي واللفظي للقرآن من خلال بلاغته وفصاحته (منفرداً أو منظماً لوجوه أخرى) لا يمكن قبوله؛ لأن البلاغة والفصاحة مسألة نسبية وذوقية باعتراف علماء اللغة أنفسهم "البلاغيون منهم بالخصوص"، ولم يتم تحديد ضابط ومعيار علمي موضوعي دقيق لتمييز (الكلمة أو الكلام) الفصيح عن غيره ولا لتمييز الفصيح عن الأكثر فصاحة؛ فضلاً عن تمييز المعجز في فصاحته عمّا سواه.
.
فمثلاً: هم اشترطوا لفصاحة الكلام أربعة شروط:
- السلامة من تنافر الكلمات، أي: لا يوجب اجتماعها ثقل اللسان.
- السلامة من ضعف التأليف، أي: الجريان وفق المشهور من قواعد النحو.
- السلامة من التعقيد، أي ضعف المعنى.
- فصاحة كل كلمة فيه.
.
لكنهم سرعان ما يتنازلون عن شروطهم إذا ما وجدوا أنّ أول من خالفها هو القرآن نفسه، فمثلاً: اجتماع حرفي "الحاء والهاء" أو "العين والهاء" في الكلام يوجب الثقل كما هو المقرر لديهم، مثل: "سبحه، أعهد"، والمفروض أنّ ورودها في كلام يوجب عدم فصاحته لمنافاته أحد شروط الفصاحة عندهم، لكن لأن مثل ذلك ورد في القرآن فيبقى الكلام على فصاحته بالرغم من مخالفة الشرط!
.
كذلك الحال بالنسبة إلى الشرط الثاني، فالقرآن لم يعر للكثير من مشهور قواعد النحو اهتماماً يذكر في آيات كثيرة كما سيأتي توضيحه لاحقاً، وبالرغم من ذلك لم يؤثر ذلك على فصاحته عندهم.
.
أيضاً: بناء على الشرط الثالث يفترض أن لا يكون الكلام المعقد فصيحاً، لكنهم في نفس الوقت انبهروا بأبيات شعر للمتنبي وغيره وأضفوا عليها سمة الفصاحة البالغة مع اعترافهم بتعقيدها المفرط ! انظر: الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه: 98.
.
حال الشرط الرابع لا يختلف عن سابقاته، فالغموض الذي اشترطوا خلوّ الكلام منه ليكون فصيحاً، ورد في القرآن في أكثر من موضع، لذا اضطر "المغربي" إلى تقسيم الغريب إلى "مستكره ومستحسن"، ثم قال: (فغرابة المستحسنة إخلالها بالفصاحة نسبي يكون باعتبار قوم وهم المولدون دون قوم وهم الخلّص) مواهب الفتاح: 1/113.
وهذا يعني - بحسبه طبعاً - أنّ فصاحة القرآن إنما هي باعتبار الخلّص من العرب الذين يفترض أنهم يعرفون كل دلالات ومعاني ألفاظ القرآن، لكن واقع حال الكثير من المسلمين العرب كأبي بكر وعمر وابن عباس وغيرهم يشهد بخلاف ذلك، وبالتالي يفترض أن لا يكون القرآن فصيحاً بالنسبة لهم بناء على شروط البلاغيين، لأنهم - بحسب ما ورد من أثر - لا يدرون معنى: "وأبّاً"، "فاطر"، "غسلين" في الآيات، اللهم إلا إذا كان البلاغيون لا يرون أنهم وأمثالهم عرب خلّص وأنّ القرآن مقتصر على أمثال امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وأضرابهم، ولا أدري إن كان هؤلاء يعرفون معاني كل مفردات القرآن ودلالاته فعلاً، وهو فرض بعيد جداً بطبيعة الحال.
.
ما يهمني فعلاً هو أن نعرف أنّ شروط الفصاحة - للكلمة او الكلام - لم تثبت عندهم بدليل قطعي، ولم تخضع في شروط تحققها لضوابط علمية وموضوعية دقيقة تجري في جميع الموارد والحالات، وإنما هي مجرد شروط ناتجة عن الاجتهادات الظنية والأذواق المتباينة وتختلف بين شخص وآخر، ولهذا خالف القرآن - والشعر الفصيح أيضاً - مجمل شروطها، وبالتالي فهي - أي الفصاحة - ليست بأكثر من كونها أمراً نسبياً خاضعاً لظروف المستمعين وبيئاتهم المختلفة التي ينشؤون فيها.
.
قال ابن أبي الحديد: (اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة عليه) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 2/478.
.
قال الخطابي: (ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/101.
.
وأيضاً: نحن - في مسألة إعجاز القرآن اللفظي - لا نتحدث عن مطلق "الفصاحة" ليقال إنّ العلماء وضعوا ضوابط لتحديد وتمييز الكلام الفصيح عن غير الفصيح، وإنما نتحدث - تحديداً - عن "الفصاحة المعجزة" كما هم قرّروها وجهاً للإعجاز، وبالتالي فهم ليسوا مضطرين إلى تقديم ضابطة للتمييز بين الكلام الفصيح والأكثر فصاحة فحسب، ولكنهم أيضاً مجبرين على تقديم ضابطة توضح عبور الكلام مرحلة "الأكثر فصاحة" وبلوغه مرحلة "الإعجاز الفصاحتي"، فمراتب الكلام - من هذه الجهة - ستكون أربعة:
1. كلام غير فصيح.
2. كلام فصيح.
3. كلام أكثر فصاحة.
4. كلام معجز من حيث الفصاحة.
.
وإذا كانت شروط الفصاحة عند العلماء (كما تقدم) لم تمنحنا ضابطة علمية دقيقة لتمييز الفصاحة في المرتبة الثانية فضلاً عن الثالثة (التي تحوي دون شك مراتب عديدة؛ لأنّ الأكثر فصاحة ليس كله بمستوى واحد)، وأنّ الأمر في تمييز ذلك نسبي ويرجع إلى الذوق في كلا المرتبتين كما عرفنا، فما بالك بمعرفة "الفصاحة المعجزة" ضمن مستوى المرتبة الرابعة، وما هي الضابطة العلمية التي وضعها العلماء لمعرفة "الفصاحة المعجزة" وتحديدها وتمييزها عن الكلام "الأكثر فصاحة"؟!
.
حقيقة، إنّ من يراجع كلام العلماء في هذا الباب لا يجد شيئاً يمكن التعويل عليه والركون إليه، اللهم إلا أن يقال: إنّ سبب وقوع الأول "الفصيح المعجز" ضمن خانة الإعجاز اللفظي دون الثاني "الأكثر فصاحة" هو كون الأول قرآناً، وهو المصادرة بعينها - الإتيان بمحل النقاش وجعله دليلاً - كما لا يخفى وليس بياناً لضابطة علمية يعوّل عليها في مسألة عقائدية حسّاسة كالتي نحن بصددها.
.
4- ........................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(9) | ق1
.
4- لا يمكن بحال قبول مقولة الإعجاز اللغوي للقرآن؛ ليس لما تقدم فحسب ولكن لأن القرآن الكريم كتاب إلهي مُنزل ومُوحى من عوالم علوية، والوحي لا علاقة له باللغة الأرضية إطلاقاً، كما أنّ العوالم العلوية الموحى منها ليست فيها أي لغة من اللغات الأرضية أصلاً؛ لأنها عوالم أرقى وأكمل وبالتالي فوسائل التعليم والتواصل فيها تناسب رقيها حتماً، وأما اللغة فهي من لوازم عالمنا الجسماني فقط وهي وسيلة للتعليم والتواصل بين الناس فيه وليس دائماً أيضاً.
.
ما يهم الآن أن نعرف أنّ اللغة نتاج تطوري أرضي سواء على مستوى توفر القالب اللغوي البيولوجي في وجود الإنسان أو على مستوى المفردات، فكلا الأمرين يسيران مع الإنسان من البساطة إلى التعقيد كحال لغة الطفل تماماً في بداية نشوئها وتطورها، ومسألة تطور اللغة واستكمالها التدريجي أمر تجمع عليه بحوث ودراسات علم اللغة الحديث وتقرّه بعض البحوث القديمة أيضاً.
.
وكون اللغة نتاجاً تطورياً كافٍ لدحض فكرة أنّ لغة ما (عربية كانت أو غيرها) تحوي إعجازاً لغوياً (في ألفاظها) بنحو لا تمتلكه أي لغة أخرى، فمثل هذا القول لا معنى له أصلاً؛ لأن القالب والنظام الذي زوّد به الإنسان واحد لدى البشر كلهم، أما تعبئته بالمفردات وتشغيله بها فهذا أمر عائد للإنسان نفسه بحسب بيئته ومحيطه وظروفه التي يحيا فيها، علماً أنّ الغرض من توفر (القالب واللغة بتبعه) يتحقق بأي لغة كانت، فالتفاهم والتواصل وإنجاز الأغراض المتوقفة عليهما يحصل بجميع اللغات كما هو واضح.
.
نعم، يمكن أن يحصل تفاوت "عرضي" بين اللغات، لكن لا من جهة القالب والنظام، ولا من جهة نفس الألفاظ التي تحتويها اللغات، وإنما لأمر طارئ خارج عنهما، فما حصل مع اللغة العربية - مثلاً - سابقاً من اهتمام يحصل مثله اليوم مع اللغة الإنجليزية تماماً، فلما ظهر بين العرب آنذاك علماء كتبوا في جوانب علمية ومعرفية مهمة وجدت الشعوب (التي تتحدث بلغات أخرى) نفسها مضطرة للاهتمام بالعربية وترجمة تلك الكتب لأجل الاطلاع والمعرفة، وهو ما يحصل مع لغة العلم العالمية في أيامنا هذه، أعني الإنجليزية.
.
وعموماً، يمكن لأي متتبع لبحوث علم اللغة أن يتوصل إلى النتائج التالية:
.
- إنّ اللغة ظاهرة اجتماعية، الغرض منها التفاهم والتواصل بين الناس.
.
- لا دليل علمي صحيح يؤكد توقيفية اللغة (الأصل السماوي لها) وأنها منحة إلهية وُهبت للإنسان دفعة واحدة بوحي أو الهام، كذلك لا دليل علمي على أنها حصلت بالموافقة والتواضع؛ خصوصاً بعد مشاهدة حصولها من جميع الناس بيسر وسهولة وتلقائية، وهي بذلك خلوٌ من سائر التعقيدات التي يفترضها "التواضع والاصطلاح".
.
- الرأي العلمي السائد الآن في المجامع العلمية أنّ اللغة غريزة وفطرة، وهذا ما يفسّر سهولة تحصيل الإنسان لها، وإن كان منقسماً - من حيث ظهورها كنظام وقالب في وجود الإنسان - بين توجهين يقودهما كل من عالم اللغة الشهير البرفيسور نعوم تشومسكي الذي يرى ظهروه فجأة، في قبال د. ستيفن بنكر الذي يعتقد بخضوعه لمبدأ الانتخاب الطبيعي، لكن الطرفين يتفقان على أنّ اللغة نفسها كمفردات خاضعة للتطور حتماً.
.
- بحسب علم اللغة الحديث أيضاً، فإنّ التركيب والقالب الذي يستمد منه الإنسان (الطفل) مهارته في اكتساب اللغة لا ينتمي في حقيقته إلى لغة معينة، وعليه فلغته "الأم" يمكن أن تكون أي لغة كانت، وهذا الأمر يمكننا أن نتحقق منه ببساطة، فالطفل البريطاني سيتكلم العربية بيسر وسهولة إن عاش بين عائلة عربية، والعكس صحيح أيضاً.
.
- إنّ اللغة - أي لغة كانت - تحوي نظاماً وقالباً معقداً (يشترك فيه كل البشر) تؤدي معه اللغة غرضها المنشود منها بعد تعبئته بالمفردات، سواء كانت عربية أو فارسية أو عبرية أو إنجليزية أو ألمانية أو إسبانية أو صينية أو غيرها من سائر اللغات الموجودة في عالمنا اليوم أو التي تستحدث مستقبلاً، ولا ميزة للغة على أخرى من هذه الناحية وبالتالي لا معنى للتفاضل بين اللغات، تماماً كحال جهاز حاسوب متوفر على نظام تشغيل متطور ويمكنك تشغيله بأي لغة شئت.
.
- جميع اللغات الحيّة تخضع لحتمية التطور والتغير بمرور الزمن وهو أمر محسوس ومشاهد من قبل الجميع، ولا يشذ عن هذه الحتمية أي لغة من اللغات، يكفي أن نعرف أنّ قواميس لغات العالم اليوم تضيف كلمات جديدة إلى مفرداتها باستمرار. فمثلاً: ظهرت كلمة "سيلفي" لأول مرة عام 2002 م على يد شاب أسترالي في أحد مواقع التواصل، وكتب معلّقاً على صورته التي لم يبدو فيها جميلاً بما يكفي: "it was a selfie"، ثم انتشرت بقوة، فأضافها قاموس "أكسفورد" - أهم قاموس لغوي إنجليزي على مستوى العالم - إلى مصطلحاته، وعرّفها بأنها: "صورة يلتقطها الشخص لنفسه بنفسه".
.
....... (يتبع)
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(9) | ق2
.
وبخصوص اللغة العربية، فما يُدّعى في تفضيلها على سائر اللغات وبالتالي قدرتها على حمل الإعجاز اللفظي للقرآن دون سواها، كلام غير علمي تماماً، وإلا فما هو المعيار الحقيقي للتفاضل بين اللغات، وهل حسمت علوم اللغة القديمة أو الحديثة هذا الأمر؟ هل حدّدت مراكز البحث في جامعات العالم العريقة في بحوثها ودراستها الرصينة والمعتمدة ميزان التفاضل بين اللغات؟!
.
في الحقيقة، لم يحصل شيء من هذا القبيل، وكل ما هو موجود ظنون واستحسانات نسبية في أحسن حالاتها، فالعربي - على سبيل المثال - الذي يعتبر كثرة الجذور والمرادفات ووجوه الاستعارة في لغته - قياساً بباقي اللغات - ميزة يعتبرها غيره إسرافاً لا طائل من ورائه، ولا أقل فهي قضايا غير محسوم التفضيل على أساسها بنحو ثابت وقطعي، بل الثابت علمياً - وفق بحوث ودراسات علم اللغة الحديث كما أشرنا - أن لا مبرر ولا غرض علمي حقيقي يدعو للتفاضل بين اللغات مطلقاً؛ لأن اللغة - أي لغة كانت - ما هي إلا ظاهرة إنسانية واجتماعية الغرض منها التفاهم والتواصل بين المجتمع اللغوي الإنساني وهو أمر حاصل ويحصل بجميع اللغات كما هو ملاحظ.
.
وأكثر من هذا، فمسألة "التفاضل بين اللغات" أمر لا تنفيه بحوث ودراسات علم اللغة الحديث فحسب، ولكن تنفيه الدراسات اللغوية القديمة أيضاً، وعلى سبيل المثال يقول ابن حزم: (وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" وقال تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون". فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لان سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع. قال علي: وهذا جهل شديد لان كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق. وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى. قال علي: وهذا لا معنى له، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه. وقال تعالى: "إني إذا لفي ضلال مبين" وقال تعالى: "وإنه لفي زبر الأولين" فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه. وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام: 1/32.
.
أما الآيات القرآنية التي ذكرت أنّ القرآن بـ "لسان عربي"، فهي ليست بصدد تفضيل اللغة العربية - في حد نفسها كلغة - على غيرها بقدر ما كانت لبيان أنّ القرآن نزل بلغة العرب (المواجهين الأوائل له) رجاء أن يعقلونه، مع اعترافنا في ذات الوقت برقي لغة القرآن الكريم، لكن اعترافنا برقي وعظمة لغته شيء والقول بأنّ إعجازه لغوي شيء آخر تماماً.
.
وأيضاً: ينبغي أن نعرف جيداً أنّ اللغة العربية لم تكن بصورة واحدة منذ نشأتها والتحدث بها، وإنما خضعت للتطور والتغير بمرور الزمن حتى بلغت مرحلة الانفصال بينها وبين العربية الجنوبية وتميزها عنها، وهي في ذلك كسائر اللغات الأخرى فيما طرأ ويطرأ عليها من تطور وتبدل، وأكيد أنّ الحال نفسه نراه لو عملنا مقارنة بين اللغة العربية في زمن قريش والعربية في أزمنتنا هذه، يكفي أن نعرف أننا لا نعود إلى الفصحى الآن إلا حين كتابة مقال علمي أو كتاب وما شابه، فهي تكاد تكون لغة علمية فقط، أما فيما عدا ذلك فإننا نتكلم عربيتنا ولهجتنا التي اعتدنا عليها، والتي لا يجمعها مع العربية الأم في كثير من الأحيان سوى الاسم فقط، وأعتقد أنّ رفض ذلك مجرد مكابرة وعناد لا أكثر، بل إنّ العربية الفصحى في زمننا تختلف (صياغة وأسلوباً ومرونة ومفردات) عن العربية الفصحى في زمن النص بل وما بعده، وعلى سبيل المثال: يمكنك أن تمسك كتاباً ألّف قبل عدة قرون وكتاباً مؤلف في عصرنا الحالي وتلاحظ الفرق الكبير بينهما بنفسك.
.
بالتالي، فميزان التفاضل بين اللغات لو تنزلنا لإجرائه - وهو غير صحيح طبعاً؛ لأنه أساساً غير متوفر بنحو علمي صحيح، كما أنه مرفوض من قبل علم اللغة الحديث والقديم كما عرفنا - فلا يكون إلا أمر نسبي في أحسن حالاته بعد عدم ثبات اللغة على خط بياني واحد، والنتيجة التي ننتهي لها: لا معنى لما يقال بأنّ إعجاز القرآن لغوي لقدرة اللغة العربية - دون غيرها - على حمله.
.
أعتقد هذا كافٍ بقدر تعلّق الأمر بموضوعنا، ومزيد من التحقيق في قضية التفاضل بين اللغات يأتي في دراسات مستقلة إن شاء الله.
.
5- .......................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(10)
.
5- وأيضاً: لا يمكن قبول مقولة الإعجاز اللغوي للقرآن؛ لأنها تعني أنّ غير العرب وهم الغالبية الساحقة من البشر غير مشمولين بالتحدي ولا مخاطبين بالقرآن أصلاً، ولازم ذلك - بناء على تأسيس علماء المسلمين - أن يكون الإسلام ديناً للعرب فقط؛ باعتبار أنهم - أي العلماء - يفترضون أنّ العجز عن الإتيان بمثل القرآن هو الدليل الأساس على إثبات صدق دعوة رسول الله محمد (ص)، وهو لازم باطل بكل تأكيد، بل تبطله آيات التحدي نفسها: " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا".
.
إضافة إلى اللوازم الباطلة الأخرى كالطعن بعدالة الله سبحانه وحكمته ورحمته، فهو سبحانه أعدل وأحكم وأرحم من أن يجعل وجه الاعجاز في كتابه أمراً يدركه العرب - بل الخلّص منهم فقط، بل الفصحاء منهم بالخصوص - دون غيرهم من سائر الناس، مع أنّ الجميع معنيون بأمره ومخاطبون به في دنيا الامتحان.
.
أعتقد أنّ ما تم ذكره في النقاط الخمس المتقدمة كافٍ لرفض فكرة أن يكون إعجاز القرآن لفظياً وأنّ فصاحة ألفاظه هي الجهة المعنية بالتحدي، وإذا بطل هذا الأمر انهار الإشكال الذي بُني عليه من أساسه، فليس إعجاز القرآن وتحديه أسطورة وخيال لا يمكن تحققه كما توهم المشكّكون؛ لأن الاعجاز ليس لفظياً من الأساس، فهم - كما علماء المسلمين - مخطئون في هذا التصوّر.
.
القرآن الكريم تحدّى العرب وغيرهم فعلاً فيما مضى، ولا زال تحدّيه قائماً للعرب وغيرهم أيضاً، وسيبقى كذلك حتى يوم الإنسانية الأخير، وهي حقيقة تفرض علينا - بطيعة الحال - أن نتعرّف على القول الفصل والصحيح في وجه إعجاز القرآن، وبالتأكيد ننتظر منه أن يكون وجهاً يشهد له القرآن نفسه وتشهد له سيرة الرسول (ص) عند انطلاقة دعوته الإلهية، وجه يلتقي بوضوح مع عدالة الله وحكمته ورحمته بعباده جميعاً؛ دون تمييز بين عربيّهم وغير عربيّهم.
.
وهو ما تم بيانه وتفصيل القول فيه في كتاب "إعجاز القرآن"، الذي يتضمّن رأي السيد أحمد الحسن في المسألة، وكنت قد أنهيت كتابته قبل أكثر من عام من الآن، لكن لم يأذن حينها بنشره، أما وقد أذن الآن بنشره بسبب الحاجة الملحة لمعرفة الحقيقة، سأقوم بإعداد الكتاب وتهيئته للنشر قريباً إن شاء الله.
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(11)
.
إشكال 2: مخالفة القرآن لقواعد النحو.
.
أيُّ قارئ للقرآن الكريم يجد أنّ الكثير من آياته لم تعبأ بالمشهور من قواعد النحو بشكل واضح، الأمر الذي اعتبره المشكّكون طعناً على القرآن وتشكيكاً في سماويّته، فبحسبهم: كيف يمكن لكتاب إلهي أن يتضمّن أخطاء ومخالفات لقواعد نحوية واضحة!
.
وهذا مثال منها:
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" البقرة: 62.
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" الحج: 17.
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" المائدة: 69.
.
موضع الإشكال هو كلمة "الصابئون" في سورة المائدة؛ لأن القاعدة النحوية تفترض أنّ اسم "إنّ" منصوب، وكذلك ما يُعطف عليه، واسم "إنّ" في الآية هو "الذين" ومحله النصب كما هو واضح، فينبغي - وفق القاعدة النحوية - أن تكون "الصابئون" في سورة المائدة منصوبة أيضاً؛ لأنها معطوفة على اسم "إنّ"، وبالتالي يكون حالها في المائدة كحالها في سورة البقرة والحج.
.
الجواب:
إنّ الإشكال المطروح إنما يكون له وجه فيما لو كانت قواعد النحو العربية تصلح أن تكون معياراً لمحاكمة القرآن فعلاً، أما إذا لم تكن كذلك فلا يكون للتشكيك المذكور معنى من الأساس.
.
وهذه النتيجة يمكننا التوصل لها بعد ملاحظة ما يلي:
.
1- أجهد الكثير من علماء المسلمين - لغويون ومفسرون وغيرهم - أنفسهم في إيجاد الحلول والتبريرات لمخالفة آيات القرآن لقواعد النحو المقررة لديهم، حتى يبدو للمطلع على كلامهم أنّ القرآن ارتكب جريمة كبرى وأحدث في ثوبه لوثة تنافي قدسيته وينبغي أن تدفع عنه وإن كانت بتمحّل وتكلّف الحلول والتبريرات.
.
فمثلاً: في المثال أعلاه، ذكر بعضهم في تبرير مجيء كلمة "الصابئون" مرفوعة في سورة المائدة وجوهاً كثيرة، منها:
- إنّ الآية فيها تقديم وتأخير، فيكون معناها هكذا: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله... فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون، والصابئون كذلك"، وحينئذٍ تعرب مبتدأً مرفوعاً.
- إنّ "الصابئون" وما بعدها جملة استئنافية، فتكون مبتدأ، و"النصارى" معطوف عليه، وجملة "من آمن بالله..." خبر "الصابئون"، وأما خبر "إن" فهو محذوف دل عليه خبر المبتدأ "الصابئون".
- إنّ "الصابئون" معطوفة على محل اسم "إنّ"، ومحله مرفوع قبل دخول "إنّ" عليه لأنه مبتدأ، ولهذا رفعت "الصابئون".
.
والغريب أنّ جميع ما ذكر من وجوه تم نقده ومناقشته من قبل علماء اللغة أنفسهم، فكلما طرح أحدهم وجهاً نقضه آخر، ولا يكاد يسلم وجه منها من النقاش عندهم، فمثلاً: الوجه الثالث الذي يتساوى فيه دخول "إنّ" في الكلام مع عدم دخولها رفضه الجرجاني في دلائل الإعجاز: 1/315. وللمزيد: انظر بحث "إثبات مخالفة القرآن لقواعد النحو" للدكتور بشار باقر.
.
ملاحظتان:
الأولى: التبريرات المقترحة - كما رأينا - انصبّت على كلمة "الصابئون" في آية المائدة، لكنها لم تشر لماذا جاءت نفس الكلمة منصوبة في آيتي سورة البقرة والحج مع أنّ سياق الآيات واحد، خصوصاً آيتا سورة البقرة والمائدة فإنهما بنفس التركيب تقريباً. وإذا كان إهمال البحث في حالة النصب سببه مطابقة الآيتين للقاعدة النحوية المشهورة عندهم، فالسؤال: لماذا لم تكن آية سورة المائدة كذلك، أي مطابقة للقاعدة المشهورة أيضاً؟
.
الثانية: إنّ الكثير منهم - ولأجل إيجاد مخرج لمخالفة القرآن لقواعد النحو - استعمل بعض القواعد الشاذة لتبرير ذلك، وهذا واضح جداً لمن راجع كلامهم، مع أنهم في ذات الوقت اعتبروا أنّ مخالفة المشهور من قواعد النحو يسلب الكلام فصاحته كما لاحظناه في النقطة الثالثة من جواب الإشكال الأول، وحقيقة لا أعرف وجهاً أجمع به بين قولهم بالإعجاز اللغوي للقرآن من جهة الفصاحة وبين استعمال القواعد الشاذة - التي يفترض أنها تسلب الفصاحة بحسبهم - لتبرير مخالفة القرآن للنحو!
.
أعتقد أنّ صاحب هكذا توجّه في التعامل مع القواعد النحوية أخطأ مرّتين: مرة بتصويره قواعد النحو وكأنها قانون سماوي مقدس لا يحق لأحد مخالفته، أو نظرية علمية مبرهنة بدليل قطعي لا يمكن معه الخروج عن مؤداها. وأخطأ مرة ثانية بعملية تبرير وترقيع مواضع عدم الالتزام بتلك القواعد في النص القرآني بشكل أسهم بترسيخ فكرة محاكمة القرآن بالقواعد النحوية والإشكال عليه من هذه الجهة، مع أنّ الصحيح لا هذا ولا ذاك كما سيتضح.
.
2- ................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(12) - ق1
.
2- حتى تصح محاكمة شيء ما ووصفه بالصحة أو الخطأ لابد من وجود معيار واضح تتم المحاكمة على ضوئه، فمثلاً: أنت لا تستطيع أن تحكم على فعل يصدر من سائق سيارة بالمخالفة أو عدمها إلا بعد وجود معيار وقانون مروري يقاس به فعل السائق، من ثمَّ تحكم عليه بالصحة إن طابقه أو عدمها إن خالفه. كذا في الأمور العقلية فأنت تصف عملية الجمع الرياضية "1+1=3" بالخطأ لوجود قانون بديهي رياضي لديك يقول: "1+1=2".
.
وفي مسألتنا: هل القواعد النحوية فعلاً تصلح أن تكون قانوناً ومعياراً يوزن به الكلام العربي عموماً بحيث يوصف غير الملتزم به مخالفاً ومرتكباً لخطأ تُنفى معه أحقيّته وكل خير ورد فيه لمجرد المخالفة!
.
الحقيقة، إنّ هذا غير صحيح إطلاقاً؛ لأسباب كثيرة:
.
أولاً: تقدّم في إجابة الإشكال السابق بيان أنّ اللغة ما هي إلا نتاج أرضي خاضع للتطور والتبدل بمرور الزمن، ومن كان هذا حاله "أي: لا ثبات فيه" لا يصح بحال اعتباره ميزاناً لإثبات صحة أو أحقيّة شيء ما ولا إثبات خطئه وبطلانه.
.
ثانياً: بخصوص اللغة العربية، فإنّ قواعد النحو فيها وضعت في زمن متأخر بعقود عديدة عن زمن نزول القرآن، فضلاً عن زمن نشوئها والمراحل التي طوتها أثناء تطورها التدريجي واستعمالها كلغة للتفاهم والتواصل بين مجموعة من البشر "العرب" في حقب زمنية متعاقبة، وبالطبع كان العرب في جميع العصور يتكلّمون عربيّتهم وفق سليقتهم وأسلوبهم في التواصل والتفاهم فيما بينهم من دون أن يكون هناك شيء اسمه "قواعد النحو"، والواضح أنهم لم يكونوا خاضعين لطريقة واحدة في التعامل مع المفردات من ناحية نحوية أو صرفية، ولهذا أنشأ النحاة مصطلح "اللغات الشاذة".
.
بالتالي، فإنّ عدم التزام كلام عربي متقدّم - كالقرآن الكريم - بقواعد نحوية موضوعة في زمن متأخر لا يعتبر بحال نقضاً وطعناً عليه بقدر ما هو طعن على القاعدة النحوية أو الصرفية نفسها؛ لأنه ببساطة يكشف عن خطئها وعدم استيعاب واضعيها لما هو معروف ومستعمل من كلام العرب.
.
يقول السيد الخوئي: (إنّ القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين ولا أثر، وإنما أخذت هذه القواعد - بعد ذلك - من استقراء كلمات العرب البلغاء، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحياً إلهياً - كما يزعم الخصم - فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية، ولا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الآخرين المعاصرين لنبي الإسلام. ومعنى هذا: أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضاً على تلك القاعدة، لا نقداً على ما استعمله القرآن) البيان: 82.
.
ويقول السيد محمد الصدر: (أن قواعد النحو لم تكن موجودة على الإطلاق في زمن نزول القرآن الكريم، فضلا عن أن يشعر الناس بأهميتها واحترامها، كما أصبحت عليه الأجيال المتأخرة، جرّاء التركيز الشديد على القواعد العربية. وإنما كان العرب إلى ذلك الحين يتكلمون على السجية، بما ورد على لسانهم من حديث. ومن هنا تشعبت اللغات. ورويت هناك كثيرا من مخالفة القواعد النحوية على ألسنتهم، حاول النحاة بعد ذلك توجيهها مهما أمكن أو جعلها استثناء من القاعدة، وزعموا أن النص العربي لا يخطئ) ما وراء الفقه: 1/296.
.
فبالرغم من الاختلاف في اسم الواضع الأول لقواعد النحو، لكن ليس هناك اختلاف بين المؤرخين والنحويين في أنّ المدرسة البصرية كانت هي السبّاقة في وضعه ثم لحقت بها باقي مدارس النحو الأخرى مثل الكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية، ومن روّاد المدرسة البصرية: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت: 117 ه) وأبو عمرو بن العلاء (ت: 154 ه) والخليل بن أحمد (ت: 170 ه) وسيبويه (ت: 180 ه) والأخفش (ت: 177 ه) والمبرد (ت: 285 ه)، ويعد مثل الكسائي (ت: 189 ه) والفراء (ت: 207 ه) من رواد المدرسة الكوفية، في حين يعتبر مثل الزجاجي (ت: 340 ه) وأبي علي الفارسي (ت: 377 ه) وابن جني (ت: 392 ه) من رواد المدرسة البغدادية، وباقي المدراس النحوية لها روّاد بارزون أيضاً.
.
بحسب الرأي السائد بين النحاة، فإنّ الحضرمي وآخرين معه "من البصريين" هم أول من بدأ عملية تأسيس القواعد والتأصيل لها بحدود ما، ثم أكمل الفراهيدي وسيبويه وآخرون مشوار تشييد القواعد النحوية، وجميعهم - كما لاحظنا - تفصلهم عن تاريخ نزول القرآن ما يزيد على قرن من الزمن، فسيبويه - مثلاً - تفصله مدة تزيد عن 150 عاماً. (انظر: مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 63 الصفحة 127، د. محمد الطيب البشير، د. سليمان إبراهيم عبد الله، جامعة الخرطوم).
.
ثالثاً: .................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(12) - ق2
.
ثالثاً: إنّ واضعي قواعد النحو اعتمدوا في الوضع مراجع وأصول أساسية ثلاثة يستشهدون بها على قواعدهم بمعنى أنها المادة التي كانوا يعتمدون عليها أثناء التقعيد، كان القرآن الكريم أحدها، إضافة إلى مرجعين آخرين، أحدهما: الشعر الفصيح سواء كان صاحبه جاهلي مثل أمرئ القيس، أو مخضرم شهد الجاهلية والإسلام كحسان بن ثابت، أو متقدم في صدر الإسلام كالفرزدق وجرير، ومن النحويين من يستشهد بغيرهم من المحدثين "المولّدين" أيضاً، وثانيهما: كلام بعض القبائل كقيس وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. (أنظر: د. قطب مصطفى سانو، القواعد النحوية في ميزان الشرع والعقل - الفصل الخامس).
.
استبعد كبار نحاة "البصريين" الحديث النبوي عن أن يكون أصلاً ومرجعاً في الاستشهاد بحجة أنه يُروى أحياناً بالمعنى، ومثلها المدرسة الكوفية، وأيد د. قطب الثورة التجديدية التي قادتها المدرستان الأندلسية والمصرية على النهج المتشدد للمدرستين البصرية والكوفية. (أنظر: المصدر السابق - الفصل السادس والسابع).
.
لم يكن تتبع كلام العرب عند عملية وضع القواعد النحوية تاماً، وهذا يعني أنّ الاستقراء كان ظنياً ناقصاً، وهم - أي النحاة - يعترفون بذلك، ولهذا لما واجه سلف الحضرمي "عيسى بن عمر" واحداً من العرب الاقحاح فسأله عن الذي وضعه من قواعد قائلاً: أخبرني عن هذا الذي وضعت يدخل فيه كلام العرب كله؟ قال عيسى: لا، فقال العربي: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلم به، أتراه مخطئاً؟ قال: لا. فقال العربي: فما ينفع كتابك؟ (أنظر: السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 26).
.
لم يأخذ النحاة اللغة عن حضري قط، ولا عن سكان البراري والأطراف التي كان أهلها يجاورون الأمم الأخرى بحجة الاختلاط والتأثر بهم وبالتالي لم تكن عربيتهم نقية بحسب النحاة، فلم يأخذوا عن قبائل أهل اليمن ولا الطائف ولا اليمامة ولا حواضر الحجاز ولا ثقيف ولا أزد ولا غسان ولا قضاعة ولا القبائل التي كانت تجاور مصر والشام وغيرها، (أنظر: الفارابي، الألفاظ والحروف: 146 - 147)، حتى إنّ ابن جني في كتابه "الخصائص" عقد باباً أسماه "باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَر وجواز الأخذ من أهل الوَبَر " أي جواز الأخذ عن البدو دون الحضر، والسبب بنظره - كما غيره - أنّ الحضر شاب لغتهم فساد وخطل بسبب الاختلاط بغير العرب.
.
مع أنّ الجميع يعرف أنّ قريشاً ومكة عموماً - التي يعتبر النحاة لهجتها أفصح لهجات العرب - مدينة عامرة وأهلها حضر لا بدو، وأيضاً كانت تشتهر بالحركة التجارية والاختلاط بغير العرب حاصل فيها على قدم وساق، وبالتالي فالسبب الذي دعاهم لرفض الأخذ عن أكثر القبائل العربية موجود فيها أيضاً.
.
أيضاً: لا يجوز عند النحاة الاحتجاج بشعر المحدثين "المولّدين" الذين تبتدئ طبقتهم ببشار بن برد (ت: 167 ه)، لكن بعضهم جوّز الاستشهاد بشعره كما فعل سيبويه، وجوّز أبو علي الفارسي الاستشهاد بشعر أبي تمام، بل ذهب بعضهم إلى جواز الاستشهاد بكل من يوثق به من المحدثين، ولم يسمح به نحويون آخرون بحجة وقوع اللحن من المحدثين، فالمسألة - كما نرى - اجتهادية ظنية وخاضعة لاختلاف القناعات عند النحاة.
.
فمما لا شك فيه أنّ عملية ترجيح بعض اللغات "اللهجات" على أخرى أثناء وضع النحاة لقواعدهم لم تخلُ من تدخل الأذواق والآراء الشخصية كشأن أي عملية اجتهادية واستنباطية تحصل في مختلف العلوم، وبحسب د. محمد حسن عبد العزيز لم يكن النحاة منصفين حين حكّموا أهواءهم وأذواقهم في إعظام الكلام العربي القديم ونصرته وفي التهوين من شأن الحديث وإنكاره وكان عليهم أن يضعوا معايير علمية موضوعية يحكمون بها على القديم والحديث على حد سواء. (أنظر: القياس في اللغة العربية: 120).
.
وأيضاً: الاختلاف بين المدراس النحوية عموماً كبير، بل يضرب بأطنابه حتى بين أشهر مدرستين نحويتين "البصرة والكوفة"، ابتداءً بالمادة التي يُستشهد بها في التأسيس للقواعد ويمتد إلى المسائل ذات الصلة بالمنهج وما ينبغي مراعاته في البحث النحوي مروراً بالموقف تجاه القراءات المتعددة للقرآن الكريم والحديث النبوي والشعر وغير ذلك من مسائل وقع الخلاف فيها، وهو خلاف لم تكن السياسة والجغرافيا وحب إثبات الذات بمعزل عنه باعتراف النحاة والكثير من الدراسات التي عقدت بهذا الصدد. (أنظر: عبد النبي محمد مصطفى، اختلاف النحاة ثماره وآثاره في الدرس النحوي، رسالة ماجستير).
.
........... (يتبع)
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(12) - ق3
.
يرى كتّاب آخرون أنّ قهراً مورس تجاه اللغة العربية من قبل النحاة الأوائل بسبب التحديد الزمني الموضوع من قبلهم كزمن تصلح فيه اللغة أن تكون شاهداً على قاعدة نحوية، ما أدى إلى إهمال ثروة لفظية واستعمالات نحوية بحجة أنها لا يحتج بها. (أنظر: حلمي خليل، مقدمة لدراسة علم اللغة: 114).
.
ونحن يمكننا تأكيد مثل هذا القهر والتعصب النحوي حتى في بيان التبريرات التي طرحها النحاة لدفع مخالفة الآيات لقواعدهم، فتراهم مستعدين لفرض أي شيء وإن كان متكلفاً وبعيداً من أجل إثبات سلامة القاعدة النحوية، بل إنّ بعضهم كان يصرّ على قراءة الآية وفق القاعدة النحوية بالرغم من أنّ القراءة المشهورة تخالفها، هذا فضلاً عن وصفهم الكثير من القراءات القرآنية بالغلط والشذوذ. بل وكانوا يريدون فرضها - أعني قواعد النحو - على الشعر الفصيح أيضاً، وفي هذا الصدد كثيراً ما يطرح اعتراض الحضرمي على الفرزدق "الشاعر المعروف" في قوله: "وعضّ زمَان يَا ابْن مَرْوَان لم يدعْ ... من المَال إلاّ مسحتاً أَو مجلّفُ" إذ قال له: بِمَ رفعت أَو مجلف؟ فأجابه الفرزدق: "بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا". (أنظر: البغدادي، خزانة الأدب: 5/145).
.
ومن الطرائف التي شابت عملية جمع مادة القواعد النحوية - بحسب بعض الباحثين - أنّ بعض البدو كان يشترط مبلغاً من المال مقابل أن يتحدث بكلمات معدودة أمام النحاة "جباة القواعد"، بل لم يكن بعضهم أميناً في نقل الكلام لهم.
.
جدير بالذكر، إنّ بعض كبار النحاة لم يكن يراعي قواعد النحو أثناء كلامه، فيروى أنّ الفراء - وهو زعيم المدرسة الكوفية يومها - دخل على هارون العباسي فتكلم بكلام لحن فيه مرات، فقال جعفر بن يحيى البرمكي لهارون: إنه يلحن، فقال هارون للفراء: أ تلحن؟ قال الفراء: يا أمير المؤمنين إنّ طباع أهل البدو الاعراب، وطباع أهل الحضر اللّحن. فإذا تحفّظتُ لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت. (أنظر: أبو بكر الاندلسي، طبقات النحويين واللغويين - الطبقة الثالثة: 131).
.
من جهته، يرى أنيس فريحة أنّ (أكثر قواعد النحو والصرف في كثير من اللغات قواعد كتابة لا قواعد نطق وفهم وإفهام، وأن اللغة متطورة لا تعرف الجمود، وهذا ما فات الصرفيين القدماء أن يفهموه)، ويعتبر "العاميّة" تطوراً وتقدماً في اللغة. (نحو عربية ميسرة: 79، 102).
.
ما تفعله الشعوب التي تنطق العربية اليوم يؤكد ما قاله فريحة، فنحن في العراق مثلاً - وكذا سائر البلاد العربية - لا يكاد أحدنا يستعمل أي قاعدة نحوية في عملية التواصل والتفاهم مع الآخرين، وإنما يتم التفاهم من خلال ما ينطق به كل قائل باللغة الدارجة في المجتمع وبيانه لمراده وما يعنيه دون أي مراعاة تذكر لقاعدة نحوية إطلاقاً، وفي حال الالتباس أو الغموض مثلاً في كلام شخص ما يتم سؤاله عما يعنيه فيقوم بتوضيح قصده ومراده. وأمام الجميع منصّات وسائل التواصل الاجتماعي التي يرتادها ملايين العرب ويتواصلون من خلالها فيما بينهم، فلو كانت القواعد النحوية هي السبب بالتفهيم والإفهام فكيف يحصل التواصل والتفاهم بينهم مع أنّ نسبة من يستعملون القواعد في حديثهم وكتاباتهم إلى من يهملها ضئيلة بل ضئيلة جداً!
.
مسألة أن يكون الناطق بالكلام هو الأولى بل المعني بتوضيح مراده تكفي لدفع ما زعمه النحاة من أنّ الحفاظ على القرآن الكريم كان غرضهم الأساس الذي دعاهم إلى تدوين قواعد النحو، فها هم وضعوها حتى أوصلها التالون بعدهم حد التقديس، لكن النتيجة أنها لم تكن سبباً للطعن على القرآن فحسب ولكن كانت سبباً أيضاً في تعدد الآراء وتشتتها في فهم القرآن واستنباط العقائد والأحكام منه ونشوء المذاهب والفرق، وكمثال: من يوجب غسل القدمين في الوضوء ومن يوجب مسحهما كل منهما يستند إلى قاعدة نحوية في فهم نفس الآية، ولم يكن لمثل هذا الاختلاف وجود لو أنّ المسلمين كلّفوا أنفسهم بسؤال الناطق بالقرآن حتى يبيّن المقصود الحقيقي من الآية، أعني الرسول (ص) ومن يقوم مقامه من أوصيائه، فلا يمكن - عقلاً ونقلاً - قبول أنه ارتحل إلى ربه ولم يجعل بين الناس من يقوم مقامه في بيان مراده وكل ما يستجد في دين الله، ولهذا تواترت وصيته للمسلمين أنه ترك فيهم الثقلين كتاب الله وعترته، ففي كل زمان يوجد رجل من آل محمد (ص) هو المعني ببيان مقصود القرآن الذي نطق به رسول الله محمد (ص).
.
والنتيجة التي ننتهي لها بعد هذا العرض الموجز:
إنّ قواعد النحو جهد بشري ناقص؛ لأنها وضعت أساساً بدلالة الظنون والاستقراء الناقص، ولم تؤسَّس بدلالة البراهين القطعية واليقينية، ولهذا تعددت آراء النحاة واختلفت في المسألة الواحدة فضلاً عن اختلاف المدارس النحوية الكبرى كما رأينا، أضف إليه: إنّ خضوع اللغة لحتمية التطور التي تحكم الكون برمّته بما في ذلك الإنسان ولغته تجعل من غير المجدي تماماً وضع قواعد نحوية من خلال حصر مرجعها اللغوي بمقطع زمني محدد وبأقلية عربية منتخبة ثم اعتبارها لغة قياسية تحاكم به اللغة العربية السابقة عليها واللاحقة لها، أعتقد أنّ مثل هذا التصرّف أقرب للعبث منه إلى الجهد العلمي المحمود، فضلاً عن أن تكون قواعد النحو معياراً يُحاكم به كتاب إلهي كالقرآن الكريم.
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(13)
.
إشكال 3: الأخطاء الإملائية الموجودة في القرآن تنافي - بنظر المشككين - كونه كتاباً إلهياً ومقدّساً.
.
الجواب:
ابتداءً، أصل احتواء المصحف - المكتوب بالرسم العثماني - ما يخالف الرسم العربي "القياسي" للكلمات أمر موجود في المصحف الذي نقرأه وبكثرة، مثل: "رحمن، صلوة، حيوة، سموات، ابنت، امرأت ..........الخ"، ورسمها القياسي هو: رحمان، صلاة، حياة، سماوات، ابنة، امرأة ... وهكذا. لكن هل يؤثر ذلك على أحقيّة القرآن وكون حقيقته ومصدره إلهي؟
.
كلا بالتأكيد، وهذا يتضح بملاحظة ما يلي:
.
1- إنّ القرآن مُنزل ومُوحى من عوالم علوية، قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" الشورى: 52، وفي العوالم العلوية لا يوجد شيء اسمه ألفاظ وحروف نطقاً وكتابة، فاللفظ وسيلة للفهم والإفهام في عالمنا الجسماني الذي نحن فيه ويعد من مختصاته، أما العوالم العلوية فلما كانت أرقى وأكمل من عالمنا هذا فبالطبع تكون وسيلة الفهم والإفهام فيها تناسب رقيها وكمالها حتماً، ومسألة تعدد العوالم والأكوان ليست حقيقة دينية فحسب ولكنها نظرية علمية ومبرهنة أيضاً، وبها استطاعت الفيزياء الحديثة - ومعطيات نظرية الكم بالتحديد - التغلب على الكثير من المشاكل والمعوّقات التي اعترضت علماء الفيزياء الكونية. (للمزيد: يمكن مراجعة كتاب "وهم الالحاد - الفصل السادس" للسيد أحمد الحسن).
.
وعموماً، ليس صحيحاً الاعتقاد بأنّ حقيقة ما وأحقيتها تتأثر - ولو بأدنى مستوى تأثر - لمجرد وجود خطأ إملائي حدث أثناء نقلها وكتابتها، وهذا أمر يدركه الجميع بالوجدان، فمثلاً: هل يُعقل أن تُتهم نظرية علمية ثابتة بالدليل العلمي القطعي بعدم الصحة أو النسبة لصاحبها أو التقليل من شأنها لمجرد وجود خطأ إملائي حدث أثناء كتابتها!
.
وبخصوص القرآن الكريم، فإنّ الأمر الوجداني - المشار إليه - أوضح؛ لأن الرسول محمد (ص) لم يقم بكتابة القرآن بنفسه، وهو أمر يعرفه الجميع بما فيهم المشكّكون، ومسألة "كاتب الوحي" واضحة ومعروفة في سيرته (ص) المتواترة، كما أنّ استحكام الرسم القياسي للأحرف العربية في قواعد إملائية لم يحصل إلا في فترات لاحقة عن نزول القرآن كما سيتضح، وبالتالي فحتى لو افترضنا - وهو افتراض غير واقعي لأنه لم يحصل قطعاً - أنه (ص) كتبه بنفسه وخالف فيه الرسم القياسي في موارد فلا يؤثر ذلك على حقيقة القرآن وأحقّيته في شيء أبداً؛ لما تقدم من أنّه موحى من عوالم علوية، علاوة على أنه - كشأن أي حقيقة أخرى - ليست متقوّمة بالحروف المكتوبة، بل لا يؤثر - أعني الافتراض المذكور - على أحقيته الرسول (ص) وعصمته أيضاً؛ لأن صدقه في دعواه يثبت بقانون معرفة الحجج الإلهيين الثابت عقلاً ونقلاً، وعصمته - أي الاعتصام بالله عن جميع محارم الله بحيث لا يخرج المعصوم أتباعه من هدى ولا يدخلهم في باطل - تثبت بالنص الإلهي تحديداً، وليس من العصمة في شيء عدم مخالفة رسم كلمة مثلاً، خصوصاً إذا ما عرفنا:
.
- أنه (ص) نطق بالقرآن كله وبيّن من حقائقه للناس بحسب ما سمح به زمنه.
- ترك بعده عِدْلاً للقرآن وصاحباً له لا يفارقه أبداً، أعني الإمام من آل محمد، وألزم أتباعه بملازمة هذا الإمام.
.
بالتالي، فحتى لو افترض أحد أنّ الخطأ في الرسم قد يؤدي أحياناً - في أسوأ نتائجه المحتملة - إلى عدم وضوح المراد من كلمة ما، فمثل هذا الافتراض لا يأتي بخصوص القرآن بعد وجود "العِدْل" المشار إليه، والذي لا يكلّف المتحيّر والمتردد أكثر من سؤال إمام زمانه الحق ليحكم له ما اشتبه عليه.
.
بل ولا يؤثر في صدقه وعصمته (ص) أن يكون أمّياً "لا يقرأ ولا يكتب"؛ لأن القراءة والكتابة ليست من العلم الواجب أن يتصف به خلفاء الله "أنبياؤه ورسله" عموماً. ولمعرفة كيفية انطباق قانون معرفة الحجج على رسول الله (ص)، وكذا معرفة العلم الواجب اتصافهم به أنظر: كتاب "عقائد الإسلام" للسيد أحمد الحسن.
.
2- .................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(14)
.
2- لا شك أنّ عملية استقرار رسم الحروف العربية بصفتها المعهودة لدينا لم تكن إلا بعد سلسلة طويلة من السير التطوري لنمط معين من خطوط الكتابة التي ابتدأت باختراع نفس الكتابة "بالخط المسماري" في بلاد ما بين النهرين، ثم تدريجياً تنوّعت الخطوط وتشعبت بشكل تصاعدي بتطور الإنسان نفسه.
.
أما الأصل الذي انحدرت منه حروف لغتنا العربية من حيث الرسم، وهي مسألة اختلف فيها العلماء والباحثون، فسواء كان أصلها يمني أي "خط المسند - الحميري "، أو كانت نتاجاً تطورياً للخط النبطي، أو كان أصلها شيئاً ثالثاً، فالمؤكد في كل الحالات أنها لم تكن لتظهر فجأة بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا بعد مراحل وحقب عديدة مرت بها كشأن أي نتاج بشري أرضي.
.
وبخصوص القرآن الكريم، فلا شك أنّ أول من نطق به لفظاً هو رسول الله محمد (ص) بعد كونه رسولاً إلهياً والقرآن مُوحى له بالأصل، ولم يكن قد كتب بيده حرفاً منه كما هو واضح من سيرته، بل وشهد به القرآن أيضاً: "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" العنكبوت: 48، فقد كان (ص) يتلو القرآن ويقوم أكثر من كاتب من المسلمين بالتدوين، وليس الأمر منحصراً على تدوين الوحي وإنما يشمل كتابة الرسائل وبنود الصلح والمعاهدات وغيرها، بغض النظر عن اختلاف أصحاب السير في عدد من كتب الوحي وغير الوحي. (انظر: الحلبي في "السيرة الحلبية" حيث أوصلهم إلى 26كاتباً، وبعضهم أوصلهم إلى أقل أو أكثر من ذلك).
.
أما رسم حروف القرآن بالنحو المتداول لاحقاً بين المسلمين وصولاً لعصرنا الحالي فهو أمر حدث في عهد عثمان بن عفان في عملية تدوين القرآن وجمع المصاحف وتوحيدها بنسخة رسمية واحدة في الحادثة المعروفة تاريخياً، وسيأتي الإشارة إلى بعض تفاصيلها في الإشكال القادم "إشكال جمع القرآن"، وبالتالي فإن كان هناك خطأ إملائي في رسم حروف بعض الكلمات فهو يُحسب على القائمين بالعمل أو على بعض المدوّنين الذين سبقوهم واعتمد الرسم الموجود في نسخهم حرفياً في المصحف العثماني، وليس له علاقة بالقرآن كحقيقة نازلة من عالم أعلى ولا بالقرآن كألفاظ نطق بها رسول الله (ص) في هذا العالم.
.
وليست مسألة رسم حروف القرآن بالنحو الذي نراه اليوم وحدها حدثت في زمن متأخر عن نزول القرآن، وإنما تشكيله بالحركات وتنقيطه أيضاً كذلك، فأكثر الباحثين يرون أنّ تنقيط القرآن - وكذلك تقسيمه إلى أجزاء وأحزاب - تم في عهد الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان على يد بعض النحاة والقرّاء، ونفّذ في العراق تحت إشراف الحجاج بن يوسف (ت: 95 ه). أما تحريكه بالعلامات فقد تم على يد النحوي البصري الخليل بن أحمد (ت: 170 ه)، فجعل للفتحة ألفاً صغيرة توضع فوق الحرف وجعل للكسرة رأس ياء صغيرة تحته وللضمة واواً صغيرة فوقه وكرّر الحرف الصغير عند التنوين ووضع للهمزة رأس عين ولألف الوصل رأس ص فوقها وللمد ميم صغيرة متصلة بجزء من الدال، ثم أكمل المشوار تلامذته حتى رست أخيراً بالشكل الذي نراه اليوم. (أنظر: أحمد قبش، الإملاء العربي: 6).
.
قال السيوطي: (اختلف في نقط المصحف وشكله، ويقال: أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل) أنظر: الإتقان في علوم القرآن: 2/171.
.
يقول د. جواد علي: (أغلب روايات أهل الأخبار أن الخط العربي الأول لم يكن مشكلاً، وأن الشكل إنما وجد في الإسلام، وكان موجده أبو الأسود الدؤلي، فاستعمل النقط بدل الحركات، ثم أبدل الخليل بن أحمد الفراهيدي النقط برموز أخرى) أنظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 8/190.
.
وهكذا نرى أنّ مسألة استقرار إملاء الخط العربي وبلوغه مرحلة "القواعد القياسية" التي نراها حالياً لم تكن إلا بعد طي مراحل عديدة متأخرة عن نزول القرآن بفترة طويلة، فقد كانت قواعده في البداية مبثوثة في بعض كتب النحو واللغة مثل "أدب الكاتب" لابن قتيبة (ت: 276 ه) و "الجُمَل" للزجاجي (ت: 340 ه)، ثم أفردت بكتب مثل "أدب الكتّاب" لأبي بكر الصولي (ت: 336 ه) و"عمدة الكتّاب" لأبي جعفر النحاس (ت: 338 ه) وغيرهم.
.
وإذا كان الحال كذلك، فإنّ محاكمة القرآن بقواعد إملائية - تحكم رسم وتشكيل وتنقيط الخط العربي - لم تكتمل إلا في وقت متأخر عن نزوله هي إلى العبث أقرب منها للنقد العلمي الذي يستحق أن يُعبأ به.
.
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى أنّ واحدة من الأسباب التي ساهمت بالإشكال - مورد البحث - أكثر من مساهمتها بدفعه هو ما تكلّفه بعض علماء المسلمين من ادعاء احتواء الرسم العثماني على أسرار إلهية على حد زعمه، فمثلاً يقول الزرقاني: (وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضاً معجز وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة وإلى سر زيادة الياء في بأييد وبأبيكم أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في سعوا بالحج ونقصانها من سعو بسبأ وإلى سر زيادتها في عتوا حيث كان ونقصانها من عتو في الفرقان وإلى سر زيادتها في آمنوا وإسقاطها من باؤ جاؤ تبوؤ فاؤ بالبقرة والى سر زيادتها في يعفوا الذي ونقصانها من يعفو عنهم في النساء أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض كحذف الألف من قرءانا بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع وإثبات الألف بعد واو سموات في فصلت وحذفها من غيرها وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال وإثبات الألف في سراجا حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض فكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني) مناهل العرفان: 1/83.
.
ولا شك أنّ ما ذكره مجرد استحسانات وظنون لا دليل عليها نقلاً - أعني القرآن وسنة رسول الله والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم - ولا عقلاً.
.
شكر وعرفان....
لكل الاخوة والاخوات الكرام على تفاعلهم من ما ينشر من مواضيع غرضها الاساس الدفاع عن دين الله وكتابه الكريم واوليائه الطاهرين ......... اسال الله لكم التوفيق جميعا
فقط ارجو منكم الصبر معي والمطاولة والمتابعة حتى يتم تناول اهم ما يطرحه المشككون بدين الله ورموزه الكرام والاجابة عنها ..........
فما عرفته من السيد أحمد الحسن ان الدفاع عن دين الله واوليائه واجب شرعي خصوصا في هذه المرحلة الحساسة التي لم يسبق أن تعرض لها الدين الالهي ورموزه كالتي نشهدها اليوم........
وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.
#الاسلام
#القرآن
.
(1)
.
ملاحظات عامة قبل النقاش:
.
.
ملاحظة 1: لا شك أنّ للشك في أمر ما أسباباً ودوافع عديدة:
.
- منها: ما له علاقة بالجانب العلمي والبحثي لما يكون الهدف منه البحث عن الحقيقة والوصول إليها.
- ومنها: ما هو مسبّب عن شبهة وجهل.
- ومنها: ما هو ناتج عن صدمة تعرّض لها الشاك أدّت إلى زعزعة الثقة بمعتقده وسلوكه ومنظومته الفكرية عموماً.
- ومنها: ما هو ناشئ عن مرض وعقدة نفسية تتطلب علاجاً.
.
وربما توجد أسباب أخرى لا يهمني استقصاؤها الآن، لكن المهم هو معرفة أنّ الشك ليس مذموماً دائماً، إذ اتضح أنه أحياناً يكون قنطرة الباحث للوصول إلى الحقيقة المنشودة لديه، لكنه يصبح مذموماً بل ووسيلة هدّامة وخطرة - على الإنسان نفسه - لما يستهدف به الحقيقة الثابتة نفسها في حالات تبدو فيها خطواته بعيدة تمام البعد عن الحياد الذي يفترض أن يتحلّى به من ينشد الحقيقة، ويظهر ذلك بوضوح لما يستعمل الشاك في طرح شكّه منهجاً غير علمي مصحوباً بتعمّد أساليب الشيطنة والإساءة والبذاءة التي تكشف بوضوح عن انعدام الخلق المطلوب في الحوار والبحث العلمي، وبالتالي فالغالب - والحال هذه - أن يخسر معرفة الحقيقة بل ربما لا يكون طالباً لها من الأساس حتى وإن تقنّع بذلك.
.
ملاحظة 2: الشك في المعتقدات:
1- ليس ما يحصل من حملات التشكيك بالمعتقدات في زمننا هذا بأمر طارئ وجديد، فالتشكيك بوجود الله سبحانه أو صفاته أو أفعاله، وكذلك التشكيك بكتبه ورسله وما يصدر منهم قولاً أو فعلاً، قائم منذ فجر الرسالات الإلهية على هذه الأرض، ولم تسلم هذه المعتقدات من حملات التشكيك والطعن بها في زمن من الأزمان.
.
لكن ما هو مختلف هذه المرة هو حجم وشدة الهجمة المنظّمة التي يتعرّض لها الدين الإلهي عموماً، وليس المنظّرون للإلحاد العلمي - المدعومون من مراكز القرار السياسي العالمي الكبرى - ينفردون في قيادة هذه الهجمة وحسب، ولكن يعينهم في ذلك الكثير ممن يحسبون ظاهراً على أتباع الدين الإلهي أيضاً.
.
.
2- ما هي أسباب الشك في المعتقد الديني ؟
..............
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(2)
.
2- سبب الشك في المعتقد الديني:
.
لو استثنينا المريض والمبغض لكل ما هو إلهي وديني لا لشيء إلا لأنه يبغض الدين وكل ما يتصل بالله سبحانه، فالشك في الاعتقاد الديني - أي اعتقاد ديني - يعود لعدة أسباب أهمها - بنظري - سببين رئيسين:
.
الأول: الجهل، فما حوربت حقيقة ما بشيء أشد من الجهل بها، والجهل يمكن أن يتمظهر بعدة صور، منها:
.
- الجهل بحقيقة المعتقد:
فمثلاً: تراه يشكك ببعض آيات القرآن وسر إعجازه وعصمة الرسل وبعض ما يصدر منهم ويرتّب على شكوكه وإشكالاته ما يحلو له ترتيبه، وهو لا يعرف الصحيح من معنى الآيات ولا سر الإعجاز ولا العصمة ولا حدودها من الأساس.
.
- المنهج المغلوط:
لكل شيء أصول وحدود ومبادئ، ولا يشذ المنهج المتبع في السير البحثي والاستدلالي عن ذلك، فأيضاً له أسس منطقية يسير عليها، فمثلاً: المتشابه يرجع للمحكم لا العكس، وما ثبت باليقين لا يُنقض بشك وإنما ينقض بيقين مثله، والأصل إذا ثبت يقيناً فلا تتم محاكمته بفرع يتوهم شذوذه عنه، وإنما لابد - وفق المنهج العلمي والمنطقي - أن يطوّع الفرع ليلائم أصله، هذا إن كان قابلاً للملائمة وإلا يستحيل أن يكون فرعاً له بمعنى أنه يجب استئصاله وبتره؛ لأنه - والحال هذه - سيكون دخيلاً لا فرعاً حقيقياً.
.
هذه بعض البنود المنطقية التي يُفترض مراعاتها أثناء البحث والاستدلال ومحاكمة الآراء والمواقف، وستتضح بعض التطبيقات للبنود المذكورة لاحقاً.
.
الثاني: الخطأ في تشخيص الناطق الحقيقي والرسمي عن الدين، فمن الواضح أنّ محاكمة حقيقة ما - سواء كانت منهجاً أو معتقداً دينياً أو نظرية أو فرضية أو فكرة ما - وما يستتبع ذلك من اتخاذ موقف سلبي منها والتشكيك فيها، إنما تصح بعد فهمها ومعرفتها من قائلها وصاحبها الحقيقي الناطق بها، وليس من النهج العلمي والمنطقي في شيء أن تتم محاكمتها بناء على شرح وتفسير دخلاء ومتبرّعين بعيدين عن بيان المراد الصحيح والمقصود لصاحبها.
.
أعتقد أنّ مثل هذا الحق لا يثبت للدين الإلهي فحسب، ولكنه حق بديهي ثابت لكل النقابات والجمعيات والمنظمات والمؤسسات والحكومات في عالمنا اليوم ابتداءً من منظمة الأمم المتحدة وانتهاء بأبسط جمعية تدافع عن حقوق الحيوان، بل هو حق ثابت لعموم أفراد الجنس البشري عموماً أيضاً، فأنت إذا ما أردت معرفة الموقف والرأي الرسمي لمؤسسة ما - وحتى فرد ما - فهناك جهة محددة تحمل تخويلاً وتصريحاً رسمياً تمنح بموجبه - هي لا غير - حق إبداء الموقف الرسمي للمؤسسة وتفسير المشتبه منه، ولا تكون المؤسسة معنية بأي تصريحات أو تفسيرات أخرى يمارسها المحللون السياسيون أو غيرهم ممن يحاولون فهم موقفها او تفسيره من خلال التخمين أو تجميع بعض القرائن من هنا وهناك.
.
من يمتلك هذه الصفة في الدين الإلهي هو خليفة الله المنصّب من قبل الله لا غير، فهو الناطق الرسمي والوحيد الذي يحمل تخويلاً من صاحب الدين يحق له بموجبه التصريح باسم الدين وتحديد موقفه وتفسير ما تشابه من نصوصه وكذلك التعبير عن وجهة نظره الحقيقية حيال مختلف القضايا بما في ذلك قضايا الإنسان والحياة عموماً، والثابت - عقلاً ونقلاً - أنّ مثل هذا الناطق لا يخلو منه زمان.
.
بناءً على هذا، لا يكون الدين الإلهي معنياً أصلاً بتفسير وفهم علماء الأديان وما تستلزمه من أخطاء أو إشكالات أو تناقضات معرفية أو أخلاقية أو علمية وغير ذلك؛ لأن الله "صاحب الدين" لم ينصّبهم ويختارهم لأداء هذه المهمة، وبالتالي لا يؤاخذ الدين بجريرة أقوالهم وآرائهم، والإصرار على إلزام الدين الإلهي بها ابتعاد واضح عن النهج العلمي الرصين إضافة إلى كونه ظلماً وتعسفاً وعناداً ليس إلا، فمثلاً:
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ سر إعجاز القرآن يكمن في بلاغته ولغته ليقال إنّ القرآن كتاب عنصري ولا يدرك جهة إعجازه إلا العرب فقط !
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ السارق تقطع يده من المعصم أو من أصول الأصابع ليقال إنّ الإسلام دين بعيد عن الرحمة والعقوبة فيه أشد من الجريمة نفسها !
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ المرأة ناقصة عقل ودين، أو يسمح بضربها أو الانتقاص منها، أو يفرض لبس الحجاب عليها بالقوة، ليقال إنّ الإسلام امتهن المرأة وانتقص من قدرها وسلب إرادتها حيال فروضه !
.
الدين الإلهي "خليفة الله" لم يقل إنّ الأرض ساكنة ومسطحة ولا أنه أنكر نظرية التطور الهادف للإنسان والكون عموماً - والذي يكشف بالنهاية عن وجود المسبِّب الأول "الله" - ليقال إنّ الأرض متحركة وكروية وصوّرت وهي تدور، وليقال إنّ الدين يخالف الحقائق العلمية الثابتة والمبرهن عليها بالدليل القاطع !
.
وهكذا. .....
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(3)
.
ملاحظة 3: منهج المناقشة:
.
لا ينبغي إغفال الخلفية التي ينطلق منها المشكك عند النقاش معه، فأغلب المشككين بالمعتقدات الدينية ينتسبون إلى أحد الاتجاهات التالية:
- ملحد، ينكر وجود الله من الأساس.
- لا أدري، فلا هو ينكر وجود الله ولا هو يثبت وجوده.
- ربوبي، يؤمن فقط بوجود الله وينكر كل ما سوى ذلك.
- ديني، أي تابع لدين إلهي "كالإسلام" لكنه يشكك ببعض المعتقدات، بل ربما يصل تشكيكه إلى القرآن ورسول الإسلام محمد (ص) أو أحد أوصيائه الطاهرين.
.
بالنسبة للملحدين، فالنقاش معهم ينبغي حصره - بالدرجة الأساس - في قدرة أي من الطرفين على إثبات موقفه ومعتقده بالدليل القطعي، فهم من جهتهم حاولوا ذلك، ولعل أبرز المحاولات في هذا الاتجاه ما طرحه عالم الفيزياء البريطاني الراحل ستيفن هوكنج في تصوير البداية اللاحدية للكون وبالتالي استغناؤه - بحسبه طبعاً - في وجوده عن الخالق، ومن ثم أطلق مقولته الشهيرة "كون من لا شيء".
.
وهنا انبرى السيد أحمد الحسن لرد أكثر مقولاتهم جرأة في إنكار وجود الله وقلب الطاولة عليهم في كتابه "وهم الإلحاد"، ووظّف أكثر نظرياتهم العلمية رصانة - كنظرية التطور الدارويني ونظرية الانفجار العظيم وضبط الثوابت الكونية الدقيقة ومعطيات نظرية الكم المدهشة - كأدلة عقلية واضحة على إثبات وجود الله، منها:
.
1- التطور له هدف سواء على مستوى الحياة الأرضية أو الكون عموماً، ومن ورائه حقيقة هادفة وعالمة مريدة له.
2- قانون السببية "لكل مسبّب سبب"، واستعراض بعض تطبيقاته في إثبات حدوث الكون وبدايته وفق نظرية الانفجار العظيم.
3- الكون مقنَّن ومصمَّم بدقة عالية جداً من خلال استعراض ضبط الثابت الكوني "لامدا" والثوابت الكونية الأخرى، ومن ورائه مقنِّن ومصمِّم عظيم.
4- للكون هدف ومن ورائه هادف مريد له وللإنسان بالخصوص.
.
من جهته، دعا مؤلف الكتاب "السيد أحمد الحسن" الملحدين للرد على ما طرح وفتح باب الحوار والنقاش، لكن وبالرغم من مرور سنين على صدور الكتاب لم تجد دعوته أذناً صاغية منهم.
.
بطبيعة الحال، ينبغي أن تكون مادة الاستدلال في إثبات وجود الله للملحدين أموراً عقلية ثابتة بالبداهة أو بالدليل العلمي العقلي أو التجريبي.
.
الملحد من جهته، لا يقف في طرحه عند حدود إنكار وجود الله، وإنما يتعدى ذلك بمديات واسعة ليثير شكوكه على القرآن والإسلام ورسوله الكريم والدين عموماً عقيدة وشريعة، وأعتقد أنّ الانجرار خلفه ونقاشه في الدوائر البعيدة عن الأصل "أي مسألة إثبات وجود الله" لا يجدي نفعاً غالباً، بل ويخفف عنه العبء كثيراً، وبالتالي ينبغي إرجاعه إلى الأصل الذي يعد إحرازه أولى خطوات النقاش المنهجي والعلمي الرصين.
.
نعم، لابد من إثارة ضرورة البعث والإرسال الإلهي وطرح مباحث النبوة والإرسال العامة بأدلتها العقلية القطعية في النقاش مع "الربوبي" بعد اعتقاده بوجود الله، فهي بذلك تعد أحد الأصول التي ينبغي حصر الحوار فيها إذا ما أريد له أن يكون حواراً جادّاً ومثمراً.
.
يبقى أهل التشكيك من المتدينين - كالمسلمين مثلاً - فقد نجد أنفسنا مضطرين أحياناً لإعادة طرح مبادئ الاعتقاد الأساسية عليهم وتذكيرهم بها إن وصل الشك بهم إلى حد الطعن بالقرآن الكريم أو رسول الله محمد (ص) أو أحد أوصيائه الكرام (ع) أو تعاليمهم الصادرة عنهم من خلال عرض قانون معرفة حجج الله الثابت عقلاً ونقلاً، وضرورة اتصافهم بالعصمة عقلاً ونقلاً، فمن الواضح أنّ ادعاء اعتقاده بنبوة نبي الإسلام وخلافة أوصيائه الكرام وعصمتهم لا يجتمع بحال مع ادعاء صدور الظلم أو الكذب أو الاجرام ونحو ذلك من المنكرات من أي منهم، وحاشاهم.
.
.............
* ملاحظة: رابط كتاب وهم الالحاد لمن يحب الاطلاع سأضعه في التعليقات
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(4)
.
إعادة إثبات نبوة نبي الإسلام محمد (ص) فضلاً عن إثبات إمامة أوصيائه الكرام لكثير من المسلمين هو ما وصلنا إليه اليوم للأسف، ولست مجازفاً إن قلت إنّ كثيراً من المسلمين لا يعرفون إثبات نبوة نبيهم الكريم بشكل صحيح، فأغلبهم وجد نفسه مسلماً بالولادة ولم يكلّف نفسه عناء الاطلاع والبحث، ثم أفاق وقد ملأ رأسه قول علماء المسلمين بأنّ النبي يعرف بالمعجزة المادية وأكبرها شأناً ودلالة هي القرآن، ولما يُسأل عن كيفية دلالته يجد نفسه عاجزاً عن الإجابة، فالقرآن - كما يعرف الجميع - لم ينزل دفعة واحدة، وإنما اكتمل نزوله خلال مدة تقرب من 23 سنة، فهل يقصد العلماء أنّ النبي الأكرم انتظر 23 عاماً من عمر دعوته الإلهية ليكتمل بعدها دليل نبوته ؟ أو أنّهم يقصدون كفاية شيء من القرآن في تحقق الدلالة على نبوته، وما هو ذلك الشيء الكافي بالضبط؟
.
من جانب آخر: إذا كان شيء من القرآن كافٍ بنظرهم، وهم في نفس الوقت يرون أنّ وجه إعجاز القرآن ودلالته على نبوة النبي هو اللغة والفصاحة التي نزل بها وعجز عنها فصحاء العرب عند التحدي، وعجزهم يثبت نبوته، وهو ما يجده أي باحث ومتابع في كتبهم، فيكون لزاماً عليهم إثبات أمرين بنحو القطع؛ لأننا نتكلم في أهم المسائل العقائدية:
.
الأول: إثبات أنّ رسول الله (ص) كان معه من القرآن ما يكفي لتحقق الإعجاز اللغوي - كما هم يصوّرون - والتحدي به في أول لحظة ابتدأ فيها دعوته الإلهية، هذا مع أنهم مختلفون في بيان القدر المعجز من القرآن فضلاً عن اختلافهم في أول ما نزل منه، وإذا أخذنا برأي بعضهم بأن أقل المعجز هو "السورة" وأنّ الكثير منهم يرى أنّ أول ما نزل "آيات" من سورة وليس "سورة" كاملة، فهذا يعني أنّ النبي ابتدأ بدعوته ولم يكن لديه دليل يثبت صدق دعوته، فهل يقبلون بنتيجة ما أسّسوه!!
.
الثاني: إثبات أنه (ص) تحدّى العرب بما نزل عليه من القرآن للإتيان بمثله من زاوية لغوية وبلاغية، وهو ما لم يثبت قطعاً، ولا تجد عليه شاهداً لا من القرآن ولا من سيرة النبي (ص).
.
الأمر الآخر الملفت في بحوث العلماء أنهم يشبّهون إعجاز القرآن بسائر معاجز الأنبياء المادية كقلب عصا موسى (ع) حيّة تلقف أفك السحرة، أو تطبيب عيسى (ع) لبعض المرضى في زمانه وشفائهم على يديه وما شابه ذلك، وهو في الحقيقة انتقاص من القرآن دون أن يعي العلماء ذلك، والسبب: إنّ معاجز الأنبياء المادية - التي يُعبّر عنها عادة بـ "الآيات" في النص الديني - ليست هي الأساس في التعرف على خلفاء الله عموماً؛ لأنها ببساطة قد تحصل وقد لا تحصل، وهي ليست متوفرة دائماً مع جميع خلفاء الله على طول خطهم الرسالي، قال تعالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ" [الإسراء: 59]، ومع ذلك فالدليل على أحقية الرسل متوفر دائماً ولا يضر عدم مجيئهم بالآيات على صدقهم في دعواتهم الإلهية شيئاً.
.
وأيضاً: بالنسبة للإتيان بالآيات (المعاجز المادية) أمرها معلّق على إذنه سبحانه، قال تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ" [العنكبوت: 50]. ولا يُعقل أن يكون دليل صدق أنبياء الله أمر غير موجود فعلاً وإنما هو معلق وموقوف على إذن الله، وإلا فهو "نذير مبين" بماذا ؟ ثم هل سمع أحد بأنّ نبياً من الأنبياء طالبه قومه بالدليل على صدق دعوته وطلب منهم الانتظار حتى يأذن الله بمجيء الدليل أو أجابهم بأنه أمر معلّق على إذن الله بالإتيان به، هل حصل مثل هذا مع أحد منهم صلوات الله عليهم ؟!!
.
إنه لأمر مؤسف حقاً أن يصل الحال في التعامل مع القرآن الكريم ورسول الله (ص) إلى هذا المستوى، بحيث لا يعرف جل علماء المسلمين فضلاً عن عامتهم الاستدلال الصحيح على إثبات نبوة النبي الكريم، ولا يتمكّنون من بيان موقع القرآن الكريم منها، ولا بيان وجه الإعجاز في كتاب ربهم، وكل ما يعرفه المسلم في أيامنا هذه هو التقليد لمن هم في حقيقة الأمر ليسوا بأحسن حالاً منه.
.
لا ريب أنّ حالاً كهذا الذي نشاهده لا ننتظر منه غير أن تؤدي حملات التشكيك بدين الله ورموزه الكرام إلى تعاطف بعض المسلمين معها أو لا أقل زعزعة الثقة في نفوسهم بدين الله وقادته المعصومين.
.
لذا كان لزاماً علينا كمؤمنين بالله وكتبه وخلفائه الكرام الدفاع عن دينه ورموز خطه الرسالي القويم، وإماطة اللثام عن الشكوك والطعون التي يمارسها البعض وكشف وهنها وزيفها والمغالطات التي تنطوي عليها.
.
ملاحظة: لمن أراد الاطلاع على المنهج الصحيح في إثبات خلافة رسول الله محمد (ص) فيمكنه الرجوع إلى كتاب "عقائد الإسلام" للسيد أحمد الحسن
.
* رابط الكتاب في التعليقات.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(5)
.
إشكالات مثارة على القرآن الكريم
.
ليست قليلة مساحة الجدل الذي أثير على القرآن الكريم وتعرّضه لحملات واسعة من الشكوك والطعون قديماً وحديثاً، والفرق حالياً فقط في شدتها وتنظيمها، ونحن يمكننا تصنيفها إلى عدة أصناف:
.
- منها: ما يتصل بلغة القرآن كمسألة الإعجاز اللغوي ومخالفة القرآن لقواعد النحو والصرف والإملاء ونحو ذلك.
- ومنها: ما يتصل بطريقة جمعه الواردة في روايات المسلمين فهي بنظر المشككين لا تناسب كونه دستوراً إلهياً مقدّساً كما يعتقد المسلمون.
- ومنها: ما يتصل بمضامين القرآن أي ما يحتويه من مفاهيم لا يراها المشككون منسجمة مع معطيات العلم والجانب الإنساني عموماً، إضافة إلى التناقض الموجود فيما بينها أحياناً على حد زعمهم.
.
سنحاول المرور على المهم منها والإجابة عنه.
.
إشكال 1: إعجاز القرآن أسطوري لا واقع له:
.
يفترض المشككون أنّ إعجاز القرآن لغوي، وتحدي الناس على الإتيان بمثله ما هو إلا أسطورة وخيال لا يمكن تحققه في الواقع مطلقاً، فأيّاً تكن ظروف القابل بالتحدي فإنّ محاولته محكوم عليها بالفشل مسبقاً، فهو إن أتى بما يشبه القرآن قيل له إنك لم تفعل شيئاً غير تقليد القرآن نفسه، وإن ابتعد عنه في أسلوبه ونظمه قيل له إنك ما شابهت القرآن في شيء ولم تستطع الإتيان بمثله، هذا فضلاً عن مدى إمكانية توفر الجهة المحايدة التي تصلح أن تكون حكماً بين النظمين.
إضافة - والإضافة منهم - إلى أنّ بعض آيات التحدي اكتفت بالتحدي بآية، ومعلوم أنّ بعض أوائل السور هي حروف مقطعة لا غير مثل "ألم" فما الصعوبة التي يجدها القابل بالتحدي إن قام بإبدالها بثلاثة أحرف أخرى، خصوصاً وأنّ المسلمين لم تتفق لهم كلمة في بيان معاني الحروف المقطعة إلى يوم الناس هذا.
.
وبالنتيجة فهم اليوم - في إشكالهم هذا - يكرّرون مقولة الفيلسوف ابن زكريا الرازي (ت: 311 هـ - 923 م) في القرآن، يقول: "إنكم تدعون أنّ المعجزة قائمة موجودة - وهي القرآن- وتقولون: من أنكر ذلك فليأت بمثله". ثم قال: "إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلَق منه ألفاظاً وأشد اختصاراً في المعاني، وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعاً؛ فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به".
.
الجواب:
واضح أنّ الاشكال قائم على أساس فكرة أنّ إعجاز القرآن لغوي وبه حصل التحدّي، وبالتالي فانهيار أساسه كافٍ لانهيار الإشكال نفسه، بمعنى أننا لسنا مطالبين بأكثر من إبطال فكرة الإعجاز اللغوي والتحدي به، وهو ما تتكفله النقاط الخمس الآتية، وأعتذر مقدماً عن الاطالة فيها؛ لأنها لا تجيب هذا الإشكال فحسب ولكنها تسهم بالإجابة على إشكالات أخرى أيضاً.
.
1- ...............
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(6)
.
1- ابتداءً، ينبغي لنا معرفة أنّ إصرار علماء المسلمين - بشتى طوائفهم - على فهم إعجاز القرآن من زاوية لغوية، ساهم إلى حد كبير في نشوء الطعن المذكور، فهم لما اتفقت كلمة الغالبية العظمى منهم على بيان أنّ وجه الإعجاز الذي تحدى به القرآن الآخرين هو لغوي صرف، اعتبره المشكّكون أصلاً مسلّماً حاكموا القرآن على ضوئه.
.
وللتوضيح أكثر، أقول: من يراجع كلمات علماء المسلمين في المسألة يجد أنّ "الإعجاز اللغوي" كان له النصيب الأوفر منها، وهذا فهرس مختصر بأهم آرائهم:
.
- إعجاز القرآن في اختصاصه بالفصاحة المفرطة والنظم معاً. اختار هذا الوجه الشيخ الطوسي في الاقتصاد: 173؛ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: 5/250؛ المجلسي في البحار: 9/104.
- إعجازه في بلاغته أو فصاحته فقط. اختاره الإيجي في المواقف: 3/381؛ الرازي في تفسيره: 17/203.
- إعجازه في "حسن نظمه + الإخبار عن المغيبات". اختاره مجموعة من المفسرين كالواحدي والسمعاني والنسفي والأندلسي.
- إعجازه في المجموع من "حسن نظمه وبلاغته + إخباره عن الغيب + سرد قصص الأولين". اختاره القاضي الباقلاني في إعجاز القرآن: 33 فما بعد.
- إعجازه في سبعة وجوه منفردة هي: "البلاغة والأسلوب، المعارف، النظام والتشريع، استقامة البيان، اتقان المعاني، الاخبار بالغيب، أسرار الخليقة". اختاره السيد الخوئي في البيان: 45 فما بعد.
- إعجازه في سبعة وجوه بنحو آخر عند الراوندي (الخرائج والجرائح: 3/981)، أو عشرة وجوه عند القرطبي (تفسير القرطبي: 1/72)، بل أوصلها الزركشي إلى ستة عشر وجهاً (البرهان: 2/94)، بل على حد قول بعضهم إنّ وجوه الإعجاز هي كل ما يمكن من أوجه التفاضل (تفسير الميزان: 1/59). طبعاً، كان الإعجاز اللغوي على رأس القائمة في جميع الآراء.
.
وهنا أسجل ملاحظتين:
.
الأولى: بالرغم من اختلاف أقوالهم في بيان وجه الإعجاز لكنها لم تلتقِ في شيء أوضح من التقائها في بيان الإعجاز اللغوي للقرآن.
.
الثانية: لا يجد الباحث دليلاً قطعياً محكماً سواء كان قرآنياً أو روائياً - ولا حتى دليل عقلي قطعي - في كلام العلماء وتحديد ما اختاروه من وجوه.
.
اللهم، إلا ما يتعلق بفهمهم الظني لآيات التحدي (المتشابهة عندهم)، ولذلك اختلفت آراؤهم في تحديد القدر المعجز من القرآن أيضاً اختلافاً كبيراً، وهذه جملة منها:
.
- أقل ما يقع بها الإعجاز ثلاث آيات.
- المعجز هو كل سورة برأسها.
- المعجز هو السورة طويلة كانت أم قصيرة، وكذلك الآيات التي لها قدر السورة القصيرة.
- المعجز هو السورة أو قدرها من الكلام الذي يتبيّن فيه تفاضل قوى البلاغة ورتبها، وليس مطلق الكلام.
- المعجز مطلق القرآن قليله وكثيره، سوره وآياته.
- بعض الآية ليس بمعجز، في قبال من يرى أنّ في بعض الآية إعجاز.
- المعجز هو السور الطوال والقصار إذا اشتملت على الحكم الظاهرة.
.
يمكنك مراجعة هذه الآراء وغيرها في كتبهم، وعلى سبيل المثال: (انظر: الطوسي، المبسوط: 4/274؛ الباقلاني، إعجاز القرآن: 286؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/107؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 2/324؛ البهوتي، كشف القناع: 1/408؛ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء: 3/450).
.
واضح جداً أنّ مسألة إعجاز القرآن وبيان القدر المعجز منه ظنية بالنسبة لهم، ولهذا تعددت الآراء فيها وتنوّعت بشكل كبير.
.
2- ....................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(7)
.
2- الملفت في مسألة إعجاز القرآن أنّ آيات التحدي نفسها لم تصرّح بأنّ التحدي لغوي، ولا أنّ سيرة رسول الإسلام (ص) تشهد بذلك.
.
أما الآيات فهي قوله تعالى:
- "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [يونس: 38].
- "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [هود: 13].
- "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88].
.
ونحن إذا تدبّرنا الآيات نجدها صريحة في أصل التحدي، لكن لن نجد فيها أي إشارة صريحة إلى أنّ التحدي هو تحدٍ بالرد اللغوي ومعارضة القرآن من جهة فصاحته وبلاغته، فلِمَ لا يكون التحدي - مثلاً - بأن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة - أو سور منه - من جهة كونه نوراً وكتاب هداية واستقامة ؟ أو أن يأتوا بمثله من جهة معارفه وحقائقه التي تضمنها، أو من جهة تأثيره في نفوس السامعين له ؟ لِمَ لا يكون التحدي من جهة كون القرآن كتاب موعظة "وإن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره" كما يقول علي (ع)، وغير ذلك من وجوه محتملة.
.
حقيقة، لا أعرف وجهاً علمياً محكماً وصحيحاً (آية صريحة، رواية قطعية، دليل عقلي محكم) حتّم على العلماء اختيار التحدي بالرد اللغوي دون سواه، علماً أنّ من يقول بالإعجاز اللغوي للقرآن يصوّر النبي (وحاشاه) وكأنه يحمل ما معه من القرآن ويبحث في نوادي الأدب والشعر يومذاك في مكة عن أكثر العرب فصاحة ويتحداهم أن يأتوا بمثله، ولأجل ماذا؟ لأجل أن يثبت نبوته؟!!
.
لا شك أنّ مثل هذا الأمر ترفضه سيرة الرسول (ص) عند بدايات دعوته - وحتى لاحقاً - رفضاً تاماً، فالثابت قرآنياً وتاريخياً - كما هو واضح لكل من راجع سيرته - أنّه كان يدعو قومه إلى الله بالحكمة ومكارم الأخلاق، ويستند إلى شهادة ربه "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم" كما يصرّح القرآن بذلك في آيات عديدة، كان يتلو عليهم ما نزل عليه من القرآن، فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر. كذلك: كان يحتج عليهم بالعلم الإلهي الذي زوّده الله به ويجيب أسألتهم، ولم يكن في سيرته شيء يوحي - ولو بإشارة خفيّة - أنه دعا فصحاء العرب في يوم ما إلى معارضة القرآن من جهة الفصاحة والبلاغة اللغوية ليكون عجزهم دليلاً على نبوته كما يعتقد العلماء.
.
نعم، ربما يجد المتتبع لكلام العلماء في هذا الصدد مقولة للوليد بن المغيرة كثيرة التداول بينهم يصف فيه القرآن بقوله: "... ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلا وأنه ليحطم ما تحته"، لكن من يفهم الاعجاز اللغوي من مقولة الوليد فهو مخطئ، لأنه كلام لا يتضمن تصريحاً بأنّ القرآن معجز لفصاحته وإنما كان بصدد نفي الشبه بينه وبين المعهود عند العرب من كلام من شعر ورجز ونثر ونحو ذلك، وهذا صحيح فالقرآن ليس من جنس الشعر أو النثر ولا غير ذلك بل له أسلوبه الخاص به، ثم - وهو المهم - متى كان كلام مثل الوليد حجة يحتج بها في دين الله وفي أمر عقائدي خطير كالذي نحن بصدده؟!
.
والأهم من كل ذلك: بين أيدي الجميع "القرآن نفسه، وما وصلنا من سيرة الرسول محمد (ص)" وبوسع الجميع الرجوع إليهما وقراءتهما، وسوف لن يجدوا لما ظنّه العلماء "التحدي اللغوي" عيناً ولا أثراً.
.
3- .................
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(8)
.
3- الإعجاز اللغوي واللفظي للقرآن من خلال بلاغته وفصاحته (منفرداً أو منظماً لوجوه أخرى) لا يمكن قبوله؛ لأن البلاغة والفصاحة مسألة نسبية وذوقية باعتراف علماء اللغة أنفسهم "البلاغيون منهم بالخصوص"، ولم يتم تحديد ضابط ومعيار علمي موضوعي دقيق لتمييز (الكلمة أو الكلام) الفصيح عن غيره ولا لتمييز الفصيح عن الأكثر فصاحة؛ فضلاً عن تمييز المعجز في فصاحته عمّا سواه.
.
فمثلاً: هم اشترطوا لفصاحة الكلام أربعة شروط:
- السلامة من تنافر الكلمات، أي: لا يوجب اجتماعها ثقل اللسان.
- السلامة من ضعف التأليف، أي: الجريان وفق المشهور من قواعد النحو.
- السلامة من التعقيد، أي ضعف المعنى.
- فصاحة كل كلمة فيه.
.
لكنهم سرعان ما يتنازلون عن شروطهم إذا ما وجدوا أنّ أول من خالفها هو القرآن نفسه، فمثلاً: اجتماع حرفي "الحاء والهاء" أو "العين والهاء" في الكلام يوجب الثقل كما هو المقرر لديهم، مثل: "سبحه، أعهد"، والمفروض أنّ ورودها في كلام يوجب عدم فصاحته لمنافاته أحد شروط الفصاحة عندهم، لكن لأن مثل ذلك ورد في القرآن فيبقى الكلام على فصاحته بالرغم من مخالفة الشرط!
.
كذلك الحال بالنسبة إلى الشرط الثاني، فالقرآن لم يعر للكثير من مشهور قواعد النحو اهتماماً يذكر في آيات كثيرة كما سيأتي توضيحه لاحقاً، وبالرغم من ذلك لم يؤثر ذلك على فصاحته عندهم.
.
أيضاً: بناء على الشرط الثالث يفترض أن لا يكون الكلام المعقد فصيحاً، لكنهم في نفس الوقت انبهروا بأبيات شعر للمتنبي وغيره وأضفوا عليها سمة الفصاحة البالغة مع اعترافهم بتعقيدها المفرط ! انظر: الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه: 98.
.
حال الشرط الرابع لا يختلف عن سابقاته، فالغموض الذي اشترطوا خلوّ الكلام منه ليكون فصيحاً، ورد في القرآن في أكثر من موضع، لذا اضطر "المغربي" إلى تقسيم الغريب إلى "مستكره ومستحسن"، ثم قال: (فغرابة المستحسنة إخلالها بالفصاحة نسبي يكون باعتبار قوم وهم المولدون دون قوم وهم الخلّص) مواهب الفتاح: 1/113.
وهذا يعني - بحسبه طبعاً - أنّ فصاحة القرآن إنما هي باعتبار الخلّص من العرب الذين يفترض أنهم يعرفون كل دلالات ومعاني ألفاظ القرآن، لكن واقع حال الكثير من المسلمين العرب كأبي بكر وعمر وابن عباس وغيرهم يشهد بخلاف ذلك، وبالتالي يفترض أن لا يكون القرآن فصيحاً بالنسبة لهم بناء على شروط البلاغيين، لأنهم - بحسب ما ورد من أثر - لا يدرون معنى: "وأبّاً"، "فاطر"، "غسلين" في الآيات، اللهم إلا إذا كان البلاغيون لا يرون أنهم وأمثالهم عرب خلّص وأنّ القرآن مقتصر على أمثال امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وأضرابهم، ولا أدري إن كان هؤلاء يعرفون معاني كل مفردات القرآن ودلالاته فعلاً، وهو فرض بعيد جداً بطبيعة الحال.
.
ما يهمني فعلاً هو أن نعرف أنّ شروط الفصاحة - للكلمة او الكلام - لم تثبت عندهم بدليل قطعي، ولم تخضع في شروط تحققها لضوابط علمية وموضوعية دقيقة تجري في جميع الموارد والحالات، وإنما هي مجرد شروط ناتجة عن الاجتهادات الظنية والأذواق المتباينة وتختلف بين شخص وآخر، ولهذا خالف القرآن - والشعر الفصيح أيضاً - مجمل شروطها، وبالتالي فهي - أي الفصاحة - ليست بأكثر من كونها أمراً نسبياً خاضعاً لظروف المستمعين وبيئاتهم المختلفة التي ينشؤون فيها.
.
قال ابن أبي الحديد: (اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة عليه) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 2/478.
.
قال الخطابي: (ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/101.
.
وأيضاً: نحن - في مسألة إعجاز القرآن اللفظي - لا نتحدث عن مطلق "الفصاحة" ليقال إنّ العلماء وضعوا ضوابط لتحديد وتمييز الكلام الفصيح عن غير الفصيح، وإنما نتحدث - تحديداً - عن "الفصاحة المعجزة" كما هم قرّروها وجهاً للإعجاز، وبالتالي فهم ليسوا مضطرين إلى تقديم ضابطة للتمييز بين الكلام الفصيح والأكثر فصاحة فحسب، ولكنهم أيضاً مجبرين على تقديم ضابطة توضح عبور الكلام مرحلة "الأكثر فصاحة" وبلوغه مرحلة "الإعجاز الفصاحتي"، فمراتب الكلام - من هذه الجهة - ستكون أربعة:
1. كلام غير فصيح.
2. كلام فصيح.
3. كلام أكثر فصاحة.
4. كلام معجز من حيث الفصاحة.
.
وإذا كانت شروط الفصاحة عند العلماء (كما تقدم) لم تمنحنا ضابطة علمية دقيقة لتمييز الفصاحة في المرتبة الثانية فضلاً عن الثالثة (التي تحوي دون شك مراتب عديدة؛ لأنّ الأكثر فصاحة ليس كله بمستوى واحد)، وأنّ الأمر في تمييز ذلك نسبي ويرجع إلى الذوق في كلا المرتبتين كما عرفنا، فما بالك بمعرفة "الفصاحة المعجزة" ضمن مستوى المرتبة الرابعة، وما هي الضابطة العلمية التي وضعها العلماء لمعرفة "الفصاحة المعجزة" وتحديدها وتمييزها عن الكلام "الأكثر فصاحة"؟!
.
حقيقة، إنّ من يراجع كلام العلماء في هذا الباب لا يجد شيئاً يمكن التعويل عليه والركون إليه، اللهم إلا أن يقال: إنّ سبب وقوع الأول "الفصيح المعجز" ضمن خانة الإعجاز اللفظي دون الثاني "الأكثر فصاحة" هو كون الأول قرآناً، وهو المصادرة بعينها - الإتيان بمحل النقاش وجعله دليلاً - كما لا يخفى وليس بياناً لضابطة علمية يعوّل عليها في مسألة عقائدية حسّاسة كالتي نحن بصددها.
.
4- ........................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(9) | ق1
.
4- لا يمكن بحال قبول مقولة الإعجاز اللغوي للقرآن؛ ليس لما تقدم فحسب ولكن لأن القرآن الكريم كتاب إلهي مُنزل ومُوحى من عوالم علوية، والوحي لا علاقة له باللغة الأرضية إطلاقاً، كما أنّ العوالم العلوية الموحى منها ليست فيها أي لغة من اللغات الأرضية أصلاً؛ لأنها عوالم أرقى وأكمل وبالتالي فوسائل التعليم والتواصل فيها تناسب رقيها حتماً، وأما اللغة فهي من لوازم عالمنا الجسماني فقط وهي وسيلة للتعليم والتواصل بين الناس فيه وليس دائماً أيضاً.
.
ما يهم الآن أن نعرف أنّ اللغة نتاج تطوري أرضي سواء على مستوى توفر القالب اللغوي البيولوجي في وجود الإنسان أو على مستوى المفردات، فكلا الأمرين يسيران مع الإنسان من البساطة إلى التعقيد كحال لغة الطفل تماماً في بداية نشوئها وتطورها، ومسألة تطور اللغة واستكمالها التدريجي أمر تجمع عليه بحوث ودراسات علم اللغة الحديث وتقرّه بعض البحوث القديمة أيضاً.
.
وكون اللغة نتاجاً تطورياً كافٍ لدحض فكرة أنّ لغة ما (عربية كانت أو غيرها) تحوي إعجازاً لغوياً (في ألفاظها) بنحو لا تمتلكه أي لغة أخرى، فمثل هذا القول لا معنى له أصلاً؛ لأن القالب والنظام الذي زوّد به الإنسان واحد لدى البشر كلهم، أما تعبئته بالمفردات وتشغيله بها فهذا أمر عائد للإنسان نفسه بحسب بيئته ومحيطه وظروفه التي يحيا فيها، علماً أنّ الغرض من توفر (القالب واللغة بتبعه) يتحقق بأي لغة كانت، فالتفاهم والتواصل وإنجاز الأغراض المتوقفة عليهما يحصل بجميع اللغات كما هو واضح.
.
نعم، يمكن أن يحصل تفاوت "عرضي" بين اللغات، لكن لا من جهة القالب والنظام، ولا من جهة نفس الألفاظ التي تحتويها اللغات، وإنما لأمر طارئ خارج عنهما، فما حصل مع اللغة العربية - مثلاً - سابقاً من اهتمام يحصل مثله اليوم مع اللغة الإنجليزية تماماً، فلما ظهر بين العرب آنذاك علماء كتبوا في جوانب علمية ومعرفية مهمة وجدت الشعوب (التي تتحدث بلغات أخرى) نفسها مضطرة للاهتمام بالعربية وترجمة تلك الكتب لأجل الاطلاع والمعرفة، وهو ما يحصل مع لغة العلم العالمية في أيامنا هذه، أعني الإنجليزية.
.
وعموماً، يمكن لأي متتبع لبحوث علم اللغة أن يتوصل إلى النتائج التالية:
.
- إنّ اللغة ظاهرة اجتماعية، الغرض منها التفاهم والتواصل بين الناس.
.
- لا دليل علمي صحيح يؤكد توقيفية اللغة (الأصل السماوي لها) وأنها منحة إلهية وُهبت للإنسان دفعة واحدة بوحي أو الهام، كذلك لا دليل علمي على أنها حصلت بالموافقة والتواضع؛ خصوصاً بعد مشاهدة حصولها من جميع الناس بيسر وسهولة وتلقائية، وهي بذلك خلوٌ من سائر التعقيدات التي يفترضها "التواضع والاصطلاح".
.
- الرأي العلمي السائد الآن في المجامع العلمية أنّ اللغة غريزة وفطرة، وهذا ما يفسّر سهولة تحصيل الإنسان لها، وإن كان منقسماً - من حيث ظهورها كنظام وقالب في وجود الإنسان - بين توجهين يقودهما كل من عالم اللغة الشهير البرفيسور نعوم تشومسكي الذي يرى ظهروه فجأة، في قبال د. ستيفن بنكر الذي يعتقد بخضوعه لمبدأ الانتخاب الطبيعي، لكن الطرفين يتفقان على أنّ اللغة نفسها كمفردات خاضعة للتطور حتماً.
.
- بحسب علم اللغة الحديث أيضاً، فإنّ التركيب والقالب الذي يستمد منه الإنسان (الطفل) مهارته في اكتساب اللغة لا ينتمي في حقيقته إلى لغة معينة، وعليه فلغته "الأم" يمكن أن تكون أي لغة كانت، وهذا الأمر يمكننا أن نتحقق منه ببساطة، فالطفل البريطاني سيتكلم العربية بيسر وسهولة إن عاش بين عائلة عربية، والعكس صحيح أيضاً.
.
- إنّ اللغة - أي لغة كانت - تحوي نظاماً وقالباً معقداً (يشترك فيه كل البشر) تؤدي معه اللغة غرضها المنشود منها بعد تعبئته بالمفردات، سواء كانت عربية أو فارسية أو عبرية أو إنجليزية أو ألمانية أو إسبانية أو صينية أو غيرها من سائر اللغات الموجودة في عالمنا اليوم أو التي تستحدث مستقبلاً، ولا ميزة للغة على أخرى من هذه الناحية وبالتالي لا معنى للتفاضل بين اللغات، تماماً كحال جهاز حاسوب متوفر على نظام تشغيل متطور ويمكنك تشغيله بأي لغة شئت.
.
- جميع اللغات الحيّة تخضع لحتمية التطور والتغير بمرور الزمن وهو أمر محسوس ومشاهد من قبل الجميع، ولا يشذ عن هذه الحتمية أي لغة من اللغات، يكفي أن نعرف أنّ قواميس لغات العالم اليوم تضيف كلمات جديدة إلى مفرداتها باستمرار. فمثلاً: ظهرت كلمة "سيلفي" لأول مرة عام 2002 م على يد شاب أسترالي في أحد مواقع التواصل، وكتب معلّقاً على صورته التي لم يبدو فيها جميلاً بما يكفي: "it was a selfie"، ثم انتشرت بقوة، فأضافها قاموس "أكسفورد" - أهم قاموس لغوي إنجليزي على مستوى العالم - إلى مصطلحاته، وعرّفها بأنها: "صورة يلتقطها الشخص لنفسه بنفسه".
.
....... (يتبع)
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(9) | ق2
.
وبخصوص اللغة العربية، فما يُدّعى في تفضيلها على سائر اللغات وبالتالي قدرتها على حمل الإعجاز اللفظي للقرآن دون سواها، كلام غير علمي تماماً، وإلا فما هو المعيار الحقيقي للتفاضل بين اللغات، وهل حسمت علوم اللغة القديمة أو الحديثة هذا الأمر؟ هل حدّدت مراكز البحث في جامعات العالم العريقة في بحوثها ودراستها الرصينة والمعتمدة ميزان التفاضل بين اللغات؟!
.
في الحقيقة، لم يحصل شيء من هذا القبيل، وكل ما هو موجود ظنون واستحسانات نسبية في أحسن حالاتها، فالعربي - على سبيل المثال - الذي يعتبر كثرة الجذور والمرادفات ووجوه الاستعارة في لغته - قياساً بباقي اللغات - ميزة يعتبرها غيره إسرافاً لا طائل من ورائه، ولا أقل فهي قضايا غير محسوم التفضيل على أساسها بنحو ثابت وقطعي، بل الثابت علمياً - وفق بحوث ودراسات علم اللغة الحديث كما أشرنا - أن لا مبرر ولا غرض علمي حقيقي يدعو للتفاضل بين اللغات مطلقاً؛ لأن اللغة - أي لغة كانت - ما هي إلا ظاهرة إنسانية واجتماعية الغرض منها التفاهم والتواصل بين المجتمع اللغوي الإنساني وهو أمر حاصل ويحصل بجميع اللغات كما هو ملاحظ.
.
وأكثر من هذا، فمسألة "التفاضل بين اللغات" أمر لا تنفيه بحوث ودراسات علم اللغة الحديث فحسب، ولكن تنفيه الدراسات اللغوية القديمة أيضاً، وعلى سبيل المثال يقول ابن حزم: (وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" وقال تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون". فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لان سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع. قال علي: وهذا جهل شديد لان كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق. وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى. قال علي: وهذا لا معنى له، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه. وقال تعالى: "إني إذا لفي ضلال مبين" وقال تعالى: "وإنه لفي زبر الأولين" فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه. وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام: 1/32.
.
أما الآيات القرآنية التي ذكرت أنّ القرآن بـ "لسان عربي"، فهي ليست بصدد تفضيل اللغة العربية - في حد نفسها كلغة - على غيرها بقدر ما كانت لبيان أنّ القرآن نزل بلغة العرب (المواجهين الأوائل له) رجاء أن يعقلونه، مع اعترافنا في ذات الوقت برقي لغة القرآن الكريم، لكن اعترافنا برقي وعظمة لغته شيء والقول بأنّ إعجازه لغوي شيء آخر تماماً.
.
وأيضاً: ينبغي أن نعرف جيداً أنّ اللغة العربية لم تكن بصورة واحدة منذ نشأتها والتحدث بها، وإنما خضعت للتطور والتغير بمرور الزمن حتى بلغت مرحلة الانفصال بينها وبين العربية الجنوبية وتميزها عنها، وهي في ذلك كسائر اللغات الأخرى فيما طرأ ويطرأ عليها من تطور وتبدل، وأكيد أنّ الحال نفسه نراه لو عملنا مقارنة بين اللغة العربية في زمن قريش والعربية في أزمنتنا هذه، يكفي أن نعرف أننا لا نعود إلى الفصحى الآن إلا حين كتابة مقال علمي أو كتاب وما شابه، فهي تكاد تكون لغة علمية فقط، أما فيما عدا ذلك فإننا نتكلم عربيتنا ولهجتنا التي اعتدنا عليها، والتي لا يجمعها مع العربية الأم في كثير من الأحيان سوى الاسم فقط، وأعتقد أنّ رفض ذلك مجرد مكابرة وعناد لا أكثر، بل إنّ العربية الفصحى في زمننا تختلف (صياغة وأسلوباً ومرونة ومفردات) عن العربية الفصحى في زمن النص بل وما بعده، وعلى سبيل المثال: يمكنك أن تمسك كتاباً ألّف قبل عدة قرون وكتاباً مؤلف في عصرنا الحالي وتلاحظ الفرق الكبير بينهما بنفسك.
.
بالتالي، فميزان التفاضل بين اللغات لو تنزلنا لإجرائه - وهو غير صحيح طبعاً؛ لأنه أساساً غير متوفر بنحو علمي صحيح، كما أنه مرفوض من قبل علم اللغة الحديث والقديم كما عرفنا - فلا يكون إلا أمر نسبي في أحسن حالاته بعد عدم ثبات اللغة على خط بياني واحد، والنتيجة التي ننتهي لها: لا معنى لما يقال بأنّ إعجاز القرآن لغوي لقدرة اللغة العربية - دون غيرها - على حمله.
.
أعتقد هذا كافٍ بقدر تعلّق الأمر بموضوعنا، ومزيد من التحقيق في قضية التفاضل بين اللغات يأتي في دراسات مستقلة إن شاء الله.
.
5- .......................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(10)
.
5- وأيضاً: لا يمكن قبول مقولة الإعجاز اللغوي للقرآن؛ لأنها تعني أنّ غير العرب وهم الغالبية الساحقة من البشر غير مشمولين بالتحدي ولا مخاطبين بالقرآن أصلاً، ولازم ذلك - بناء على تأسيس علماء المسلمين - أن يكون الإسلام ديناً للعرب فقط؛ باعتبار أنهم - أي العلماء - يفترضون أنّ العجز عن الإتيان بمثل القرآن هو الدليل الأساس على إثبات صدق دعوة رسول الله محمد (ص)، وهو لازم باطل بكل تأكيد، بل تبطله آيات التحدي نفسها: " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا".
.
إضافة إلى اللوازم الباطلة الأخرى كالطعن بعدالة الله سبحانه وحكمته ورحمته، فهو سبحانه أعدل وأحكم وأرحم من أن يجعل وجه الاعجاز في كتابه أمراً يدركه العرب - بل الخلّص منهم فقط، بل الفصحاء منهم بالخصوص - دون غيرهم من سائر الناس، مع أنّ الجميع معنيون بأمره ومخاطبون به في دنيا الامتحان.
.
أعتقد أنّ ما تم ذكره في النقاط الخمس المتقدمة كافٍ لرفض فكرة أن يكون إعجاز القرآن لفظياً وأنّ فصاحة ألفاظه هي الجهة المعنية بالتحدي، وإذا بطل هذا الأمر انهار الإشكال الذي بُني عليه من أساسه، فليس إعجاز القرآن وتحديه أسطورة وخيال لا يمكن تحققه كما توهم المشكّكون؛ لأن الاعجاز ليس لفظياً من الأساس، فهم - كما علماء المسلمين - مخطئون في هذا التصوّر.
.
القرآن الكريم تحدّى العرب وغيرهم فعلاً فيما مضى، ولا زال تحدّيه قائماً للعرب وغيرهم أيضاً، وسيبقى كذلك حتى يوم الإنسانية الأخير، وهي حقيقة تفرض علينا - بطيعة الحال - أن نتعرّف على القول الفصل والصحيح في وجه إعجاز القرآن، وبالتأكيد ننتظر منه أن يكون وجهاً يشهد له القرآن نفسه وتشهد له سيرة الرسول (ص) عند انطلاقة دعوته الإلهية، وجه يلتقي بوضوح مع عدالة الله وحكمته ورحمته بعباده جميعاً؛ دون تمييز بين عربيّهم وغير عربيّهم.
.
وهو ما تم بيانه وتفصيل القول فيه في كتاب "إعجاز القرآن"، الذي يتضمّن رأي السيد أحمد الحسن في المسألة، وكنت قد أنهيت كتابته قبل أكثر من عام من الآن، لكن لم يأذن حينها بنشره، أما وقد أذن الآن بنشره بسبب الحاجة الملحة لمعرفة الحقيقة، سأقوم بإعداد الكتاب وتهيئته للنشر قريباً إن شاء الله.
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(11)
.
إشكال 2: مخالفة القرآن لقواعد النحو.
.
أيُّ قارئ للقرآن الكريم يجد أنّ الكثير من آياته لم تعبأ بالمشهور من قواعد النحو بشكل واضح، الأمر الذي اعتبره المشكّكون طعناً على القرآن وتشكيكاً في سماويّته، فبحسبهم: كيف يمكن لكتاب إلهي أن يتضمّن أخطاء ومخالفات لقواعد نحوية واضحة!
.
وهذا مثال منها:
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" البقرة: 62.
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" الحج: 17.
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" المائدة: 69.
.
موضع الإشكال هو كلمة "الصابئون" في سورة المائدة؛ لأن القاعدة النحوية تفترض أنّ اسم "إنّ" منصوب، وكذلك ما يُعطف عليه، واسم "إنّ" في الآية هو "الذين" ومحله النصب كما هو واضح، فينبغي - وفق القاعدة النحوية - أن تكون "الصابئون" في سورة المائدة منصوبة أيضاً؛ لأنها معطوفة على اسم "إنّ"، وبالتالي يكون حالها في المائدة كحالها في سورة البقرة والحج.
.
الجواب:
إنّ الإشكال المطروح إنما يكون له وجه فيما لو كانت قواعد النحو العربية تصلح أن تكون معياراً لمحاكمة القرآن فعلاً، أما إذا لم تكن كذلك فلا يكون للتشكيك المذكور معنى من الأساس.
.
وهذه النتيجة يمكننا التوصل لها بعد ملاحظة ما يلي:
.
1- أجهد الكثير من علماء المسلمين - لغويون ومفسرون وغيرهم - أنفسهم في إيجاد الحلول والتبريرات لمخالفة آيات القرآن لقواعد النحو المقررة لديهم، حتى يبدو للمطلع على كلامهم أنّ القرآن ارتكب جريمة كبرى وأحدث في ثوبه لوثة تنافي قدسيته وينبغي أن تدفع عنه وإن كانت بتمحّل وتكلّف الحلول والتبريرات.
.
فمثلاً: في المثال أعلاه، ذكر بعضهم في تبرير مجيء كلمة "الصابئون" مرفوعة في سورة المائدة وجوهاً كثيرة، منها:
- إنّ الآية فيها تقديم وتأخير، فيكون معناها هكذا: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله... فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون، والصابئون كذلك"، وحينئذٍ تعرب مبتدأً مرفوعاً.
- إنّ "الصابئون" وما بعدها جملة استئنافية، فتكون مبتدأ، و"النصارى" معطوف عليه، وجملة "من آمن بالله..." خبر "الصابئون"، وأما خبر "إن" فهو محذوف دل عليه خبر المبتدأ "الصابئون".
- إنّ "الصابئون" معطوفة على محل اسم "إنّ"، ومحله مرفوع قبل دخول "إنّ" عليه لأنه مبتدأ، ولهذا رفعت "الصابئون".
.
والغريب أنّ جميع ما ذكر من وجوه تم نقده ومناقشته من قبل علماء اللغة أنفسهم، فكلما طرح أحدهم وجهاً نقضه آخر، ولا يكاد يسلم وجه منها من النقاش عندهم، فمثلاً: الوجه الثالث الذي يتساوى فيه دخول "إنّ" في الكلام مع عدم دخولها رفضه الجرجاني في دلائل الإعجاز: 1/315. وللمزيد: انظر بحث "إثبات مخالفة القرآن لقواعد النحو" للدكتور بشار باقر.
.
ملاحظتان:
الأولى: التبريرات المقترحة - كما رأينا - انصبّت على كلمة "الصابئون" في آية المائدة، لكنها لم تشر لماذا جاءت نفس الكلمة منصوبة في آيتي سورة البقرة والحج مع أنّ سياق الآيات واحد، خصوصاً آيتا سورة البقرة والمائدة فإنهما بنفس التركيب تقريباً. وإذا كان إهمال البحث في حالة النصب سببه مطابقة الآيتين للقاعدة النحوية المشهورة عندهم، فالسؤال: لماذا لم تكن آية سورة المائدة كذلك، أي مطابقة للقاعدة المشهورة أيضاً؟
.
الثانية: إنّ الكثير منهم - ولأجل إيجاد مخرج لمخالفة القرآن لقواعد النحو - استعمل بعض القواعد الشاذة لتبرير ذلك، وهذا واضح جداً لمن راجع كلامهم، مع أنهم في ذات الوقت اعتبروا أنّ مخالفة المشهور من قواعد النحو يسلب الكلام فصاحته كما لاحظناه في النقطة الثالثة من جواب الإشكال الأول، وحقيقة لا أعرف وجهاً أجمع به بين قولهم بالإعجاز اللغوي للقرآن من جهة الفصاحة وبين استعمال القواعد الشاذة - التي يفترض أنها تسلب الفصاحة بحسبهم - لتبرير مخالفة القرآن للنحو!
.
أعتقد أنّ صاحب هكذا توجّه في التعامل مع القواعد النحوية أخطأ مرّتين: مرة بتصويره قواعد النحو وكأنها قانون سماوي مقدس لا يحق لأحد مخالفته، أو نظرية علمية مبرهنة بدليل قطعي لا يمكن معه الخروج عن مؤداها. وأخطأ مرة ثانية بعملية تبرير وترقيع مواضع عدم الالتزام بتلك القواعد في النص القرآني بشكل أسهم بترسيخ فكرة محاكمة القرآن بالقواعد النحوية والإشكال عليه من هذه الجهة، مع أنّ الصحيح لا هذا ولا ذاك كما سيتضح.
.
2- ................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(12) - ق1
.
2- حتى تصح محاكمة شيء ما ووصفه بالصحة أو الخطأ لابد من وجود معيار واضح تتم المحاكمة على ضوئه، فمثلاً: أنت لا تستطيع أن تحكم على فعل يصدر من سائق سيارة بالمخالفة أو عدمها إلا بعد وجود معيار وقانون مروري يقاس به فعل السائق، من ثمَّ تحكم عليه بالصحة إن طابقه أو عدمها إن خالفه. كذا في الأمور العقلية فأنت تصف عملية الجمع الرياضية "1+1=3" بالخطأ لوجود قانون بديهي رياضي لديك يقول: "1+1=2".
.
وفي مسألتنا: هل القواعد النحوية فعلاً تصلح أن تكون قانوناً ومعياراً يوزن به الكلام العربي عموماً بحيث يوصف غير الملتزم به مخالفاً ومرتكباً لخطأ تُنفى معه أحقيّته وكل خير ورد فيه لمجرد المخالفة!
.
الحقيقة، إنّ هذا غير صحيح إطلاقاً؛ لأسباب كثيرة:
.
أولاً: تقدّم في إجابة الإشكال السابق بيان أنّ اللغة ما هي إلا نتاج أرضي خاضع للتطور والتبدل بمرور الزمن، ومن كان هذا حاله "أي: لا ثبات فيه" لا يصح بحال اعتباره ميزاناً لإثبات صحة أو أحقيّة شيء ما ولا إثبات خطئه وبطلانه.
.
ثانياً: بخصوص اللغة العربية، فإنّ قواعد النحو فيها وضعت في زمن متأخر بعقود عديدة عن زمن نزول القرآن، فضلاً عن زمن نشوئها والمراحل التي طوتها أثناء تطورها التدريجي واستعمالها كلغة للتفاهم والتواصل بين مجموعة من البشر "العرب" في حقب زمنية متعاقبة، وبالطبع كان العرب في جميع العصور يتكلّمون عربيّتهم وفق سليقتهم وأسلوبهم في التواصل والتفاهم فيما بينهم من دون أن يكون هناك شيء اسمه "قواعد النحو"، والواضح أنهم لم يكونوا خاضعين لطريقة واحدة في التعامل مع المفردات من ناحية نحوية أو صرفية، ولهذا أنشأ النحاة مصطلح "اللغات الشاذة".
.
بالتالي، فإنّ عدم التزام كلام عربي متقدّم - كالقرآن الكريم - بقواعد نحوية موضوعة في زمن متأخر لا يعتبر بحال نقضاً وطعناً عليه بقدر ما هو طعن على القاعدة النحوية أو الصرفية نفسها؛ لأنه ببساطة يكشف عن خطئها وعدم استيعاب واضعيها لما هو معروف ومستعمل من كلام العرب.
.
يقول السيد الخوئي: (إنّ القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين ولا أثر، وإنما أخذت هذه القواعد - بعد ذلك - من استقراء كلمات العرب البلغاء، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحياً إلهياً - كما يزعم الخصم - فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية، ولا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الآخرين المعاصرين لنبي الإسلام. ومعنى هذا: أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضاً على تلك القاعدة، لا نقداً على ما استعمله القرآن) البيان: 82.
.
ويقول السيد محمد الصدر: (أن قواعد النحو لم تكن موجودة على الإطلاق في زمن نزول القرآن الكريم، فضلا عن أن يشعر الناس بأهميتها واحترامها، كما أصبحت عليه الأجيال المتأخرة، جرّاء التركيز الشديد على القواعد العربية. وإنما كان العرب إلى ذلك الحين يتكلمون على السجية، بما ورد على لسانهم من حديث. ومن هنا تشعبت اللغات. ورويت هناك كثيرا من مخالفة القواعد النحوية على ألسنتهم، حاول النحاة بعد ذلك توجيهها مهما أمكن أو جعلها استثناء من القاعدة، وزعموا أن النص العربي لا يخطئ) ما وراء الفقه: 1/296.
.
فبالرغم من الاختلاف في اسم الواضع الأول لقواعد النحو، لكن ليس هناك اختلاف بين المؤرخين والنحويين في أنّ المدرسة البصرية كانت هي السبّاقة في وضعه ثم لحقت بها باقي مدارس النحو الأخرى مثل الكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية، ومن روّاد المدرسة البصرية: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت: 117 ه) وأبو عمرو بن العلاء (ت: 154 ه) والخليل بن أحمد (ت: 170 ه) وسيبويه (ت: 180 ه) والأخفش (ت: 177 ه) والمبرد (ت: 285 ه)، ويعد مثل الكسائي (ت: 189 ه) والفراء (ت: 207 ه) من رواد المدرسة الكوفية، في حين يعتبر مثل الزجاجي (ت: 340 ه) وأبي علي الفارسي (ت: 377 ه) وابن جني (ت: 392 ه) من رواد المدرسة البغدادية، وباقي المدراس النحوية لها روّاد بارزون أيضاً.
.
بحسب الرأي السائد بين النحاة، فإنّ الحضرمي وآخرين معه "من البصريين" هم أول من بدأ عملية تأسيس القواعد والتأصيل لها بحدود ما، ثم أكمل الفراهيدي وسيبويه وآخرون مشوار تشييد القواعد النحوية، وجميعهم - كما لاحظنا - تفصلهم عن تاريخ نزول القرآن ما يزيد على قرن من الزمن، فسيبويه - مثلاً - تفصله مدة تزيد عن 150 عاماً. (انظر: مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 63 الصفحة 127، د. محمد الطيب البشير، د. سليمان إبراهيم عبد الله، جامعة الخرطوم).
.
ثالثاً: .................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(12) - ق2
.
ثالثاً: إنّ واضعي قواعد النحو اعتمدوا في الوضع مراجع وأصول أساسية ثلاثة يستشهدون بها على قواعدهم بمعنى أنها المادة التي كانوا يعتمدون عليها أثناء التقعيد، كان القرآن الكريم أحدها، إضافة إلى مرجعين آخرين، أحدهما: الشعر الفصيح سواء كان صاحبه جاهلي مثل أمرئ القيس، أو مخضرم شهد الجاهلية والإسلام كحسان بن ثابت، أو متقدم في صدر الإسلام كالفرزدق وجرير، ومن النحويين من يستشهد بغيرهم من المحدثين "المولّدين" أيضاً، وثانيهما: كلام بعض القبائل كقيس وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. (أنظر: د. قطب مصطفى سانو، القواعد النحوية في ميزان الشرع والعقل - الفصل الخامس).
.
استبعد كبار نحاة "البصريين" الحديث النبوي عن أن يكون أصلاً ومرجعاً في الاستشهاد بحجة أنه يُروى أحياناً بالمعنى، ومثلها المدرسة الكوفية، وأيد د. قطب الثورة التجديدية التي قادتها المدرستان الأندلسية والمصرية على النهج المتشدد للمدرستين البصرية والكوفية. (أنظر: المصدر السابق - الفصل السادس والسابع).
.
لم يكن تتبع كلام العرب عند عملية وضع القواعد النحوية تاماً، وهذا يعني أنّ الاستقراء كان ظنياً ناقصاً، وهم - أي النحاة - يعترفون بذلك، ولهذا لما واجه سلف الحضرمي "عيسى بن عمر" واحداً من العرب الاقحاح فسأله عن الذي وضعه من قواعد قائلاً: أخبرني عن هذا الذي وضعت يدخل فيه كلام العرب كله؟ قال عيسى: لا، فقال العربي: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلم به، أتراه مخطئاً؟ قال: لا. فقال العربي: فما ينفع كتابك؟ (أنظر: السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 26).
.
لم يأخذ النحاة اللغة عن حضري قط، ولا عن سكان البراري والأطراف التي كان أهلها يجاورون الأمم الأخرى بحجة الاختلاط والتأثر بهم وبالتالي لم تكن عربيتهم نقية بحسب النحاة، فلم يأخذوا عن قبائل أهل اليمن ولا الطائف ولا اليمامة ولا حواضر الحجاز ولا ثقيف ولا أزد ولا غسان ولا قضاعة ولا القبائل التي كانت تجاور مصر والشام وغيرها، (أنظر: الفارابي، الألفاظ والحروف: 146 - 147)، حتى إنّ ابن جني في كتابه "الخصائص" عقد باباً أسماه "باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَر وجواز الأخذ من أهل الوَبَر " أي جواز الأخذ عن البدو دون الحضر، والسبب بنظره - كما غيره - أنّ الحضر شاب لغتهم فساد وخطل بسبب الاختلاط بغير العرب.
.
مع أنّ الجميع يعرف أنّ قريشاً ومكة عموماً - التي يعتبر النحاة لهجتها أفصح لهجات العرب - مدينة عامرة وأهلها حضر لا بدو، وأيضاً كانت تشتهر بالحركة التجارية والاختلاط بغير العرب حاصل فيها على قدم وساق، وبالتالي فالسبب الذي دعاهم لرفض الأخذ عن أكثر القبائل العربية موجود فيها أيضاً.
.
أيضاً: لا يجوز عند النحاة الاحتجاج بشعر المحدثين "المولّدين" الذين تبتدئ طبقتهم ببشار بن برد (ت: 167 ه)، لكن بعضهم جوّز الاستشهاد بشعره كما فعل سيبويه، وجوّز أبو علي الفارسي الاستشهاد بشعر أبي تمام، بل ذهب بعضهم إلى جواز الاستشهاد بكل من يوثق به من المحدثين، ولم يسمح به نحويون آخرون بحجة وقوع اللحن من المحدثين، فالمسألة - كما نرى - اجتهادية ظنية وخاضعة لاختلاف القناعات عند النحاة.
.
فمما لا شك فيه أنّ عملية ترجيح بعض اللغات "اللهجات" على أخرى أثناء وضع النحاة لقواعدهم لم تخلُ من تدخل الأذواق والآراء الشخصية كشأن أي عملية اجتهادية واستنباطية تحصل في مختلف العلوم، وبحسب د. محمد حسن عبد العزيز لم يكن النحاة منصفين حين حكّموا أهواءهم وأذواقهم في إعظام الكلام العربي القديم ونصرته وفي التهوين من شأن الحديث وإنكاره وكان عليهم أن يضعوا معايير علمية موضوعية يحكمون بها على القديم والحديث على حد سواء. (أنظر: القياس في اللغة العربية: 120).
.
وأيضاً: الاختلاف بين المدراس النحوية عموماً كبير، بل يضرب بأطنابه حتى بين أشهر مدرستين نحويتين "البصرة والكوفة"، ابتداءً بالمادة التي يُستشهد بها في التأسيس للقواعد ويمتد إلى المسائل ذات الصلة بالمنهج وما ينبغي مراعاته في البحث النحوي مروراً بالموقف تجاه القراءات المتعددة للقرآن الكريم والحديث النبوي والشعر وغير ذلك من مسائل وقع الخلاف فيها، وهو خلاف لم تكن السياسة والجغرافيا وحب إثبات الذات بمعزل عنه باعتراف النحاة والكثير من الدراسات التي عقدت بهذا الصدد. (أنظر: عبد النبي محمد مصطفى، اختلاف النحاة ثماره وآثاره في الدرس النحوي، رسالة ماجستير).
.
........... (يتبع)
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(12) - ق3
.
يرى كتّاب آخرون أنّ قهراً مورس تجاه اللغة العربية من قبل النحاة الأوائل بسبب التحديد الزمني الموضوع من قبلهم كزمن تصلح فيه اللغة أن تكون شاهداً على قاعدة نحوية، ما أدى إلى إهمال ثروة لفظية واستعمالات نحوية بحجة أنها لا يحتج بها. (أنظر: حلمي خليل، مقدمة لدراسة علم اللغة: 114).
.
ونحن يمكننا تأكيد مثل هذا القهر والتعصب النحوي حتى في بيان التبريرات التي طرحها النحاة لدفع مخالفة الآيات لقواعدهم، فتراهم مستعدين لفرض أي شيء وإن كان متكلفاً وبعيداً من أجل إثبات سلامة القاعدة النحوية، بل إنّ بعضهم كان يصرّ على قراءة الآية وفق القاعدة النحوية بالرغم من أنّ القراءة المشهورة تخالفها، هذا فضلاً عن وصفهم الكثير من القراءات القرآنية بالغلط والشذوذ. بل وكانوا يريدون فرضها - أعني قواعد النحو - على الشعر الفصيح أيضاً، وفي هذا الصدد كثيراً ما يطرح اعتراض الحضرمي على الفرزدق "الشاعر المعروف" في قوله: "وعضّ زمَان يَا ابْن مَرْوَان لم يدعْ ... من المَال إلاّ مسحتاً أَو مجلّفُ" إذ قال له: بِمَ رفعت أَو مجلف؟ فأجابه الفرزدق: "بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا". (أنظر: البغدادي، خزانة الأدب: 5/145).
.
ومن الطرائف التي شابت عملية جمع مادة القواعد النحوية - بحسب بعض الباحثين - أنّ بعض البدو كان يشترط مبلغاً من المال مقابل أن يتحدث بكلمات معدودة أمام النحاة "جباة القواعد"، بل لم يكن بعضهم أميناً في نقل الكلام لهم.
.
جدير بالذكر، إنّ بعض كبار النحاة لم يكن يراعي قواعد النحو أثناء كلامه، فيروى أنّ الفراء - وهو زعيم المدرسة الكوفية يومها - دخل على هارون العباسي فتكلم بكلام لحن فيه مرات، فقال جعفر بن يحيى البرمكي لهارون: إنه يلحن، فقال هارون للفراء: أ تلحن؟ قال الفراء: يا أمير المؤمنين إنّ طباع أهل البدو الاعراب، وطباع أهل الحضر اللّحن. فإذا تحفّظتُ لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت. (أنظر: أبو بكر الاندلسي، طبقات النحويين واللغويين - الطبقة الثالثة: 131).
.
من جهته، يرى أنيس فريحة أنّ (أكثر قواعد النحو والصرف في كثير من اللغات قواعد كتابة لا قواعد نطق وفهم وإفهام، وأن اللغة متطورة لا تعرف الجمود، وهذا ما فات الصرفيين القدماء أن يفهموه)، ويعتبر "العاميّة" تطوراً وتقدماً في اللغة. (نحو عربية ميسرة: 79، 102).
.
ما تفعله الشعوب التي تنطق العربية اليوم يؤكد ما قاله فريحة، فنحن في العراق مثلاً - وكذا سائر البلاد العربية - لا يكاد أحدنا يستعمل أي قاعدة نحوية في عملية التواصل والتفاهم مع الآخرين، وإنما يتم التفاهم من خلال ما ينطق به كل قائل باللغة الدارجة في المجتمع وبيانه لمراده وما يعنيه دون أي مراعاة تذكر لقاعدة نحوية إطلاقاً، وفي حال الالتباس أو الغموض مثلاً في كلام شخص ما يتم سؤاله عما يعنيه فيقوم بتوضيح قصده ومراده. وأمام الجميع منصّات وسائل التواصل الاجتماعي التي يرتادها ملايين العرب ويتواصلون من خلالها فيما بينهم، فلو كانت القواعد النحوية هي السبب بالتفهيم والإفهام فكيف يحصل التواصل والتفاهم بينهم مع أنّ نسبة من يستعملون القواعد في حديثهم وكتاباتهم إلى من يهملها ضئيلة بل ضئيلة جداً!
.
مسألة أن يكون الناطق بالكلام هو الأولى بل المعني بتوضيح مراده تكفي لدفع ما زعمه النحاة من أنّ الحفاظ على القرآن الكريم كان غرضهم الأساس الذي دعاهم إلى تدوين قواعد النحو، فها هم وضعوها حتى أوصلها التالون بعدهم حد التقديس، لكن النتيجة أنها لم تكن سبباً للطعن على القرآن فحسب ولكن كانت سبباً أيضاً في تعدد الآراء وتشتتها في فهم القرآن واستنباط العقائد والأحكام منه ونشوء المذاهب والفرق، وكمثال: من يوجب غسل القدمين في الوضوء ومن يوجب مسحهما كل منهما يستند إلى قاعدة نحوية في فهم نفس الآية، ولم يكن لمثل هذا الاختلاف وجود لو أنّ المسلمين كلّفوا أنفسهم بسؤال الناطق بالقرآن حتى يبيّن المقصود الحقيقي من الآية، أعني الرسول (ص) ومن يقوم مقامه من أوصيائه، فلا يمكن - عقلاً ونقلاً - قبول أنه ارتحل إلى ربه ولم يجعل بين الناس من يقوم مقامه في بيان مراده وكل ما يستجد في دين الله، ولهذا تواترت وصيته للمسلمين أنه ترك فيهم الثقلين كتاب الله وعترته، ففي كل زمان يوجد رجل من آل محمد (ص) هو المعني ببيان مقصود القرآن الذي نطق به رسول الله محمد (ص).
.
والنتيجة التي ننتهي لها بعد هذا العرض الموجز:
إنّ قواعد النحو جهد بشري ناقص؛ لأنها وضعت أساساً بدلالة الظنون والاستقراء الناقص، ولم تؤسَّس بدلالة البراهين القطعية واليقينية، ولهذا تعددت آراء النحاة واختلفت في المسألة الواحدة فضلاً عن اختلاف المدارس النحوية الكبرى كما رأينا، أضف إليه: إنّ خضوع اللغة لحتمية التطور التي تحكم الكون برمّته بما في ذلك الإنسان ولغته تجعل من غير المجدي تماماً وضع قواعد نحوية من خلال حصر مرجعها اللغوي بمقطع زمني محدد وبأقلية عربية منتخبة ثم اعتبارها لغة قياسية تحاكم به اللغة العربية السابقة عليها واللاحقة لها، أعتقد أنّ مثل هذا التصرّف أقرب للعبث منه إلى الجهد العلمي المحمود، فضلاً عن أن تكون قواعد النحو معياراً يُحاكم به كتاب إلهي كالقرآن الكريم.
.
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(13)
.
إشكال 3: الأخطاء الإملائية الموجودة في القرآن تنافي - بنظر المشككين - كونه كتاباً إلهياً ومقدّساً.
.
الجواب:
ابتداءً، أصل احتواء المصحف - المكتوب بالرسم العثماني - ما يخالف الرسم العربي "القياسي" للكلمات أمر موجود في المصحف الذي نقرأه وبكثرة، مثل: "رحمن، صلوة، حيوة، سموات، ابنت، امرأت ..........الخ"، ورسمها القياسي هو: رحمان، صلاة، حياة، سماوات، ابنة، امرأة ... وهكذا. لكن هل يؤثر ذلك على أحقيّة القرآن وكون حقيقته ومصدره إلهي؟
.
كلا بالتأكيد، وهذا يتضح بملاحظة ما يلي:
.
1- إنّ القرآن مُنزل ومُوحى من عوالم علوية، قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" الشورى: 52، وفي العوالم العلوية لا يوجد شيء اسمه ألفاظ وحروف نطقاً وكتابة، فاللفظ وسيلة للفهم والإفهام في عالمنا الجسماني الذي نحن فيه ويعد من مختصاته، أما العوالم العلوية فلما كانت أرقى وأكمل من عالمنا هذا فبالطبع تكون وسيلة الفهم والإفهام فيها تناسب رقيها وكمالها حتماً، ومسألة تعدد العوالم والأكوان ليست حقيقة دينية فحسب ولكنها نظرية علمية ومبرهنة أيضاً، وبها استطاعت الفيزياء الحديثة - ومعطيات نظرية الكم بالتحديد - التغلب على الكثير من المشاكل والمعوّقات التي اعترضت علماء الفيزياء الكونية. (للمزيد: يمكن مراجعة كتاب "وهم الالحاد - الفصل السادس" للسيد أحمد الحسن).
.
وعموماً، ليس صحيحاً الاعتقاد بأنّ حقيقة ما وأحقيتها تتأثر - ولو بأدنى مستوى تأثر - لمجرد وجود خطأ إملائي حدث أثناء نقلها وكتابتها، وهذا أمر يدركه الجميع بالوجدان، فمثلاً: هل يُعقل أن تُتهم نظرية علمية ثابتة بالدليل العلمي القطعي بعدم الصحة أو النسبة لصاحبها أو التقليل من شأنها لمجرد وجود خطأ إملائي حدث أثناء كتابتها!
.
وبخصوص القرآن الكريم، فإنّ الأمر الوجداني - المشار إليه - أوضح؛ لأن الرسول محمد (ص) لم يقم بكتابة القرآن بنفسه، وهو أمر يعرفه الجميع بما فيهم المشكّكون، ومسألة "كاتب الوحي" واضحة ومعروفة في سيرته (ص) المتواترة، كما أنّ استحكام الرسم القياسي للأحرف العربية في قواعد إملائية لم يحصل إلا في فترات لاحقة عن نزول القرآن كما سيتضح، وبالتالي فحتى لو افترضنا - وهو افتراض غير واقعي لأنه لم يحصل قطعاً - أنه (ص) كتبه بنفسه وخالف فيه الرسم القياسي في موارد فلا يؤثر ذلك على حقيقة القرآن وأحقّيته في شيء أبداً؛ لما تقدم من أنّه موحى من عوالم علوية، علاوة على أنه - كشأن أي حقيقة أخرى - ليست متقوّمة بالحروف المكتوبة، بل لا يؤثر - أعني الافتراض المذكور - على أحقيته الرسول (ص) وعصمته أيضاً؛ لأن صدقه في دعواه يثبت بقانون معرفة الحجج الإلهيين الثابت عقلاً ونقلاً، وعصمته - أي الاعتصام بالله عن جميع محارم الله بحيث لا يخرج المعصوم أتباعه من هدى ولا يدخلهم في باطل - تثبت بالنص الإلهي تحديداً، وليس من العصمة في شيء عدم مخالفة رسم كلمة مثلاً، خصوصاً إذا ما عرفنا:
.
- أنه (ص) نطق بالقرآن كله وبيّن من حقائقه للناس بحسب ما سمح به زمنه.
- ترك بعده عِدْلاً للقرآن وصاحباً له لا يفارقه أبداً، أعني الإمام من آل محمد، وألزم أتباعه بملازمة هذا الإمام.
.
بالتالي، فحتى لو افترض أحد أنّ الخطأ في الرسم قد يؤدي أحياناً - في أسوأ نتائجه المحتملة - إلى عدم وضوح المراد من كلمة ما، فمثل هذا الافتراض لا يأتي بخصوص القرآن بعد وجود "العِدْل" المشار إليه، والذي لا يكلّف المتحيّر والمتردد أكثر من سؤال إمام زمانه الحق ليحكم له ما اشتبه عليه.
.
بل ولا يؤثر في صدقه وعصمته (ص) أن يكون أمّياً "لا يقرأ ولا يكتب"؛ لأن القراءة والكتابة ليست من العلم الواجب أن يتصف به خلفاء الله "أنبياؤه ورسله" عموماً. ولمعرفة كيفية انطباق قانون معرفة الحجج على رسول الله (ص)، وكذا معرفة العلم الواجب اتصافهم به أنظر: كتاب "عقائد الإسلام" للسيد أحمد الحسن.
.
2- .................
#الدين_الالهي
#الاسلام
#القرآن
.
(14)
.
2- لا شك أنّ عملية استقرار رسم الحروف العربية بصفتها المعهودة لدينا لم تكن إلا بعد سلسلة طويلة من السير التطوري لنمط معين من خطوط الكتابة التي ابتدأت باختراع نفس الكتابة "بالخط المسماري" في بلاد ما بين النهرين، ثم تدريجياً تنوّعت الخطوط وتشعبت بشكل تصاعدي بتطور الإنسان نفسه.
.
أما الأصل الذي انحدرت منه حروف لغتنا العربية من حيث الرسم، وهي مسألة اختلف فيها العلماء والباحثون، فسواء كان أصلها يمني أي "خط المسند - الحميري "، أو كانت نتاجاً تطورياً للخط النبطي، أو كان أصلها شيئاً ثالثاً، فالمؤكد في كل الحالات أنها لم تكن لتظهر فجأة بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا بعد مراحل وحقب عديدة مرت بها كشأن أي نتاج بشري أرضي.
.
وبخصوص القرآن الكريم، فلا شك أنّ أول من نطق به لفظاً هو رسول الله محمد (ص) بعد كونه رسولاً إلهياً والقرآن مُوحى له بالأصل، ولم يكن قد كتب بيده حرفاً منه كما هو واضح من سيرته، بل وشهد به القرآن أيضاً: "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" العنكبوت: 48، فقد كان (ص) يتلو القرآن ويقوم أكثر من كاتب من المسلمين بالتدوين، وليس الأمر منحصراً على تدوين الوحي وإنما يشمل كتابة الرسائل وبنود الصلح والمعاهدات وغيرها، بغض النظر عن اختلاف أصحاب السير في عدد من كتب الوحي وغير الوحي. (انظر: الحلبي في "السيرة الحلبية" حيث أوصلهم إلى 26كاتباً، وبعضهم أوصلهم إلى أقل أو أكثر من ذلك).
.
أما رسم حروف القرآن بالنحو المتداول لاحقاً بين المسلمين وصولاً لعصرنا الحالي فهو أمر حدث في عهد عثمان بن عفان في عملية تدوين القرآن وجمع المصاحف وتوحيدها بنسخة رسمية واحدة في الحادثة المعروفة تاريخياً، وسيأتي الإشارة إلى بعض تفاصيلها في الإشكال القادم "إشكال جمع القرآن"، وبالتالي فإن كان هناك خطأ إملائي في رسم حروف بعض الكلمات فهو يُحسب على القائمين بالعمل أو على بعض المدوّنين الذين سبقوهم واعتمد الرسم الموجود في نسخهم حرفياً في المصحف العثماني، وليس له علاقة بالقرآن كحقيقة نازلة من عالم أعلى ولا بالقرآن كألفاظ نطق بها رسول الله (ص) في هذا العالم.
.
وليست مسألة رسم حروف القرآن بالنحو الذي نراه اليوم وحدها حدثت في زمن متأخر عن نزول القرآن، وإنما تشكيله بالحركات وتنقيطه أيضاً كذلك، فأكثر الباحثين يرون أنّ تنقيط القرآن - وكذلك تقسيمه إلى أجزاء وأحزاب - تم في عهد الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان على يد بعض النحاة والقرّاء، ونفّذ في العراق تحت إشراف الحجاج بن يوسف (ت: 95 ه). أما تحريكه بالعلامات فقد تم على يد النحوي البصري الخليل بن أحمد (ت: 170 ه)، فجعل للفتحة ألفاً صغيرة توضع فوق الحرف وجعل للكسرة رأس ياء صغيرة تحته وللضمة واواً صغيرة فوقه وكرّر الحرف الصغير عند التنوين ووضع للهمزة رأس عين ولألف الوصل رأس ص فوقها وللمد ميم صغيرة متصلة بجزء من الدال، ثم أكمل المشوار تلامذته حتى رست أخيراً بالشكل الذي نراه اليوم. (أنظر: أحمد قبش، الإملاء العربي: 6).
.
قال السيوطي: (اختلف في نقط المصحف وشكله، ويقال: أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل) أنظر: الإتقان في علوم القرآن: 2/171.
.
يقول د. جواد علي: (أغلب روايات أهل الأخبار أن الخط العربي الأول لم يكن مشكلاً، وأن الشكل إنما وجد في الإسلام، وكان موجده أبو الأسود الدؤلي، فاستعمل النقط بدل الحركات، ثم أبدل الخليل بن أحمد الفراهيدي النقط برموز أخرى) أنظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 8/190.
.
وهكذا نرى أنّ مسألة استقرار إملاء الخط العربي وبلوغه مرحلة "القواعد القياسية" التي نراها حالياً لم تكن إلا بعد طي مراحل عديدة متأخرة عن نزول القرآن بفترة طويلة، فقد كانت قواعده في البداية مبثوثة في بعض كتب النحو واللغة مثل "أدب الكاتب" لابن قتيبة (ت: 276 ه) و "الجُمَل" للزجاجي (ت: 340 ه)، ثم أفردت بكتب مثل "أدب الكتّاب" لأبي بكر الصولي (ت: 336 ه) و"عمدة الكتّاب" لأبي جعفر النحاس (ت: 338 ه) وغيرهم.
.
وإذا كان الحال كذلك، فإنّ محاكمة القرآن بقواعد إملائية - تحكم رسم وتشكيل وتنقيط الخط العربي - لم تكتمل إلا في وقت متأخر عن نزوله هي إلى العبث أقرب منها للنقد العلمي الذي يستحق أن يُعبأ به.
.
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى أنّ واحدة من الأسباب التي ساهمت بالإشكال - مورد البحث - أكثر من مساهمتها بدفعه هو ما تكلّفه بعض علماء المسلمين من ادعاء احتواء الرسم العثماني على أسرار إلهية على حد زعمه، فمثلاً يقول الزرقاني: (وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضاً معجز وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة وإلى سر زيادة الياء في بأييد وبأبيكم أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في سعوا بالحج ونقصانها من سعو بسبأ وإلى سر زيادتها في عتوا حيث كان ونقصانها من عتو في الفرقان وإلى سر زيادتها في آمنوا وإسقاطها من باؤ جاؤ تبوؤ فاؤ بالبقرة والى سر زيادتها في يعفوا الذي ونقصانها من يعفو عنهم في النساء أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض كحذف الألف من قرءانا بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع وإثبات الألف بعد واو سموات في فصلت وحذفها من غيرها وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال وإثبات الألف في سراجا حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض فكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني) مناهل العرفان: 1/83.
.
ولا شك أنّ ما ذكره مجرد استحسانات وظنون لا دليل عليها نقلاً - أعني القرآن وسنة رسول الله والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم - ولا عقلاً.
.
شكر وعرفان....
لكل الاخوة والاخوات الكرام على تفاعلهم من ما ينشر من مواضيع غرضها الاساس الدفاع عن دين الله وكتابه الكريم واوليائه الطاهرين ......... اسال الله لكم التوفيق جميعا
فقط ارجو منكم الصبر معي والمطاولة والمتابعة حتى يتم تناول اهم ما يطرحه المشككون بدين الله ورموزه الكرام والاجابة عنها ..........
فما عرفته من السيد أحمد الحسن ان الدفاع عن دين الله واوليائه واجب شرعي خصوصا في هذه المرحلة الحساسة التي لم يسبق أن تعرض لها الدين الالهي ورموزه كالتي نشهدها اليوم........
وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.
Comment